الفصل الأول

عينان سوداوان مُطمئِنتان، رجل قصير القامة نحيل، رقيق الوجه، ذو أذنَين كبيرتَين منفرجتَين، على رأسه قلنسوة بيضاء، مرتدٍ قماشًا خشنًا أبيض، حافي القدم، طعامه الأرز والفاكهة، ولا يشرب إلا ماء، لا يضطجع على فراش وينام قليلًا. لا يفتأ يعمل، كمَن لا يحسب لبدنه حسابًا. لا يأخذ بصرك منه لأول وهلة إلا مظهرَ صبرٍ طويل وحبٍّ عظيم. ولقد رآه برصن عام ١٩١٣ في أفريقية الجنوبية، فذهب فكره إلى القديس فرانسوا الأسيزي … هو ساذج كالطفل،١ لطيف ليِّن العريكة حتى مع خصومه.٢ أمَّا صِدقه وإخلاصه فمُبَّرآن من كل سوء،٣ ينظر إلى ذاته بتواضع، وهو شديد المحاسبة لها، حتى إنه أحيانًا يقع في الحيرة ويقول: «أخطأت.» ولا يكتم هفواته قَط. لا يصالح ولا يحابي، ولا يلجأ إلى خِدَع الساسة وحِيَلهم. يتحاشى التأثير بالأساليب الخطابية، بل لا يخطر له ذلك ببال.٤ يكره تظاهُرات العامة بتمجيد شخصه، وهي تظاهرات كادت تُودي بجسمه الضعيف أحيانًا، لولا أن صديقه مولانا شوكت علي كان ينصب من جثته الكبيرة سدًّا منيعًا دونه. مريض، حقيقة لا مجازًا، لعبادة العامة إياه.٥ وهو في أقصى ضميره كثيرُ الاحتراس من الجمهور الغفير، شديدُ الكراهة للمبقراطية أو حكومة الغوغاء المطلِقي القياد. لا يطمئنُّ باله ولا تسعد نفسه إلا في العزلة؛ حيث يطرق سمعه «الصوت الخفيت الساجي» الذي يقضي بالحق …٦

هذا هو الرجل الذي أثار ثلاثمائة مليون رجل، وزعزع أركان الإمبراطورية البريطانية، وأحدث في سياسة البشر أعظمَ حركة عرفها التاريخ منذ نحو ألفَي عام.

أصلُ اسمه مهنداس كرمشند غاندي، وُلد في دويلة نصف مستقلة واقعة في الشمال الغربي من القُطر الهندي، في بوربندر المدينة البيضاء على ساحل بحر عمان، وذلك في ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩. وأهل هذه المقاطَعة أشداء كثيرو الشغب، وليسوا بعيدي العهد بالفتن والحروب الأهلية، وهم أيضًا عمليُّون حسَنو النظر في الأشغال، أزهرت تجارتهم بين عدن وزنجبار. كان جدُّه وأبوه وزيرَين كبيرَين، جلب كلٌّ منهما لنفسه النقمة باستقلاله في الرأي والعمل حتى اضطرَّ إلى الفرار غير آمِن على حياته؛ فغاندي نبَت إذًا في بيئةِ غنًى وذكاءٍ وثقافة، لكنه لا ينتمي إلى الطائفة العليا، وكان أهله من الدين الهندوسي على مذهب «جايين» الذي من أَجلِّ مبادئه الأهمسا،٧ وهو مبدأ صدع به غاندي ونصَره في العالم.
ويعتقد الجايينيون أن سبيل الحب خير من سبيل الفهم للوصول إلى الله. لم يكن للمال قيمةٌ في عين والد المهاتما، فلم يخلف لأهله إلا اليسير، وأنفق أكثر ما يملكه صدقة. أمَّا أمه فكانت غاية في الصلاح والورع، حتى لَيصدق القول إنها للهند كالقديسة اليصابات، قضت عمرها في الصلاح وأعمال البر والعناية بالمرضى. وكانوا في العائلة يتلون «الرامايانا» بصورة منتظمة، ولقد عُهِد بتربيته الأولى إلى أحد البراهمة، فكان يقرأ عليه نصَّ «الفشنو»،٨ لكنه شكا بعدُ من قلة براعته في السنسكريتية، وكان هذا من أكبر دواعي سخطه على التربية الإنكليزية التي ضيَّعت عليه كنوزَ لغته، وهو برغم حِذْقه الكتب الهندية المقدَّسة، لا يقرأ كتب الفيدا والأوبانشادا إلا في ترجماتها.٩

واجتاز إذ كان في المدرسة أزمة «دينية» ذات شأن؛ فكان — بل حسب نفسه — ملحِدًا؛ لأنه ثار على الهندوسية التي تسرَّبت إليها الوثنية وأخرَجها الفساد عن أصلها، وبلغ به الكفر أن أكَل وبعض رفاقه اللحمَ سرًّا (أعظم المعاصي عند الهندوسيين)، وكاد يقضي بعدها اشمئزازًا وفرَقًا.

زُوِّج وهو يافع،١٠ ثم سافر في التاسعة عشرة إلى إنكلترة لإنجاز دروسه في جامعة لندن ومدرسة الشريعة، ولم تأذن له أمه بالسفر إلا بعد أخْذِها عليه العهودَ الجايينية الثلاثة التي تأمر باجتناب الخمر واللحم والنساء.
وصل إلى لندن في سبتمبر سنة ١٨٨٨، فأتت عليه أشهُرُ حيرةٍ وخيبة أسرَفَ خلالها في ماله ووقته، ولا همَّ له على حد قوله إلا أن يصبح من «عِلية» الإنكليز، ثم راضَ نفْسَه على معيشة بسيطة، وعمل صارم. وأطلعه بعض أصدقائه على الكتاب المقدَّس، لكن لم يئن له بعدُ أن يفهمه، فاعتَرَته السآمة من الأسفار الأُوَل، ولم يتعدَّ سِفرَ الخروج، بيد أنه كُشف له وهو في لندن عن جمال «البغفاد جيتا» فأثمله، وفاض من هذا الكتابِ النورُ الذي كان يشعر الفتى الهندي بالحاجة إليه، فردَّ الإيمانَ إلى صدره، وتيقَّن أن «النجاة لن تأتيه إلا من سبيل الديانة الهندوسية».١١

عاد إلى الهند سنة ١٨٩١ عودًا أليمًا؛ كانت أمه أدركَتها الوفاة وكتموه الخبر. تعاطى المحاماة لدى المحكمة العليا ببمباي، ولكنه سيهجر هذه المهنة بعد بِضع سنين اعتقادَ أنها مغايِرة للأخلاق الفاضلة. وكان في اشتغاله بها يشترط أن يكون له حقُّ ترك القضية متى تبيَّن أنها ليست عادلة.

كان بعض عظماء الهند في ذلك العهد يوقظون في نفسه حدْسًا وتوقعًا لمهمته القابلة، ولُقِّب ﺑ «ملِك بمباي غير المتوَّج»؛ فمن هؤلاء الرجال البارسي دادابي والأستاذ غو كهيل، وكلاهما يشتعل حبًّا للهند وغيرة دينية عليها؛ غو كهيل من خيرة رجال الحكم في وطنه، وأحد السابقين إلى إحياء التربية الهندية. دادابي مؤسِّس القومية الهندية (بشهادة غاندي)،١٢ وكلاهما أيضًا قُدوة حسَنة بالحكمة والحلم ودماثة الخُلق. كان دادابي أولَ راعٍ لحماسة غاندي في شبيبته، وعنه تلقَّى أول درس عملي في الأهمسا وشأنه في الحياة السياسية. الأهمسا أعني الانفعال أو الصبر البطولي إذا جاز جمع اللفظَين، أو نزعة النفس المضطرمة إلى مقاوَمة الشر، ليس بالشر بل بالحب، وسنعود إلى الكلام على هذا اللفظ الساحر، بل الرسالة العلوية التي تؤدِّيها الهند إلى العالم أجمع.

في عام ١٨٩٣ بدأ جهادُ غاندي في سبيل الهند، ولقد مر على هذا الجهاد طَوْران: فمن ١٨٩٣ إلى ١٩١٤ كان الميدان أفريقية الجنوبية، ومنذ ١٩١٤ أصبح الميدان الهند بعينها.

عمل الرجل في أفريقية الجنوبية مدةَ عشرين سنة، فأما ولم يكن لمَسْعاه هذا صدًى في أوروبة، فأي دليل أعظم على ما لا يكاد يصدق من ضِيق الأُفق الذي تَجول فيه أنظار ساستنا ومؤرِّخينا والمفكرين ورجال الإيمان؛ ذلك أنَّ من مساعي غاندي تتألَّف سيرةُ نفسٍ مجاهِدة لا مثيلَ لها في هذا العصر، ليس بعِظَم التضحية واستمرارها فحسب، بل بما استتبَّ لها كذلك من النصر المبين في النهاية.

كان في أفريقية الجنوبية، وبخاصة في النتال سنة ١٨٩٠-١٨٩١ نحو من خمسين ألف هندي، فحرَّك فيضُ هذا الشعب الغريب عاطفةَ بُغضِ الأجنبي في قلوب البيض أهل البلاد، وأخذت الحكومة على نفسها الإفصاحَ عن هذه البغضاء بتدابير قاسية أرادت بها كفَّ الآسيويين عن الهجرة إلى تلك الديار، وإكراه القاطنين فيها على الرحيل؛ فقامت الاضطهادات المنظَّمة التي تستنفد الصبر، من الضرائب الفادحة إلى التكاليف المذِلَّة، فالإهانات المشهودة، وبلغ الأمر بالأهالي أن يشنقوا الهندي جهارًا (قضاء الشعب)، أو ينهبوا مَتاعه، أو يهدموا داره، وكل ذلك في ظلِّ المدنية البيضاء.

وصَل غاندي إلى أفريقية الجنوبية سنة ١٨٩٣ مدعوًّا إلى «بريتوريا» ليرافِع في قضيةٍ ذات شأن، على غير عِلم منه بشيء من أحوال الهنود في ذلك القُطر، فما خطا خطواته الأولى في النتال، لا سيما في الترنسفال الهولاندي، إلا اخْتُبر اختبارات موجِعة. هذا الهندي الشريف الأصل الذي كان موضعَ الإكرام في إنكلترة، والذي لم يَسبق له أن نظَر إلى الأوروبيين بغير عين القرين والصديق، إذا به عرضة لأحطِّ القبائح وأشدِّها فظاظةً؛ يُطرد من النُّزل، ويُقذف من القطارات، ويُهان ويُصفع ويُركَل بالرجل، ولولا أن في يده عقدًا يربطه بموكِّليه مدة عام لأُعيد إلى وطنه بلا إبطاء. اثنا عشر شهرًا تعلَّم فيها كيف يصبر على المَكاره مسيطرًا على نفسه، فلما أتى الميعاد، وكان أعجل ما يكون إلى الرحيل، علم أن الحكومة تُعِد قانونًا تسلب به الهنود ما بقي لهم من حقوق وحرية، وكان الهنود ضِعافًا عن المقاوَمة ولا عزيمة، أشتاتًا ولا انتظام، راضين بسُوء المآل ولا أمل، يعوزهم زعيم وروح، فوقَف غاندي نفسه على ذلك، وبقي.

