الفصل الثامن عشر
قال الراوي: لم يكد الملك يحرك رأسه حركة خفيفة إيذانًا باستفاقته من غيبوبته، حتى بدأ الأستاذ يتمتم بكلام غير مفهوم، يحرك معه يديه المبسوطتين فوق الرأس حركةً، توهم أن الرقية — بُحكم دورها — هي التي توقظ الملك، فافترَّ ثغر الملك وهو يفتح عينيه عن ابتسامة رضى، عبرت عن عرفانه بالجميل، ثم صرخ قائلًا: لا بد لي من إعدام ذينك الشابين الوقحين وقد اجترآ على رجل عظيم من رجال الله العالمين العاملين، إنني وقد كشف عن بصري في غيبوبتي هذه، قد تمثل لي مشهد تلك الوقاحة بوضوح وجلاء، وأرى أنَّ وراءها ما وراءها، وستصيب نقمتي الخائنين جميعًا، مهما سما شأنهم، وأيًّا كانت صفتهم، إنَّ شعلة الثورة لا تزال تتقد بين جنبي، ولن أتوانى في الأخذ على أيدي الخائنين، وقد بلغت وقاحتهم التعرض لكرامة مَنْ أُجلُّ من رجال الله المخلصين.
لم يكد الملك يبلغ من هذيانه هذا الحد — والساحر الماكر يعلم جيدًا أنه إنما كان ذلك بتأثير تهيج أعصاب من يهزه باب الوهم في السحر، وأنها نوبة لا بد أنْ يزول أثرها، فيعود الملك إلى صوابه، ويدرك مبلغ الظلم في إعدام من لم يعدم نفسًا، ولم تثبت عليه خيانة ما — حتى تلبَّس بمظاهر أهل التقى والورع، وهو البارع في تمثيل أدوار النفاق والدجل، وقال وهو يرتعش «من خشية الله»: مولاي مولاي، حلمك ورضاك، لا نستطيع — وقد أنار الله قلوبنا بالإيمان — أنْ نوافق على الانتقام ممن يلحق بنا الأذى، لا أرى في الناس لي عدوًّا وإن ألحق بي الضرر؛ لأننا أُمِرنا بأن نحب أعداءنا، ونعدل في شانئينا، ونحسن لمن يسيء إلينا؛ لأن الله ربنا جميعًا، يحب المحسنين، ويجزيهم رضوانه، فامنحني هذين الشابين وأنا الكفيل بإعادتهما لجادَّة الصواب، إنه مس من الشيطان أصيبا به، فاستقر في قلب كل منهما جني، سأخرجه بإذن الله، ويصبحان من أخلص عبيد مولاي صاحب الجلالة، وكم أخرجنا من قلوب الناس من جانٍّ وشياطين وعفاريت، هذه هي رسالتنا في هذه الحياة، ننفع الناس، ونتحمل أذاهم، ولا ننتظر جزاءً ولا شكورًا.
فتن الملك بقول المشعوذ — كما سبق وفتن بفعله وألاعيبه — فارتفع في نظره إلى درجة القديسين من الأولياء والأنبياء، ولا غرابة، ألم يستحضر له روح أستاذه وقد رآه بأم عينيه، وسمع حديثه بأذنيه؟ أبعد الحس يرتفع دليل؟ ثم، ها هو يعفو عمن أهانه وآذاه بتسامي القادر على الانتقام، المترفع عن مقابلة الشر بالعقوبة، وعن إلحاق الأذى بأعدائه وشانئيه، إنه لخلق عظيم تقترن به الأعاجيب، وهل يصدر هذا إلَّا عن الصديقين الأبرار من رجال الله؟ وما أسعد من يهيأ له مرشد من هؤلاء! فما أسعده هو الملك العادل بهذا المرشد الإلهي العظيم! وهكذا سيطر المشعوذ على نفس مليكه، واستولى على إرادته، فأصبح الصديق القديس البار، لا يرد له طلب، ولا يرقى إليه الخطأ، فلم يجد الملك مناصًا من أنْ يسأله: وما رأي الأستاذ الجليل في هذين الشابين الأحمقين المأفونين؟ فأجاب: لعل الخير يا مولاي في أنْ يصدر أمر جلالتكم السامي بنقلهما إلى داري مكبلين بالحديد، حيث يظلان تحت رقابة تلميذي إلى أن أعود إليهما، فأعمل على إصلاح ما أفسده في نفسيهما ذلك المشعوذ الدعي. وعنى أستاذهما الحكيم.
لم يستمع الملك لما قاله الأستاذ الجليل حتى أمر بتنفيذ إرادته على الفور، فأرسل الأستاذ إلى تلميذه يوصيه بالاحتفاظ بهما على وضعهما وحراستهما إلى أن يعود، ثم التفت جلالته، وقال: وذلك المشعوذ الدعي الذي يفسد علينا شبابنا أفلا يستحق الموت؟! فارتعش الأستاذ، ورفع أصابع يديه، ثم نفض طرف جبته وقال: نجنا اللهم من أن نضطر لإزهاق النفوس، لو تمهل مولاي الملك وترك لي تدبير الأمر بتؤدة وحكمة، إنَّ في قتل هذا المشعوذ الدعي حياة له، وخلودًا لفكرته، وهذا هو شأن أمثاله من المشعوذين يدعون التفكير والإصلاح، ألم يبلغكم ما قاله أحدهم، وقد اكتشف الحقيقة وقال:
إنني سأنفذ رغبة مولاي، وسأقتله بتدبيري؛ لأنه مجرم يستحق الإعدام، إنني سأقتله قتلًا معنويًّا روحيًّا، فأفض جمعه، وأفرق ما حوله من شباب ورجال، بتوزيع المناصب والأعمال الحكومية على البعض، وبمنح الأموال لآخرين، وبالوعد والوعيد، ثم بنشر عيوبه، وجَلَّ من لا عيب فيه، بين الناس، ولعله يجوز لنا هنا أن نعتمد على الأراجيف فنبثها حوله، فلا يقترب منه الناس خشية ورهبة، فهو ملحد كافر، وهو فاسد فاجر، يجمع حوله الشابات والشبان والنساء والرجال، وهو محتال ماكر، يتخذ المثل والقيم وسائل لإشباع الأطماع من مال ومناصب ونفوذ، وهو … وهو … وسيكون هذان الشابان من وسائل التمهيد لحملة لا هوادة فيها.