الفصل الثالث
لكنه لم يفعل ولم يُرِد ذلك، أكِبر نفسٍ أم خشيةٌ وإحجام؟ ربما كلاهما، من الصعب على المرء (سيما إذا كان ابن مدنية غريبة) أن ينفذ إلى ضمير عميق دقيق بهذا المقدار، كضمير غاندي، ومن الصعب أن نحكم حكمًا صحيحًا هل كانت يد النوتي، في خضم الحوادث التي تدافعت الهند في تلك السنة المائجة، أبدًا ثابتة، فقادت السفينة العظيمة، دون أن تحيد أو تضطرب؟ ولكن سأجتهد لبيان ما استطعت أن أعرفه من هذا اللغز الحي، بالإجلال الديني الذي في نفسي نحو ذلك الرجل العظيم، وبالصدق الواجب عليَّ لصدقه وإخلاصه.
إذا كان سلطان غاندي كبيرًا، فإن مخاطر استعمال هذا السلطان ليست أقل شأنًا. لقد اتسع نطاق العمل السياسي وأصبح يحرك مئات الملايين من الخلق؛ لذلك كانت قيادته وحفظ التوازن في عباب ذلك البحر الزاخر يزدادان صعوبة. مشكلةٌ تجاوز طاقة البشر: أن توفق بين اعتدال الفكر وسعة النظر، وبين هذه الجموع المطلقة القياد. إن النوتي التقي الحليم يصلي ويتوكل على الله، لكن الصوت الذي يسمعه يصل إليه ممزوجًا بصخب العاصفة، ثم هل يبلغ ذلك الصوت أسماع الآخرين؟
ولكن هل كان لأتباعه أبدًا مثل هذا الاعتدال؟ كيف يكون مذهبه في أيدي بعضهم؟ وماذا يصل منه إلى العامة بوساطتهم؟
ما فتئ تاغور مصدقًا بقداسة غاندي، وقد سمعته يحدثني عنه بإجلال كبير، فلما ذكرت تولستوي في عرض الحديث عن المهاتما، أظهر تاغور أن غاندي أقرب إليه من تولستوي، وأكثر نورانية (وهو رأيي اليوم إذ أصبحت أَعرَف به من قبلُ)؛ لأن كل ما في غاندي فطرة ساذجة متضعة طهورة، والطمأنينة تكسو النزاع الذي قد ينشب في باطنه، على أن كل ما في تولستوي ثورة كبرياء على الكبرياء، وغضب على الغضب، وهوًى على الهوى، بل إن جماع نفسه العنف، حتى في اللاعنف. كتب تاغور من لندن في ١٠ أبريل ١٩٢١: «نحن مدينون لغاندي بأنه منح الهند فرصة تبرهن فيها على أن إيمانها بالروح الإلهي في الإنسان لا يزال حيًّا.» وهو رغم اعتراضه على نواحي من حركة غاندي، يُظهر إذ غادر فرنسة عائدًا إلى وطنه، استعداده لمساعدته، بل إن البيان الساطع الذي نشره في أكتوبر ١٩٢١ (سأنقله فيما بعد) بعنوان «نداء الحقيقة»، وفيه إثبات القطيعة بين الرجلَين، مستهلٌّ بأعظم مديح مُدح غاندي به.
ولكن كان حتمًا أن يبدو ما بين فكرَيهما من خلاف، ومنذ صيف ١٩٢٠ رأينا تاغور يُعرِب عن أسفه على أن قوة الحب والإيمان التي يفيض بها قلب غاندي قد جُعلت بعد موت طيلاق في خدمة السياسة، ومن الثابت أن غاندي لم يوطن نفسه على ذلك الأمر بطيب خاطر، لكن طيلاق مات فأصبحت الهند بلا زعيم سياسي، فوجب أن يخلفه.
هذا ما كان يقوله غوتي — لو كان غوتي هنديًّا — ويلوح أن في هذا الكفاية: إن الشاعر يستأذن بالانصراف من العمل الذي ينفي ثم يلوذ بسحر الابتكار، لكن تاغور لم يقف عند هذا الحد، فإن القدر، كما يقول: «اختاره ليدفع سفينته في جهة مضادة للتيار.» ليس بالشاعر فقط بل هو يومذاك سفير آسية إلى أوروبة، السفير الروحاني، وقد جاء يسأل أوروبة عونًا على تحقيق الجامعة الكونية العامة التي يريد تأسيسها في صانتينكتان.
