الفصل الثاني
في ٢٨ يوليو سنة ١٩٢٠ أنبأ غاندي بني قومه أن اللامعاونة تُعلن في
أول أغسطس، وقضى أن يكون ٣١ يوليو «حرتالًا» دينيًّا يستعد فيه الهنود
بالصوم والصلوات. هو لا يخشى سخط الحكومة، ولكنه يخشى هياج الشعب؛ لذلك
اتخذ أسباب الحيطة كي يسود النظام والسكينة صفوف الهنود: «إن
اللامعاونة الشاملة تتطلب تنظيمًا شاملًا. إن الفوضى تنشأ عن الغضب،
يجب أن لا يكون للعنف أثر مطلقًا، كل عنف يرجع بالقضية القهقرى، ويبدد
الأنفس البريئة على غير طائل، ليُراعَ النظام أولًا!»
وخطة اللامعاونة هذه كان غاندي ولجنة اللامعاونة قد سنَّاها في
الشهرَين الماضيَين، فقُرر:
- أولًا: طرح الألقاب والرتب الشرفية جميعًا.
- ثانيًا: عدم الاكتتاب في قروض الحكومة.
- ثالثًا: إضراب المحاكم ورجال القانون، والفصل في الخصومات
بالتحكيم الأهلي.
- رابعًا: مقاطعة الطلاب والأسر والمدارس الأميرية.
- خامسًا: مقاطعة مجالس الإصلاحات الدستورية.
- سادسًا: عدم الاشتراك في حفلات الحكومة وفي الوظائف الحكومية
جميعًا.
- سابعًا: رفض كل منصب مدني أو عسكري.
- ثامنًا: الدعوة إلى السوادَشي١ أعني: بعد القسم السلبي من البرنامج القسم
الإنشائي، أو النظام الجديد الذي ينبغي أن تقوم على
أساسه الهند الجديدة، وسنفصِّل ذلك فيما بعد.
لم تكن هذه إلا المرحلة الأولى، ويجب التنبيه إلى الحكمة والأناة
(الغريبتَين على أفهام ثوريي أوروبة) اللتَين اتصف بهما هذا الرجل الذي
يطلق تلك الماكنة الضخمة؛ الثورة الهندية، ولكنه يمسكها من البداية،
على الفُرضة الأولى. لسنا هنا إزاء «عصيان مدني»، فهذا قد عرفه غاندي
ودرسه في تصانيف «طورو» الذي يستشهد به الزعيم الهندي في مقالاته، وهو
يُعنى بتمييزه عن اللامعاونة، العناية كلها. ليس العصيان المدني رفض
الطاعة فحسب، بل هو كذلك خرقٌ للقوانين: «إنه تجاوزٌ لا يتسنى إتيانه
والنجاح فيه إلا من الخاصة، على حين أن اللامعاونة قد تكون، بل يجب أن
تكون عمل السواد الأعظم.» يريد غاندي إعداد الشعب الهندي للعصيان،
تدريجًا لا طفرة، علمًا منه بأن الشعب غير تام الأهبة، وليس من الحكمة
إلقاء حبله على غاربه، قبل التيقن من أنه اكتسب إمرة النفس؛ لذلك لم
يكن في هذا البرنامج الأول لللامعاونة، ذكرٌ لرفض الضرائب؛ إن غاندي
ينتظر الساعة.
وفي أول أغسطس ١٩٢٠ استهل الحركة برسالة مشهورة إلى نائب الملك يعيد
بها أوسمته ورتبه الشرفية قائلًا: «لست برادٍّ، إلا أَسِفًا، الوسام
الذهبي «قيصري هند» الذي نلته جزاء صنيع إنساني في أفريقية الجنوبية،
ووسام الزولو الحربي الذي نلته جزاء خدماتي ضابطًا لفرقة نقالة الجرحى
المؤلفة من متطوعة الهنود سنة ١٩١٦، ووسام الحرب البويرية الذي نلته
جزاء خدماتي معاونًا لقيِّم فرقة نقالة الجرحى الهندية سنة ١٨٩٩-١٩٠٠.»
وبعد التذكير بحوادث البنجاب وبالحوادث التي نشأت عنها حركة الخلافة
يقول: «ولكن لا يسعني أن أحفظ في صدري عاطفة حب واحترام لحكومة موصومة
بهذه الرذائل والمظالم … يجب أن نقودها إلى التوبة … لذلك أوصيت
باللامعاونة التي ننفصل بها عن الحكومة، ونضطرها من غير عنف.» ويعرب
غاندي عن أمله في أن يرفع نائب الملك عن الهند ظُلامتها باستشارة زعماء
الأمة المعهودين.
واقتدى الناس بغاندي دون تردد، فاستقال مئات من القضاة، وغادر
الكليات آلاف من الطلاب؛ هُجرت المحاكم، وفرغت المدارس، ثم صدَّق مؤتمر
«جميع الهند» المنعقد في أول سبتمبر قرارات غاندي بأغلبية عظيمة، وتنقل
غاندي وصديقه مولانا شوكت علي في أنحاء القطر الهندي بين هتاف
الأَهْلين.
لم يظهر غاندي أَملكَ لزمام الملايين من الخلق وأعظم سؤددًا منه في
هذه السنة الأولى من جهاده. كان عليه أن يعقل العنف الذي يريد أن يثب،
وكان أكثر ما يكره عنف الغوغاء، ولا يجد من الكلام القاسي ما يكفي في
ذم المبقراطية أو حكم الرعاع الذي يعتقد أنه شر الأخطار على الهند. هو
يكره الحرب، ولكنه يؤثرها على انطلاق «وحشية الغوغاء» من قيدها: «إذا
قُدر للهند أن تتذرع بالعنف، فليكن العنف المنظم، أي الحرب، أما الرعاع
فلا، بحال من الأحوال!»