وحينئذ بدأ الجهاد العظيم، جهادُ وجدانٍ فذ في قوة الحكومة والجماعة المتوحشة، وكان غاندي بعدُ محاميًا، فبدأ بإثبات بطلان القانون القاضي بطرد الآسيويين شرعًا، حتى أرغم أنف المعارَضة الشَّمُوخ، وربح دَعواه في نظر النتال ولندرة قانونيًّا، إن لم يكن عمليًّا. واجتهد في ختم معاريض عريضة، وفتح مؤتمر النتال الهندي، وألَّف جمعية التربية الهندية، ثم أنشأ جريدةً باسم «الرأي الهندي» تُحرَّر بالإنكليزية وبثلاث لغات هندية، وعقَد النية على رفع مستوى مُواطنيه في أفريقية؛ فأول عملٍ أتاه أنه تمثل بهم ليكون أجدرَ بالذَّوْد عن مَصالحهم، وأقدرَ على دفع المضارِّ عنهم. كان زبائنه في جوهانسبورغ من ذوي المكانة واليسار،١٣ فتركهم وتزوَّج الخصاصة مقتديًا بالقديس فرانسوا، وعاش عيشة الهنود الصعاليك المضطهَدين، مشاركًا إياهم في مِحَنهم وبَلاياهم بعد أن طهَّرها وقدَّسها؛ إذ ألزمهم بقاعدة اللامقاومة. ونظم سنة ١٩٠٤ في فونيكس على مقربة من دوربان مستعمَرةً زراعية على الخطط التي وضَعها تولستوي، وكان غاندي به معجَبًا.١٤ فجمَع فيها الهنود ووزَّع بينهم الأرضين بعد أن أخَذ عليهم عهدًا مقدَّسًا على الفقر، وهو آثر نفسَه بأحقر الأعمال وأخسِّها. هنالك قاوَم هذا الشعب الحكومةَ صامتًا، سنين طوالًا؛ هجر المدن، فشُلَّت حياة البلاد الاقتصادية، هو اعتصابٌ ديني يفلُّ سيفَ العنف ويحطِّمه كما انحطم سلطانُ رومة أمام النصارى الأولين، ولكن قلَّ في أولئك النصارى مَن سما بدِين المحبَّة والغفران إلى الدرجة الرفيعة التي بلَغها غاندي؛ إذ كان يبادر إلى نجدة المضطهِدين أنفسهم كلما رآهم في ضِيق، فكان غاندي لما تُعرَّض دولة أفريقية الجنوبية للمَخاطر الجسيمة، وتُشغل بدفعها، يوقف حكم قاعدة اللامعاوَنة من قِبل الهنود في المصالح العامة ودواوين الحكومة، ويعرض معونته. ولقد ألَّف أثناء الحرب البويرية سنة ١٨٩٩ فرقة الصليب الأحمر الهندية التي ذُكرت في بيان القيادة مرتَين، مشهودًا لها بالشجاعة تحت النيران. ولما فشا الطاعون في جوهانسبورغ عام ١٩٠٤، نظَّم غاندي مستشفًى. وفي ١٩٠٦ ثار الأهلون بالنتال، فاشترك غاندي في الحرب وهو على رأس فرقة من نقالة الجرحى، وأثنَت عليه حكومة النتال بصورة مشهودة.
ولكن ما كان لهذه الخِدَم الكريمة السمحاء أن تجرِّد بغضاء الأجنبي من سلاحها، فأُلقي غاندي في غيابة السجن مرارًا١٥ — حتى بعد ثناء الحكومة لبلائه في حرب النتال — وحُكم عليه بالأشغال الشاقة، وجَلَده الرَّعاعُ يومًا وهم في سَوْرة الغضب،١٦ ومرة تركوه طريحًا إذ حسبوه ميتًا؛ وهكذا عرف غاندي العذابَ بأنواعه، والذلَّ بضروبه، والألم والهوان، إلا أنه لم يؤثِّر شيءٌ في قوة إيمانه، بل كانت البلايا تزيدها. ووضَع سنة ١٩٠٨ كُتَيِّبه المشهور «هند سواراج» (الحكم الذاتي الهندي)، إنجيلَ المحبَّة البطولية الذي ردَّ به على دُعاة العنف في أفريقية الجنوبية.١٧
دام الجهاد عشرين سنة، وبلغ أقصى الشدَّة بين عامَي ١٩٠٧ و١٩١٤، وكانت حكومة أفريقية الجنوبية قد عجلت إلى إصدار قانون آسيوي جديد غير مُبالية بمعارَضة الفئة النيِّرة من الإنكليز، فنظَّم غاندي حينئذٍ خطةَ اللامقاوَمة بتمامها وشمولها. وفي سبتمبر سنة ١٩٠٦ اجتمع الهنود في جوهانسبورغ، فحلفوا يمين «المقاوَمة الانفعالية»، وأصبح الآسيويون جميعًا بلا فَرقٍ في الجنس والدين والمقام، أغنياؤهم وفقراؤهم، سواءً في المفاداة وصِدق العزيمة، واتحد صينيُّو أفريقية بالهنود اتحادًا وثيقَ العُرى. كانوا يُساقون إلى السجون آلافًا، فلما ضاقت بهم سِيقوا إلى المناجم، فكأن في السجن ما يستهويهم ويجذبهم حتى سمَّاهم الجنرال سمطس، الذي كان يضطهدهم، «المعارضين عن عمدٍ ويقين»، وحبس غاندي ثلاثَ مرات،١٨ وكان منهم قتلى بل شهداء. وعَظُمت هذه الحركة وامتدَّت سنة ١٩١٣ من الترنسفال إلى النتال، فكان الهنود يُضرِبون عن العمل جماهيرَ زاخرة، ويعقدون اجتماعات عامة تتلظَّى حَمِيَّة، ويمشون في بلاد الترنسفال مشية الرجل الواحد؛ فأثار هذا كلَّه الرأيَ العام في أفريقية وآسية، وسرى السخط في الهند حتى اضطرَّ نفس نائب الملِك اللورد هاردنغ إلى التصريح به في مدراس إعلانًا عن عواطف الهنود.
على هذه الصورة كان سِحر الروح الكبرى وعزيمتها الصادقة التي لا تُغلب يفعلان فِعلهما، وعفرت القوة ركبتَيها راكعةً أمام الوداعة البطولية.١٩ بل إن ألدَّ خُصوم القضية الهندية وأشدَّهم عداءً، الجنرال سمطس — الذي صرَّح سنة ١٩٠٩ بأنه لن يمحو من سجلِّ القوانين قرارًا مهينًا للهنود — أقرَّ لخمس سنوات خلَت أنه سعيد بنَسْخ ذلك القرار وإبطال حُكْمه.٢٠ واعترفت اللجنة الإمبراطورية التي أُلِّفت بأن غاندي محقٌّ في جُلِّ مَطالبه، وصدر سنة ١٩١٤ قرار يلغي ضريبة الثلاثة جنيهات ويمنح حرية الإقامة بالنتال جميعَ الهنود الذين يهبطونه ويستوطنونه عمَّالًا مستقلِّين، وهكذا نصرت اللامقاوَمة بعد تضحيات استمرَّت عشرين عامًا.

عاد غاندي إلى الهند، وله في القلوب هيبة الزعيم.

كانت حركة الاستقلال الوطني قد بدرت منذ بداية هذا القرن، وكان بعض أذكياء الإنكليز أ. د. هيوم والسر ويليام ودربرن، من الأحرار الفكتوريائيين، قد أسَّسوا منذ ثلاثين عامًا المؤتمرَ الهندي الوطني، وأبقوا فيه مدة طويلة على صبغة الولاء، دائبين للتوفيق بين المصالح الهندية والسيادة الإنكليزية. فلما أيقظ انتصارُ اليابان على روسية الأنفةَ الآسيوية، وجرحَت تحديات اللورد كرزن وطنيِّي الهنود، نشأ في قلب المؤتمر حزبٌ متطرِّف كان لرأيه في الوطنية الهاجمة غير المسالِمة صدًى في البلاد، إلا أن الحزب الدستوري القديم استمرَّ حتى نشوب الحرب الكونية، بتأثير ج. ك. غو كهيل، صادق الوطنية، ولكن صادق الولاء لإنكلترة. والشعور الوطني الذي تخلَّل في ذلك الزمن مجلسَ النوَّاب الهنود كان يسيِّرهم جميعًا في سبيل المطالبة بحكم ذاتي (سواراج)، هم غير متفقين على دلالته ومعناه، فكان بعضهم قانعًا بالمساعدة الإنكليزية، بينما البعض الآخَر لا يرضى إلا بطرد الأوروبيين من الهند. وبينما كانت أنظار فريق منهم طامحةً إلى مثال الكندا وأفريقية الجنوبية، كانت نفوس الفريق الآخَر طامعة بمثال اليابان؛ حينئذٍ جاء غاندي بالحلِّ الجديد، وهو أقرب إلى أن يكون حلًّا دينيًّا منه إلى أن يكون حلًّا سياسيًّا، وأشد غلوًّا في الحقيقة من كل ما عداه؛ «هند سواراج». ولكن كان يعوز غاندي كي يخرِجه إلى حيز الفعل، المعرفة الصحيحة بالوسط والبيئة؛ لأنه إذا كان في مهمته الطويلة بأفريقية الجنوبية قد وُفِّق إلى أعظم تجرِبة للروح الهندي وسلاح الأهمسا الصارم، فلقد مكث هنالك ثلاثًا وعشرين سنة بعيدًا عن وطنه؛ لذلك اعتزل غاندي مستجمِعًا قواه لملاحظة ما حوله وتدبُّره.٢١

وكان لا يزال بعيدًا عن الافتكار بالثورة على الإمبراطورية البريطانية، حتى إذا نشبت الحرب سنة ١٩١٤، أَمَّ إنكلترة لتأليف فرقة من نقالة الجرحى. «كان يعتقد اعتقادًا صادقًا (كما كتَب سنة ١٩٢١) أنه من أبناء الإمبراطورية»، وسيذكِّر بهذا الأمر مراتٍ في رسائله الموجَّهة (سنة ١٩٢٠) إلى جميع إنكليز الهند: «أيها الأصدقاء الأعزاء، لم يعضد الإمبراطورية إنكليزيٌّ خيرًا من عضدي، خلال تسعٍ وعشرين سنة من حياتي العامة … عرَّضت نفسي لخطر الموت في سبيل إنكلترة أربعَ مرات … وأوصيت بالاشتراك والتعاون عن اقتناع صحيح حتى سنة ١٩١٩.»

ولم يكن هذا شأنه هو وحده، فإن الهند جميعها سنة ١٩١٤ أُخِذت في شباك المبادئ الخادعة التي راءَت بها حرب الحقوق، ولما سألتها الحكومة الإنكليزية المَعونةَ منَّتها بالآمال الجِسام، وأوهَمَتها أن ذلك الحكم الذاتي الذي طالما طمحَت إليه يكون من غنائم هذه الحرب الضَّرُوس. وفي أغسطس سنة ١٩١٧ وعدها أ. س. مونتاغو، وزير الهند الذكي، بتأسيس حكومة مسئولة، وبعد استفتاء الأمة وقَّع نائب الملِك اللورد شلمسفورد ومنتاغو بيانًا رسميًّا عن الإصلاح الدستوري. كانت جيوش الحلفاء في الشهور الأولى من سنة ١٩١٨ في خطر جِسيم، وكان لويد جورج قد وجَّه في ٢ أبريل نداءً إلى الأمة الهندية، وفي آخِر هذا الشهر أيضًا عُقِد مؤتمر الحرب بدلهي، ففُهِم مما دار فيه أن استقلال الهند دانٍ غير بعيد؛ لذلك لبَّت الهند ذلك النداءَ بالإجماع، ومنَح غاندي إنكلترة مرة أخرى ولاءَه وإخلاصه، وأعطت الهند ٩٨٥٠٠٠ من أبنائها، وقامت بتضحيات عظيمة، ثم انتظرت مطمئنة أن تُؤدي ثمنَ حفظها العهد.

لقد كانت اليقظة رهيبة، الخطر في آخِر العام زال، وزالت أيضًا ذِكرى الخِدَم المَقضيَّة. وإذ وُقِّع عقد الهدنة أصبحت الحكومة لا تكلِّف نفسها مؤنة الستر والمداجاة، وكأنما لم يكْفِها أنها حنثت ولم تمنح الهند ما وعَدَتها من الحقوق والحرية، فسلبتها أيضًا ما كان لها من قبل. وكشفت قوانين رولات المعروضة في ٢ فبراير سنة ١٩١٩ على المجلس الإمبراطوري التشريعي بدلهي عن أفحش ما يكون من سُوء الظن بالأمة التي أقامت هذا المقدار من الأدلة على إخلاصها وولائها، فإن هذه القوانين جاءت بدوام الأحكام والتدابير التي تضمَّنها صكُّ الدفاع عن الهند، زمن الحرب، مرجِعةً الشرطة الخفيَّة والمراقَبة وسائر ما ينتج من حالة الحرب أو الحكم العسكري من القيود والمزعِجات العاتية؛ حينئذٍ سرت في الهند المخدوعة الخائبة رجفةُ غضبٍ شديد، وبدأت الثورة،٢٢ فنظَّمها غاندي.

