الفصل الثالث
قال الراوي: خرج الساحر من خلوته بالملك وهو يكاد يشعر أنه يطير في الهواء ولا يسير على الأرض؛ لشدة ما أثر في نفسه فرح النجاح، وقد زاد في انبساط نفسه وابتهاجه، ما لاحظه من التملق البارز في تحيات رجال القصر، وفي انحناءات الأتباع والخدم، حتى أوشك أنْ يرى نفسه وقد أصبح صولجان المُلك في يده يقلِّب به قلوب الناس. سار من باب القاعة وقد أحاط به بعض رجال البلاط وموظفيه، يشيِّعونه بقلوبهم وعيونهم وجميع جوارحهم، حتى بلغ رتاج القصر، فوجد مركوبه حاضرًا، وكان حصانًا أصهب فارهًا، عليه مظاهر خيلاء الخيول العربية الأصيلة ونفورها، وله مرحها وصهيلها ونشاطها، وما كاد يدنو من ذلك الحصان حتى وجده يضرب الأرض بقوائمه ضربًا موقعًا، له لحن خاص يعبر به عن زهو الخيول الأصيلة وتيهها، وعن تمردها على الحياة، فهي ترى أنها إنما تُسام خسفًا في سيرها على الأرض، وهي الجديرة بأن يكون ميدان جريها أجواء السماء.
امتطى الساحر ذلك الجواد الكريم بعد أنْ أعانه بعض الأتباع، شأن المزيفين من العظماء متى أرادوا الركوب، فبعض الناس يمسكون بالركاب تذللًا، والآخر يقبض على اللجام تملقًا، وآخرون يحيطون بهم تمويهًا في زيادة الاحتياط، والعظماء العظماء يأبون هذه المظاهر الكاذبة، ويخجلون منها ما دامت قد تدل على الكسل والعجز، واسترخاء الترف أو كبرياء الصلف! وهذه الصفات وما يماثلها لا تليق بالعظيم الأصيل في عظمته المُعتدِّ برجولته، ولم يشعر ذلك المشعوذ بأنه أصبح على متن ذلك الحصان الجواد مالكًا لقياده، حتى انتقلت إليه عدوى الخيلاء زيفًا، فكان مظهرها غطرسة ممقوتة، كما كان زيف النفور والمرح والنشاط والصهيل، وهي كلها صفات محببة في الخيول، وفي غيرها ما دامت طبيعيَّة أصيلة، سماجة وكبرياء، وزهوًا وتصنُّعًا، وهديرًا يشبه هدير البعير.
أمَّا الشعب، ذلك الشعب الساذج المغفل الغارق في أحلام أوهامه، ولا سيما أوهام السلطة والعزة والنفوذ، والمأخوذ ببريق مظاهر التمويه والزركشة، وبأكاذيب سراب العز ووهم الأمجاد، وبخداع التدجيل بشكلياتها وظواهرها، إنَّ ذلك الشعب المسكين ما كاد يسترق السمع، بباعث حب الاستطلاع، أو أنه سُرِق سمعه بفعل الدعاية والتغرير، فعلم بما كان للساحر عند الملك من حظوة ورعاية، حتى أخذ يبث العيون مستطلعًا عن موعد انتهاء هذه الزيارة؛ ليتمتع بنفحة الملك والسلطان تتصل بأحد الرعايا السوقة العاديين، فكأن الإنسان يكفيه في نظرهم أنْ يتصل بالملك وبذوي السلطان ليُخلق خلقًا جديدًا، ويكفيه أنْ يُستقبل في تلك القصور ليستعير قبس نور المجد ويلبس رداءه، وهل للإنسان أية قيمة ذاتية إذا لم يتصل بظل الله على الأرض، أو بمن والاه واتصلت به نفحة من نفحاته؟ إنها صوفية الشعوب الجاهلة كيانها، الذاهلة عن ذاتها والمستسلمة لظواهر الحياة، ولمظاهرها وشكلياتها، ماذا تريد من شعب يغفل عن ذاته، وينسى أنه هو مصدر السلطة والعظمة والمجد، وأنه هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يسدد الخطى أو يضل، بفعل ما أودعه الله في كيانيه الفردي والاجتماعي من قوى وإرادة وتفكير؟
لم يعلم ذلك الشعب المضلل المستسلم بخروج الساحر من قصر الملك على الشكل الذي وصفناه، حتى ترك أعماله ووقف صفوفًا متراصة على جانبي الطريق، فمن الناس من كان يحيِّي المشعوذ عند مروره بالانحناء، ومنهم من حيَّاه بالهتاف والصراخ، ومنهم من اكتفى بذهول غيبوبة التأمل والإعجاب، مأخوذًا بصوفية عبادة المظاهر والشكليات، وما كانت هذه الحفاوة إلَّا لتزيد في غرور الخيلاء، إذا ما بعثها في نفس المغرور استسلام الشعب إليه، إنها تنقلب لاستخفاف يحتقر معه بغروره ذلك الشعب المنعم، وهذا ما ظهر على وجه ذلك المشعوذ، وقد كانت ابتسامته الصفراء الهازئة تنم عن احتقاره لهؤلاء السوقة السذج، وتعبر عن استخفافه بهم، وقد عبر عن سخريته هذه لمن بجانبه من الأتباع بقوله: إنهم حقًّا طيبو القلوب هؤلاء الناس.