٢ وكان ينفر حتى من التظاهرات البهيجة اللجبة، ولكن غير
المنظمة، التي لا يعلم أحدٌ هل تخرج منها الفتنة وأفعال لا اسم لها:
«يجب أن نخرج النظام من هذه الفوضى. يجب أن نستبدل بالغوغاء شريعة
الأمة.» إن هذا الصوفي الثاقب النظر (الذي لا ينحط روحه العملي الصحيح
عما اتصف به من كبار متصوفينا الأوروبيين الذين سيطروا على النفوس
وأسسوا أنظمة الأديرة الكبرى) قد سن قواعد دقيقة لحصر التظاهرات الغامة
في أقنية معينة كي لا يطمو سيلها، قال: خطؤنا الفاحش هو أننا أهملنا
الموسيقى، إن الموسيقى تعني الإيقاع والنظام، بيد أنها — يا للأسف —
ظلت في الهند محصورة بين نفر قليل، فلم تعمَّ، في زمن، طبقات الأمة …
ينبغي أن نعهد إلى جوقات أن تنشد الأناشيد الوطنية. ليحضر كبار
الموسيقيين كل مؤتمر يُعقد، وليعلمونا موسيقى الجماهير، فليس أهون من
تدريب العامة الذين لا إرادة لهم ثابتة …»
ويلي ذلك جملة أوامر: «(١) لا يُقبل في التظاهرات الكبرى متطوعة جدد
غير مجربين، يُجعل في المقدمة أكثرهم تجربة. (٢) يُعطى كل متطوع
كُتيبًا جامعًا كل التعليمات. (٣) يُتفق على صفرات التنادي بين
المتطوعة. (٤) يُطلب من الجمهور أن يطيع المتطوعة دون جدال. (٥)
تُعيَّن الصرخات الوطنية، ومتى يجب أن يُهتف بها ولا يُغضى عن أدنى خرق
للقاعدة. (٦) يُحمل الجماهير على الوقوف في جانبي الطريق كي لا يمنعوا
سير العجلات، ويُحظر عليهم دخول المحطات، ولا يُؤذن لهم باستصحاب
الأولاد الصغار إلى أمكنة التجهمر وهلم جرًّا.»
وبكلمة موجزة إن غاندي ينصب نفسه مدير جوقة موسيقية «أوركسترة» في
هذا الأوقيانوس البشري.
«إن أشق عمل على الأمة هو تنظيم تظاهراتها.»
لا تعمد الجماعات إلى العنف إلا في نوبات متقطعة، بل هي لا تعلم ماذا
تريد، فتسلم نفسها لاندفاعات مفاجئة، ووثبات متعاكسة، بيد أن نفرًا من
صفوة الهنود يريدون العنف عامدين، فهم لا يفهمون فكر غاندي ولا أثره
السياسي بنوع خاص. ولقد تلقى غاندي رسائل غُفلًا يسألونه فيها أن لا
يعارض في استعمال العنف والشدة، أو يظهرون دون حياء — وهذه شر الإهانات
— ثقة في أن أقواله ليست إلا ستارًا يخدع به العدو، فهم يلحون عليه بأن
يومئ إيماءة القتال، لكن غاندي أجاب بقوة، وجادل جدالًا عنيفًا، ورد
بمقالات حسنة جدًّا على دعاة «مذهب السيف»، هو ينكر أن الكتب الهندوسية
أو القرآن تأمر بالعنف؛ لأن العنف ليس بدستور دين من الأديان. إن
المسيح أمير المقاومة الانفعالية. إن البغفادجيتا لا تدعو إلى العنف،
بل إلى إنجاز الواجب، ولو كان في ذلك الهلاك.
٣ «لم يُؤتَ المرء قدرة على أن يخلق، فليس له إذًا حق بأن
يُعدم.» يجب أن نحب حتى أولئك الذين يسيئون عملًا، ولا يعني هذا وجوب
إباحة الشر. إن غاندي قد يسهر على الجنرال داير إذا مسه مرض، ولكن «إن
عاش ابني عيشة خزي، فإن حبي يقضي عليَّ بأن أحرمه عضدي، ولو كان في ذلك
هلاكه.» لا يحق لنا أن نقهر الشرير بالقوة، ولكن يجب علينا أن نصده
بالافتراق عنه مهما كلف الأمر، فإذا تاب العدو كان فرضًا علينا أن نفتح
له ذراعَينا.
٤
وبينما كان غاندي آخذًا في زجر دعاة العنف، كان في الوقت ذاته يحث
المترددين، ويطمن نفوس المتراجعين أمام العمل المباشر: «لم يتم شيء على
وجه الأرض دون عمل مباشر، إني طرحت لفظَي «المقاومة الانفعالية» جانبًا
لعدم كفايتهما … إن العمل المباشر وحده هو الذي هدى الجنرال سمطس في
أفريقية الجنوبية سواء السبيل، ما المزيج الأمثل الذي قدر المسيح وبوذا
على تحقيقه؟ مزيج القوة والحلم، لقد أشعل بوذا حربًا في معسكر عدوه
وجعل الكهنوت المتغطرس يسجد أمامه، لقد طرد المسيح الباعة من الهيكل
وجلد المنافقين والأدعياء، ذلك هو العمل المباشر بأشد مظاهره، ولكن
وراء أفعالهما في الوقت ذاته حلمًا لا ينفد.»
٥
وخاطب غاندي أيضًا قلوب الإنكليز وعقولهم،
٦ وهو يدعوهم «أصدقاءه الأعزة» ويذكرهم بأنه كان صاحبًا
أمينًا مدة ثلاثين عامًا، ويسألهم أن يقضوا بالعدل على خيانة حكومتهم
وغدرها: «إن غدرها قد حطم ثقتي فيها، ولكني ما زلت واثقًا في مروءة
الإنكليز … إن الهند لا تستطيع أن تقاومكم اليوم إلا بالشجاعة
المعنوية، فهي باللامعاونة تضحي نفسها … أريد أن أملك قلوبكم بآلامي
…»
إن حملته التي استمرت أربعة شهور أو خمسة لم يكن غايتها شل الحكومة
الإنكليزية بسياسة اللامعاونة فحسب، بل إنشاء هند جديدة قادرة على
كفاية نفسها وعلى استحداث حياة مستقلة مادةً ومعنًى. كان البند الأول
ضمان الاستقلال الاقتصادي لها، وهو ما يدعوه غاندي بالسوادَشي (بل إن
للسوادَشي معاني مختلفة، لكن هذا أقربها وتغلب عليه الصفة
العملية).