كان غاندي فيما سبَق من السنين قاصرًا عملَه على الإصلاحات الاجتماعية، لا سيما على رفع مستوى عمَّال الفلاحة وتحسين أحوالهم، لكنه جرَّب في قلاقل ١٩١٨ وأثناء الفِتن الزراعية التي اضطرمت في كيرا، من أعمال الغوجرات، وفي شمباران، من أعمال البيحار (ولم يسترعِ هذا ذهن أحد)؛ ذلك السلاح الصارم الذي سيقاتل به في جهاده الوطني العظيم؛ أعني اللامقاوَمة الشديدة الخاصة به، وسندرسها فيما بعدُ باسم الصاتياغرافا الذي أطلَقه عليها.

بيْدَ أنه لم يكن حتى سنة ١٩١٩ على رأس الحركة الهندية الوطنية، بل كان بمعزل عنها نوعًا ما، وكانت الأحزاب المتطرفة التي ألَّفتها سنة ١٩١٦ المسز أني بيزانت (وهذه ما لبثت أن سُبقت) قد رأست الزعيم الهندي الكبير لقمانيا بل قندهار طيلاق، وهو رجل أُوتي عزيمة نادرة، وجمَع في حُزمة حديدية ثالوث العظمة: الذكاء، والإرادة، والخُلق. دماغ أرحب من دماغ غاندي، وهو أوفر قسطًا من الثقافة الآسيوية العتيقة وأشد تمكُّنًا فيها، عالم، رياضي، واسع الاطِّلاع، ضحَّى بمطالب نبوغه لخدمة وطنه، وهو كغاندي خليٌّ من كل مَطمع شخصي، لا يرجو إلا فوز قضيته، فيدع ساحة العمل ويعود إلى أبحاثه العلمية. كان كل حياته زعيم الهند بلا مُنازع. ماذا كان يحصل لو لم يختطفه موتٌ عاجل من وسط شعبه سنة ١٩٢٠؟ إن غاندي الذي كان متخشعًا أمام عِظَم نبوغه اختلف وإيَّاه على الطرق السياسية، ولا ريب في أنه لو بقي طيلاق حيًّا لما كانت لغاندي غير الزعامة الدينية للحركة. ماذا تكون نهضة الهند ووثبتها بهذه القيادة المزدوجة؟! إذًا لَمَا ثبت في وجهها شيء؛ لأن طيلاق كان مالكًا سُؤْددَ التنفيذ والعمل، كما كان لغاندي سُؤْددَ القوى الباطنة. ولكن القدَر لم يشأ ذلك، فكان مَدعاة أسف من أجل الهند ومن أجل غاندي نفسه؛ لأن مقام زعامة الأقلية أو الخاصة أو الصفوة المفكِّرة، أولى بما طُبع عليه غاندي وبما يُضمِره من رغبات؛ فهو لم يثِق يومًا بالعامة، بينما كانت لطيلاق هذه الثقة، فإن هذا الرياضي العامل كان مؤمنًا بالعدد، وكان ديمقراطيًّا فطرةً. كذلك كان سياسيًّا عن عمد، لا يبالي مَطالب دينه، وكان يقول: «ليست السياسة للصاخو.» أيْ للقديسين والأتقياء. كان هذا العالم على استعداد لأن يضحِّي بالحقيقة في سبيل تحرير بلاده كما صرَّح. هذا الرجل العفيف الكامل الذي لم تَشُب حياتَه شائبة، كان لا يُحجِم عن القول: إن كل شيء حسَن في السياسة. وليس ما يمنع الاعتقاد أنه كان من الممكن حصول صلات فكرية بين هذه الشخصية وبين ديكتاتورية موسكو. أمَّا فكر غاندي فغيرُ مؤاتٍ لشيء من هذا القبيل.٢٣ والمناقشات التي دارت بين طيلاق وغاندي لم يكن من شأنها، مع توكيد الاحترام العظيم المتبادل بينهما، إلا أن تثبِت ما بين طريقتَيهما من التضاد؛ أعني — وهما رجلان متَّصفان بالصِّدق المطلق، منسوجةٌ صورُ العمل عندهما على منوال صور الفكر — التضادَّ بين المبادئ الأساسية التي تسيطر على حياتهما؛ فغاندي يجهر أمام طيلاق بأنه إذا خُيِّر مكرَهًا، آثَر الحقيقةَ وضحَّى بالحرية، ومهما يكن حبه الديني لوطنه، فهو جاعل دينه في مقام أسمى أيضًا من وطنه:
«أنا متزوج الهند مَدين لها بكل شيء، وأعتقد أن عليها مهمة، فإن قصرت عن أدائها فهي إذًا ساعة محنتي وبلائي، وأرجو أن لا أزلَّ أو أقصِّر أنا. ليس لديني حدود جغرافية، إذا كان إيماني حيًّا فهو يجاوز حبي الهند نفسها ويفيض عنه …»٢٤
كلمات جليلة سامية تُودع في الجهاد الذي سنصف أطواره كلَّ دلالته الإنسانية؛ لأنها تجعل رسول الهند رسولًا إلى العالم أجمع ومواطنًا لنا جميعًا،٢٥ فإن مِن أجلنا أيضًا وفي سبيلنا ما ينشب القتال الذي يخوضه المهاتما منذ أربعة أعوام.

•••

مما هو جدير بالذكر أن غاندي إذ ترأَّس حركة العصيان على قانون رولات، لم يُقدِم على ذلك إلا «لصرف هذه الحركة عن طريق العنف»،٢٦ كان العصيان حاصلًا لا محالة، فتحتَّمَت إدارته.

ولا يَعزب عن بالنا لاكْتِناه ما سيأتي أن فكر غاندي بِناءٌ ذو طبقتَين: أُولاهما أُسس دينية عظيمة جدًّا، وفي ثانيتهما العمل الاجتماعي الذي يرفعه على هذه القواعد الخفية، مطبِّقًا إياها على ممكِنات الزمن ورغائب البلاد؛ فهو دينيٌّ فِطرةً، سياسيٌّ بالضرورة. وكانت الصفة السياسية والعملية في مَساعيه تزداد وضوحًا وقوة مع اشتداد دفع الحوادث وموت رؤساء الأمة، اللذَين اضطراه إلى أن يمسِك دفَّة السفينة وسط العاصفة، ولكن لن يزال الشيء الجوهري في البناء هو الناووس. هذا الناووس رحبٌ عميق، شُيِّد ليحمل كاتدرائية غير التي يجب التعجيل في بنائها، هو وحده باقٍ، وما عداه وقتيٌّ لم يُعدَّ إلا لإيواء أعوام النقلة. يهمنا إذًا أن نعرف هذه الكنيسة الأرضية التي يقوم فكر غاندي ومذهبه على آساسها الثابتة، ففيها كان غاندي يختلي كلَّ يوم ليستعيد القوى اللازمة للعمل — فوق.

يؤمن غاندي إيمانًا صادقًا بدين أمَّته الهندوسية، وليس إيمانه إيمانَ عالمٍ متقيِّدٍ بالنصوص والكتب، ولا إيمانَ تقيٍّ ورِع لا ينقد، بل يسلِّم تسليمًا أعمًى بكل منقول: إن عقيدته لفي رقابةٍ مزدوجة من وجدانه ومن عقله.
«لن أجعل من ديني وثنًا، وما كنت لأغضي عن أن أيِّ شرٍّ يُؤتى باسمه الأقدس، أو لأجد عليه عذرًا٢٧ … لا رغبة عندي في أن أقود ورائي رجلًا واحدًا إذا كنت عاجزًا عن مخاطَبة عقله، بل إني أذهب حتى إلى رفض ربوبية الشاسترا الأقدمين إذا كان عقلي لا يصدق بها.»٢٨
ثم إنه لا يسلم للهندوسية — وهذا أمر جوهري — بأي حصر للحقيقة ولا يتسامح فيه:
«لا أعتقد أن ربوبية الفيدا هي وحدها الحق، أعتقد أن الكتاب المقدَّس والقرآن والزندافستا موحًى بها من عند الله كالفيدا … ليست الهندوسية دينًا تبشيريًّا، ففيها متَّسع لعبادة كل أنبياء العالم … إنها تأمر كلًّا منا أن يعبد الله حسب عقيدته (دارما)، فهي إذًا تعيش في سلام مع جميع الأديان.»٢٩
وهو لا يتعامى عن الضلالات أو المفاسد التي تسرَّبت إلى الهندوسية على مر العصور، بل يحمل عليها حملات صادقة، ولكن …
«… لا أجد سبيلًا إلى وصف شعوري نحو الهندوسية، كما أني لا أقدر على وصف شعوري نحو امرأتي، إنها تثير فيَّ من العواطف ما لا تثيره امرأةٌ غيرها، لا لأنها سليمة من كل عيب، بل أنا لا أخشى القول إن فيها من العيوب أكثر مما أرى، ولكن ثمة شعورًا برابطة لن تنحل. كذلك أمري مع الهندوسية بكل مَعايبها وقيودها، ليس يستفزني شيء بقدر ما تفعله موسيقى الجيتا والرمايانا، وهما كتابا الهندوسية الوحيدان اللذان أستطيع ادِّعاء معرفتهما … أعرف المفاسد التي تنجِّس اليومَ المعابدَ الهندية الجليلة، ولكني أحبها برغم هذا كله. من رأيي الإصلاح إلى النهاية، ولكني لا أردُّ واحدة من العقائد الجوهرية في الهندوسية.»٣٠
ما هي إذًا الحقائق الجوهرية التي يُسلم بها؟ ذكرها صراحةً في مقالة مشهورة نُشِرت في السادس من أكتوبر سنة ١٩٢١، هي بمثابة أركان الدين في نظره:
  • (١)

    أُومِن بالفيدا والأوبانشادا والبورانا وبكل ما هو معروف باسم الكتب الهندوسية، فأنا مؤمن إذًا بالأفتارا وبالإحياءات.

  • (٢)
    أُومِن بالفرناشراما دارما؛٣١ نظام الطوائف أو الطبقات، ولكن بمعناه الفيدي (نسبةً إلى الفيدا من كتب الهندوس المقدَّسة) الصحيح لا بمعناه الحاضر الجافي الخشن الذي تفهمه العامة.
  • (٣)

    أُومِن بحماية البقرة بمعنًى أوسعَ جدًّا من مفهوم العامة.

  • (٤)

    لا أحرِّم عبادة الأوثان.

أيما أوروبي يقف عند هذا الموضع من مطالَعة هذه العقيدة، فهو يحكم بأن الذهنية التي تبدو منها مباينة لذهنيتنا إلى الدرجة القصوى، وبأنها محصورة مُضيَّق عليها في دائرة من العقائد الدينية والاجتماعية البعيدة عنا زمانًا، القصِيَّة مكانًا، فلا تُوزَن قَطُّ بميزان فهمنا، ومن العبث إذًا أن نمضي في القراءة، ولكن لا، ليستمر، فهو واجدٌ بعضَ بِضعة سطورِ هذه الجملة التي هو لها آلف وإليها أقرب:

«أومِن بالحكمة الهندوسية القائلة: إنه لا يدرك امرؤ حقيقةَ الشاسترا إذا لم يبلغ درجة الكمال في العصمة (أهمسا)، والحقيقة (صاتيا)، وإمرة النفس (براهمة شريا)، ولم يزهد في كل متاع أو غنًى في هذه الدنيا.»

