الفصل الثالث

بلغ سؤدد غاندي الذروة سنة ١٩٢١، فكان له سلطان معنوي كبير، وأُعطي ولم يطلب، قوةً سياسية تكاد تكون غير محدودة، فالشعب يعتقد أنه من الأولياء، وقد مثَّلوه في صورة «شري كرشنا».١ وفي ديسمبر ١٩٢١ خلع عليه مؤتمر جميع الهند الوطني السلطة الكاملة الشاملة وفوَّض إليه كل الشئون، وترك له الخيار في تعيين خلفه. هو زعيم الأمة الهندية بلا منازع، إن شاء أطلق الثورة من عقالها، وإن شاء وضع الأسس لإصلاح ديني.

لكنه لم يفعل ولم يُرِد ذلك، أكِبر نفسٍ أم خشيةٌ وإحجام؟ ربما كلاهما، من الصعب على المرء (سيما إذا كان ابن مدنية غريبة) أن ينفذ إلى ضمير عميق دقيق بهذا المقدار، كضمير غاندي، ومن الصعب أن نحكم حكمًا صحيحًا هل كانت يد النوتي، في خضم الحوادث التي تدافعت الهند في تلك السنة المائجة، أبدًا ثابتة، فقادت السفينة العظيمة، دون أن تحيد أو تضطرب؟ ولكن سأجتهد لبيان ما استطعت أن أعرفه من هذا اللغز الحي، بالإجلال الديني الذي في نفسي نحو ذلك الرجل العظيم، وبالصدق الواجب عليَّ لصدقه وإخلاصه.

إذا كان سلطان غاندي كبيرًا، فإن مخاطر استعمال هذا السلطان ليست أقل شأنًا. لقد اتسع نطاق العمل السياسي وأصبح يحرك مئات الملايين من الخلق؛ لذلك كانت قيادته وحفظ التوازن في عباب ذلك البحر الزاخر يزدادان صعوبة. مشكلةٌ تجاوز طاقة البشر: أن توفق بين اعتدال الفكر وسعة النظر، وبين هذه الجموع المطلقة القياد. إن النوتي التقي الحليم يصلي ويتوكل على الله، لكن الصوت الذي يسمعه يصل إليه ممزوجًا بصخب العاصفة، ثم هل يبلغ ذلك الصوت أسماع الآخرين؟

لا أحد أقل تعرضًا من غاندي لخطر الكبرياء، فما كان لعبادة العامة إياه أن تضيع رشده، بل إنها كانت تجرح ضراعته كما تسيء إلى إدراكه الصحيح. هو مثال فذ في تاريخ الأنبياء وكبار المتصوفين من جهة أنه ليس له رؤى، ولا وحي يُوحى، وأنه لا يحاول اعتقاد ذلك ولا جعل الناس يعتقدونه، فلله هذا الصدق النزيه! لقد ظل رأسه بلا سُكْر، وقلبه بلا غرور. كان ولم يزل رجلًا مثل كل الرجال، لا، لا تلقبوه بالقديس أو الولي. إنه لا يريد ذلك (وهو بهذا ولي حقًّا)، قال غاندي: «يجب أن نضرب على كلمة «قديس» وأن نمحوها من الحياة الحاضرة. أنا أصلي مثل كل هندوسي صالح، وأعتقد أننا قادرون جميعًا على أن نصبح من رسل الله، ولكن لم أؤتَ وحيًا خاصًّا من عند الله. أنا على يقين من أن الله يتجلى لكل إنسان، لكننا نسد آذاننا فلا نسمع ذلك الصوت الخفيت الباطن … لست إلا عاملًا حقيرًا وخادمًا وضيعًا للهند وللإنسانية، ولا أرغب قط في تأسيس فرقة دينية؛ لأني أطمح إلى أسمى من هذا. لست أدعو إلى حقائق جديدة، بل إني أعمل على إظهار الحقيقة كما أعرفها وعليَّ اتِّباعها. إني أرسل نورًا جديدًا على كثير من الحقائق القديمة.»٢
إذًا هو في نظر ذاته وضيع الجانب، شديد الاحتراس، عاجزٌ عن كل حصر أو استئثار، سواء بصفته وطنيًّا هنديًّا أم بصفته داعية اللامعاونة، لا يقر ظلمًا ولو في سبيل القضية العادلة: «لا ينبغي لنا أن نستبدل رق الحكومة برق دعاة اللامعاونة.»٣ ولا يرضى كذلك أن يعارض بوطنه سائر الأوطان؛ لأن وطنيته ليست محصورة بين حدود الهند: «الوطنية والإنسانية واحدٌ في نظري. أنا وطني لأني إنسان، لست متعصبًا ولن أسيء إلى إنكلترة أو إلى ألمانية لأنفع الهند، ليس لروح التغلب موضع في خطة حياتي … إن الوطني يبعد عن الوطنية بقدر ما يضعف حبه للإنسانية.»٤

ولكن هل كان لأتباعه أبدًا مثل هذا الاعتدال؟ كيف يكون مذهبه في أيدي بعضهم؟ وماذا يصل منه إلى العامة بوساطتهم؟

لما عاد رابندرانات تاغور إلى الهند في أغسطس ١٩٢١ بعد رحلة في أوروبة دامت بضع سنين، أقلقه التبديل الذي شهده في أفكار الهنود، لكن قلقه لم ينتظر العودة كي يظهر للناس، فقد أعرب عنه في سلسلة من الرسائل يخاطب بها من أوروبة أصدقاءه الهنود، ونُشر كثير منها في مجلته Modern Review،٥ ومن الواجب أن نقف عند هذا الخلاف القائم بين مفكرَين جليلَين يحترم كلٌّ منهما الآخر ويُعجب به، لكنهما مفترقان حتمًا بقدر ما يفترق حكيم مثل أفلاطون عن حواري كالقديس بولس. هنا ملاك الإيمان والرحمة الذي يريد أن يكون خميرة إنسانية جديدة، وهناك ملاك العقل الحر الرحب المطمئن الذي يريد أن يضم في صدره مظاهر الوجود كلها.