هذا كلام شريف لكنه لا يطمئن نفس تاغور. إن تاغور يثق كل الثقة في غاندي، لكن خوفه من الغانديين، فهو لم يكد يخطو إثر عودته في أغسطس ١٩٢١ خطاه الأولى في الهند حتى ضاق صدره بإيمان الهنود الأعمى بتوكيدات الإمام جميعًا. وقد هاله هذا المظهر من مظاهر الاستبداد الروحي وما فيه من شر قريب، فنشر في أول أكتوبر بيانًا في «المجلة الحديثة» عنوانه «نداء الحقيقة» ينعى به ما يدعوه «ذهنية الأرقاء»، ومما يزيد هذا الاحتجاج قوة أنه مستهل بمدحة سنية لشخص المهاتما، فبعد أن ذكَّر تاغور بفواتح الحركة الاستقلالية في الهند سنة ١٩٠٧-١٩٠٨ قال: إن نظر زعماء السياسة الهندية كان لا يزال كتبيًّا صرفًا، وإنهم كانوا يستوحون أخيلة بورك وغلادستون ومازيني وغاريبالدي، وإنهم عجزوا عن مجاوزة الحد الذي بلغته عهدئذٍ الصفوة المفكرة التي تتكلم الإنكليزية: «في ذلك الحين جاء مهاتما غاندي، فوقف على عتبة كوخ الألوف من البائسين، لابسًا مثل لباسهم، وخاطبهم بلسانهم. هناك كانت الحقيقة لا في شاهدٍ من كتاب، وهكذا فإن اسم المهاتما الذي أُطلق عليه هو اسمه حقًّا، من الذي شعر غيره بأن أبناء الهند كافة هم من لحمه ودمه؟ إن القوى الروحية المقهورة، إذ لامست الحقيقة، تجلَّت للعيان، ولما وقف الحب الصادق بباب الهند، فُتح الباب بمصراعَيه، لقد أيقظت الحقيقةُ الحقيقةَ، شرفًا للمهاتما الذي جعل قوة الحق مشهودة! كذلك كان أمر بوذا إذ جهر بحقيقة الرحمة نحو الأحياء جميعًا، تلك الحقيقة التي كانت ثمرة رياضته نفسه، فإن الهند يومذاك بُعثت في زهو شبيبتها وفاضت قوتها علومًا وفنونًا وغنًى حتى غمرت البوادي وما وراء البحار … لم يتوصل عمل تجاري أو حربي قط إلى مثل هذه النتيجة الجليلة. الحب وحده حق، وهو متى يمنح الحرية يجعلها في صميم نفوسنا.»
لكن هذا المديح ينقطع بغتة، وتتلوه الخيبة: «لقد طفت على البحار أنغامٌ من موسيقى هذه اليقظة العجيبة، يقظة الهند بفعل الحب، حتى وصلت إليَّ … فعلى رجاء أن أتنشق النسيم اللطيف، نسيم الحرية الجديدة، عدت إلى وطني جذل الفؤاد، لكنَّ ما وجدته لدى وصولي أغمَّني وأيأسني. وجدت البلاد رازحةً بجو ثقيل يضغط على صدرها. لا أدري أي عامل خارجي كان يحمل الناس جميعًا على أن يتكلموا بلهجة واحدة وأن يشدوا أنفسهم إلى رحًى واحدة. أينما كنت سمعت الناس يقولون إن العقل والثقافة يجب أن يُقفل عليهما، وإنه لم يبقَ لنا إلا التمسك بأذيال الطاعة العمياء، لله ما أهون سحق حرية الإنسان الباطنة باسم الحرية الظاهرة!»
هذا احتجاجٌ وقلقٌ نعرفهما. لقد كانا في كل زمان، وقد أسمعنا إياهما أصحاب العقول الحرة الآخرون من أبناء العالم القديم المشرف على الزوال إزاء العالم المسيحي الناشئ، وإنَّا لنشعر اليوم بقيام هذه المعارضة في أنفسنا كلما شهدنا هذه الأمواج البشرية تطمو بفعل المد الأعمى من عقيدة اجتماعية أو قومية. تلك ثورة النفس الحرة منذ الأزل على عصور الإيمان، الإيمان الذي أحدثته هي؛ لأن الإيمان حرية لا متناهية لحفنة من خيار الناس، ورِقٌّ للأمم التي تهتف له أو عبودة تُضاف إلى عبوداتها.