وبديهي إذًا أنه يجب على الهند أن تعرف الحرمان من كثير من الطيبات
المادية، وأن توطن ذاتها دون شكوى على كثير من أنواع الضيق وشظف العيش،
لكنها رياضة نافعة وعلاج واجب، فيهما لصحة الجنس وللشريعة الأخلاقية
على السواء، نصيب من الفائدة. ينبغي أولًا أن تُجتث من الهند «بلية
المسكر» وأن تُؤلف جمعيات لمقاومته، وأن تُقاطع الخمور الأوروبية، وأن
يُحمل الباعة على طرح الرُّخَص ببيعها.
٧ سمعت الهند نداء المهاتما، فطمت على البلاد موجة كراهةٍ
للمسكر، حتى اضطر غاندي لأن يحول بين العامة وبين ما همُّوا به من
إقفال المخازن جبرًا وتقويض بنيانها؛ لأنه «لا يجوز جعل الناس بررةً
أطهارًا، عنوة وجبرًا».
ولكن إذا كان من السهل إنقاذ الهند من وباء المسكر، فإنه يصعب جدًّا
ضمان وسائل الحياة لها. من أين غذاؤها، ومن أين لباسها، إذا طرحت
المصنوعات الأوروبية جانبًا؟ إن «وصفة» غاندي لعلاج هذا الداء غاية في
البساطة، تتجلى فيها نزعات فكره الممثل للقرون الوسطى: يريد أن ترجع
الأسر الهندية جميعًا إلى صناعة المغزل البيتية القديمة
(الشرقا).
لقد سخروا من هذا الحل الفطري للمشكلة الاجتماعية.
٨ ولكن ينبغي أولًا أن نعرف أحوال الهند الخاصة، وأن ندرك
المعنى الصحيح الذي يعنيه غاندي بالشرقا، فهو لم يزعم قط أن الغزل
وسيلة كافية لحياة الناس، اللهم إلا للفقراء المدقعين، بل إنها صناعة
ظهيرة للزراعة حينما تكون الزراعة واقفة، وليست هذه المشكلة من قبيل
النظريات، بل هي مُمضَّة موجعة يجب التعجيل في حلها: إن ثمانين في
الماية من سكان الهند فلاحون لا عمل لهم خلال أربعة أشهر من السنة،
وعُشر الأهلين جياع على الأغلب، بينما الطبقة الوسطى لا تجد كفايتها من
الغذاء، وإنكلترة لم تتخذ سببًا إلى معالجة هذه الحالة، بل زادتها
سوءًا، فإن الشركات الإنكليزية قضت على الصناعات الأهلية قضاءً مبرمًا،
وامتصت موارد الثروة الهندية جميعًا، وهي تسلب الهنود ستين مليون روبية
كل عام. إن الهند التي تنتج كل سنة كفايتها من القطن، تصدره في ملايين
البالات إلى اليابان واللانكشير؛ كي تستورده بعد حين نسيجًا مصنوعًا،
يجب عليها بالبداهة أن تعرف كيف تستغني عن خدمات الأجانب الغابنة، وأن
تبادر إلى تنظيم مصانعها الأهلية، وأن لا تتوانى عن إيجاد عمل ومعاش
لكل هندي، ولا وسيلة أقرب تناولًا وأحسن توفيرًا من صناعة الكوخ،
الصناعة الهندية القديمة، نعني الغزل والنسج، ليس القصد بذلك أن يُصرف
الفلاحون العاملون إلى هذه الصناعة، بل أولًا المبطلون الذين لا شغل
لهم، وثانيًا النساء والأولاد، وبالنهاية كل الهنود في ساعات فراغهم.
وعلى هذا قضى غاندي: (١) بأن يُقاطَع النسيج الأجنبي. (٢) بأن يرجع
الهنود إلى صناعة الغزل وينشروا تعليمها وهي غاية في السهولة. (٣) بأن
يأخذوا على أنفسهم عهدًا أن لا يلبسوا من الأقمشة إلا ما كان مغزولًا
ومنسوجًا على تلك الكيفية. ووقف جماع نفسه على هذه الدعوة بحمية لا
تخمد، وشاء أن يصبح الغزل فريضة على الهند بأسرها،
٩ وأن يُعلم في المدارس وأن يؤدي فقراء الطلاب ثمن دراستهم
بساعات على المغزل، وأن يخصه كل هندي وهندية بساعة واحدة كل يوم لعمل
الخير. ولقد رأينا غاندي يهتم بدقائق الأمور، ويأتي بتعاليم فنية في
موضوع القطن والغزل وأعمال النسج المختلفة، ويقدم الإرشادات العملية
للحاكة والشارين وأرباب الأسر والطلاب، ويبرهن بالأرقام أن في وسع كل
امرئ أن يفتح برأس مال زهيد حانوت «سوادشي» (لبيع محاصيل العمل الهندي)
وأن يربح عشرة في الماية. وهو من أبلغ الشعراء حينما يشيد بذكر موسيقى المغزل
١٠ — أقدم موسيقى هندية — التي كان يستطيب نغماتها «كبير»
الشاعر الحائك، و«أوران زاب» الإمبراطور العظيم الذي كانت قلنسوته صنْع
يديه … وهكذا وفق غاندي إلى إذكاء نار الحماسة في صدور القوم، فعكفت
بنات الأسر الكريمة في بمباي على المغزل، وأخذت الهندوسيات والمسلمات
على أنفسهن عهدًا أن يلبسن إلا أنسجة وطنية، وعم زي «الخضار» أو
«الخادي» الذي أقر رابندرانات تاغور نفسه بجودته، وراجت سوقه، حتى إنه
أُرسل من بلوشستان وعدن في طلبه.