ما فتئ تاغور مصدقًا بقداسة غاندي، وقد سمعته يحدثني عنه بإجلال كبير، فلما ذكرت تولستوي في عرض الحديث عن المهاتما، أظهر تاغور أن غاندي أقرب إليه من تولستوي، وأكثر نورانية (وهو رأيي اليوم إذ أصبحت أَعرَف به من قبلُ)؛ لأن كل ما في غاندي فطرة ساذجة متضعة طهورة، والطمأنينة تكسو النزاع الذي قد ينشب في باطنه، على أن كل ما في تولستوي ثورة كبرياء على الكبرياء، وغضب على الغضب، وهوًى على الهوى، بل إن جماع نفسه العنف، حتى في اللاعنف. كتب تاغور من لندن في ١٠ أبريل ١٩٢١: «نحن مدينون لغاندي بأنه منح الهند فرصة تبرهن فيها على أن إيمانها بالروح الإلهي في الإنسان لا يزال حيًّا.» وهو رغم اعتراضه على نواحي من حركة غاندي، يُظهر إذ غادر فرنسة عائدًا إلى وطنه، استعداده لمساعدته، بل إن البيان الساطع الذي نشره في أكتوبر ١٩٢١ (سأنقله فيما بعد) بعنوان «نداء الحقيقة»، وفيه إثبات القطيعة بين الرجلَين، مستهلٌّ بأعظم مديح مُدح غاندي به.

وغاندي كذلك يعرب عن احترامه الودي لتاغور، ويحاول جهده أن لا يحيد في خلافه معه عن هذا الاحترام قيد شعرة. وإن القارئ لَيشعر بأن غاندي يعاني نصبًا كلما اضطر إلى مجادلته، وحينما كان يعمل بعض أصدقائه الأخيار على إذكاء نار الخلاف بنقل بعض الأحاديث الخاصة، كان غاندي يلزمهم الصمت مؤكدًا ما هو مدينٌ به لتاغور.٦

ولكن كان حتمًا أن يبدو ما بين فكرَيهما من خلاف، ومنذ صيف ١٩٢٠ رأينا تاغور يُعرِب عن أسفه على أن قوة الحب والإيمان التي يفيض بها قلب غاندي قد جُعلت بعد موت طيلاق في خدمة السياسة، ومن الثابت أن غاندي لم يوطن نفسه على ذلك الأمر بطيب خاطر، لكن طيلاق مات فأصبحت الهند بلا زعيم سياسي، فوجب أن يخلفه.

قال غاندي إذ عقد النية على ذلك: «إذا ظهر أني أشتغل بالسياسة فهو لأن السياسة تلتف علينا اليوم التفاف الأفعى، ولا سبيل مهما صنعنا إلى التملص منها. أريد إذًا أن أحارب الأفعى … إني أعمل على إدخال الدين في السياسة.»٧
لكن تاغور يبدي أسفه لهذه الضرورة، قال في ديسمبر ١٩٢٠: «إن القوة المعنوية التي تمثلها سيرة مهاتما غاندي، والتي يستطيع هو وحده أن يمثلها، دون الناس جميعًا، واجبة لنا، فأما أن يُجعل مثل هذا الكنز الثمين في سفينة سياستنا الواهية ويقذف بها في أمواج غير متناهية من الشكاوى المستشيطة؛ فهي إذًا مصيبة جسيمة تنزل بوطننا الذي لا مهمة له إلا أن يبعث الموتى بضرام الروح. إن التفريط في ثروتنا الروحية من أجل مغامرات هي من وجهة الحقيقة المعنوية سيئة، لمدعاة إلى الحزن الشديد، من الجناية أن تُحوَّل القوة المعنوية إلى قوة عمياء.»٨
وقد أملى عليه هذه الأسطر حملة اللامعاونة والاضطراب الذي أثار الهند باسم الخلافة وفظائع البنجاب، كان يخشى عواقبها في شعب ضعيفٍ قابل لعوارض غضب هستيري، فهو يود لو تُصرف الأمة الهندية عن فكرة الانتقام أو المطالبة بتعويض مستحيل، وتنسى ما فات، ثم لا تفكر إلا في إيجاد روح الوطن الأكبر. وبقدر ما يُعجَب تاغور بما في صدر غاندي وعمله من روح التضحية (هذا ما يقوله في رسالة ٢ مارس ١٩٢١ التي سأنقلها بعد حين)، فهو يستنكر عنصر النفي الذي تضمنته العقيدة الجديدة؛ اللامعاونة. إن تاغور يكره كل ما فيه كلمة «لا»، وهي فرصة سانحة للمقابلة٩ بين روح الإثبات في البرهمية القائمة على تطهير مسرات الحياة، وبين روح النفي في البوذية القائمة على الزهد فيها. ويدفع غاندي١٠ هذا الرأي بقوله إنه قد لا يكون الرفض أقل وجوبًا من القبول، وإن الجهد البشري يتألَّف من كلَيهما على السواء. إن الكلمة التي خُتمت بها الأوبانشادا كلمة نفي، وتعريف البرهمي عند واضعي هذا الكتاب هو «نيتي» أي «ليس هذا». لقد خسرت الهند القدرة على أن تقول «لا»، فغاندي يُرجع إليها هذه القدرة، «قبل أن تطرح الحَبَّ يجب أن تنزع العشب الضار، وأن تجتثَّ الشر من أصوله.»
ولا مِراء في أن تاغور لا يريد اجتثاث شيء. إن تأمله الشعري يتسع لكل ما هو كائن، وهو ينعم بما في الوجود من نظام وانسجام، ولقد رأيناه يُعرب عن هذا في صفحات عبقرية الجمال، لكنها بالغة الغاية في التجرد عن كل عمل. هي رقصة «ناتاراجا» التي تلاعِب الأخيلة والأوهام: «إني مفرغ جهدي لأوفِّق بين تفكيري وبين هذه الحماسة العظيمة البالغة حدَّها الأقصى، التي تطمو الآن على وطني، ولكن من أين فيَّ هذا الروح، روح المقاوَمة، رغم رغبتي الأكيدة في صرفه؟ لا أجد جوابًا صريحًا لهذا السؤال، ولكن هنا، في ظلمات قنوطي، ابتسامة يذرُّ نورها وصوت يقول لي: «إن مكانك هو مع الأولاد، على ساحل العوالم … هنالك طمأنينتك، وهنالك أكون بقربك.» لهذا أنا منذ حين ألهو باختراع أنغام جديدة وليست هذه الأنغام إلا هناتٍ جذلةً بأن تجري مع مر الساعات، ترقص تحت أشعة الشمس، ثم تغيب ضاحكة. ولكن بينما أنا ألهو إذ بالخليقة كلها في نعيم. وهل أوراق الشجر وأزهارها إلا تجارب أنغام لن تنقطع أبدًا؟! أليس إلهي هو العابث الأزلي بالأزمنة؟ إنه يقذف بالنجوم والسيارات في خضم التحولات، ويطرح الأعصر كسفائن من ورق ملأها بخطراته، وحينما أُقلق باله وأتوسل إليه أن يجعلني تلميذه الصغير وأن يقبل بعض الهنات التي من صنعي حمولةً في سفينة لهوه، يبتسم لي فأجري خلفه آخذًا بطرف ردائه، ولكن أين أنا وسط هذه الجماهير، مدفوعًا من وراء، مشدودًا من كل ناحية؟ وما هذا الضجيج المحيط بي؟ إن يكن نشيدًا فإن قيثارتي قادرة على أن تأخذ النغم، ثم أنضمُّ إلى الجوقة لأني من المغنين. أما إذا كان ضجيجًا فحسب، فإن صوتي لن يُسمع، وأنا غائب الرشد. لقد اجتهدت كل هذه الأيام، مرهفًا أذني؛ لأتبين ثمة نشيدًا، لكن فكرة اللامعاونة بحجمها الضخم الطنان وخطرها المتكاثف وصراخها بالنفي لا تغنيني بشيء قط؛ لهذا قلت لنفسي: «إذا كنت غير قادر على أن تماشي أبناء وطنك، خاطيًا خطاهم في هذه الأزمة الكبرى من تاريخ بلادك، فحذارِ أن تقول إنهم ضالون وإنك على هدًى، ولكن دعْ وظيفتك كجندي، وارجع إلى زاوية الشاعر، وتأهب لقبول هُزء العامة وسخطها.»١١