هنا يلتقي كلام الهندوسي بكلام الإنجيل، وكان غاندي على بيِّنة من هذه القرابة، فإن كتابه «الدين الأخلاقي» مختتَم بأحد أقوال المسيح.٣٢ ولقد سأله قَسٌّ إنكليزي سنة ١٩٢٠ عن الكتب التي أحدثت أبلغَ الأثر في نفسه، فكان أول ما ذكَره منها: العهد الجديد،٣٣ بل هو يقر أيضًا٣٤ بأن «الخطبة على الجبل» كشفت له سنة ١٨٩٣ عن المقاومة الانفعالية، فسأله القَسُّ حينئذ والعجب آخذ منه: «ألم تكن تعرفها قبل ذلك من مُطالَعة الكتب الهندوسية؟»
– «كلا، كنت أعرف قبل ذلك البغفاد جيتا وأُعجب به، لكن العهد الجديد هو الذي فتَح ذهني لشأن المقاومة الانفعالية، وكان قلبي يفيض سرورًا وأنا أطالعه، ثم مكَّن البغفاد جيتا ذلك الأثر في نفسي، حتى جعل تولستوي بكتابه «ملكوت الله في أنفسكم» هذا الرأيَ في صورته الثابتة.»٣٥ ولا يَعزب عن بالنا أن هذا المؤمن الآسيوي مغتذٍ بآراء تولستوي،٣٦ وأنه ترجَم بعض مؤلَّفات رسكن٣٧ وأفلاطون،٣٨ وأنه يستشهد بطورو ويُعجَب بمازيني ويقرأ إدوارد كاربنتر، وأن ذهنه مُشرب بالفكرَين الأوروبي والأمريكي، فليس ما يحمل الغربي إذًا على اعتبار نفسه غريبًا عن فكر غاندي إذا تكلَّف مؤنة التقرُّب منه. وإنه لَيُدرِك حينئذٍ المعانيَ البعيدة في بنود القانون الذي أدهَشه نصه، وثَمة على الأخص مادتان يَلوح أنهما تُقيمان حاجزًا منيعًا بين روح أوروبة وروح الهند الديني؛ أعني عبادة البقرة ونظام الطوائف،٣٩ ولكن لنرَ ما معناهما في نظر غاندي:
حقًّا إنه لا يعتبرهما مادتَين ثانويتَين في مجموعة مذهبه، فحماية البقرة ميزة الهندوسية، ويرى غاندي في هذا المبدأ أجلَّ الأدلة على الترقي الإنساني. لماذا؟ لأن البقرة رمز عن «العالم الأدنى من الإنسان»، العالم الذي يبرم البشر وإياه عهدَ محالفة، ومعناه: «الأخوة بين الإنسان والحيوان»، أو هو كما جاء في عبارة له جميلة: «يحمل الإنسان إلى ما بعد حدود نوعه، ويثبت مماثَلة الإنسان لكل ذي حياة.» أما اختيار البقرة دون غيرها من العجماوات فلأنها في الهند خيرُ رفيقٍ ومنبعُ خيرٍ وبركة، وغاندي يرى في «هذا الحيوان الوديع قصيدة رحمة.» ليست هذه العبادة على شيء من الوثنية، وليس أشد من غاندي على الفتشية الخلو من الشفقة كما نعهدها اليومَ في الهنود الذين يستمسِكون بالظاهر والنصِّ، غافلين عن العمل بروح الرحمة «نحو مخلوقات الله العجماء». فإذا فهمنا هذا — ومَن كان أجدر بفهمه من الفقير الأسيزي؟! — لم يبقَ ما يدعو إلى التعجب من عِظَم الشأن الذي خصَّ غاندي به ذلك المبدأ. وليس بمخطئٍ في قوله إن حماية البقرية بالمعنى الذي يريده «هِبة الهندوسية للعالم»؛ لأنه يزيد على الوصية الإنجيلية: «أحبِب قريبَك حبَّك لنفسك.» قولَه: «كلُّ ذي حياة قريبُك.»٤٠
من الجائز أن يكون نظام الطوائف أعسر فَهمًا وأبعد عن مَدارك الأوروبيين (أقل ما يكون في أوروبة اليوم؛ إذ الله عليم بما يخبئه المستقبل من تطوُّر لم يبقَ له من الديمقراطية إلا اسمها)؛ لذلك لن أطمع في جعله مقبولًا ببسط التآويل التي جاء بها غاندي، ولا أجد رغبة في ذلك، ولكنها على كلٍّ تدلُّ بجلاء على أن هذه العقيدة ليست ناشئة عن روح الصلف والكِبر أو السُّؤْدد الاجتماعي، بل عن شعور بالواجب المترتِّب على كل طبقة أو طائفة من طوائف الهنود، كلٌّ حسب مَقامة. قال غاندي:

«ثمة ما يميل بي إلى الاعتقاد أن ناموس الوراثة أبدي، وأن كل سعي إلى تبديله يؤدي إلى الاختباط المطلق والفوضى الشاملة، فالفوناشراما ملازمة للطبيعة الإنسانية، ولم تزد الهندوسية على أنها رتَّبتها ونظَّمتها …»

ولكنه يحصر الطبقات كلها في أربع فقط: البراهمة (طبقة الروحيين وأهل الرأي والعلم)، والقشاترية (طبقة العسكريين ورجال الحكم)، والفيشية (التجار)، والشودرة (العمال وأرباب الصناعات اليدوية)، ولا يسلم فيما بين هذه الطوائف بأدنى نسبة من الرفعة والخفض. كل ما في الأمر أنها قابليات ومواهب ليس إلا. هناك فروض وواجبات، ولا فضل ولا ميزة على الإطلاق.٤١

«مما يخالف روح الهندوسية أن يخص امرؤ نفسَه بمقام أعلى، أو أن يجعل آخَر في مرتبة أدنى. خُلق الناس جميعًا لخدمة خليقة الله: البرهمي بعلمه والقشاتري بقوته وحمايته، والفيشي بحذقه التجاري، والشودرة بعمله الجسدي؛ ولا يعني هذا كون البرهمي معفيًّا من كل عمل جسدي، ولا كون الشودرة لا يستطيع اكتساب المعارف كلها، بل يعني أن هذا يجيد الخدمةَ بجسده أكثر، وليس من داعٍ لأن يحسد الآخَرين على وظيفتهم. والبرهمي الذي يدَّعي فضلًا لأنه عالم يَسقط من مرتبته لهذا الادِّعاء وحده، وما هو على شيء من العلم الحقيقي … ليس القصد بالفرناشراما إلا اقتصاد العزيمة والعمل الاجتماعي (بحسن توزيعهما)، وسيطرة المرء على نفسه بقوة الإرادة.»

فهي إذًا قائمة على نكران الذات وليس على الأثرة والامتياز. ولا نَنسَ أن الطبيعة في عقيدة التناسخ تعدِّل الأمور؛ إذ تجعل البرهمي في الوجودات المتعاقبة شودرة مثلًا، والشودرة برهميًّا وهكذا.

أما مسألة الباريا فلا علاقة لها بمسألة الطوائف الأربع المختلفة والمتساوية، وسنأتي على وصف الحماسة المضطرمة التي ما زال غاندي يحارب بها هذا الحيف الاجتماعي، وفي ذلك وجه من وجوه دعوته الأبلغ تأثيرًا؛ لأنه يعتقد أن مسألة الباريا خِزيُ الهندوسية، وأنها أنكرُ التحويرات الطارئة على الدِّين الحقيقي، بل إنه لَرجسٌ يُؤلمه ألمًا لا يطاق: «خيرٌ لي أن أُقطع إربًا من أن أنكِر إخواني من الطبقات المدحورة، لا أتمنى أن أُبعث، ولكن إذا قُدِّر لي ذلك، فأقصى مُناي أن يكون بعثي بين الأنجاس، كي أشاطرهم الإهانة وأعمل على خلاصهم.»٤٢

ولقد تبنَّى طفلةً من هؤلاء المساكين، فهو يتكلم بحنانٍ عظيم عن هذا العفريت الصغير الساحر البالغ سبعًا من العمر، والذي كان يجلب لداره المطرَ والصحو.

قلت ما يكفي لإظهار ما ضُمَّ عليه ثوب العقيدة الهندوسية من القلب الإنجيلي الكبير، هنا تولستوي أعطف وأرق وأبلغ طمأنينة نفس، بل إذا جرؤت على القول: أقرب إلى المسيحية فِطرةً، وبمعناها العام؛ لأن تولستوي مسيحيٌّ عمدًا أكثر منه فِطرةً.

ليس الشَّبه بين الرجلَين أظهر، ولا تأثير تولستوي أصدق منهما في حكم غاندي على الحضارة الأوروبية حكمَه الشديد.

ما فتئت دعوى المدنية يقيمها بعد روسو ذَوو الأفكار الحرَّة في أوروبة، ولم يكن على آسية في يقظتها إلا أن تقتبس من شكاياتهم وانتقاداتهم، فتؤلِّف منها أضخم سجلٍّ في اتهام المُغِيرين عليها. ولم يَفُت غاندي هذا الأمر، فإن في «هند سواراج» قائمة بهذه المؤلَّفات المتَّهِمة، بينها طائفة لا بأس بها مما ألَّفه الإنكليز، ولكن الكتاب الذي لا يُرد عليه هو الكتاب الذي كتبته المدنية الأوروبية بدم الشعوب الهضيمة السليبة المدنسة باسم المبادئ الكاذبة. وما الحرب الأخيرة، حرب المدنية المزعومة، إلا مجلًى واضح لهذا الكذب وهذه الوحشية؛ لأنها كشفت عنهما الستار وأظهرتهما بلا حياء للملأ أجمع. وكان من غفلة أوروبة أن دعت شعوب آسية وأفريقية ليشهدوا عُريها، فرأَوا وحكموا:
«كشفت الحرب الأخيرة عما في المدنية السائدة اليوم على أوروبة من طبيعة شيطانية.٤٣ لقد حطَّم الغالبون باسم الفضيلة جميع الأنظمة الأخلاقية التي قامت عليها علاقات الأمم، ولم يروا في كذب أو فرية، من العار ما لا يجوز معه الانتفاع بهما. وراء هذه الجرائم كلها عاملٌ مادي صرف. ليست أوروبة مسيحية؛ إنها تعبد ممون.»٤٤

هذه أفكار تقع عليها عشرين مرة في كتابات اليابانيين والهنود منذ خمس سنوات، بل الذين يحترسون من الجهر بها، لتجدنَّ هذا الاعتقاد منقوشًا خلف جِباههم. وليس هذا أيسر النتائج المتلفة التي أعقبها انتصار ١٩١٨ الأشبه بالخذلان، ولكن غاندي لم ينتظر حلول سنة ١٩١٤ ليبصر وجه المدنية الحقيقي، فقد كشفت له عن قِناعها في العشرين عامًا التي قضاها بأفريقية الجنوبية، وأعلن في هند سواراج (١٩٠٨) أن «المدنية الحديثة هي الرذيلة الكبرى».

المدنية في رأي غاندي مدنية اسمًا ليس إلا، هو — هذا التعبير مقتبَس من الهندوسية — «العصر الأسود، عصر الظلمات» لأنه يجعل للحياة غرضًا واحدًا؛ الصلاح المادي، ولا تعنيه مصالح الروح على الإطلاق. إن المدنية تُهيِّم الأوروبيين وتستعبِدهم للمال وتجعلهم عاجزين عن معرفة الطمأنينة، بل عن كل حياة باطنة. هي جحيم الضعفاء والطبقات العاملة، ومنها إتلاف حيوية الشعوب. ستهدم هذه المدنية الشيطانية ذاتها بذاتها. عدو الهند الحقيقي هي، أكثر من الإنكليز الذين ليسوا أشرارًا، كلٌّ بحد ذاته، بل هم مصابون بداء مدنيتهم؛ لذلك يحارب غاندي من مواطنيه أولئك الذين يريدون طرد الإنكليز ليجعلوا الهند دولة «متمدِّنة» على النمط الأوروبي، قائلًا: «إذا تمَّ هذا فقد أبقينا «طبع النمر بلا نمر»، كلا ثم كلا، «إن المجهود العظيم الوحيد الذي يُطلب منَّا هو طرد المدنية الغربية.»