ولكن الحماسة جاوزت الحد قليلًا في مقاطعة النسائج الأجنبية، حتى إن
نفس غاندي المعروف بالرشد والحكمة خرج من اعتداله فأمر بإحراقها على
أنها رمز العبودة، وفي أغسطس ١٩٢١ أُقيمت ببمباي في ساحة الإمارة — كما
في زمن سافونارولا — محارق عظيمة لالتهام الأقمشة النفيسة مما تقتنيه
الأسر الكبيرة، والأهلون حولها في فرح لَجَب، فكتب س. ف. أندريوس صديق
تاغور ومن كرام إنكليز الهند، كتابًا إلى غاندي وكان به معجبًا، يعرب
عن أسفه لإحراق تلك الأقمشة؛ إذ الأفضل أن يتصدق بها على الفقراء،
ويلوم على إيقاظ غرائز السوء في العامة، ويسفه هذا التعصب القومي الذي
هو أحد مظاهر العنف، قائلًا إنه لا يطيق أن يجعل قومٌ الهدم دينًا؛ لأن
إتلاف ثمر العمل الإنساني جريمة. وكان أندريوس قد اعتنق مبادئ غاندي
الإصلاحية ولبس «الخضار» لكنه يتردد الآن في لبسه: إن مشهد تلك المحارق
جرح إيمانه بالمهاتما. فنشر غاندي رسالة أندريوس وأجاب عليها برفق،
منفعلًا لبث هذه النفس القلقة الحزينة، وأعلن أنه غير نادم، وأنه لا
يحمل ضِغْنًا على أمة من الأمم، وأنه لا يطلب إتلاف كل متاع أجنبي، بل
الأمتعة التي ظهر ضررها. إن المصانع الإنكليزية خربت ملايين من الهنود،
حتى إن كثيرًا منهم انحطوا إلى دركات «الباريا» والجنود المرتزقة،
وأصبحت نساؤهم عواهر، فلا يرتدي امرؤ هذه الأقمشة الجانية إلا كان
آثمًا. إن الهند محمولة ببواعث جمة على بغض مستغليها من الإنكليز، لكن
غاندي يحوِّل غيظها عن الأشخاص إلى الأشياء، وليس الإنكليز الذين باعوا
هذه الأقمشة وحدهم بمذنبين، فإن لهم شركاء هم الهنود الذين اشتروها،
وإذًا نحن لا نحرق عن حقد وضغينة، بل ندامة واستغفارًا. تلك عملية
جراحية واجبة، كذلك لا يجمل بنا أن نهب الفقراء هذه الألبسة النجسة،
فإن لهؤلاء أيضًا كرامة.
ليس بكافٍ إطلاق الحياة المادية من رق الأجنبي، فيجب أن نطلق الروح
أيضًا؛ لهذا شاء غاندي أن تطرح أمته نِير الثقافة الأوروبية عن كاهلها،
وكان من أجلِّ جهوده وضعه الأسس لتربية هندية حقة.
مما أبقى عليه الزمن في الهند بضع مدارس وجامعات لا تزال وهي في
وصاية الإنكليز، حافظة جذوات من الثقافة الآسيوية العتيقة: «عليكره»
الجامعة الإسلامية الهندية مركز الثقافة الإسلامية في الهند منذ خمس
وأربعين سنة، وكلية «خلصا» مركز الثقافة السيخية، وللهندوس جامعة
بنارس. لكن هذه المعاهد العلمية المتأخرة من بعض الوجوه كانت تابعة
للحكومة التي تمدها بالمال، وكان غاندي يود لو يهدمها، فيعيض الهند
عنها بمصابيح أزهى نورًا، وقد افتتح في نوفمبر ١٩٢٠ جامعة غوجرات
الوطنية في أحمد آباد وهي مشيدة على أسس الوحدة الهندية، ركناها
الدينيان هما «دارما» الهندوس و«إسلام» المحمديَّين، وهي تعمل على حفظ
اللغات الهندية لتكون ينابيع الحياة القومية والنهضة الوطنية، ويرى
غاندي ورأيه الصواب،
١١ ولأقواله فائدة لنا أيضًا: «إن دراسة منظمة للثقافات
الآسيوية ليست بأقل وجوبًا، في اكتساب التربية الكاملة، من دراسة علوم
الغرب، ينبغي أن نبحث عما في السنسكريتية والعربية والفارسية والبالية
والماجادية من كنوز ثمينة؛ لنظفر بأسرار السؤدد الوطني.» ولا يعني هذا
إعادة ما قِيل أو عُمل في الأزمنة الغابرة، بل إنه يجب أن نبني ثقافة
جديدة على ثقافات الماضي التي نمت وأَثْرت باختبارات العصور، وتكون هذه
الثقافة «مركَّبًا» من مختلف الحضارات التي فعلت في الهند وانفعلت بروح
الإقليم، ولكن لن يُصنع هذا «المركَّب» على النمط الأمريكي؛ لأن ثقافة
مسيطرة في أمريكة استغرقت كل ما عداها وقضت عليه، فلكل ثقافة حقها
ومكانتها. «إن القصد هو التأليف والوفاق لا اصطناع وحدةٍ عنوةً
وجبرًا.» فإذًا على الطلاب جميعًا أن يعرفوا ديانات الهند جميعًا:
الهندوس يألفون القرآن كما أن المسلمين يألفون الشاسترا، ولا تحرِّم
الجامعة الوطنية إلا روح التحريم، فهي لا تسلم بوجود «أنجاس» في الجنس
البشري كله، واللغة الهندوسية إجبارية؛ لأنها اللغة القومية الحقة
ممزوجةً بالسنسكريتية والهندية والأردوية المستعجمة.