هذا ما كان يقوله غوتي — لو كان غوتي هنديًّا — ويلوح أن في هذا الكفاية: إن الشاعر يستأذن بالانصراف من العمل الذي ينفي ثم يلوذ بسحر الابتكار، لكن تاغور لم يقف عند هذا الحد، فإن القدر، كما يقول: «اختاره ليدفع سفينته في جهة مضادة للتيار.» ليس بالشاعر فقط بل هو يومذاك سفير آسية إلى أوروبة، السفير الروحاني، وقد جاء يسأل أوروبة عونًا على تحقيق الجامعة الكونية العامة التي يريد تأسيسها في صانتينكتان.

«يا لهُزء القدر! بينما أنا هنا، على هذا الساحل من الأقيانوس، أدعو إلى تعاون الثقافات بين الغرب والشرق، إذا بهم يدعون، على الساحل الآخر، إلى اللامعاونة.»١٢
كانت اللامعاونة تجرحه مباشرة في العمل الذي فرضه على نفسه وفي ثقته بالفكر الإنساني: «أنا مؤمن بالاتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب.»١٣
وكانت تجرحه في مداركه التي وسعت ثقافات الدنيا جميعًا: «كل مفاخر البشرية مفاخر لي … إن ذات الإنسان اللامتناهية (كما ورد في الأوبانشادا) لن تتحقق إلا في الوئام الأسمى بين الشعوب الإنسانية كافة … ودعائي هو أن تمثل الهند تعاون أمم العالم جميعًا. في نظر الهند الوحدة هي الحقيقة والانقسام هو الضلال. الوحدة هي ما يشتمل على كل شيء، فلا يمكن إذًا الوصول إليها عن طريق النفي والإنكار. إن ما يُبذل اليوم من جهود لفصل روحنا عن الروح الغربي هو بمثابة انتحار أدبي … إن الزمن الحاضر لفي سلطان الغرب، ولم يكن هذا في الإمكان، إلا لأنه أُلقيت إلى الغرب مهمة عظيمة لمصلحة الإنسان، فعلينا نحن أبناءَ الشرق أن نتعلم منه. لا شك في أن من الشر إهمالنا ثقافتنا القومية من زمن بعيد، وجعلنا الثقافة الغربية في غير موضعها الحق … أما القول بأن من الشر أيضًا بقاءنا على اتصال بها فهو تشجيع لأحط مظاهر التعصب الإقليمي الذي لا يُنتج إلا فقر المدارك. مشكلة العصر الحاضر مشكلة كونية عامة، فلن تستطيع أمة أن تنجو وحدها بالافتراق عن سائر الأمم، إما أن ننجو جميعًا، وإما أن نهلك جميعًا.»١٤
وكما أن غوتي لم يسلِّم سنة ١٨١٣ بوجوب كره المدنية الإفرنسية، فكذلك لا يقدر تاغور على التسليم بوجوب إلغاء المدنية الغربية. هو يعلم أن غاندي لا يرمي إلى ذلك أصلًا، لكن ثورة الأهواء القومية في الهند ستجعل لأقواله هذه الدلالة الفاسدة، وهو يخاف غائلة هذه البربرية الروحية: «إلامَ يتقدَّم الطلاب بقربان تضحيتهم؟ إنهم لا يتقربون بها إلى تربية أكمل بل إلى اللاتربية. أذكر أن نفرًا من الطلاب أثناء حركة السوادشي الأولى دخلوا عليَّ وقالوا لي: إذا أوصيتنا بترك مدارسنا وكلياتنا عملنا بنصحك دون تردد. فرفضت ذاك بشدة، وذهبوا ساخطين وهم في ريب من صِدق محبتي لوطني.»١٥
ففي تلك الأيام من ربيع ١٩٢١ إذ بلغ تاغور أن أبناء وطنه يقاطعون في الهند المدارس الإنكليزية، واغتم لهذا النبأ. شهد أيضًا في لندن مثالًا من ذلك التعصب الفكري، فإن فريقًا من الطلاب الهنود قاموا بتظاهرات شائنة خلال محاضرة كان يلقيها أستاذ إنكليزي من أصدقائه يُدعى برصن، فأغضب تاغور هذا العمل وكتب إلى مدير صانتينكتان كتابًا يعيب فيه هذا التعصب ويحمل حركة اللامعاونة تبعته، فرد عليه غاندي١٦ منتقدًا التربية الأدبية الأوروبية التي لا تُعنى بتربية الخُلق والتي يتهمها بنزع صفة الرجولة عن الشبيبة الهندية، لكنه يستنكر فظاظة أولئك الطلاب ويحتج بحرية فكره وسعة صدره: «لا يهمني أن يكون بيتي محصورًا من كل ناحية ونوافذي مسدودة، بل يهمني أن تهب ريح الثقافات من كل البلاد وتجول طليقة بين جدران داري، ولكن لا أريد أن أُمَكِّن هذه الريح من حملي إلى حيث تشاء، ليس ديني دين سجن، فإن فيه موضعًا لأحقر خلق الله، لكنه مغلق دون جبروت الجنس والدين واللون.»