وكان في هذه الصفوف شاب تطل الحياة جديدة من عينيه، وهل الشباب في حقيقة معناه سوى إطلالة جديدة للحياة على الوجود، تريده مستمرًّا في تجدده؟ وكان هذا الشاب — ولم يكد يبلغ الموكب نصف طريقه — قد شعر بما يرتسم على وجه ذلك الساحر المشعوذ المغرور من استخفاف وهزء واحتقار، وبما تفترُّ عنه شفتاه من سخرية وخبث ولؤم، فالتفت إلى ذلك الجمع، وصرخ قائلًا: ما هذا الحمق الساذج الأبله؟ مرَّ بكم هذا الرجل على أتانه قبل ساعات فلم تأبهوا له ولم تكترثوا لمروره، وأعلم أنَّ كثيرين منكم كانوا يرمونه بالكذب والدجل والتمويه، فما بالكم وقد فُتنتم به الآن؟! هل للسلطة عصا سحرية لا تلمس أحدًا إلَّا ويصبح أهلًا لأن يفتتن به الناس سواء أعمل أم لم يعمل؟! وسواء لديكم أكان ضارًّا أم نافعًا؟ شريرًا أم خيِّرًا؟ ماذا عمل هذا الرجل؟ أفتح لكم بلادًا جديدة أم أمَّنكم من خوف؟! أأنقذكم من مجاعة أم حفظ لكم أرواحكم وأموالكم وأخصب أرضكم؟! أية نهضة حققها في ميادين العلم والسياسة والاقتصاد؟! ما هو أثره في المجتمع حتى يفتتن به المجتمع؟! يا مغفلون! إنَّ عملكم هذا سخف وحمق إنْ لم أقُل نفاق وجنون! إنها الشعوذة تفتك بالمجتمع.
وما كاد يصل الشاب في حديثه الصارخ إلى ذكر الحمق والنفاق والجنون والشعوذة، حتى انتفخت أوداج الساحر، واصفرَّ وجهه من الغضب، فثار الناس على ذلك الشاب، وأخذوا يكيلون له الشتائم، فبعضهم أخذ يقول: إنه وقح قليل التهذيب، وآخرون كانوا ينعتونه بالحمق والسفه، وجميعهم قرروا أنه مجنون يجب أنْ يُعالج في مستشفى المجانين، ولم تهدأ ثائرة الناس، ولم تسكن ضجتهم إلَّا عندما أخذ الجند هذا الشاب، وقد امتنع عليهم فجرُّوه على الأرض جرًّا دون رحمة ولا شفقة، وكانوا يضربونه بهراوتهم ويركلونه بأرجلهم بعنف وقسوة وجفاء افترَّ لها ثغر الساحر عن ابتسامة عريضة وزفرة عميقة، عبَّرتا عن الرضا والقبول وعن التشفِّي والانتقام، وقد زادت ابتسامته عرضًا وطولًا وعمقًا في مبناها وفي معناها، عندما ألقى الجند القبض على شاب آخر أراد أنْ يدافع عن رفيقه متمردًا على الدجل والشعوذة والنفاق، ومنددًا بجهل الشعب وحمقه وانهيار أخلاقه وحقارته.
هذا هو جو الموكب بعد أن اعتُقل الشابان، ولا أدري، أكان السبب عدم وجود شبان آخرين، أم أنَّ الخوف والذعر أسكتهم؟ لم يذكر راوي الحكاية شيئًا عن هذا، ولكن باستطاعتنا أنْ نفترض أنَّ الكهول والشيوخ، وهم من تتجسم فيهم روح المحافظة على التقاليد ولو كانت فتاكة، ومهما كانت سخيفة، وهم الذين تأخذهم شعوذة صوفية في عبادة الشكليات والمظاهر وإن كانت سببًا للتذلل والانحطاط وقبول الاستعباد، نعم، باستطاعتنا أنْ نفترض أنَّ هؤلاء وربما انضم إليهم كثير من الأولاد كانوا وحدهم المتظاهرين، وأنَّ وجود هذين الشابين كان صدفة عارضة، كما يمكننا أنْ نفترض أنه كان هناك شباب من نوع آخر، فسدت تربيته وبكَّرت شيخوخته، فلم تتحقق فيه معاني الشباب، ولم تتفتح في نفسه أزاهره، مالي أشتطُّ؟ فعفوًا يا قارئي العزيز، كان الأجدر أنْ أقول: ربما كان سائر الشباب في تلك المظاهرة من الشباب الهادئ العاقل الرصين، ومن الذين لم يتذوقوا طعم الجنون، جنون الشباب، وربما كان من الشباب المكبوت أو ممن أرعبه الذعر من تصرفات الجنود.
ومن يدري؟!
وكيفما كان الأمر، فإن الموكب استمر بهدوء وسكون، وعادت له روعته بعد أن ارتاح الناس من جنون الشباب وطيشه، حتى وصل إلى دار الساحر، فترجل هذا وحيا الناس مبتسمًا ابتسامة الظافر، وحيا الأتباع الذين رافقوه وكانوا في ركابه، وأرسل إلى الملك العظيم تحية الشكر والعبودية والخضوع والتذلل، ودخل داره مطمئنًّا آمنًا.