١٢
يتلقى المتأدبون تعليمًا صناعيًّا كما يتلقى غير المتأدبين تعليمًا
أدبيًّا؛ كي يقل ما بين الطبقات الاجتماعية من الفروق. أما الروح
الاستقلالي فلن يُصان بالدراسة وحدها، بل كذلك بتربية مبنية على
المواهب والميول. يريد غاندي — على نقيض التربية الأوروبية التي تبخس
العمل اليدوي حقه، موفرة عنايتها على إنماء الدماغ — إدخال العمل
اليدوي في المدرسة ابتداءً بصنوف الأطفال. من الحسن أن يؤدي الولد ثمن
دراسته غزلًا؛ ليتعوَّد منذ نعومة أظفاره على الحياة الاستقلالية بكسب
معاشه، أما تربية القلب التي تهملها أوروبة الإهمال كله، فيجب
استحداثها أصلًا، وقبل أن نوجد طلابًا ينبغي أن نوجد مربين.
تلك هي الغاية من إنشاء معاهد المعلمين العليا التي يفكر غاندي — على
ما يظهر — في جعلها القواعد الراسخة التي يقوم عليها صرح التربية
الجديدة. والأصح أن لا نسمي تلك المعاهد مدارس، فهي أديرة حقيقية تتجمع
فيها أنوار الهند المقدسة لتُنشر فيما بعد، على مثال الأديرة الكبرى
التي يؤسسها في الغرب أتباع القديس بنوا، رواد الأنفس والأرضين.
وفي أيدينا الأنظمة التي سنها غاندي لمعهد «الصاتياغرا أشرم» في أحمد
آباد، وهذا المعهد أحب أبنائه إليه، وهي أنظمة تتعلق بالمدرسين بأشد من
علاقتها بالطلاب، وتربطهم بمثل عهود الأديرة، لكن عهود الأديرة، على مر
الزمان، لا يبقى لها إلا مزية نظام سلبي، لكنها في «الصاتياغرا أشرم»
خفاقة أبدًا بروح التضحية والمحبة الخالصة الذي يملأ صدور القديسين
والأولياء. يُطلب من المديرين العمل بالقواعد الآتية:
- (١)
عهد الحقيقة: ليس بكافٍ أن لا تكذب (لا ينبغي أن تتذرع
بكذب قط ولو كان في مصلحة الوطن) فإن الحقيقة قد تضطرك
أيضًا إلى معارضة أبوَيك وذويك الأكبر منك سنًّا.
- (٢)
عهد «الأهمسا» (لا تقتل): ليس بكافٍ أن لا تزهق روح
مخلوق من المخلوقات، بل يجب أيضًا أن لا تجرح حتى أولئك
الذين تعتقد أنهم ظالمون. يجب أن لا تأخذك سَورة الغضب
عليهم، بل يجب أن تحبهم. ناوئ الاستبداد، ولكن لا تسئ إلى
المستبد، اغلبه بالمحبة، اعصه ولو كان في عصيانه
الموت.
- (٣)
عهد العزوبة الذي بدونه يتعذر العمل بالقاعدتَين الأولى
والثانية: ليس بكافٍ أن تجتنب الفسق، بل يجب أن تكون
مسيطرًا على شهواتك الحيوانية دائمًا، لا عملًا فحسب، بل
فكرًا ونيةً أيضًا، فإذا كنت متزوجًا وجب عليك أن تعتبر
امرأتك صديقًا مدى العمر وأن تكون لك بها علاقات طُهرٍ
تام.
- (٤)
رقابة الفم: يجب أن تنظم طعمتك وأن تطهرها. يجب أن تعفَّ
عن الأغذية غير الضرورية شيئًا فشيئًا.
- (٥)
لا تسرق: لا يُقصد بهذا ما هو ملك لغيرك، فإن «من السرقة
أيضًا أن تستعمل من الأشياء ما لا تحتاج إليه فعلًا». إن
الطبيعة تخرج لنا كل يوم ما يكفي حاجاتنا اليومية، لا ما
يزيد عنها.
- (٦)
لا تقتنِ متاعًا: ليس بكافٍ أن لا تقتني شيئًا، بل يجب
أن لا تحفظ لنفسك إلا ما كان ضروريًّا لحاجاتك اليومية.
ينبغي أن نطرح دائمًا ما يزيد، وأن نجعل حياتنا غاية في
البساطة.
ثم يدعم غاندي تلك العهود الأساسية بهاتَين القاعدتَين:
- (١)
السوادشي: لا تستعمل الأمتعة التي قد يكون فيها سبيل إلى
الغش، وينشأ عن هذه الوصية تحريم الأمتعة المصنوعة في
البلاد الأجنبية؛ لأنها ثمرة استغلال البؤس وآلام الشعب
العامل في أوروبة، فالسلع الأجنبية حرام إذًا على متَّبع
الأهمسا، ومن هنا ضرورة الثياب المصنوعة في الهند
نفسها.
- (٢)
عدم الخوف: لأن الذي يخاف لا يقدر على العمل بالوصايا
الآنفة. ينبغي أن تكون بنجوة من مخافة الملوك والأمم
والعائلة والبشر والضواري والموت. إن الذي لا يخاف يحمي
نفسه «بقوة الحق» أو «بقوة النفس».
وبعد أن أنجز غاندي بناء الأخلاق على هذا الأساس المكين تكلم بإيجاز
عن الوصايا الأخرى المتعلقة بالتربية، وأرعاها للنظر هاتان الوصيتان:
يجب أن يكون المعلمون قدوة بالعمل الجسدي (سيما زراعة الأرض) ويجب أن
يتعلَّموا أهم اللغات الهندية.
أما الأولاد فإذا دخلوا الأشرم — يُقبلون منذ الرابعة من عمرهم — فقد
أصبحوا مقيدين حتى يخرجوا منه (تستغرق درجات الدراسة نحو عشرة أعوام)،
يُفصلون عن عائلاتهم ولا يكون لوالديهم سلطان عليهم، لا يزور الطلاب
آباءهم. ثيابهم بسيطة وطعامهم بسيط، نباتيٌّ صرف، ليس من أيام عطلة
بالمعنى المعروف، ولكنهم يُعطون يومًا ونصف يوم كل أسبوع لقضاء أعمالهم
الخاصة، وثلاثة أشهر كل سنة للقيام برحلات في أنحاء الهند مشيًا على
الأقدام. الهندية ولهجة درافيدية واحدة هما اللغتان الإجباريتان لجميع
الطلاب. عليهم أيضًا أن يتعلموا الإنكليزية بصفتها لغة ثانوية، وحروف
خمس لغات هندية (الأردو والبنغالي والتاميل والتلوغو والدفنقاري).