هذا كلام شريف لكنه لا يطمئن نفس تاغور. إن تاغور يثق كل الثقة في غاندي، لكن خوفه من الغانديين، فهو لم يكد يخطو إثر عودته في أغسطس ١٩٢١ خطاه الأولى في الهند حتى ضاق صدره بإيمان الهنود الأعمى بتوكيدات الإمام جميعًا. وقد هاله هذا المظهر من مظاهر الاستبداد الروحي وما فيه من شر قريب، فنشر في أول أكتوبر بيانًا في «المجلة الحديثة» عنوانه «نداء الحقيقة» ينعى به ما يدعوه «ذهنية الأرقاء»، ومما يزيد هذا الاحتجاج قوة أنه مستهل بمدحة سنية لشخص المهاتما، فبعد أن ذكَّر تاغور بفواتح الحركة الاستقلالية في الهند سنة ١٩٠٧-١٩٠٨ قال: إن نظر زعماء السياسة الهندية كان لا يزال كتبيًّا صرفًا، وإنهم كانوا يستوحون أخيلة بورك وغلادستون ومازيني وغاريبالدي، وإنهم عجزوا عن مجاوزة الحد الذي بلغته عهدئذٍ الصفوة المفكرة التي تتكلم الإنكليزية: «في ذلك الحين جاء مهاتما غاندي، فوقف على عتبة كوخ الألوف من البائسين، لابسًا مثل لباسهم، وخاطبهم بلسانهم. هناك كانت الحقيقة لا في شاهدٍ من كتاب، وهكذا فإن اسم المهاتما الذي أُطلق عليه هو اسمه حقًّا، من الذي شعر غيره بأن أبناء الهند كافة هم من لحمه ودمه؟ إن القوى الروحية المقهورة، إذ لامست الحقيقة، تجلَّت للعيان، ولما وقف الحب الصادق بباب الهند، فُتح الباب بمصراعَيه، لقد أيقظت الحقيقةُ الحقيقةَ، شرفًا للمهاتما الذي جعل قوة الحق مشهودة! كذلك كان أمر بوذا إذ جهر بحقيقة الرحمة نحو الأحياء جميعًا، تلك الحقيقة التي كانت ثمرة رياضته نفسه، فإن الهند يومذاك بُعثت في زهو شبيبتها وفاضت قوتها علومًا وفنونًا وغنًى حتى غمرت البوادي وما وراء البحار … لم يتوصل عمل تجاري أو حربي قط إلى مثل هذه النتيجة الجليلة. الحب وحده حق، وهو متى يمنح الحرية يجعلها في صميم نفوسنا.»

لكن هذا المديح ينقطع بغتة، وتتلوه الخيبة: «لقد طفت على البحار أنغامٌ من موسيقى هذه اليقظة العجيبة، يقظة الهند بفعل الحب، حتى وصلت إليَّ … فعلى رجاء أن أتنشق النسيم اللطيف، نسيم الحرية الجديدة، عدت إلى وطني جذل الفؤاد، لكنَّ ما وجدته لدى وصولي أغمَّني وأيأسني. وجدت البلاد رازحةً بجو ثقيل يضغط على صدرها. لا أدري أي عامل خارجي كان يحمل الناس جميعًا على أن يتكلموا بلهجة واحدة وأن يشدوا أنفسهم إلى رحًى واحدة. أينما كنت سمعت الناس يقولون إن العقل والثقافة يجب أن يُقفل عليهما، وإنه لم يبقَ لنا إلا التمسك بأذيال الطاعة العمياء، لله ما أهون سحق حرية الإنسان الباطنة باسم الحرية الظاهرة!»

هذا احتجاجٌ وقلقٌ نعرفهما. لقد كانا في كل زمان، وقد أسمعنا إياهما أصحاب العقول الحرة الآخرون من أبناء العالم القديم المشرف على الزوال إزاء العالم المسيحي الناشئ، وإنَّا لنشعر اليوم بقيام هذه المعارضة في أنفسنا كلما شهدنا هذه الأمواج البشرية تطمو بفعل المد الأعمى من عقيدة اجتماعية أو قومية. تلك ثورة النفس الحرة منذ الأزل على عصور الإيمان، الإيمان الذي أحدثته هي؛ لأن الإيمان حرية لا متناهية لحفنة من خيار الناس، ورِقٌّ للأمم التي تهتف له أو عبودة تُضاف إلى عبوداتها.

لكن لَوْم تاغور يرمي إلى أبعد من تعصب العامة، فهو يتخطَّى جماعات الناس السكارى بخمر الطاعة، ويصيب المهاتما. مهما تكن عظمة غاندي، أليست السلطة التي يحملها مما تنوء به قوى رجلٍ واحد؟ إن مثل قضية الهند لا يصح أن يُجعل في يدي زعيم فذٍّ، المهاتما هو إمام الحق والحب، ولا مراء في أن «عصا الذهب القادرة على إيقاظ وطننا ليبصر الحق ويعرف الحب ليست من الأمتعة التي يستطيع أي صائغ أن يصنعها … لكن تأسيس السواراج أمر عظيم جليل، وسبله شاقة بعيدة المدى. لا غنى لنا في هذا المشروع عن الحماسة والعاطفة، لكن البحث والروية ليسا أقل وجوبًا، يجب أن يتدبر الاقتصادي، وأن يصنع الصانع، وأن يربي المربي، وأن يحتال رجل الدولة، وبكلمة وجيزة يجب أن تُبذل قوى البلاد المعنوية في كل ناحية. يجب أن نبقي في كل موضع على روح البحث وأن نطلقه من كل القيود وأن نمهد له كل العقبات، لا ينبغي لنا أن ندع العقل يجبن بضغطنا عليه سرًّا أم علانية.»

فتاغور إذًا يستنجد بكل ما في الهند من قوًى حرة، حاثًّا إياها على التعاون: «في غاباتنا العريقة في القدم كان حكماؤنا، إذا جاءهم الوحي، يدعون إليهم كل باحث عن الحقيقة … لِمَهْ لا يرسل مثلَ هذا النداء حكيمُنا الذي يريد اليوم أن يقودنا في سبيل العمل؟»

لكن الحكيم غاندي لم يرسل غير هذا النداء، إلى كل رجلٍ وإلى الجميع: «اغزلوا وانسجوا!»

