الفصل الثالث والعشرون
قال الراوي: لم يكد المشعوذ يطأ عتبة غرفته الخاصة، حتى فتح الشابان العيون وابتسامة ساخرة ترتسم على الشفتين، في حين كان الشاب التلميذ يرسل نظرات حذرة من عينيه المرتبكتين خوفًا من مفاجأة الأستاذ في عودة سريعة تعودها منه، فيراهما فيها على هذه الحالة المريبة، ولم يطمئن إلَّا عندما سمع صوت باب الغرفة في انغلاقه، فأخذ يقهقه معهما قهقهة الهازئ الساخر، يعبر بها عن إدراكه لإفك لم يخدع به، وعن تصميمه على هدم ما يبنيه المشعوذ من قصور المَيْن وصروح الكذب بإفكه المبين وبسراب خداعه.
وكان أول ما نطق به الشابان في سخريتهما عند فتح العيون: ألقِ ما في هذين الكأسين من ماء ملوث دنس إلى الخارج قبل أنْ ننظر إليهما فنخرج ما في أمعائنا من التقزز، يا له من شرير محتال! أوَما يكفيه ما يتكرر من إفكه وكذبه حتى يحاول أنْ يجعل من لعابه الخبيث علاجًا مقدسًا ودواء مباركًا للشفاء، وإذا بلغ غرور الشعوذة والتدجيل هذا الحد من احتقار الناس ورَذْلِهم، أفيبلغ حمق الناس وسخفهم هذه الدركة من الاستسلام والانحطاط؟! فيرتاحون لمن يستخف بهم، ويستسلمون لدجله وشعوذته استسلام الصوفي لربه، وهم إنما يتنزلون في حالتهم هذه عن أدمغتهم وعن قلوبهم، فيصبحون ولا عقول لهم تحفظ لهم كراماتهم، ولا شعور يحمي ما في النفوس من إباء.
فأجاب الشاب: إنه الجهل، وإنه الطمع، يجتمعان فيهيران ما في الذات من قوى تدرك بها وتشعر، فيفقد الإنسان ذاته الإنسانية، ويصبح أدنى من الحيوان دركة في سلم الوجود، وليس في قولي هذا أي مجاز، فالإنسان في استسلامه هذا يستخف بحقيقته فينحط عن درجته في سلم الوجود، أمَّا الحيوان فأيًّا كانت درجته في تلك السلم، فإنه يظل محافظًا عليها، ويستمر من يحافظ على مكانته في الحياة وفي الوجود أرفع شرفًا ممن يستهتر بها، وينحط عنها، مهما اختلفت الأجناس والأنواع، ومهما تعددت الصفات والإمكانات، فالعبرة دائمًا للأمر الواقع، وليست لما يدخل في حدود الاستطاعة والتمني والإمكان، إننا نريد التقدم والرقي لأمتنا، فلا بد من إنقاذ الشعب المسكين من الجهل لينقذ من الطمع، وهذا هو سر ثورتنا، ونحن الشباب الواعي في هذه الأمة المنكوبة بشعوذة الأذكياء والمستغلين.
حياك الله وبيَّاك — قالها الشابان بصوت واحد — ثم قال أحدهما: ماذا يجب أن نصنع لنبلغ الهدف؟ وأكمل الثاني متسائلًا: وعلامَ يجب أن نعتمد في تحقيق الثورة، وقد أصبحت وكأنها تتأكَّل قلوبنا وأدمغتنا، وتهز في نفوسنا الوجدان والفؤاد؟!
علينا الآن أنْ نستأذن على هذا المشعوذ الدجال، فتقبِّلا يديه معتذرين شاكرين، ورافعين لواء الحمد والثناء.
فانتفض الشابان وقد انتفخ في جبهة كل منهما عرق الإباء والغضب، وتوتر عصبه، واشتد تورم الأوداج في العنقين، وتضخمت في كل منهما الرقبة، ثم عبر الشاب الثاني عن انفعالهما المشترك بقوله: يا لك من شيطان مريب، أتسعدنا بسمو تفكيرك، ثم تشقينا بحقارة اقتراحك، والله لولا شهادة الأستاذ الحكيم وإشارته لقتلتك الآن مهما كانت النتائج.