يحمل غاندي حملةً شديدة على ثلاث طبقات من الناس: القُضاة والأطباء والمعلمين، فأمَّا هؤلاء فالسبب بَيِّن، وهو أنهم أنْسَوا الهنود لغتهم الخاصة وروحهم الخاص، وأنهم يحطون الناشئ من الوجهة القومية، وأنهم فوق ذلك لا يخاطبون إلا العقل، غافلين عن القلب، مهمِلين الخلق. ثم إنهم يُنقِصون من قدْرِ العمل اليدوي، على حين أنه من الجناية الظاهرة تنظيمُ تربية أدبية صِرفة في بلادٍ ثمانون في المائة من أبنائها زرَّاع، والعشرة صنَّاع. ومهنة القاضي مغايرة للأخلاق الفاضلة؛ لأن المحاكم في الهند آلة بيد السلطة البريطانية، ولا شأن لها إلا إذكاء نار الخلف والشقاق بين الهنود، وهي بوجه عام تتعهَّد الجدل والخصومات في كل البلاد. إن القضاء استغلال جِد رابح لغرائز السوء. أمَّا الأطباء فيعترف غاندي بأنه جُذِب إليهم بدأةً، لكنه ما لبث أن علم أن حرفتهم غير شريفة، فالطب لا يعنيه إلا التخفيف من أوجاع المرضى، غير مُبالٍ باجتثاث أصول الأمراض، وهي الرذائل على الأغلب، بل يمكن القول إنه ينمِّيها بهَدْيه ذويها إلى وسائل التلذُّذ والتمتع بها بأقل المخاطر، فهو إذًا عون على إفساد خلق الأمَّة، فضلًا عن كونه يخنث هذا الخلق بوصفات «السحر الأسود»،٤٥ التي تصرف عن رياضة الجسد والروح على الصبر والبطولة، ويعارض غاندي هذا الطبَّ الغربي الكاذب الذي يزري عليه في مواضع عديدة زرايةً جاوَزت الحد، بالطب الواقي الصحيح الذي خصَّ له أحد مؤلَّفاته الشعبية الموجزة، وهو «دليل الصحة». هذا الكُتَيِّب ثمرة اختبارِ عشرين سنة، تَناوَل فيه الأخلاق والمعالجة على السواء؛ لأن «المرض ليس نتيجة أعمالنا فحسب، بل هو أيضًا نتيجة أفكارنا»، وليس بعسيرٍ وضعُ القواعد للوقاية من العِلَل؛ «لأن أصل الأمراض كلها واحد، هو مخالَفة نواميس الصحة الطبيعية. الجسدُ مقام الله، فيجب أن يظل طاهرًا أبدًا.» وأن في وصايا غاندي وقواعده الطبية (رغم إصراره على نكران علاجات مجرَّبة) شيئًا كثيرًا من أصالة الرأي وحُسن النظر، ولكنَّ ثمة أيضًا تحريجًا أخلاقيًّا بالغًا الغاية.٤٦
إن قلب المدنية الحديثة (عصرُ الحديد – قلبٌ حديد) الماكينة، هو الوثن العظيم المخوف الذي يجب تحطيمه، وأكبر أماني غاندي أن يتجنَّب النظام الماكيني الحديث في الهند. وهو يؤثر على الهند مستقلة، ولكن وارثةً الماكينة الإنكليزية «عبودة الهند للسوق الإنكليزية»:

«خيرٌ لنا أن نشتري القماش من مانشستر من أن نقيم معاملَ مانشستر في الهند، فإنه لن يفضِّل الركفلر الهندي أخاه الأمريكي، الماكينة خطيئة فاحشة لأنها تسترقُّ الشعوب … والمال سُم كالرذيلة الشهوانية.»

ولكن الهنود الذين غلبتهم الأفكار الحديثة يسألون: كيف تصبح الهند إذا خلت من الخطوط الحديدية والترامات والصنائع الكبرى؟ فيُجيبهم غاندي: ألم تكُن الهند من قبلُ؟ «منذ آلاف السنين والهند ثابتة لا تتزعزع، وحدها وسط أمواج الممالك الزائلة، زال كل ما عداها وفازت هي منذ آلاف السنين بإمرة النفس وبعلم السعادة، فليس لها أن تتعلَّم شيئًا في هذا الصدد من الأمم الأخرى. وهي لم ترغب في الماكينة والحواضر الكبرى، فإن المحراث العتيق والمغزل والتربية الهندية القديمة، كل ذلك ضمِنَ لها الحكمة والصلاح. يجب علينا أن نعود إلى البساطة الأولى، لا طفرة — هذا لا ريب فيه — بل رويدًا رويدًا، بأناة وصبر، جاعلًا كلٌّ منا نفسه قدوة …»٤٧
هذا جوهر رأيه، وإنه لَذو خطر، فهو يحتمل نكران الترقي، ويكاد يتعدَّاه إلى نكران العلم الأوروبي.٤٨ إن هذه العقيدة الممثلة لروح العصور الوسطى معرَّضة إذًا لأن تصطدم بالاندفاع البركاني الذي للفكر الإنساني، فتتمزَّق مزائق. ولكن لعل الحكمة تقضي علينا بألَّا نقول: «الفكر الإنساني»، بل «فكر إنساني»؛ إذ لو جاز التصديق — وأنا من المصدِّقين — بوحدة السمفونيا في الروح الكوني، فلا ينكر أنها مؤلَّفة من أصوات مختلفة، كلٌّ منها يوقع توقيعًا خاصًّا، وكأنما غربنا الفَتِي قد استهواه توقيعه، فنسي أنه لم يؤتَ إدارة هذه الجوقة منذ الأزل، وأن ناموس ترقِّيه عُرضة للكسوفات وللحركات المتعاكسة وللتكرارات، وأن تاريخ المدنية الإنسانية هو بعبارة أصح تاريخ مدنيات، وأنه إذا شُوهد في كلٍّ منها ترقٍّ (متغير، كاووسي، متكسر، واقف أحيانًا)، فلا يصح الجزم بأنه كان ثمة ترقٍّ لإحدى المدنيات الكبرى على أخواتها.
ولكن لو أعرضنا عن النظر هنا في عقيدة الترقي الأوروبية، واكتفينا باعتبار الحركة الحاضرة مضادةً لأبعد أماني غاندي، فلا يظنن ظانٌّ أن عقيدة غاندي ستنحطم عند تلك الحركة، وإلا كان هذا جهلًا بالروح الشرقي. يقول غوبينو: «إن الآسويين أشدُّ عنادًا منَّا في كل الأمور، فهم ينتظرون قرونًا لدى الضرورة، ولا تهرم فكرتهم بعد هذا السُّبات الطويل، ولا تخسر شيئًا من قوتها.» ما كانت القرون لتُخيف الهندي، إن غاندي مستعِدٌّ لأن يفوز في بحر العام، ولكنه مستعِدٌّ أيضًا لأن يفوز خلال بضعة قرون. هو يرفق بالزمن ولا يعنف، فإذا تمهَّل الزمن رافَقه غاندي في تمهُّله، وإذا وجد الهند غير متأهِّبة لفَهم الإصلاحات المتطرِّفة التي يريد إلزام بلاده إياها، وغير قادرة على ممارستها، عرف كيف يؤلِّف بين مَساعيه وبين الممكنات، وليس مما يدعو إلى العجب سماعُنا هذا العدو اللدود للماكينة يقول سنة ١٩٢١:
«لن أبكي زوال الماكينات، ولكن لا أنوي (في الحاضر) شيئًا ضدها …»٤٩
أو:
«ناموس الحب الكامل (بلا قيد أو استثناء) هو ناموس كياني، ولكني لا أدعو إلى هذا الناموس الأسمى بالتدابير السياسية التي أرى اتخاذها، وإلا كنت حاكمًا على نفسي بالفشل … ليس معقولًا أن ننتظر من العامة في الوقت الحاضر خضوعًا لهذا الناموس …٥٠ ما أنا بصاحب رومبي، وأزعم أني صاحب مثلٍ أعلى عملي.»٥١
هذا التعريف صحيح، فهو لا يكلِّف الناس إلا ما في طاقتهم أداؤه، لكنه يسألهم كلَّ ما في طاقتهم، وهذا «الكل» شيء كثير لأن أمره مع أمة كالهنود؛ الأمة الهائلة بعديدها٥٢ وعمرها، وروحها الذي لا يسبر غوره. لقد تم الاتفاق بين هذه الأمة وبين غاندي لأول تماس حصل، فهما يتفاهمان بغير ما كلام. غاندي يعرف ما ينبغي له أن ينتظر، وهذه الأمة تنتظر ما سيسألها غاندي أن تعمل.
بينهما أولًا هذا الاتفاق الصريح: السواراج أو حكم الهند الذاتي.٥٣ يقول غاندي:

«أعلم أن غاية الأمة هو السواراج وليس اللاعنف …»

وبلغ به الحد أن زاد هذه العبارة التي يدهش صدورها منه:

«أُوثِر أن أرى الهند حرةً مستقلة بالعنف على أن أراها مستعبَدة مغلولة إلى عنف المسيطرين.»

ولكنه ما لبث أن صحَّح قوله جاهرًا بأن هذا فرض المستحيل؛ إذ ليس العنف بمنقذ الهند، ولا يمكن أن يُنال السواراج إلا بقوى الروح، السلاح الخاص بالهند، سلاح الحب وقوة الحقيقة؛ الصاتياغرافا.٥٤ ولقد كانت عظمة غاندي وعبقريته في أنه بدعوته هذه إلى أمته، كشَف لها عن طبيعتها الحقَّة وقُدرتها الخفيَّة.

الصاتياغرافا لفظٌ اخترعه غاندي في أفريقية الجنوبية تمييزًا لمسعاه عن المقاومة الانفعالية، وينبغي أن نجتهد كثيرًا لإظهار هذا الفرق والمفاضَلة؛ لأن الأوروبيين يدلون على حركة غاندي ﺑ «المقاوَمة الانفعالية» أو ﺑ «اللامقاوَمة»، وليس أقرب إلى الخطأ من هذا الزعم، فإنه ما في الدنيا رجلٌ أشدُّ كراهةً للانفعال والتسليم من هذا المجاهِد الذي لا يكلُّ ولا يفتر، وهو نفسه من أجلِّ نماذج «المقاوِم البطل». روح الحركة التي أحدَثها هي المقاوَمة الفاعلة، بقوة الحب والإيمان والتضحية؛ تلك القوة الملتهبة. فهذه القوة المثلَّثة يعرِب عنها غاندي بكلمة «الصاتياغرافا».

ليس للجبان إذًا أن يأتي فيعوِّذ جبنَه بظلِّ غاندي، غاندي يطرده من جماعته. إذا لم يكن بدٌّ، فالعنيف خيرٌ من الجبان:
«حيث لا خيارَ إلا بين جبنٍ وعنفٍ، فأنا أدعو إلى العنف …٥٥ أنا أربي في الرجل الشجاعةَ المطمئنة إلى أن يموت دون أن يقتل … ولكن مَن ليست له هذه الشجاعة أُحِب أن يبرع في صنعة القتل واستقبال الموت، فهذا أفضل من عار الفرار من الخطر؛ لأن الفار يجترم عنفًا ذهنيًّا، فهو يفرُّ لأنه لا يشجع على أن يموت وهو يقتل.٥٦ خيرٌ أن أتعرَّض للعنف ألفَ مرة من أن «يُخصى» شعبٌ بأجمعه.٥٧ أولى لي فأولى أن أرى الهند تلجأ إلى السلاح في الذَّوْد عن شرَفها، من أن أقف كالجبان، شاهدًا على عارها …»٥٨
ثم يستدرك قائلًا:

«ولكني أعلم أن اللاعنف أفضل من العنف، وأن العفو أدلُّ على الرجولة من القِصاص. العفو حلية الجندي، ولكن عدم القِصاص لا يكون عفوًا إلا حيث تكون القدرةُ على القِصاص، ولا معنى له إذا بدَر من عاجز … ولا أعتقد أن الهند عاجِزة، فإنه لا يَقدر مائة ألف إنكليزي على إخافة ثلاثمائة مليون من الناس … ثم إنه ليست القوة في الأسباب المادية، بل هي في الإرادة التي لا تُقهر. وما كان اللاعنف خضوعًا وانقيادًا للمُسيء، بل إن اللاعنف يضادُّ إرادةَ العاتي بجماع قوة النفس. هكذا يَقدر رجل واحد على إعجاز مملكة بأَسْرها حتى يكون عِلَّة سقوطها …»