«أهذا هو نداء العصر الجديد إلى الخليقة الجديدة؟ إن يكن في الماكنات الكبيرة خطر على روح الغرب، أفليس في الماكنات الصغيرة خطر علينا أعظم وبالًا؟»

كذلك ليس حسبنا أن تتعاون قوى الأمة كافة، فيجب أيضًا أن تتعاون وقوى العالم جميعًا: «إن يقظة الهند متصلة بيقظة العالم … أيما أمة تحصر ذاتها في ذاتها فهي مضادة لروح العصر الجديد.» ويذكر تاغور — الذي قضى في أوروبة بضع سنين — الرجال الذين اجتمع بهم هناك، أولئك الأوروبيين الأخيار الذين أطلقوا نفوسهم من رق التعصب القومي وجعلوها خالصة لخدمة الإنسانية جمعاء، تلك الأقلية المضطهدة المؤلفة من أناس وطنهم الدنيا بأسرها، الذين يرفعهم تاغور إلى مقام السانياسين١٧ لأنهم حققوا في أنفسهم الوحدة الإنسانية.

«ونحن وحدنا نظل راضين بأن نسبِّح باسم النفي، ولا نفتأ نذكر غلطات الغير، ونسعى إلى تشييد السواراج على أسس من الأحقاد … إن الطائر متى يبعثه الفجر من مرقد، لا يستغرق طلب الغذاء يقظته كلها، فإن أجنحته تجيب دعوة السموات دون أن يصيبها كلال، وإن حلقه يرسل إلى النور الجديد أناشيد البهجة، كذلك الإنسانية الجديدة أرسلت دعوتها إلينا، فليجب فكرنا تلك الدعوة بلغته الخاصة … أول فرض علينا، عند الفجر، هو أن نذكر الواحد الأحد الكائن بلا تمييز بين طائفة وطائفة أو بين لون ولون، الذي يكفي بمختلف قواه حاجات كل طائفة وكل الطوائف. لنبتهل إلى الذي يهب الحكمة أن يوحِّدنا جميعًا، في روية وفهم صحيح!»

إن هذا الكلام الملوكي، بل القصيدة المشرقة التي قلما سمعت مثلها أمة من الأمم، لتعلو على كل الخلافات البشرية، وليس فيها موضع للانتقاد إلا من جهة أنها تعلو عليها أكثر مما ينبغي. إن تاغور مصيبٌ، في ذروة العصور، والشاعر المحلق (أو القُبَّرة التي لها عِظَم النَّسْر كما يُسمي «هيني» أحد كبار موسيقيينا) يغني على أطلال الأزمنة. إنه يحيا في الأبدية، لكن الحاضر ملحاح والساعة التي تمر تتطلَّب لأوجاعها تسكينًا عاجلًا، ناقصًا، لكنه تسكينٌ على كل حال. إن غاندي الذي تُعوِزه تحليقات تاغور (أو لعله زهد فيها ليعيش مع البائسين) يجد هنا مجالًا للرد واسعًا، وقد رد هذه المرة بأشد مما سبق له أن يرد، خلال هذا الجدال الشريف، ولم يؤخِّر جوابه، فظهرت مقالته في جريدة «الهند الجديدة» في ١٣ أكتوبر وهي مؤثرة جدًّا. إن غاندي يشكر إلى «الحارس الجليل» تحذيره الهند من مخاطر يذكرها، وهو متفق وإياه على وجوب حرية النظر: «ليس على امرئ أن يجعل عقله في حفظ أحد من الناس. إن التسليم الأعمى شرٌّ في الأغلب من خضوع المكره لسوط المستبد. قد يُرجى الخير في من استرقته القوة الغاشمة، ولكن لا رجاء في من استعبده الحب.»

إن تاغور حارس أمينٌ يحذِّر من اقتراب أعداء يُسمَّون: الإفراط في التعبد، والجمود، والتعصب، والجهل، لكن غاندي لا يسلم بصحة انتقادات تاغور. إن المهاتما يخاطب دومًا العقل، ولا يصح القول إن في الهند طاعة عمياء. إذا كانت الأمة قد اعتزمت استعمال المغزل فهي لم تعتزم ذلك إلا بعد تدبر طويلٍ جهيد. إن تاغور يحدِّث عن الصبر ويقنع بالأناشيد الجميلة، لكنها الحرب أُعلنت، فليضع الشاعر طنبوره جانبًا، له أن يغني بعد ذلك: «متى تشتعل النار في البيت، يحمل كل امرئٍ دلوه لإطفاء الحريق …»

«حينما أرى الذين حولي يموتون لأنهم لا يجدون قوتًا، فإن الهم الوحيد الذي يجوز لي هو أن أطعم المتضورين جوعًا … الهند بيت شبت فيه النار … الهند تموت جوعًا إذ لا عمل لديها يكفل لها القوت، لُكنا تموت جوعًا … هذه رابع مجاعة تصيب المقاطعات المنشقة … أوريسا تعاني آلام مجاعة مزمنة. إن الهند تزداد كل يوم عياء، ويكاد لا يجري دم في عروقها، فإذا لم نتدارك الأمر، فإنها ستتداعى ثم تنقض … إن الله لن يتجلى لشعب جائع لا عمل لديه، إلا في صورة العمل والطعام الموعود أجرًا على العمل. لقد خلق الله الإنسان ليكسب معاشه بعمله، وقال إن الذين يأكلون دون أن يعملوا هم لصوص … لنفكر في ملايين الناس الذين هم أحط من العجماوات والذين يوشكون أن يموتوا في المغزل. حياة هؤلاء الملايين المحتضرين، والجوع هو الذي يدفع الهند إلى المغزل … إن الشاعر يحيا لغده ويريدنا على الاقتداء به؛ فهو يمثل لأعيننا المأخوذة صورة الطيور الجميلة التي ترسل بكرة غناءها بالحمد، أو تحلق في الأجواء. ليست هذه الطيور خماصًا، فإن لها كل يوم رزقها، وهي تحلق محمولة على أجنحة مرتاحة تجدد دمها ليلًا، لكن نفسي عرفت الألم إذ رأيت طيورًا لا قوة فيها، فهي لا تجد رغبة حتى في تحريك أجنحتها قليلًا. إن الطير الإنساني، تحت سماء الهند، يستيقظ أضعف منه حين أوهم أنه يأخذ من الراحة حظه؛ لأن حياة ملايين من الخلق أَرَقٌ أبدي، أو سبات أبدي … رأيت أن من المستحيل تسكين آلام الجائعين بنشيد من أناشيد الشاعر «كبير» … أعطوهم عملًا يستطيعون به أن يجدوا ما يأكلون. أتسألون: ولكن علامَ أنت تنسج ولست مضطرًّا لأن تشتغل كي تعيش؟ ذلك أني آكل ما ليس لي وأعيش من سلب أبناء وطني. اقفوا أثر كل النقود التي تصل إلى جيوبكم تعرفوا صدق ما أقول. يجب أن تغزلوا، ليغزل كلٌّ منا! ليغزل تاغور مثل غيره! وليحرق ثيابه الأجنبية. هذا هو الواجب اليوم، إن الله يهتم بالغد، وكما ورد في «الجيتا»: اعمل العمل الحق!»