لكن لَوْم تاغور يرمي إلى أبعد من تعصب العامة، فهو يتخطَّى جماعات الناس السكارى بخمر الطاعة، ويصيب المهاتما. مهما تكن عظمة غاندي، أليست السلطة التي يحملها مما تنوء به قوى رجلٍ واحد؟ إن مثل قضية الهند لا يصح أن يُجعل في يدي زعيم فذٍّ، المهاتما هو إمام الحق والحب، ولا مراء في أن «عصا الذهب القادرة على إيقاظ وطننا ليبصر الحق ويعرف الحب ليست من الأمتعة التي يستطيع أي صائغ أن يصنعها … لكن تأسيس السواراج أمر عظيم جليل، وسبله شاقة بعيدة المدى. لا غنى لنا في هذا المشروع عن الحماسة والعاطفة، لكن البحث والروية ليسا أقل وجوبًا، يجب أن يتدبر الاقتصادي، وأن يصنع الصانع، وأن يربي المربي، وأن يحتال رجل الدولة، وبكلمة وجيزة يجب أن تُبذل قوى البلاد المعنوية في كل ناحية. يجب أن نبقي في كل موضع على روح البحث وأن نطلقه من كل القيود وأن نمهد له كل العقبات، لا ينبغي لنا أن ندع العقل يجبن بضغطنا عليه سرًّا أم علانية.»
فتاغور إذًا يستنجد بكل ما في الهند من قوًى حرة، حاثًّا إياها على التعاون: «في غاباتنا العريقة في القدم كان حكماؤنا، إذا جاءهم الوحي، يدعون إليهم كل باحث عن الحقيقة … لِمَهْ لا يرسل مثلَ هذا النداء حكيمُنا الذي يريد اليوم أن يقودنا في سبيل العمل؟»
لكن الحكيم غاندي لم يرسل غير هذا النداء، إلى كل رجلٍ وإلى الجميع: «اغزلوا وانسجوا!»
«أهذا هو نداء العصر الجديد إلى الخليقة الجديدة؟ إن يكن في الماكنات الكبيرة خطر على روح الغرب، أفليس في الماكنات الصغيرة خطر علينا أعظم وبالًا؟»
«ونحن وحدنا نظل راضين بأن نسبِّح باسم النفي، ولا نفتأ نذكر غلطات الغير، ونسعى إلى تشييد السواراج على أسس من الأحقاد … إن الطائر متى يبعثه الفجر من مرقد، لا يستغرق طلب الغذاء يقظته كلها، فإن أجنحته تجيب دعوة السموات دون أن يصيبها كلال، وإن حلقه يرسل إلى النور الجديد أناشيد البهجة، كذلك الإنسانية الجديدة أرسلت دعوتها إلينا، فليجب فكرنا تلك الدعوة بلغته الخاصة … أول فرض علينا، عند الفجر، هو أن نذكر الواحد الأحد الكائن بلا تمييز بين طائفة وطائفة أو بين لون ولون، الذي يكفي بمختلف قواه حاجات كل طائفة وكل الطوائف. لنبتهل إلى الذي يهب الحكمة أن يوحِّدنا جميعًا، في روية وفهم صحيح!»
إن هذا الكلام الملوكي، بل القصيدة المشرقة التي قلما سمعت مثلها أمة من الأمم، لتعلو على كل الخلافات البشرية، وليس فيها موضع للانتقاد إلا من جهة أنها تعلو عليها أكثر مما ينبغي. إن تاغور مصيبٌ، في ذروة العصور، والشاعر المحلق (أو القُبَّرة التي لها عِظَم النَّسْر كما يُسمي «هيني» أحد كبار موسيقيينا) يغني على أطلال الأزمنة. إنه يحيا في الأبدية، لكن الحاضر ملحاح والساعة التي تمر تتطلَّب لأوجاعها تسكينًا عاجلًا، ناقصًا، لكنه تسكينٌ على كل حال. إن غاندي الذي تُعوِزه تحليقات تاغور (أو لعله زهد فيها ليعيش مع البائسين) يجد هنا مجالًا للرد واسعًا، وقد رد هذه المرة بأشد مما سبق له أن يرد، خلال هذا الجدال الشريف، ولم يؤخِّر جوابه، فظهرت مقالته في جريدة «الهند الجديدة» في ١٣ أكتوبر وهي مؤثرة جدًّا. إن غاندي يشكر إلى «الحارس الجليل» تحذيره الهند من مخاطر يذكرها، وهو متفق وإياه على وجوب حرية النظر: «ليس على امرئ أن يجعل عقله في حفظ أحد من الناس. إن التسليم الأعمى شرٌّ في الأغلب من خضوع المكره لسوط المستبد. قد يُرجى الخير في من استرقته القوة الغاشمة، ولكن لا رجاء في من استعبده الحب.»