ويُدرَّسون في لهجاتهم الخاصة التاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم
الاقتصادية والسنسكريتية. وفي الوقت عينه يزاولون الزراعة والنسج
اليدوي. كذلك نحن في غنًى عن القول إن الروح الديني يشمل هذا التعليم
بتمامه. ومتى انتهت الدراسة خُيِّر هؤلاء الفتيان بين خطتَين: إما أن
يبرموا عهودًا على نحو ما فعل إخوانهم الأولون، وإما أن يغادروا
الأشرم. والتعليم برمته مجاني.
لأمرٍ ما أطلت الكلام على هذا البرنامج التربيي، فهو يدل على ما في
حركة غاندي من روحانية سامية، وهو بمراميه أعظم عوامل الحركة شأنًا.
ينبغي كي نوحد هندًا جديدة أن نوجد نفوسًا جديدة، قوية طاهرة، هندية
حقًّا وصدقًا، وينبغي كي نوجد هذه النفوس أن يُؤلف جيش مقدس من
الحواريين، فيكونوا كحواريي المسيح «ملح هذه الأرض». ليس غاندي بصانع
شرائع وقوانين على مثال ثوريي أوروبة، بل هو عجَّان إنسانيةٍ
جديدة.
إن الحكومة، مثل كل حكومة في موقفها، لم تفهم شيئًا مما حدث، فكان
أول ما بدر منها إشارة سخرية وكِبر، وقد قال نائب الملك، اللورد
شلمسفورد، في أغسطس ١٩٢٠: «إن أعظم الحماقات هذه الحماقة.» لكن الحكومة
ما لبثت أن اضطرت إلى النزول من سماء عجرفتها، وكانت قلقة مضطربة لما
نشرت في ٦ نوفمبر ١٩٢٠ بيانًا فيه وعد ووعيد على السواء، تقول به إنها
لم تشأ معاقبة الجناة؛ لأن قادة الحركة كانوا يدعون إلى عدم استعمال
العنف، بيد أنها أصدرت أمرًا بمحاكمة الذين يجاوزون الحدود الموضوعة،
ويحضون على التذرع بالشدة والعصيان بقوة السلاح.
وسرعان ما جِيزَت الحدود، ولكن من جانب الحكومة. لقد نمت الحركة
نموًّا مقلقًا، وحدث في ديسبمر ١٩٢٠ حادث ذو شأن لم يكن في الحسبان: لم
تكن «اللامعاونة من غير عنف» حتى ذلك الحين إلا خطة مؤقتة أو تجربة
تقوم بها الهند، وكانت الحكومة تمنِّي النفس بأن المجلس الهندي العام
سوف يلغيها في دورة نهاية السنة، فجاء المؤتمر الهندي الوطني المنعقد
في ناغبور يثبت تلك الخطة في المادة الأولى من الدستور: «المادة
الأولى: يرمي المؤتمر الوطني إلى تحقيق سواراج (الحكم الذاتي) الشعب
الهندي، ويتذرع إلى ذلك بكل الوسائل السلمية والمشروعة.»
وأثبت أيضًا خطة اللامعاونة التي كانت الدورة الخاصة في سبتمبر ١٩٢٠
قد قررتها، ووسَّع نطاقها خاصًّا بالذكر مبدأ اللاعنف، مبينًا ضرورة
الاتفاق بين مختلف العناصر في البلاد لفوز القضية، داعيًا إلى الاتحاد
الهندوسي الإسلامي، بله إلى تقارب الطوائف الممتازة والمنبوذة. وأخص ما
أدخله على الدستور تحويرات أساسية تنعم على البلاد بنظام تمثيلي شاملٍ
أجزاءَ الهند كافة،
١٣ وأعلن المؤتمر أن اللامعاونة في شكلها الحاضر ليست إلا
مرحلة أولى في هذا الجهاد، وأن عدم مشاركة الحكومة في شيء والكف عن
أداء الضرائب سيدخلان في حيز العمل في زمن يُعيَّن من بعد، ولإعداد
البلاد لذلك اليوم المشهود نرى المؤتمر يوسع نطاق المقاطعة، ويشجع
النسج الهندي، ويحث الآباء والطلاب على العمل بمبدأ اللامعاونة بأشد
حمية من ذي قبل، أما الذين يخالفون قرارات المؤتمر فإنهم يُخرَجون من
الحياة العامة.
هذا تثبيت دولة ضمن دولة، دولة الهند الحقة إزاء الحكومة البريطانية؛
لذلك لم يكن بوسع الحكومة أن تقف بلا حراك: إما أن تصالح وإما أن
تحارب، ولقد كان الاتفاق ميسورًا عهدئذٍ لو أُبديَ شيء من التساهل، فإن
المؤتمر أعلن أنه بالغ الغاية «بالاشتراك مع إنكلترة إذا شاءت، وإلا
فبدون معونتها»، لكن العنف تغلب أيضًا هذه المرة كما عوَّدتنا سياسة
أوروبة نحو الأمم الأخرى، وطلبوا العلل والمعاذير فلم يعدموها.