كلمات مظلمة فاجعة، ذلك هو البؤس الإنساني ينتصب قائمًا أمام رؤيا الفن ويصرخ في وجهه قائلًا: «اجرُؤْ على إنكاري!» من لا يفقه عاطفة غاندي المضطرمة، ومن لا يشاطره إياها؟

ومع ذلك فإن في هذا الرد الدال على أنفة النفس المتألمة ما يبرر بعض مخاوف تاغور: هي إذًا دعوة بلهجة الأمر إلى الخضوع لنظام الحرب. اعمل دون جدال بقانون السوادشي الذي ينص أول بنوده بأن على كل هندي، كل يوم، أن يستعمل المغزل.

لا مراء في أن النظام فرض لازِب في الجهاد الإنساني، لكن المصيبة هي أن المكلفين بإنفاذه، نعني أعوان الزعيم الأكبر، هم على الأغلب ضيقو الأفهام، يتوهمون ويوهمون أن ما ليس إلا واسطة لبلوغ الغاية هي الغاية أو المثل الأعلى. إن القاعدة تستهويهم بضيقها؛ لأنهم لا ينعمون إلا في السبل الضيقة، وهكذا أصبح السوادشي في نظر أعوان غاندي نصًّا جازمًا، واتخذ صفة القداسة، وقد نشر أحد كبار الأعوان أو المريدين، وهو د. ب. قالقار، من أساتذة تلك المدرسة الحبيبة إلى نفس غاندي: الصاتياغرا أشرام في سبرماتي (أحمد آباد) مؤلَّفه «إنجيل السوادشي» مستهلًّا بتصديق غاندي عليه وإجازته … وهذا الكتاب موضوع لجمهور العامة، فلننظر إذًا في العقائد التي يتلقاها الشعب عن أحد القائمين عند منبع المذهب الأصلي: «إن الله يتجلى، زمنًا بعد زمن، لفداء العالم … ولكن ليس تجليه في صورة البشر قاعدة ثابتة لا تتغير، فقد يتجلى أيضًا في صورة مبدأ مجرد أو رأي جليل ينفذان إلى صميم الكون … أما المجلى الجديد فهو إنجيل السوادشي.»

ويسلِّم صاحب هذا الإنجيل بأن هذا التوكيد حقيق بابتسام السخرية إذا لم يكن ثمة في السوادشي إلا دعوة إلى مقاطعة النسائج الأجنبية، لكن هذه المسألة الطفيفة ليست إلا تطبيقًا عمليًّا «لمبدأ ديني واسع يقصد به إنقاذ العالم بأسره من الشحناء وتحرير البشرية.» وخلاصته واردة في كتب الهند المقدسة، وإليكها: «إن عقيدتك الخاصة، وإن تكن خلوًا من المزايا، هي خير لك وأبقى. إن عملك بعقيدة ليست لك، محفوف أبدًا بالمخاطر، لا يعرف السعادة إلا الذي ينصرف بكليته إلى واجباته الخاصة به.»

والقاعدة الأساسية في السوادشي تقوم على الإيمان ﺑ «إله قد كفل للعالم أسباب السعادة إلى الأبد. إن هذا الإله جعل كل امرئ في البيئة التي توافقه لإنجاز عمله الخاص له، فينبغي أن تلتئم أعمال المرء جميعًا ومنزلته الخاصة في هذه الحياة الدنيا … وكما أنه لا خيار لنا في مولدنا وأسرتنا وموطننا، فكذلك لا خيار لنا في ثقافتنا. ليس لنا إلا الرضا بما قسم الله لنا، فيجب أن نرضى بتقاليدنا على أنها من عند الله، وأن نعمل وفقًا لها. إن جحودها لإثمٌ كبير.»

يُستدل من هذه النصوص الدينية أنه ليس لامرئ في وطنه أن يهتم لشئون البلاد الأخرى: «إن المؤمن بالسوادشي، الصحيح الإيمان، لا يأخذ على نفسه قط هذا العهد الباطل، وهو أن يصلح الكون؛ لاعتقاده أن الكون مدفوع، ولن يزال، في سنن سنها الله. وليس لنا أن نرجو من شعب أن يموِّن الشعوب الأخرى ويكفي حاجاتهم، ولو كان لعمل الخير أو حبًّا بالإنسانية. ثم إن يكن ذلك ممكنًا فهو غير مستحب … إن المؤمن بالسوادشي حقًّا وصدقًا لا ينسى أن كل إنسان أخوه، لكنه مسئول أولًا أن ينجز العمل الذي يقضي به مولده … وكما أننا مكلفون بخدمة الزمن الذي وُلدنا فيه، فكذلك نحن مكلفون بخدمة الوطن الذي وُلدنا فيه مهما يكلف ذلك … ينبغي أن نسعى إلى تحرير أنفسنا عن طريق دينننا الخاص وثقافتنا الخاصة.»