إن تاغور حارس أمينٌ يحذِّر من اقتراب أعداء يُسمَّون: الإفراط في التعبد، والجمود، والتعصب، والجهل، لكن غاندي لا يسلم بصحة انتقادات تاغور. إن المهاتما يخاطب دومًا العقل، ولا يصح القول إن في الهند طاعة عمياء. إذا كانت الأمة قد اعتزمت استعمال المغزل فهي لم تعتزم ذلك إلا بعد تدبر طويلٍ جهيد. إن تاغور يحدِّث عن الصبر ويقنع بالأناشيد الجميلة، لكنها الحرب أُعلنت، فليضع الشاعر طنبوره جانبًا، له أن يغني بعد ذلك: «متى تشتعل النار في البيت، يحمل كل امرئٍ دلوه لإطفاء الحريق …»
«حينما أرى الذين حولي يموتون لأنهم لا يجدون قوتًا، فإن الهم الوحيد الذي يجوز لي هو أن أطعم المتضورين جوعًا … الهند بيت شبت فيه النار … الهند تموت جوعًا إذ لا عمل لديها يكفل لها القوت، لُكنا تموت جوعًا … هذه رابع مجاعة تصيب المقاطعات المنشقة … أوريسا تعاني آلام مجاعة مزمنة. إن الهند تزداد كل يوم عياء، ويكاد لا يجري دم في عروقها، فإذا لم نتدارك الأمر، فإنها ستتداعى ثم تنقض … إن الله لن يتجلى لشعب جائع لا عمل لديه، إلا في صورة العمل والطعام الموعود أجرًا على العمل. لقد خلق الله الإنسان ليكسب معاشه بعمله، وقال إن الذين يأكلون دون أن يعملوا هم لصوص … لنفكر في ملايين الناس الذين هم أحط من العجماوات والذين يوشكون أن يموتوا في المغزل. حياة هؤلاء الملايين المحتضرين، والجوع هو الذي يدفع الهند إلى المغزل … إن الشاعر يحيا لغده ويريدنا على الاقتداء به؛ فهو يمثل لأعيننا المأخوذة صورة الطيور الجميلة التي ترسل بكرة غناءها بالحمد، أو تحلق في الأجواء. ليست هذه الطيور خماصًا، فإن لها كل يوم رزقها، وهي تحلق محمولة على أجنحة مرتاحة تجدد دمها ليلًا، لكن نفسي عرفت الألم إذ رأيت طيورًا لا قوة فيها، فهي لا تجد رغبة حتى في تحريك أجنحتها قليلًا. إن الطير الإنساني، تحت سماء الهند، يستيقظ أضعف منه حين أوهم أنه يأخذ من الراحة حظه؛ لأن حياة ملايين من الخلق أَرَقٌ أبدي، أو سبات أبدي … رأيت أن من المستحيل تسكين آلام الجائعين بنشيد من أناشيد الشاعر «كبير» … أعطوهم عملًا يستطيعون به أن يجدوا ما يأكلون. أتسألون: ولكن علامَ أنت تنسج ولست مضطرًّا لأن تشتغل كي تعيش؟ ذلك أني آكل ما ليس لي وأعيش من سلب أبناء وطني. اقفوا أثر كل النقود التي تصل إلى جيوبكم تعرفوا صدق ما أقول. يجب أن تغزلوا، ليغزل كلٌّ منا! ليغزل تاغور مثل غيره! وليحرق ثيابه الأجنبية. هذا هو الواجب اليوم، إن الله يهتم بالغد، وكما ورد في «الجيتا»: اعمل العمل الحق!»