ورغم عزيمة غاندي والمؤتمر الأكيدة على عدم استعمال العنف قامت في
مختلف نواحي الهند عدة فتن وقلاقل ذات شأن لم تكن لها بحركات
اللامعاونة إلا صلات بعيدة، ففي الولايات المتحدة (الله آباد) نشبت
ثورات من الفلاحين ومستأجري الأرض على مُلَّاكها، قمعتها الشرطة قمعًا
داميًا. ثم إن حركة «العقالي» من طائفة السيخ التي كانت بالأصل دينية
صرفة، اتخذت أساليب اللامعاونة، ونشأ عنها في فبراير ١٩٢٠ قتل مائتين
من السيخ، ليس لمنصف أن يحمِّل غاندي وصحبه تبعة هذه الفاجعة، وليدة
التعصب، لكنها فرصة سنحت، فبدأ قمع الفتنة في أول مارس ١٩٢١ واستمر حتى
نهاية السنة وهو يزداد شدة وقسوة، ولقد تعللت الحكومة إذ ذلك
بالتظاهرات التي أُقيمت ضد باعة الأشربة الكحولية، وليست هذه أول مرة
تمشي فيها الكحولية والمدنية الأوروبية يدًا بيد، فصدر الأمر بمنع
تعبئات متطوعة اللامعاونة، وسُنَّ قانون لمنع الاجتماعات الشَّغِبَة،
وأُطلقت يد الشرطة المحلية في ولايات عديدة لسحق هذه الحركة التي وُصفت
بالثورية الفوضوية، وأُلقي القبض على ألوف من الهنود، ولم تُراعَ حرمة
أعيان القوم. وبالطبع فإن هذه التدابير أيقظت الفتنة ونشأ عنها في
أمكنة مختلفة قتالٌ بين الشرطة والجمهور، وحوادث قتل وحرق، فاجتمعت
لجنة المؤتمر الهندي ببزوادا في آخر أسبوع من شهر مارس ونظرت فيما إذا
كان يجب إعلان العصيان المدني، لكنها رأت بحكمة نادرة المثال أن الأمة
لم تنضج النضوج الكافي ولم تُنظم التنظيم الواجب لاستعمال هذا السلاح
ذي الحدين، فقررت الانتظار، وعاد غاندي بأشد حماسة من قبل إلى الجهاد
في سبيل الوحدة الهندية، واتحاد الأديان والأقوام والأحزاب والطوائف،
ووجَّه خطابه إلى البارسيين
١٤ (وهم في الهند أصحاب الثروات والتجارة والصناعة الكبرى)
المصطبغين كما يقول بصبغة الروح الركفلري، وكان الاتحاد الهندوسي
الإسلامي مهددًا أبدًا بسطوة الأوهام القديمة والمخاوف والرِّيَب
المتبادلة، فانصرف إلى العمل بكليته،
١٥ لا يسعى إلى مزج الشعبَين مزجًا هو اليوم من المستحيلات —
ولو أمكن لما رغب فيه — بل إلى إيجاد تحالف قائم على أساس الصداقة.
١٦
وكان أسمى جهود غاندي ما بذله لإدخال الطوائف المنبوذة في الجامعة
الهندية، فإن مطالبته الشديدة بحقوق الباريا وصرخات الألم والسخط التي
كانت تلك الظُّلامة الاجتماعية تبعثها من صدره، كافية وحدها لتخليد
اسمه. إن الألم الذي يصيبه من جراء ما يسميه «أفحش الأدناس اللاصقة
بالهندوسية» صادر عن ذكريات صباه. يقول إن واحدًا من الباريا كان يأتي
إلى بيتهم وهو صغير؛ لقضاء الحاجات الدنيئة، فكان أهله يحرمون عليه
ملامسة ذلك الرجل، أو يتوضأ، وكان غاندي لا يسلِّم بذلك ويجادلهم في
الأمر، وكثيرًا ما كان في المدرسة يلامس الأنجاس، فكانت أمه تشير عليه
أن يلامس مسلمًا ليتطهر من ذلك الدنس، لكنه لما بلغ الثانية عشرة قر
رأيه وأخذ على نفسه عهدًا أن يمحو هذا الإثم من وجدان الهند، ونوى
الأخذ بناصر إخوانه الأدنياء، ولم يظهر غاندي حرية فكر أوسع مما أظهره
في خدمة قضيتهم، ودليل ذلك أنه مستعد لترك دينه إذا بُرهن له أن
النجاسة نص من نصوصه، ورأيه أن هذه الظُّلامة وحدها كافية لتبرير كل
الظلامات التي يُصاب بها الهنود في العالم:
١٧ «إذا كان الهنود قد أصبحوا «باريا» الإمبراطورية فإن هذا
من رَجْع العدل الأزلي، ليبدأ الهنود بغسل أيديهم الملطخة بالدم! إن
عقيدة النجاسة لأكبر عار على الهند. وفي أفريقية الجنوبية وأفريقية
الشرقية والكندا يُعامل الهنود أيضًا معاملة الباريا. إن السواراج
(الحكم الذاتي) لمن المستحيلات ما زال في الهند «باريا». الهند آثمة.
إن إنكلترة لم تأتِ ذنبًا أعظم. أول فرض علينا هو أن نحمي الضعفاء وأن
لا نسيء إلى نفس أحد من البشر. نحن لن نفضل العجماوات ما لم نتطهر من
هذا الإثم. ينبغي أن يكون السواراج سؤدد العدل على الأرض من أقصاها إلى أقصاها.»
١٨
ويريد غاندي أن تصلح حال الإخوان الباريا بتشريع وطني، وأن يُمنحوا
كثيرًا من المدارس والآبار؛ لأن الانتفاع بالآبار العامة كان محرمًا
عليهم، ولكن ما العمل قبل بلوغ هذه الغاية؟ إن نفاد صبره الذي لا يأذن
له بأن يقف مكتوف اليدَين منتظرًا إقدام الطوائف الممتازة على رفع تلك
الظلامة من تلقاء أنفسهم حمله على الانضمام إلى الباريا، فترأسهم وعمل
على جمع شتاتهم، وأخذ ينظر وإياهم في مختلف الخطط: ماذا يستطيعون؟
أيستنجدون بحكومة الهند؟ هو انتقال من رقٍّ إلى رق آخر، أيرتدون عن
الهندوسية — من الأمور الجديرة بالنظر هذه الجرأة السمحاء من مؤمن
هندوسي كبير — ويدينون بالنصرانية أو الإسلام؟ يكاد غاندي ينصح بذلك لو
كانت الهندوسية مقرونة بمبدأ النجاسة، لكنه يعتقد أنها «غُدة» وخيمة
يجب أن تُجتث من أصلها. ينبغي إذًا أن ينظم الباريا صفوفهم للدفاع عن
كيانهم، وأن لديهم سلاحًا صارمًا هو سلاح اللامعاونة يحاربون به
الهندوسية إذ يقطعون كل صلة بسائر الهنود (نصائح عجيبة بجرأتها ودعوتها
إلى الثورة الاجتماعية في فم هذا الوطني!) لكن غاندي يستدرك قائلًا إن
الباريا عاجزون عن تنظيم أنفسهم؛ إذ لا زعماء لهم، لينضموا إذًا — وهو
قصاراهم — إلى حركة اللامعاونة الهندية العامة التي أول شروطها اتحاد
الطوائف. إن اللامعاونة طهارة دينية، ولا يصح أن يشترك بها من ينبذ
الباريا؛ لأنه يأثم بذلك إثمًا كبيرًا، وهكذا أفلح غاندي في التوفيق
بين الدين والوطن والإنسانية.