ولكن أيجوز، على الأقل، لأمة من الأمم، أن تنمي كل ما لديها من أسباب إلى التبسط، كالتجارة والصنائع؟ كلا ما أشنع الرغبة في إتحاف الهند بمعامل كبيرة! إذ بهذا نحمل أناسًا آخرين على مخالفة «دارما»١٨ هم الخاصة. ومن الجناية أن تُصدِّر أمة محاصيلها، كما أن من الجناية أن تستورد محاصيل غيرها من الأمم؛ لأن «الدعوة أو التبشير أمرٌ مكروه عند العاملين بالسوادشي». والنتيجة المنطقية من هذه القاعدة (نتيجة مفاجئة لكل أوروبي) هو: أنه لا ينبغي لشعب أن يصدر محاصيله ولا أفكاره. وإذا كانت الهند فيما مضى قد انحطت أيما انحطاط فهو تكفيرٌ عن ذنب الأسلاف الأولين الذين كانوا على اتصال بمصر ورومة، وهذا الذنب اقترفته جميع الأجيال التي استمرت على ضلالها ولم تعرف التوبة. على كل أمة، بل على كل طائفة أن تلزم خطة حياتها الخاصة وأن تعيش بمحاصيلها وتقاليدها الخاصة: «لنتحاشَ الاختلاط بالذين تختلف عاداتنا الاجتماعية عن عاداتهم … لا ينبغي لنا أن نربط حياتنا بحياة الأفراد أو الشعوب الذين لا يلتئم مثلهم الأعلى ومثلنا الأعلى … كل امرئ جدول ماء، وكل أمةٍ نهر، فيجب أن يسيل كلاهما في مسيله، صافيَين من غير دنس حتى يبلغا بحر النجاة، حيث تمتزج الأنهار والجداول جميعًا.»
هو إذًا فوز العصبية القومية بأصرح أنواعها وأضيقها: اقبع في عقر دارك، اقفل الأبواب كلها، لا تغير شيئًا، احتفظ بكل ما لديك، لا تبع «الخارج» شيئًا ولا تشترِ منه شيئًا، تطهَّر. هو إذًا إنجيل رهبان دير في القرون الوسطى،١٩ وغاندي صاحب القلب الكبير يأذن بأن يُوضع عليه اسمه!
هنا سر انفعال تاغور الشديد لمرأى أولئك المتهوسة، متهوسة القومية الرجعية، الذين يزعمون أنهم يومئون إلى العصور فتقف، وأنهم قادرون على حبس نزعات الفكر في قفص، وعلى قطع كل جسر يصل بين الهند والغرب.٢٠ والحق أن هذا لم يكن رأي غاندي، فقد كتب إلى تاغور يقول: «السوادشي رسالة إلى الناس كافة.» (فهو إذًا يحسب للإنسانية حسابًا ولا يكره الدعوة أو التبشير)، ويقول أيضًا: «ليس القصد باللامعاونة مناوأة الغرب، بل مناوأة المدنية المادية وما ينشأ عنها من استغلال الضعفاء.» (فهي إذًا لا تحارب إلا ضلالات الغرب وتعمل لمصلحة الغرب نفسه)، ثم يقول: «هو اعتزال في أنفسنا.» (لكنه اعتزال إلى حين؛ لاستجماع قوانا قبل جعلها في خدمة الإنسانية)، «ينبغي أن تتعلم الهند كيف تحيا قبل أن تتعلم كيف تموت في سبيل النوع البشري …» ولا يرفض غاندي قط معونة الأوروبيين، ولكن بشريطة أن يقبلوا أولًا المثل الأعلى المنجي الذي يعرضه على الناس كافة.
هذه حقيقة رأي غاندي، وهو أرحب جدًّا وأقرب إلى الروح الإنساني، بل الجامعة العالمية العامة،٢١ من الإنجيل الذي نُشر في ظله الظليل. إذًا فعلامَ أجازه؟ وكيف أمكن مريديه من حصر مثله الأعلى الأجل، الذي يُعرض على الدنيا بأسرها، في حدود ضيقة من تيوقراطية هندية؟ يا للتلامذة المخوفين! اللهم احفظ الرجل العظيم من هؤلاء الأصدقاء الذين لا يفقهون إلا شطرًا من مذهبه، فإذا دوَّنوه أفسدوا ما فيه من وحدة وتناسب، والوحدة رأس النعم التي تنعم بها علينا نفسه الحية.

وليس هذا كل ما في الأمر، فإن هؤلاء الذين يحيون على كثب من الإمام، نعني صحابته الأدنين، لن يزالوا موسومين بسمات روحه الشريف، ولكن ما قولك في صحابة صحابته، وتلامذة تلامذته؟ ثم ما ظنك بتلك الجماهير من العامة الذين لا يصل إليهم إلا أصداء مشوهة؟ ماذا يعون من مذهبه في تزكية النفس والتجرد البديع؟ يعون الصورة الظاهرة المادية: انتظارٌ (كانتظار المهدي) أن يحصل السواراج (الحكم الذاتي) بالمغزل. هو نكران كل ترقٍّ، وليس تاغور بمخطئ إذ يبدي اغتمامه لما يظهره من عنفٍ دعاةُ اللاعنف (وما غاندي نفسه بمنزه من ذلك) إزاء الأمتعة الغربية. لقد احتاط غاندي بقوله إنه «يخرج من ساحة الجهاد إذا آنس فيه بغضًا للإنكليز»، وإنه يجب أن نحب الذين تناوئهم ونكره ظلمهم وجورهم: «أبغض الشيطانية وأنت تحب الشيطان.» لكن هذا مما يَدِقُّ على أفهام العامة، وكلما كان زعماء الحركة يُذكِّرون في كل مؤتمر بفظائع الإنكليز وعدم وفائهم، وبمذابح البنجاب والخلافة، كانت الأحقاد تتجمع وراء السد، ويا للمصيبة إذا السد انفجر! ولما ترأس غاندي في أغسطس ١٩٢١ حريق الأنسجة الأجنبية ببمباي، رادًّا توسلات أندريوس، صديق تاغور، في مقالته «الهدم وقيمته الأخلاقية» كان يعتقد أنه بهذا «يصرف ضغينة الشعب عن الأناس إلى الأشياء.» لكنه لم يسمع الضغينة تقول في سرها: «أجل! الأشياء أولًا، والأناس بعد ذلك.» ولم يُقدِّر أن الشعب في هذا البلد نفسه (بمباي) بعد أقل من ثلاثة أشهر سيزهق نفوسًا. إن غاندي طاهرٌ قديس، خلوٌ من الشهوات الحيوانية الرابضة في صدر الإنسان، فهو لا يفكِّر بأنها هنا، تصغي إليه وتلقف أقواله، أما تاغور فكان أبصر بالعواقب، وقد بدت له غفلة دعاة اللامعاونة الذين كانوا لا يفتئُون يُذكِّرون العامة بسيئات أوروبة دون قصدٍ سيئ، داعين إلى اللاعنف، بينما هم في الحقيقة يُشربون روح الشعب سمَّ الحمَّى التي ستعقب حتمًا أشد العنف. لم يكن هذا ليخطر ببال هؤلاء الحواريين الذين لا يجدون أثرًا للعنف في قلوبهم، بيد أن من يقدم على عمل عام ينبغي له أن يصغي إلى قلوب الناس، لا إلى قلبه. حذارِ من الشعب! إن وصايا غاندي الأخلاقية لا تكفي لكبح جماحه، وقد لا يكون ثمة إلا وسيلة واحدة، بها يطيع العامة غير مترددين، هذا الإمام الهندي ويعملون بدستوره الصارم: أن يسلِّم بأنه إلهٌ كما يرجو في أقصى ضميرهم أولئك الذين يمثلونه في صورة «شري كرشنا». لكن صدْق غاندي وضِعته لا يأذنان بذلك.