لم يفقد الشاب التلميذ سيطرته على أعصابه، بل أجابهما مبتسمًا مداعبًا: على رسلكما أخويَّ، إنما نحن جنود الفكرة وشباب الفداء، فلا يجوز أنْ نترك للانفعال مجالًا، تتقطع فيه الأوصال، وتتفكك العرى؛ فالانفعال كالخيانة، وقد يقضي كل منهما على حركة الثورة في مهدها، أراكما سريعي الارتياب، وليس في هذه السرعة ما يبشر بالفوز والنجاح، انتبها، فلا بُدَّ من أنْ نتخذ العدة من جميع وجوهها، وهذا المشعوذ خطر، وقد أصبح لولب حركة المحافظة على وضع يدافع عنه الخونة المستغلون، فلا بُدَّ من أنْ نقبض على ناصيته؛ لنجز عنقه بسهولة في الوقت المناسب، قد يخطئ الأخ، ولكنه لا يخون أخاه، فاحسبوني أخطأت، فماذا تريان؟
سكن روع الشابين واعتذرا، ثم أبان أحدهما عن رأيه قائلًا: لن نقبِّل يدي المشعوذ، ولن نرفع له الحمد والثناء، بل نعتذر شاكرين وكفى، فثنى الثاني على تعديل رفيقه، ولم يرفضه التلميذ الشاب، بل أيده تعديلًا يحفظ الكرامة، وزاد عليه بأن يقبلا التلمذة على المشعوذ، وهو سيقترحها؛ ليتعاونوا جميعًا في تدارك الأخطار، فوافقا على قبول ما زيد على التعديل، وانتهى المشكل بسلام.
دخل الشبان الثلاثة على الساحر في غرفته، فاستقبلهم استقبالًا جميلًا، فاعتذر إليه الشابان، وشكراه على إنقاذهما من فعل الشياطين، فامتلأت نفسه زهوًا ومرحًا، وتحير الراوي في تفسير هذا الزهو: هل انخدع الساحر بنفسه وهو العالم الفطن؟ أم سره أنه خدع هؤلاء الشبان، وهو يسخر من سذاجتهم في نفسه؟ وعلى كلٍّ، فنحن بين خداعين: خداع شعوذة وخداع إنقاذ منها، فلا نزال في كفاح الخير والشر، يتخير كل منهما سلاحه، وإذا ما ساير الخير الشر في مبدأ الطريق واستعار منه بعض سلاحه، فالفوز إنما يتحقق عندما يتفرد الخير، ويتمكن من استعمال سلاحه هو، محتقرًا ما يتسلح به الشر من أسلحة الرياء والنفاق والخداع والشعوذة، ونحن الآن في أول الطريق، فلم يجد الشابان مجالًا للامتناع عن تبني ما اقترحه رفيقهما من تلمذتهما على الساحر المشعوذ، وبررا ذلك أمام نفسيهما الأبيتين، بتبني قول من قال: «تعلم السحر ولا تعمل به»؛ لتدرأ عن نفسك خطر شعوذة الساحرين.
اعتذر الشابان عن قبول دعوة المشعوذ للعشاء؛ لأنهما بشوق إلى ذويهما، وهم لا يعلمون عنهما شيئًا، فودعهما الساحر بحرارة محفزًا فيهما الهمة على ملازمة الشاب التلميذ، وقد صحبهما هذا إلى الباب مودعًا، وأوصاهما بما يجب قوله للأستاذ الحكيم، ثم عاد إلى أستاذه مرحًا طربًا، فتوهمه هذا مظهرًا لنجاحه في إخراج الشياطين، فالتفت إلى تلميذه وخاطبه متمثلًا بالمثل المشهور: «كل فتاة بأبيها معجبة»، فابتسم الشاب وقال: أفلا يحق لي أنْ أفرح وأمرح، وأستاذي لا يني في تقديم عجائبه المعجزة كل يوم؟! فابتسم الساحر ابتسامة المعجب بنفسه، قال: وكيف بك عندما تتحقق أعجوبة التاج؟!
فابتسم التلميذ ابتسامة، فسرها الساحر بالاقتناع، ولكن الشاب أسرَّ في نفسه الاعتقاد بأن أستاذه هذا هو من أمكر الشمامين، ولكن هل يخدع نفسه فيصورهم على حقيقتهم، ويعتقد أنه ليس منهم في الصميم؟ وكان قد حان موعد النوم، فأوى كل منهما إلى فراشه؛ ليخلوا بأحلامه وآماله وأمانيه، بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة وصباحًا خيرًا.