١٩
وتُوِّجت هذه المساعي الأولى في سبيل الوحدة ﺑ «مؤتمر الطوائف
المنبوذة» في أحمد آباد الذي ترأسه غاندي في ١٣ و١٤ أبريل ١٩٢٠، وألقى
فيه خطبة من أجمل خطبه. هو لا يكتفي بالمطالبة بالمساواة بين الطوائف،
بل ينتظر أيضًا من الباريا أعمالًا جليلة في حياة الهند الاجتماعية
الجديدة، ويرد الثقة والإيمان إلى نفوسهم، وينفخ فيهم من روح الأمل
الذي يضطرم في صدره. لقد آنس فيهم قوًى كامنة عظيمة، وهو على يقين من
أن الطوائف النجسة قادرة بعد خمسة شهور، بأهليتها وكرامتها، على أن
تتبوأ مقامها الحقيقة به، في الأسرة الهندية الكبرى.
وأسعد الحظ غاندي فرأى الهنود ينفعلون لهذه الدعوة التي خاطب بهم
قلوبهم، وشهد تحرير الباريا في كثير من الأمصار،
٢٠ ولقد كان عشية القبض عليه لا يزال عاملًا في هذه السبيل،
عادًّا الخطى التي خطتها القضية إلى الأمام، وانصرف البراهمة إلى
تحقيقها بكليتهم، وأعطت الطوائف الممتازة أمثلة مؤثرة من الندم والحب
الأخوي، ويذكر غاندي قصة فتًى من البراهمة في الثامنة عشرة من عمره جعل
نفسه كناسًا ليعيش مع الباريا.
٢١
كذلك أظهر غاندي شرف نفسه وسمو همته في أخذه بقضية أخرى، نعني قضية
المرأة.
إن للمسألة الجنسية شأنًا كبيرًا في الهند الرازحة بعبء شهوانية
طامية فادحة غير منظمة، فتزويج الصغار يستنفد قبل الأوان عزائم الأمة
الجسمانية والروحية، وشيطان الشهوة يثقل على الفكر، وينشأ عن ذلك الحط
من كرامة المرأة؛ لهذا أخذ غاندي ينشر شكوى الهنديات من الحالة السيئة
التي يجعلهن فيها وطنيو الهنود،
٢٢ وهو يؤيد هذه الشكايات قائلًا: إن هذه قرحة في الهند وخيمة
كمبدأ النجاسة، لكنه يستدرك بقوله: إن العالم بأسره مصاب بها وإن
المشكلة كونية عامة، وهو يرجو مثل رجائه في قضية الباريا، أن يصدر
الإصلاح من المضطهَدين لا من المضطهِدين، فهو يخاطب النساء سائلًا
إياهن أن يُلزمن الرجال باحترامهن أولًا، وذلك بأن يكففن عن اعتبار
أنفسهن موضع شهوة الرجل. ليشتركن بعزم في الحياة العامة، وليقدمن على
مكارهها وأخطارها. ليس حسبنا أن يكف النساء عن بذخهن وأن يطَّرحن
الأنسجة الأجنبية ويحرقنها، بل ينبغي أيضًا أن يشاطرن الرجال كل
متاعبهم. لقد أُلقي نسوة من الأشراف في غيابة السجن بكلكتا: هذا خير!
ليتحاشين المطالبة بمعاملة خاصة، وليُظهرن كالرجل صبرًا على مكاره
الحياة وحسن احتمالٍ لشظف العيش. بوسع المرأة أن تبذَّ الرجل في هذه
السبيل. لا يخشَ النساء شيئًا، فإن أضعفهن قادرة على حفظ شرفها: بحسبها
أن توطن نفسها على الموت!
ولم ينسَ غاندي «أخواتنا الساقطات»
٢٣ فهو يروي الأحاديث التي دارت بينه وبينهن في مجالس مؤلفة
من مئات منهن في ولاية أنضرا وفي باريسال، وكان يحدثهن بكرم نفس غير
مصطنع، ويحدثنه ويساررنه ويسألنه نصحًا. هو يبحث لهن عن مهنة شريفة
ويقترح عليهن المغزل، وهن يعدنه بالانصراف إليه غدًا إذا مُدت إليهن يد
المعونة. ثم إن غاندي يخاطب رجال الهند مذكرًا إياهم بوجوب احترام
المرأة قائلًا: «إن هذا الأسلوب في اللهو بالرذيلة لا موضع له في
ثورتنا، معنى السواراج هو أننا نعتبر سكان الهند كافة أخوة وأخوات …
الاحترام واجب لهم جميعًا. ليس جنس النساء بالجنس الضعيف، بل هو أشرف
الجنسَين بما فيه من قوة على تضحية النفس واحتمال العذاب والضراعة
والإيمان والمعرفة. كثيرًا ما فاق حدس المرأة ادعاء الرجل علمًا
فائقًا.»
ولقي غاندي من الهنديات، بدءًا بامرأته، معونة لبيبة، وكان أفضل
مريديه من النساء.