ولكن بأي ثمن؟ بألمه، الألم هو الناموس الأعظم …
«شعار النوع الإنساني …٥٩ الشرط الملازم للوجود. الحياة تخرج من الموت. لينبت القمح يجب أن يهلك البذار. ما سما امرؤ إلا وقد مرَّ على نار الألم … لا مَناص لأحدٍ منه … وليس الترقِّي إلا في تطهيرك ألَمَك بتحاشيك إيلامَ الغير … كلما زاد الألم طُهرًا كان الترقِّي أعظم …٦٠ اللاعنف رضاءٌ بالعذاب … أذنتُ لنفسي بأن أقدِّم للهند ناموسَ التضحية القديم، ناموس الألم … أن «الريشيين» الذين اكتشفوا ناموس اللاعنف وهم في أعظم الشدائد وشر الويلات، كانوا أجلَّ من نيوتن نُبوغًا، ومن ولنغتن بأسًا وبطولة؛ فقد أظهروا بطلان الأسلحة التي عرفوها في عصرهم … ليست ديانة اللاعنف للقديسين فحسب، بل هي لعامة الناس. ذلك هو ناموس نوعنا، كما أن العنف ناموس العَجماوات. كرامة الإنسان تتطلَّب ناموسًا أسمى؛ قوةَ الفكر والروح. أريد الهند على العمل بهذا الناموس، أريدها على أن تكون شاعرة بسُلطانها. إن لها روحًا لا يموت، ولهذا الروح أن يُعجز كلَّ ما في العالم من قوًى مادية.»٦١
هذا لعَمري أسمى ضروب الكبرياء، ولقد شاء حبُّه الفَخُور للهند أن تَطرح الهند العنفَ الشائن، وأن تضحِّي بذاتها. اللاعنف سببُ مجدها وشرَفها، فهي لا تَدَعه إلا سقطت، ولا يطيق غاندي أن يفكِّر بذلك:
«إذا جعلت الهند العنفَ عقيدةً، فليس ما يحملني على العيش في الهند؛ لأنها تحرمني إذًا من كل عاطفة كبر. إن وطنيتي تبعٌ لديني، فأنا متعلِّق بالهند تعلُّقَ الطفل بثَدْي أمه؛ لأني شاعر بأنها تعطيني الغذاءَ الروحي الذي يعوزني، فإذا منعَت عني هذا الغذاء أصبحتُ كاليتيم، وحينئذٍ أَلُوذ بقِفار الحملايا، فآوي فيها نفسي الدامية.»٦٢

•••

بيْدَ أنه لا يشكُّ مطلقًا، فقد كان مؤمنًا بالهند؛ إذ عقد العزيمة في فبراير سنة ١٩١٩ على البدء في حملة الصاتياغرافا، وهو السلاح الذي جرَّب فِعْله في حركات ١٩١٨ الزراعية.

لا صبغةَ ثَمَّة لثورةٍ سياسية، فإن غاندي ما فتِئ راعيًا عهدَ الولاء، وسيظل كذلك ما دام عنده بصيصَ أملٍ في حفظ إنكلترة عهْدَها. ولقد استمر حتى يناير سنة ١٩٢٠، وكان هذا مَدْعاة إلى إنحاء غُلاة القومية من الهنود عليه باللائمة المرَّة،٦٣ ناصرًا مبدأ التعاون مع الإمبراطورية البريطانية، بقوة اليقين الناتج عن خلوص النية، حتى كان بوسعه، في هذه السنة الأولى من معارَضته لحكومة البند، أن يؤكِّد للُّورد هنتر، صادقًا الصدقَ كله، أن الصاتياغرافيِّين أخلصُ الرعايا الدستوريين للحكومة، ولكن عنادَ الحكومة وقِصَر نظرها تعاوَنا في إكراه هادي الهند الروحاني على تمزيق عهد الولاء الذي كان يعتقد أنه مُوثَق به.

وهكذا تبدو الصاتياغرافا بدأةً كأنها معارَضة دستورية أو إنذارٌ للحكومة باحترام. إن الحكومة سنَّت قانونًا غيرَ عادل، فالصاتياغرافيُّون الذين يخضعون عادةً للقوانين يخالفون عن عمدٍ وروِيَّةٍ القانونَ الشائن، فإذا لم يكفِ ذلك لإزالة الحَيْف وإرجاع العدل، فإنهم يحتفظون بحقِّهم في عصيان شرائع أخرى، بل في الكفِّ عن كل مشارَكة وتعامُل مع الحكومة. ولكن ما أبعدَ معنى هذا العصيان عن مفهومه في الغرب! وللهِ ما تضمَّنَه من لهجة البطولة الدينية!

لما كان محظورًا على الصاتياغرافيِّين في معامَلة الخَصم اتِّباعُ سبيل العنف — إذ يجب التسليم بأن الخَصم صادقٌ أيضًا؛ ما تراه أنت حقًّا يجوز أن يراه هو باطلًا، وليس في العنف إقناعٌ قَطُّ٦٤ — فقد وجَب عليهم أن يُقنعوا الخَصم بنور الحب الذي يَسطع من عقيدتهم وتَفانيهم، ومن آلامهم التي رضوها واحتملوها مختارين٦٥ دعايةً لا تُقاوم: بمثلها استطاع صليبُ المسيح وقطيعُه الضعيف أن يفتحا الإمبراطورية الرومانية.
واستهلَّ المهاتما الحركة بجعل يوم ٦ أبريل ١٩١٩ يوم صلاة وصوم (حرتال)٦٦ للهند بأسرها، يريد بذلك إظهار الحماسة الدينية التي خُصَّ بها هذا الشعب الذي يقرب ذاته ضحية للخيرَين الأبديَّين: العدل والحرية، وكان هذا أول أعماله.

وكان من شأن هذا الصنيع أنه لامَس قرارةَ وجدان الأمة وأحدَث أثرًا لم يُسمع بمثله، فإن الطبقات كلها اشتركت لأول مرة في إيماءة واحدة؛ لقد وجدَت الهند نفسها.

كادت السكينة يومئذ تكون عامة، وفي دلهي وحدها كانت مُناوَشات لا شأنَ لها،٦٧ فقصدها غاندي ليرشد الشعب إلى واجباته، لكن الحكومة أوقَفَته في الطريق وأعادَته إلى بمباي، فأثار خبرُ إمساكه فِتنًا في البنجاب أدَّت في أمرتسار إلى حوادثِ نهبٍ وقتل معدودة، ثم بلغ الجنرال «داير» المدينةَ بجيشه، فاحتلَّها في ١١ أبريل واستتب النظام. وكان الثالث عشر من الشهر يومَ عيدٍ كبير عند الهنود، فتوافَدَت الجماهير إلى الاجتماع في موضعٍ يُسمى جاليانوالا باغ، وهي هادئة تضم كثيرًا من النساء والأطفال. وكان الجنرال داير في الليلة الفائتة أصدَر أمرًا بمنع كل اجتماع، ولكن لم يَعلم بهذا المنع أحد؛ فجاء الجنرال إلى جاليانوالا باغ بمتراليوزاته، وبعد وصول الجُند بثلاثين ثانية أُرسِلت النار دونَ إخطار أو تحذير على هذا الجمهور الأعزل، فدام إطلاق المَدافع عشر دقائق استنفدَت فيها الذخيرة. وكان المكان محاطًا بجدران عالية تجعل الفرارَ من المستحيلات، فقُتل من الهنود بين الخمسمائة والستمائة، وجُرح أكثر من هذا العدد، ولم يُعيروا القتلى والجرحى أدنى بال، وأُعلِن الحكمُ العسكري في البلاد، وسحَق البنجابَ عهدُ إرهاب. وشُوهِدت طيَّارات تقذف بقنابلها على أناسٍ عُزَّل من السلاح، وسِيق أعيانُ الهنود وكُبَراؤهم إلى المحاكم العسكرية، وجُلِدوا وأُكرِهوا على الزحف على بطونهم، وأُسمِعوا أفحشَ الإهانات … وكأنما عصفت بالحكَّام الإنكليز عاصفةُ جنون، وكأنما مبدأ اللاعنف الذي نادت به الهند كان أول نتائجه إيغار صدور الأوروبيين القُساة وإخراجهم عن رُشدهم! ما كان غاندي ليَجهل ذلك، فهو لم يَعِد أمتَه بأن يَقودها إلى النصر في سبيلٍ بيضاء، بل وعَدَها سبيلًا دامية، ولم يكن يومُ جاليانوالا باغ إلا يومَ العماد …
يقول غاندي:
«يجب أن نكون متأهِّبين لأن نشهد برباطةِ جأشٍ لا قتلَ ألفٍ واحد من رجالٍ ونساءٍ أبرياء، بل عدَّة آلاف، قبل أن تبلغ الهند المرتبةَ التي لا تسمو عليها مرتبةٌ في العالم … على كل واحد منَّا أن يَعُد الشنقَ حادثًا من حوادث الحياة العادية.»٦٨
أفلحَت المراقبة شهورًا معدودة، في إخفاء فظائع البنجاب كي لا تُعرف خارجًا،٦٩ ولكن ما انتشر خبرها في الهند إلا غمرَت البلادَ من أقصاها إلى أقصاها موجةُ غيظٍ طامية، بل إن إنكلترة نفسها انفعلت لتلك الأنباء، فعُهِد بالتحقيق في القضية إلى لجنةٍ ترأَّسها اللورد هنتر، ومقابل ذلك ألَّف المؤتمر الوطني الهندي لجنةً لتقوم بتحقيق خاص. وبديهيٌّ أن مصلحة الحكومة (عرَف هذا كلُّ ذوي الفِطنة من الإنكليز) كانت تقضي بأن يُضرب بيدٍ من حديد على جُناة مذبحة أمرتسار. ولم يذهب غاندي بمَطالبه إلى هذا الحد، فكان يَأبى، باعتداله وحلمه العجيب، المطالَبةَ بمقاصة الجنرال داير وسائر الضبَّاط الجانين، مكتفيًا بثَلْبهم وتعييرهم؛ ذلك أنه لا يريد انتقامًا ولا يحمل ضِغْنًا … «ليس لامرئٍ أن يحقد على مجنون، ولكن يجب أن يُجرد المجنون من وسائل الشر والأذى.» كان يوجِب إذًا عزلَ «داير» لا أكثر، لكن حكومة الهند، قبل ظهور نتيجة التحقيق، كانت أعجلَ إلى سنِّ قانونِ تعويضٍ لحماية الموظفين، ولم تكتفِ باستبقاء الضبَّاط الجُناة، فكافأتهم أيضًا.

وبينما كانت الهند مائجةً، إذ دهمها أمرٌ آخَر أعظم خطرًا من الأول؛ لأنه خرقٌ صريح لعهود رسمية كان قطَعها رئيس الحكومة الإنكليزية، فأتى على البقية الباقية من الثقة التي يمكِن أن تكون في حسن نوايا الأوروبيين، وأشعَل نارَ الثورة الكبرى.

إن الحرب الأوروبية رمت مسلمي الهند في مأزق وجداني حَرِج، لقد تنازعهم صِدقُ الولاء للإمبراطورية وإخلاصُهم لرئيسهم الديني، ولم يُقدِموا على الانحياز إلى إنكلترة إلا بعد أخذِ العهد منها على ألَّا تمسَّ سيادةَ السلطان أو الخليفة. وكان رأي جمهور المسلمين أن تبقى للترك ولاياتهم الأوروبية، وأن يحتفظ الخليفةُ برقابة البلاد المقدَّسة، وبالسيادة على بلاد العرب كما يعرفها علماء الإسلام؛ أيْ بأبوابها: سورية وفلسطين والعراق. وقطع لويد جورج ونائب الملِك للهنود عهودًا صريحة بذلك، فلما وضعَت الحربُ أوزارها لم يَبقَ من هذه العهود شيء. ومنذ صيف ١٩١٩ قلق مسلِمو الهند لهذا الصُّلح الفادح الذي أخذ الحُلفاء يعدونه، فتذمَّروا، وكان ذلك فاتحةَ فِتَن «الخلافة».