كلمات مظلمة فاجعة، ذلك هو البؤس الإنساني ينتصب قائمًا أمام رؤيا الفن ويصرخ في وجهه قائلًا: «اجرُؤْ على إنكاري!» من لا يفقه عاطفة غاندي المضطرمة، ومن لا يشاطره إياها؟
ومع ذلك فإن في هذا الرد الدال على أنفة النفس المتألمة ما يبرر بعض مخاوف تاغور: هي إذًا دعوة بلهجة الأمر إلى الخضوع لنظام الحرب. اعمل دون جدال بقانون السوادشي الذي ينص أول بنوده بأن على كل هندي، كل يوم، أن يستعمل المغزل.
لا مراء في أن النظام فرض لازِب في الجهاد الإنساني، لكن المصيبة هي أن المكلفين بإنفاذه، نعني أعوان الزعيم الأكبر، هم على الأغلب ضيقو الأفهام، يتوهمون ويوهمون أن ما ليس إلا واسطة لبلوغ الغاية هي الغاية أو المثل الأعلى. إن القاعدة تستهويهم بضيقها؛ لأنهم لا ينعمون إلا في السبل الضيقة، وهكذا أصبح السوادشي في نظر أعوان غاندي نصًّا جازمًا، واتخذ صفة القداسة، وقد نشر أحد كبار الأعوان أو المريدين، وهو د. ب. قالقار، من أساتذة تلك المدرسة الحبيبة إلى نفس غاندي: الصاتياغرا أشرام في سبرماتي (أحمد آباد) مؤلَّفه «إنجيل السوادشي» مستهلًّا بتصديق غاندي عليه وإجازته … وهذا الكتاب موضوع لجمهور العامة، فلننظر إذًا في العقائد التي يتلقاها الشعب عن أحد القائمين عند منبع المذهب الأصلي: «إن الله يتجلى، زمنًا بعد زمن، لفداء العالم … ولكن ليس تجليه في صورة البشر قاعدة ثابتة لا تتغير، فقد يتجلى أيضًا في صورة مبدأ مجرد أو رأي جليل ينفذان إلى صميم الكون … أما المجلى الجديد فهو إنجيل السوادشي.»
ويسلِّم صاحب هذا الإنجيل بأن هذا التوكيد حقيق بابتسام السخرية إذا لم يكن ثمة في السوادشي إلا دعوة إلى مقاطعة النسائج الأجنبية، لكن هذه المسألة الطفيفة ليست إلا تطبيقًا عمليًّا «لمبدأ ديني واسع يقصد به إنقاذ العالم بأسره من الشحناء وتحرير البشرية.» وخلاصته واردة في كتب الهند المقدسة، وإليكها: «إن عقيدتك الخاصة، وإن تكن خلوًا من المزايا، هي خير لك وأبقى. إن عملك بعقيدة ليست لك، محفوف أبدًا بالمخاطر، لا يعرف السعادة إلا الذي ينصرف بكليته إلى واجباته الخاصة به.»
والقاعدة الأساسية في السوادشي تقوم على الإيمان ﺑ «إله قد كفل للعالم أسباب السعادة إلى الأبد. إن هذا الإله جعل كل امرئ في البيئة التي توافقه لإنجاز عمله الخاص له، فينبغي أن تلتئم أعمال المرء جميعًا ومنزلته الخاصة في هذه الحياة الدنيا … وكما أنه لا خيار لنا في مولدنا وأسرتنا وموطننا، فكذلك لا خيار لنا في ثقافتنا. ليس لنا إلا الرضا بما قسم الله لنا، فيجب أن نرضى بتقاليدنا على أنها من عند الله، وأن نعمل وفقًا لها. إن جحودها لإثمٌ كبير.»
يُستدل من هذه النصوص الدينية أنه ليس لامرئ في وطنه أن يهتم لشئون البلاد الأخرى: «إن المؤمن بالسوادشي، الصحيح الإيمان، لا يأخذ على نفسه قط هذا العهد الباطل، وهو أن يصلح الكون؛ لاعتقاده أن الكون مدفوع، ولن يزال، في سنن سنها الله. وليس لنا أن نرجو من شعب أن يموِّن الشعوب الأخرى ويكفي حاجاتهم، ولو كان لعمل الخير أو حبًّا بالإنسانية. ثم إن يكن ذلك ممكنًا فهو غير مستحب … إن المؤمن بالسوادشي حقًّا وصدقًا لا ينسى أن كل إنسان أخوه، لكنه مسئول أولًا أن ينجز العمل الذي يقضي به مولده … وكما أننا مكلفون بخدمة الزمن الذي وُلدنا فيه، فكذلك نحن مكلفون بخدمة الوطن الذي وُلدنا فيه مهما يكلف ذلك … ينبغي أن نسعى إلى تحرير أنفسنا عن طريق دينننا الخاص وثقافتنا الخاصة.»
