الفصل العشرون
قال الراوي: جلس صاحب الجلالة، وأجلس الأستاذ الجليل عن يمينه بعد أن قدمه بصفته المشير الخاص للملك، فتقدم الحاضرون واحدًا واحدًا إلى مصافحة المشعوذ مقدمًا له نفسه باحترام كلي، وكان الانكماش باديًا على المشير الأول ووزير الميسرة ومن والاهما، مسرين في نفوسهم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، أما وزير الميمنة ومن والاه، فإن البشر كان يطفح على وجوههم معلنين عن غبطتهم بما شاء الله، اللهم احفظ للملك هذا الرجل الحكيم، رجل الله الأمين، واجعل البركة في حياته وامنحه التوفيق، آمين.
لم تغب هذه الأوضاع عن نظر الملك، ولكنه كان قد قرر في نفسه ألَّا يثير أية قضية قبل أن ينجز صنع التاج، وسيلة التفريق بين الحق والباطل بالتمييز بين أولاد الحلال وأولاد الحرام.
مضت لحظات صمت مهيب، هي من ضرورات الاجتماع مع الملوك؛ ليتخذ المجلس وضعه الوقور في حضرة صاحب الجلالة، ثم صدرت عن جلالته إشارة خفية يدركها الخدم، فبدئ بتقديم الطعام، ويكفي أنْ ندرك أنَّ المائدة هي مائدة ملكية؛ لنتصور ما يُقدم فيها من شهي الأطعمة المتعددة المتنوعة، يتقطر الترف من أفاويهها وأدهانها وألوانها، لدقة الصناعة في تحضيرها وللعناية في اختيار مقبلاتها وعرضها، وما كادت تفوح روائحها الذكية الطيبة، حتى كاد يُغْشَى على صاحبنا الأستاذ الجليل؛ لما نعلم من شدة شرهه، ولكنه — وهو الواعي القوي الإرادة — تماسك وصبر، ولا سيما وهو في وضع يلزمه فيه التظاهر بالزهد والنسك والتعفف عن حطام الدنيا، فبدأ يأكل بتؤدة واعتدال، محاولًا أنْ يتناول القليل من بعض الأنواع، ولكن شهوته المتأججة كادت تمزق أحشاءه.
وفي حومة هذه المعركة التي تثير الشهوات، افتتح الملك الحديث، ولم يكن يحق لغيره أنْ يفتتحه، فكانت هدنات تقطعها فترات، يتناول فيها المدعوون بعض لقيمات، وقد تعود الجميع هذا الطراز من المؤاكلة مع جلالته، ولكن الأستاذ كاد يموت غيظًا وهو الذي لم يتعود مؤاكلة الملوك، فالتزم جانب الصبر، وساير الحضور فيما تستلزمه المراسم الملكية وتقاليدها.
وكان جلالته قد لاحظ نظرات وزير الميسرة، يرمق بها المشعوذ بحذر واحتقار، فأراد أن يرفع الأستاذ في عين وزيره، فوجه إليه الحديث قائلًا: وهل لا يزال وزيرنا العزيز على رأيه في منح المرأة حق المساواة بالرجل؟
فأجابه وزير الميسرة: أليست إنسانًا كالرجل؟ فلم لا تكون مساوية له في الحقوق؟
هنا التفت الملك إلى أستاذنا الجليل مبتسمًا ابتسامة من يغري بالجواب والمناقشة، فلم يخيب المشعوذ ظن الملك، فأخذ يقول: المرأة إنسان كالرجل؟ ألا تزالون تؤخذون بقول البدو من الأعراب وهم همج حمق لا يفقهون شيئًا من معاني الحياة؟ نعم، إنهم قالوا: إنَّ المرأة إنسان، وأبوا لجهلهم وسفههم أنْ يقولوا إنسانة، حتى لا يفرقوا بينها وبين الرجل في المعنى، ولكن أنحن مضطرون في حضارتنا أن نسير وراء مفاهيم البدو في همجيتهم وجاهليتهم للكلمات؟ المرأة لا أدري ما هيه؟ ولكنها متعة الرجل، وهو وحده الإنسان، وليس لها من حقوق يجوز لها أنْ تطالب بها، فالرجل سيدها يمنحها ما يشاء، ويمنع عنها ما يشاء، وسعادتها في إرضائه وحسب، وليس لها من الأمر شيء.
وهنا احتدم الجدال بين الحضور حول مفاهيم الحرية والحقوق والواجبات والنظام والفوضى، وفيما إذا كانت المرأة إنسانًا أو نوعًا آخر من المخلوقات، وكان وجود جلالة الملك — وقد أراد هذا النقاش لغرض في نفسه — مهدئًا نوعًا لشدتها ومسكنًا لحدتها، إلى أن أضاعت تلك المناقشات صواب الأستاذ، فاستيقظت في نفسه غريزة الشره وقد وقعت عيناه على دجاجة أمامه كالعكة، فنسي مقامه وتصور نفسه في داره فريدًا أمام خوانه، فأمسك بها وأخذ يقطعها بأسنانه تقطيع الوحش النهم، فملأ فمه بلحمها وشحمها، وأغرق ثيابه بدهنها، وأفسد ما على المائدة من ترتيب، فدهش الجميع وكادوا يسترسلون في الضحك لولا هيبة الملك، فذهب صاحب الجلالة بضيفه إلى داخل القصر ليبلد له ثيابه، وانقض الناس على مائدة لم تنتهِ بعد من تقديم ألوانها.
اطمأن الملك لا سيما وقد ذكَّره بأستاذه، فازدادت ثقته بالأستاذ الجليل، فودَّعه بحرارة وإيمان، وأمر بأن يُصحب إلى داره بموكب عظيم.