إذًا فلم يبقَ إلا الصوت الفذ يرسله أطهر الناس نفسًا، فيعلو على زمجرة هذا الأقيانوس البشري. حتَّامَ يظل قادرًا على إسماع صوته؟ إنها لفترة عظيمة مفجعة!

١  يحتج غاندي على ذلك في «الهند الجديدة» يونيو ١٩٢١.
٢  ١٢ مايو ١٩٢٠ و٢٥ مايو و١٣ يوليو و٢٥ أغسطس ١٩٢١.
٣  ٨ ديسمبر ١٩٢٠.
٤  ١٦ مارس ١٩٢١.
٥  نُشرت رسائل ٢ و٥ و١٣ مارس ١٩٢١ في «المجلة الحديثة»، جزء مايو ١٩٢١، ونُشرت مقالة «نداء الحقيقة» التي كتبها تاغور بعد رجوعه إلى الهند في «المجلة الحديثة» في أول أكتوبر ١٩٢١.
وعدا هذا الجدال القلمي، نعرف أنه كان بين تاغور إثر عودته، وبين غاندي، اجتماع خاص لم ينقل أحدٌ ما دار خلاله من الأحاديث، لكن س. ف. أندريوس الذي شهد وحده ذلك الاجتماع تفضَّلَ بإطلاعنا على المواضيع التي دار حولها الجدل، وعلى الحجج التي أدلى بها كلٌّ من الرجلَين.
٦  تعارف تاغور وغاندي من عهدٍ بعيد، وقد حل غاندي أكثر من مرة ضيفًا على تاغور في صانتينكتان، ويقول غاندي إنه كان مأذونًا له أن يعتبر هذه الدار دار عزلة له، وفيها رُبي أولاده إذ كان غاندي في إنكلترة.
٧  ١٢ مايو ١٩٢٠.
٨  ثم قال: «كل الإجلال للمهاتما! لكن ساستنا لن يجدوا سبيلًا إلى عدم التفكير في تسخيره لمناورة خفية لبقة في لعبهم على رقعة الشطرنج.» ١ أكتوبر ١٩٢١.
٩  ٥ مارس ١٩٢١.
١٠  ١ يونيو ١٩٢١.
١١  ٥ مارس ١٩٢١.
١٢  ٥ مارس ١٩٢١.
١٣  ٥ مارس ١٩٢١.
١٤  ١٣ مارس ١٩٢١، ثم رجع إلى هذا الرأي وفصَّله في مقالته: «اتحاد الثقافات» في مجلته، نوفمبر ١٩٢١.
١٥  حركة الاستقلال الهندي الأولى التي نشأت سنة ١٩٠٧-١٩٠٨ عن تقسيم البنغال.
١٦  في مقالة «قلق الشاعر» أول يونيو ١٩٢١.
١٧  أي الذي انتهوا من حياتهم الشخصية ليُنعموا بالوحدة على الإنسانية.
١٨  أي معتقدهم والحالة التي قدرها الله لهم.
١٩  وإنك لتجد مع ذلك في مواضع مختلفة نصوصًا أخلاقية جديرة بالإعجاب، لا انتقام قط! «ما مضى فات. الماضي لا يُرد: لقد أصبح جزءًا من الأبد، وما لامرئ عليه من سلطان. لا تفكر بأن تثأر لنفسك جزاء المظالم والسيئات التي أصابتك في الماضي، ليدفن الماضي موتاه! ولنعمل في الحاضر الحي مسترشدين بقلبنا، مهتدين بالله.» إن لهذا الكتاب من فاتحته إلى خاتمته صفاء جبل من الثلج.
٢٠  ومما يجعل هذه الكتابات وأمثالها أبلغ في التأثير على تاغور أنه كانت بين أشرم غاندي (الذي نجم منه هذا الإنجيل) وبين صانتينكتان تاغور منافسة اجتهد الزعيمان كثيرًا لتحاشيها، ويُلاحظ هذا في مقالة نشرها غاندي في «الهند الجديدة» ٩ فبراير ١٩٢٢، مظهرًا استنكاره أقوالًا عن الأشرم عزاها إليه صحافي، يُشْتَمُّ منها الزراية على صانتينكتان، فهو يحتج مصرِّحًا عن إجلاله لدار تاغور العلمية، لكن في كلامه شيئًا من التنكيت الخفي: «لو اضْطُررت إلى المفاضلة بين المدرستَين لفضلت صانتينكتان، رغم رياضة الأشرم ونهوض ساكنيه باكرًا. إن صانتينكتان هو الابن البكر، وهو أكبر سنًّا من الأشرم وأكثر علمًا.» ثم يقول غامزًا: «ليحذر ساكنو صانتينكتان! إن الأشرم الصغير يعدو مسرعًا.»
٢١  ورأيي أن غاندي مثل تاغور في سعة مذهبه وشموله، ولكن على صورة أخرى، هو عالمي بوجدانه الأخلاقي، بينما تاغور عالمي بمداركه وذكائه. إن غاندي لا يُخرج أحدًا من مشاركة الصلاة والعمل اليومي، كذلك كان المسيح لا يفرق بين اليهود والوثنيين، ولكن يُلزمهم جميعًا رياضة أخلاقية واحدة، وهذا ما يتوخاه غاندي، وهنا ضيق دائرته، لا بالقلب، وقلبه رحب كقلب المسيح، بل بروح الزهد الفكري والتجرد المعنوي (كذلك كان أمر المسيح). إن غاندي عالمي من طراز القرون الوسطى، نحن نجلُّه، لكننا مع تاغور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