وليس هذا كل ما في الأمر، فإن هؤلاء الذين يحيون على كثب من الإمام، نعني صحابته الأدنين، لن يزالوا موسومين بسمات روحه الشريف، ولكن ما قولك في صحابة صحابته، وتلامذة تلامذته؟ ثم ما ظنك بتلك الجماهير من العامة الذين لا يصل إليهم إلا أصداء مشوهة؟ ماذا يعون من مذهبه في تزكية النفس والتجرد البديع؟ يعون الصورة الظاهرة المادية: انتظارٌ (كانتظار المهدي) أن يحصل السواراج (الحكم الذاتي) بالمغزل. هو نكران كل ترقٍّ، وليس تاغور بمخطئ إذ يبدي اغتمامه لما يظهره من عنفٍ دعاةُ اللاعنف (وما غاندي نفسه بمنزه من ذلك) إزاء الأمتعة الغربية. لقد احتاط غاندي بقوله إنه «يخرج من ساحة الجهاد إذا آنس فيه بغضًا للإنكليز»، وإنه يجب أن نحب الذين تناوئهم ونكره ظلمهم وجورهم: «أبغض الشيطانية وأنت تحب الشيطان.» لكن هذا مما يَدِقُّ على أفهام العامة، وكلما كان زعماء الحركة يُذكِّرون في كل مؤتمر بفظائع الإنكليز وعدم وفائهم، وبمذابح البنجاب والخلافة، كانت الأحقاد تتجمع وراء السد، ويا للمصيبة إذا السد انفجر! ولما ترأس غاندي في أغسطس ١٩٢١ حريق الأنسجة الأجنبية ببمباي، رادًّا توسلات أندريوس، صديق تاغور، في مقالته «الهدم وقيمته الأخلاقية» كان يعتقد أنه بهذا «يصرف ضغينة الشعب عن الأناس إلى الأشياء.» لكنه لم يسمع الضغينة تقول في سرها: «أجل! الأشياء أولًا، والأناس بعد ذلك.» ولم يُقدِّر أن الشعب في هذا البلد نفسه (بمباي) بعد أقل من ثلاثة أشهر سيزهق نفوسًا. إن غاندي طاهرٌ قديس، خلوٌ من الشهوات الحيوانية الرابضة في صدر الإنسان، فهو لا يفكِّر بأنها هنا، تصغي إليه وتلقف أقواله، أما تاغور فكان أبصر بالعواقب، وقد بدت له غفلة دعاة اللامعاونة الذين كانوا لا يفتئُون يُذكِّرون العامة بسيئات أوروبة دون قصدٍ سيئ، داعين إلى اللاعنف، بينما هم في الحقيقة يُشربون روح الشعب سمَّ الحمَّى التي ستعقب حتمًا أشد العنف. لم يكن هذا ليخطر ببال هؤلاء الحواريين الذين لا يجدون أثرًا للعنف في قلوبهم، بيد أن من يقدم على عمل عام ينبغي له أن يصغي إلى قلوب الناس، لا إلى قلبه. حذارِ من الشعب! إن وصايا غاندي الأخلاقية لا تكفي لكبح جماحه، وقد لا يكون ثمة إلا وسيلة واحدة، بها يطيع العامة غير مترددين، هذا الإمام الهندي ويعملون بدستوره الصارم: أن يسلِّم بأنه إلهٌ كما يرجو في أقصى ضميرهم أولئك الذين يمثلونه في صورة «شري كرشنا». لكن صدْق غاندي وضِعته لا يأذنان بذلك.
إذًا فلم يبقَ إلا الصوت الفذ يرسله أطهر الناس نفسًا، فيعلو على زمجرة هذا الأقيانوس البشري. حتَّامَ يظل قادرًا على إسماع صوته؟ إنها لفترة عظيمة مفجعة!
وعدا هذا الجدال القلمي، نعرف أنه كان بين تاغور إثر عودته، وبين غاندي، اجتماع خاص لم ينقل أحدٌ ما دار خلاله من الأحاديث، لكن س. ف. أندريوس الذي شهد وحده ذلك الاجتماع تفضَّلَ بإطلاعنا على المواضيع التي دار حولها الجدل، وعلى الحجج التي أدلى بها كلٌّ من الرجلَين.