بدأت الفتنة في ١٧ أكتوبر ١٩١٩ (يوم الخلافة) بتظاهرة سِلمية رائعة، عقبها بعد شهر (٢٤ نوفمبر) مؤتمرُ الخلافة في دلهي، الذي اشتركت فيه الهند كلُّها وترأَّسه غاندي. رأى غاندي بنظره الخاطف أن المسألة الإسلامية خيرُ ذريعة إلى إيجاد الوحدة الهندية. وكان هذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأن الإنكليز ما فتِئوا متَّكلين على العداوة الأصلية بين الهندوس والمسلمين، ويتَّهمهم غاندي بأن الشَّطر الأعظم منها هم أوجدوه، أو أنهم على كلٍّ لم يأتوا بحركةٍ لتخفيف تلك العداوة. كان الدينان يستفزُّ كلٌّ منهما الآخر بصورة حيوانية؛ فكان الهندوس إذا مرُّوا أمام الجوامع حيث يجب الصمتُ والسكينة، لا يَغفلون عن رفع عقيرتهم بالغناء، وكان المسلمون يقابلون هذا الصنيع بجرحِ الهندوس في عبادتهم البقرة، فيتبع ذلك من فِتَن ومعارك تُوغِر الصدور وتسعر نار الشحناء. ولم يكن الشعبان يتعاشران، ومن المحرَّمات أن يتناكحوا أو يؤاكل بعضهم بعضًا. كانت حكومة الهند نائمة مطمئنة إلى هذا الانشقاق الأكيد الأبدي، فأيقظها فجأةً صوتُ غاندي في مؤتمر الخلاف داعيًا إلى الاتحاد، وأعلن غاندي بكرمِ نفسٍ غير مصطنع — وهو لذلك أبلغ فعلًا — أن على الهندوس أن يكونوا والمسلمين يدًا واحدة في سبيل القضية الإسلامية:

«هندوسًا كنا أم بارسيين، نصارى أم يهودًا، أيًّا كنَّا، يجب إذا تاقَت نفوسُنا إلى أن نعيش أمة واحدة، أن تكون مصلحةُ الفرد مصلحةَ الجميع، ولا عبرةَ إلا لعدل مَطالبه.»

وكان دم المسلمين قد امتزج بدمِ الهندوس في مذبحة أمرتسار، فيجب الآن أن يُختم صك الحلف بين هؤلاء وأولئك: حلف بلا شروط. كان المسلمون أعظم عناصر الشعب الهندي شجاعة، فكانوا أولَ مَن قرَّر في مؤتمر الخلافة هذا رفْضَ كل تعاون مع الحكومة إذا لم تُجِب مَطالبهم، فصدَّق غاندي قرارَهم، لكنه ظلَّ محافظًا على روح الاعتدال الذي عُرف عنه، فردَّ اقتراح مقاطَعة البضائع الإنكليزية؛ لأنه كان يرى في هذه المقاطَعة عاطفةَ انتقامٍ ومَظهرَ ضَعفٍ على السواء.

وفي مؤتمر الخلافة الثاني المعقود بأمرتسار في آخِر ديسمبر ١٩١٩، تقرر إيفاد وفد إلى أوروبة، وأُرسِل إلى نائب الملِك إنذارٌ فيما إذا وقَع صُلح مضاد لإرادة الهند، ونشَر المؤتمر الثالث المنعقِد ببمباي في ٢ فبراير ١٩٢٠ بيانًا إسلاميًّا يَثلب فيه السياسةَ الإنكليزية وينذر بالعاصفة.

كان غاندي يرى أن العاصفة آتيةٌ لا ريبَ فيها، ولم يكن ليَرجوها قط، بل إنه بذَل جهدَه لإمساكها.

ويَلوح أن القوم في إنكلترة فطنوا أخيرًا للخطر، فعملوا على منعه بإجابة بعض المَطالب بعد فوات الأوان، وجاء قانون الإصلاح الهندي مَبنيًّا على بيانات مونتاغو-شلمسفورد، يمنح الأمة الهندية سلطاتٍ ومسئوليات في الحكومة المركزية، وفي إدارة المقاطَعات أوسع نطاقًا من ذي قبل. وصادَق عليه الملِك في بيان ٢٤ ديسمبر ١٩١٩، داعيًا الشعب والموظَّفين الهنود إلى إنفاذه، وسائلًا نائبَ الملِك إصدارَ العفو عن المحكومين السياسيين. وكان غاندي، وما زال، ينفعل بمَظاهر الكرم، فأبدى امتنانه، ورأى في هذه التدابير تعهدًا ضِمنيًّا تقطعه إنكلترة على نفسها بأن تَعدل في قضية الهند، فنصَح مواطنيه بقَبُول هذه الإصلاحات. لقد حكم بأنها ناقصة، لكنه رأى أنها قد تكون فاتحة انتصارات مشروعة أوسع نطاقًا، وأنه يجب أن نعتنقها صادقي النية. وبعد مناقَشات عنيفة، فاز رأيه في المؤتمر الوطني الهندي.

بيد أن هذا الأمل الأخير خاب أيضًا، خيبة الآمال الأولى، فلمْ يعبأ نائب الملك بالنداء الذي وُجه إلى حلمه، وفُتحت السجون، لكن لتنفيذ أحكام الإعدام، فهاجت الهند وماجت وأصبح من البديهي أن وعود الإصلاح ستظل برقًا خُلَّبًا.

وفي هذا الحين (١٤ مايو ١٩٢٠) علمت الهند بشروط الصلح الفادحة التي أُكرهت تركيا على قبولها، وجاءت رسالة من نائب الملك يقر فيها بأن هذه الشروط ستكون ولا ريب شديدة على قلوب المسلمين، لكنه يدعوهم إلى الصبر والتسليم.

وأخيرًا في تلك الأيام، نشر البيان الرسمي الذي وضعته لجنة التحقيق عن مذابح أمرتسار وكان قد تأخر نشره، فكملت به سلسلة العوامل على إثارة نفوس الهنود.

وهكذا قُضي الأمر وقُطعت كل العُرى.

قررت لجنة الخلافة المنعقدة ببمباي في ٢٨ مايو ١٩٢٠ اتخاذ خطة اللامعاونة التي اقترحها غاندي، وأقرها بالإجماع المؤتمر الهندوسي الإسلامي المنعقد في الله آباد، في ٣٠ يونيو ١٩٢٠ ممهِلًا نائب الملك شهرًا واحدًا لإجابة مطالب الإنذار.

وكتب غاندي نفسه إلى نائب الملك معلنًا عن خطة اللامعاونة وشارحًا الدواعي التي اضطرته إلى التوسل بها، أما هذه الدواعي التي يذكرها فجديرة بالنظر؛ لأنه يُشهد الملأ، حتى في تلك البرهة الأخيرة، على رغبته الأكيدة في عدم قطع العرى التي تصل بين الهند وإنكلترة، وأمله الوطيد في أن يقودها إلى التوبة بهذا العصيان المشروع، قال: «أصبحت بين أمرَين لا ثالث لهما: إما أن أنفصل عن إنكلترة، وإما إذا كنت لا أزال مسلِّمًا بأفضلية الدستور البريطاني على سائر الدساتير، أن أضطر الحكومة إلى الحكم بالعدل في قضيتنا، فأما وأنا لا أزال مسلِّمًا بأفضلية الدستور البريطاني، فقد نصحت إذًا بالعصيان.»

وكذلك نرى أي وطني جليل أعمت الكبرياء الإمبراطورية البريطانية، فلم تدرِ كيف تستبقيه لنفسها.

١  يزيد س. ف. أندريوس قوله: «يضحك كالطفل، ويعبد الأطفال.»
٢  «قلَّ بين الناس مَن يستطيع مقاوَمة السحر المنبعث من شخصيته، فإن أُنسه ولُطفه يجعلان ألدَّ خصومه متهيَّبين متأدِّبين» (جوزف ج. دوك).
٣  «كل حَيْدٍ عن الحقيقة، وإن جاء عرَضًا، فلا يطيق احتماله» (س. ف. أندريوس).
٤  «ليس غاندي خطيبًا مستشيطًا هائجًا؛ فهو يمضي في خطبه ببطءٍ وسكينة، ويغلب عليه مخاطَبة الأفهام، لكن سَكينته ترسل على المواضيع التي يتناولها أزهرَ الأنوار. ليست نبرات صوته متنوِّعة شتى، ولكنها تنمُّ جميعًا عن صدقٍ وإخلاص عظيمَين. لا يحرِّك ذراعَيه قَط، وقلَّما يشير بإصبعٍ متكلمًا. أمَّا كلامه النوراني المؤلَّف من جُمل جامعة نابضة العصب، فهو مُنطوٍ على قوة العقيدة واليقين. لا يغادر مسألةً إلا إذا ثبَت له أنها فُهِمت أجود فَهم» (جوزف ج. دوك).
٥  من مقالة لغاندي في جريدته Young India (الهند الفتاة)، ٢ مارس ١٩٢٢.
٦  أيضًا.
٧  آ: النافية. هِمسا: فِعل الشر. عدم الإساءة لمظاهر الحياة كلها، اللَّاشر؛ هو من أقدم مبادئ الدِّين الهندوسي، عُني بإثباته خاصةً «مهافيرا» مؤسِّس الجايينية، وبوذا ودُعاة عبادة فشنو. ولهذا المبدأ سلطانٌ كبير على نفس غاندي.
٨  درَس حتى السابعة من عمره في مدرسة بوربندر الابتدائية، ثم في مدرسة راجكوت الأميرية، وبعد العاشرة في المدرسة العليا (High School) في كاتيافار، وفي السابعة عشرة في جامعة أحمد آباد.
٩  حكى حكاية صِباه في خطبة سمرية ألْقاها على مؤتمر الطوائف النجسة (الباريا)، في ١٣ أبريل ١٩٢١.
١٠  خُطِب له وهو في الثامنة، وتزوَّج في الثانية عشرة، ولقد أقام النكيرَ بعدُ على طريقة تزويج الأولاد، وحجتُه أن هذا من عوامل اضمحلال النوع، لكنه يستدرك بقوله: إنه يجوز استثناءً أن يحصل من هذا الزواج المعقود قبل تكامل الخلق تآلُفٌ عجيب بين الزوجَين ووَحدة روحية. وما زواج غاندي نفسه إلا مثال من ذلك جدير بالإعجاب، فإن عقيلته شاطَرَته أَبؤُسَه ونكباته بشجاعة ووفاء لم يُعثرا قَط.
١١  من خطبة له في ١٣ أبريل سنة ١٩٢١.
١٢  هذا السلف نسِيهم الجيلُ الجديد وعقَّهم؛ لأنه أربى عليهم جرأةً سياسية، لكن غاندي ما فتئ حافظًا حرمتهم، مجِلًّا إياهم، لا سيما غو كهيل الذي ربطته به عروةُ ودادٍ وثيقة، وكثيرًا ما قدَّم اسمه واسم دادابي، في مختلِف كتاباته؛ لتعظمهما الهند الجديدة.
١٣  كان يربح سنويًّا — بشهادة غو كهيل — من خمسة آلاف إلى ستة آلاف جنيه، فقنع بثلاثة جنيهات شهريًّا.
١٤  نشَر العدد الذهبي من جريدة «الرأي الهندي»، الصادر في فونيكس سنة ١٩١٤، رسالة ضافيةً من تولستوي إلى غاندي كُتبت في ٧ سبتمبر سنة ١٩١٠؛ أيْ قُبيل وفاته. وكان تولستوي اطَّلع على «الرأي الهندي»، فشرح صدرَه ما قرأه فيها عن اللامقاوَمة الهندية، وجاء يشجِّع دُعاتها قائلًا: «إن اللامقاوَمة ناموس الحب؛ أيْ إنه تطلُّعٌ وتسامٍ إلى تواصل النفوس الإنسانية.» وهو الناموس الذي جاء به المسيح وحكماء العالم جميعًا. وقد عثر صديقنا بول بيروكوف في ديوان مخطوطات تولستوي بموسكو على رسائل أخرى من الحكيم الكبير إلى غاندي، وسينشرها في مجموعة رسائل تولستوي إلى الآسيويين بهذا العنوان الجامع: «تولستوي والشرق».
١٥  حكى غاندي حكاية سجنه واختباراته في السجن ببساطةٍ هادئة في مقالة عجيبة تجدها في المجموعة المسماة: خطب ومقالات م.ﻫ. غاندي، المطبوعة في مدراس، ص١٥٢–١٧٨.
١٦  ونفسُ مواطنيه انهالوا عليه ضربًا بالعِصِي سنة ١٩٠٧، فلا تَنسَ أنه ذاق الأمرَّين، واحتمل العنف والإساءة من المضطهِدين والمضطهَدين على السواء، وكان يُريب هؤلاء من غاندي اعتدالُه، والحكومة لم تألُ جهدًا في جعله عُرضةً للشُّبهات وفي إضاعة سُمعته.
١٧  سنعود إلى الكلام عنه.
١٨  يختم جوزف ج. دوك — الذي كشفت محاوراته مع غاندي في الترنسفال عن حقائق ذات بال — كتابَه المطبوع في أكتوبر سنة ١٩٠٨، بنبذة أتى فيها على وصف غاندي وهو بثياب المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وكيف سِيق إلى حصن جوهانسبورغ وأُلقي في حبس مظلم مع مجرمين صينيين عاديين في الدَّرْك الأسفل.
١٩  عضَد غاندي عضْدًا شديدًا إنكليزيان من كِرام الإنكليز، هما س. ف. أندريوس، وف. ف. برصن.
٢٠  أشار غاندي، مذكِّرًا، إلى هذا الأمر في مقالة نُشرت في ١٢ مايو ١٩٢٠.
٢١  كان معلمه الحبيب غو كهيل آنئذٍ قد أخذ منه وعدًا بألَّا يتدخَّل في السياسة الفعلية قبل تَطْوافه في الهند لا أقلَّ من سنة، فيرى عن كثب بني قومه بعد غيبته الطويلة وانقطاعه عنهم.
٢٢  يمكِن تأريخ الحركة الصاتياغرافية بالثامن والعشرين من فبراير سنة ١٩١٩.
٢٣  قُضِي صراحةً على البلشفية (٢٤ نوفمبر ١٩٢١).
٢٤  أغسطس سنة ١٩٢٠. غاندي هنا يضاد دُعاة «حكم السيف».
٢٥  «البشرية واحدة، يُوجد فروق وأجناس، ولكن كلما ارتفع جنس كثرت واجباته وعظمت.» عن كتابه «الدين الأخلاقي».
٢٦  ٥ نوفمبر ١٩١٩.
٢٧  ٢٧ أكتوبر ١٩٢٠.
٢٨  يوليو ١٩٢٠. «لا تجبِرني عقيدتي على التسليم بأن كل الآيات موحًى بها من عند الله. أرفض التقيُّد بأي تفسير مهما كانت منزلته من العلم، إذا رأيته مخالفًا للعقل وللشعور الأدبي» (٦ أكتوبر ١٩٢٠).
٢٩  أيضًا: «الأديان كلها طرق مختلفة توصل إلى غاية واحدة» عند سواراج. «تقوم كل الأديان على قواعد أخلاقية واحدة، وديني الأخلاقي مؤلَّف من الشرائع التي تربط كل البشر» (الدين الأخلاقي).
٣٠  ٦ أكتوبر ١٩٢١.
٣١  لغةً: «فرنا»: لون، طبقة، طائفة. «أشراما»: المكان الذي يكون فيه التدريب والرياضة. «دارما»: الدين. فالمجتمع عبارة عن نظام طوائف أو طبقات، وهذا هو أساس الهندوسية.
٣٢  «اطلبوا ملكوت الله والعدل، تُعطَوا ما بقي، فضلًا.»
٣٣  ٢٥ فبراير ١٩٢٠.
٣٤  لجوزف ج. دوك، سنة ١٩٠٨.
٣٥  قال أيضًا لجوزف ج. دوك: «إن الله تجلى عدة تجليات في القرون الغابرة. يقول كرشنا في الجيتا: إذا وهن شأن الدين وساد الكفر، فأنا أتجلى. لنصرة الخير، وكسر الشر، وتوطيد الدين (دارما)، أنا أبعث دائمًا وأبدًا.»
«إن المسيحية جزء من عقيدتي، والمسيح متجلَّى سام لله، ولكن الله لم يتجلَّ فيه وحده، ولست أراه وحده على عرشٍ فريد.»
٣٦  في آخر رسالة «هند سواراج» قائمة بستةٍ من تصانيف تولستوي يوصي غاندي بدرسها (لا سيما «ملكوت الله في أنفسكم» و«ما هو الفن؟» و«ما العمل؟»)، ولقد حدَّث غاندي جوزف ج. دوك عن التأثير البليغ الذي كان لتولستوي في نفسه، ثم قال له إنه لم يتبعه في الأفكار السياسية. وإذ سُئل سنة ١٩٢١: ما هي علاقاتك بالكونت تولستوي؟ أجاب في جريدة الهند الفتاة (٢٥ أكتوبر ١٩٢١): «علاقات معجَبٍ به متشيِّع، مَدين له في الحياة بشيء كثير.»
٣٧  يُؤثر من كتُب رسكن: «تاج الزيتون البري» The Crown of wild Olive.
٣٨  «مديح سقراط ووفاته»، كتاب ترجمه غاندي فكان في جملة الكتب التي منعَت انتشارَها حكومة الهند سنة ١٩١٩.
٣٩  لا مجالَ للوقوف عند عبادة الأصنام؛ لأن غاندي يقول: «أنا لا أكرِّمها، ولكن هذا جزء من الطبيعة البشرية.» فهو يعتبرها حاجة جديرة بالاحترام ناشئة عن نقص العقل الإنساني الذي يشعر أحيانًا بحاجةٍ إلى تجسيم عقيدته أو تجسيدها كي يحسن العبادة، فليس ثمة إذًا إلا ما نشاهده في جميع الكنائس الكاثوليكية.
٤٠  راجِع في عبادة البقرة مقالات ١٦ مارس و٨ يونيو و٢٩ يونيو و٤ أغسطس ١٩٢٠، و١٨ مايو و٦ أكتوبر ١٩٢١ في جريدة الهند الفتاة، وفي الطوائف مقالتَي ٨ ديسمبر ١٩٢٠، و٦ أكتوبر ١٩٢١.
٤١  لما جمدت في العصور الخالية الطوائف الأصلية، وتحجَّرت طبقات متعجرفة، رفعت الأوبانشادا أصواتها بإنكار ذلك والنعي على أهله.
٤٢  ٢٧ أبريل ١٩٢١.
٤٣  هذا لفظ يجري به قلم غاندي كثيرًا: «النجاسة (الاعتقاد بالباريا) من اختراع الشيطان، ١٩ يونيو ١٩٢١.»
٤٤  ٨ سبتمبر ١٩٢٠.
٤٥  لا يعزب عن بالنا أن من أعظم شكايات غاندي من طبابة أوروبة كونها تلجأ إلى تشريح الأحياء؛ «أشد جرائم الإنسان سوادًا».
٤٦  تذكِّرنا صرامة مذهبه، لا سيما في أمر العلاقة الجنسية، بالقديس بولس.
٤٧  هند سواراج.
٤٨  إذا كان غاندي لا يُعنى بصيانة العلم الأوروبي، فهو يسلم بضرورة الأبحاث العلمية لما تستلزمه من رياضة صارمة. وإنه لَمُعجَب بغيرة رجال العلم الأوروبيين وتفانيهم، ويغلب عليه جعلهم في مقام أرفع من مقام مؤمني الهندوس. هو يحترم العقل ولا ينكر إلا السبيل التي اختارها هذا العقل، ولكن التضادَّ بديهيٌّ برغم هذه التحفظات وسنرى بعدُ كيف يحتجُّ تاغور بحق، على ما عند غاندي من روح القرون الوسطى.
٤٩  ١٩ يونيو ١٩٢١.
٥٠  ٩ مارس ١٩٢١.
٥١  ١١ أغسطس ١٩٢٠.
٥٢  خمس سكان المعمورة.
٥٣  اشتقاقًا: سوا: ذات. راج: حكومة. الحكم الذاتي. اللفظ قديم ككتب الفيدا، لكنه بُعِث من مدفنه وأُدخِل في لغة السياسة بفضل دادابي البارسي معلم غاندي.
٥٤  اشتقاقًا: صاتيا: مستقيم، رشيد. اغرافا: التدرب، السلوك. ويطلقونها خاصةً على إنكار الحيف والظلم، ويعرفها غاندي (٥ نوفمبر ١٩١٩) بقوله: «الاستمساك بالحقيقة، قوة الحب أو قوة النفس.» ثم في موضع آخر: «انتصار الحقيقة بقوة النفس والحب.»
٥٥  ١١ أغسطس ١٩٢٠.
٥٦  ٢٠ أكتوبر ١٩٢١.
٥٧  ٤ أغسطس ١٩٢٠.
٥٨  ١١ أغسطس ١٩٢٠، من القواعد المتبعة في مدرسة «الصاتياغرافا أشرم» التي أسَّسها غاندي عدم الخوف: «وأن تكون النفس في نجوة من مخافة الملوك والأمم والطوائف والعائلات والبشر والضواري والموت.» وهذا هو رابع شرطٍ في المقاوَمة اللاعنيفة كما في هند سواراج (والثلاثة الأُخر هي: الطهارة، والفقر، والحقيقة).
٥٩  ١ مارس ١٩٢٠.
٦٠  ١٦ يوليو ١٩٢٠.
٦١  ١١ أغسطس ١٩٢٠.
٦٢  ٦ أبريل ١٩٢١.
٦٣  ردَّ غاندي قبل سجنه ببضعة شهور على الانتقادات المُرَّة التي رمَوا بها ما سمَّوه سياسته «غير المنطقية»، ولقد ذُكِّر حينئذٍ بالمساعَدة التي أدَّاها لإنكلترة في أفريقية الجنوبية وأثناء الحرب العامة، لكنه لم يجحد في ردِّه شيئًا من سيرته الماضية، بل قال إنه كان يعتقد مخلِصًا أنه من أبناء الإمبراطورية، وليس من شأنه محاكمة الحكومة، وأن من السيئ أن يجعل كلٌّ منا نفسَه بمنزلة القاضي إزاء حكومته. وقال إنه أظهر، ما استطاع، ثقةً في فطنة الإنكليز وحُسن نواياهم، إلا أن بَلادة ذهن الحكومة سلخت منه تلك الثقة، فَلتَحمل الحكومة تَبِعة ذلك (١٧ نوفمبر ١٩٢١).
٦٤  بل هو شرٌّ وأضر؛ لأنه يحطُّ صاحبه. ويقول غاندي إن من آثار الشدة التي عامَل الحلفاءُ بها ألمانية صيرورةَ الحلفاء مماثلين للألمان، بعد أن كانوا في بداية الحرب يشهرون أعمالهم (٩ يونيو ١٩٢٠).
٦٥  «مهما صلب طبع أمري، فإن نار الحب تُذيبه، فإن لم يَذُب، فلأن النار ليست بشدة كافية» (٩ مارس ١٩٢٠). وقَّع الصاتياغرافيون جماعاتٍ جماعاتٍ العهدَ على عصيان القوانين الجائرة التي تعيِّنها لجنة الصاتياغرافا، واتِّباع سبيل الحق لا يَحِيدون عنها قيدَ شَعرة، والامتناع عن كل عنف نحو الحياة والأشخاص والملكية.
٦٦  لفظ هندستاني من أصلٍ إسلامي معناه «الكف عن العمل».
٦٧  ومع ذلك، فإن دلهي أخطأت في تاريخ ذلك اليوم، فجعلت حرتالها في ٣٠ مارس.
٦٨  ٧ أبريل ١٩٢٠.
٦٩  كذلك أوقف غاندي في ١٨ أبريل ١٩١٩ حركتَه، تهدئةً للهياج، ولم يحاول استغلالَه كما كان يفعل أيُّ داعيةٍ للثورة سِواه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