الفصل الرابع

في عام ١٩٢١ خطا الجهاد خطًى سريعة، وكانت السنة من بدايتها إلى نهايتها ملأى بالعثرات والهزاهز العنيفة، حتى إن غاندي نفسه لم يسلم من غوائلها.

كانت الثورة في اختمار، وكانت فظاظة الحكومة في قمعها تقرِّب أجل اضطرامها، فانفجرت في ماليغاؤن من مقاطعة ناسيك فتنٌ دامية، ونشبت في جيريديه من مقاطعة البيجار قلاقل، وفي أوائل مايو ١٩٢١ حدثت في أسَّام حوادث أعظم خطرًا، فإن ١٢ ألفًا من «الكولي» الفلاحين أضربوا عن العمل في مزارع الشاي، وبينما هم يهجرونها هاجمهم «الغوركا» الذين في خدمة الحكومة، وأضرب موظفو الخطوط الحديدية والبواخر في البنغال الشرقي إضرابًا عامًّا دام شهرين، احتجاجًا على أعمال الحكومة. وكان غاندي لا يزال عاملًا على التوفيق بين الفريقَين، فكانت بينه وبين نائب الملك اللورد ريدنغ، في شهر مايو، مقابلة طويلة عرض أثناءها وساطته بين الحكومة وبين الأخوَين علي، المتهمَين بإلقاء خطب يحضان فيها على استعمال العنف، فوعده أصدقاؤه المسلمون وعدًا صريحًا بأنهم لن يدعوا إلى العنف قط.

لكن هذا لم يضعف من شأن الحركة، واستمر العنصر الإسلامي في الهند سبَّاقًا إلى أجرأ الأعمال وأخطرها، وفي ٨ يوليو اجتمع مؤتمر الخلافة لجميع الهند، في كاراشي، فأعاد ذكر المطالب الإسلامية معلنًا «أنه لا يجوز لمسلم شرعًا أن يخدم في الجيش أو يساعد على التجنيد» متوعدًا الحكومة إذا حاربت حكومة أنقرة بتقرير العصيان المدني والجمهورية الهندية في دورة نهاية السنة لمؤتمر جميع الهند. وفي ٢٨ يوليو أعلنت لجنة مؤتمر جميع الهند المجتمعة في بمباي (أول لجنة منتخبة وفقًا للدستور الجديد) أنه يجب على الهنود كافة أن يقاطعوا ولي العهد «البرنس دوغال» الذي يزور الهند عما قريب، وقررت مقاطعة الأنسجة الأجنبية تمامًا قبل حلول ٣٠ سبتمبر، وحثت على العناية بالنسج الوطني جاعلة له نظامًا خاصًّا، وحضت على ترك المسكرات رغم عضد الحكومة لتجارها وحمايتها إياهم، لكن المؤتمر كان أكثر أناةً وأرشد من مسلمي الخلافة، فذم الفتن ومحدثيها، وصرف مؤقتًا عن العصيان المدني، ووسع نطاق الدعاية إلى اللاعنف.

وفي أغسطس أثار الموبلاه فتنة هوجاء استمرت بضعة شهور، فهمَّ غاندي ومولانا محمد علي بالرحيل من كلكلتا إلى مالابار لتسكين الفتنة، لكن الحكومة لم تأذن بذلك، وألقت القبض في سبتمبر على مولانا محمد علي وأخيه مولانا شوكت علي وكثير من أعيان المسلمين بتهمة الحض على العصيان المدني الذي قرروه في مؤتمر الخلافة. حينئذٍ ثبَّتت لجنة الخلافة المركزية في دلهي ذلك القرار، وصدقته بقوةٍ مئاتٌ من المجامع الإسلامية، وفي ٤ أكتوبر أعلن غاندي تكافله وإخوانه المسلمين، ونشر بالاتفاق مع خمسين من كبار أعضاء المؤتمر بيانًا يجهر فيه بحق كل وطني أن يبدي رأيه في اللامعاونة، ويؤكد أنه لا يجدر بالهندي أن يخدم، سواء بصفته موظفًا مدنيًّا أو عسكريًّا، الحكومة التي أحطت الهند من الوجهة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية، وينادي أن الانفصال عنها فرضٌ على الهنود كافة. حُوكم الأخوان علي في كاراشي وحُكم عليهما وعلى شركائهما في التهمة بالحبس الشديد مدة سنتين، فكان جواب الهند على هذا الحكم حماسة أعظم من ذي قبل، وفي ٤ نوفمبر صدَّقت لجنة مؤتمر جميع الهند المنعقدة بدلهي بيان غاندي. وهكذا خطت اللجنة الخطوة الفاصلة، فأجازت لكل مقاطعة إنفاذ العصيان المدني بدءًا برفض الضرائب، ملقيةً عليها تبعة أعمالها، وشرطت أن يسلم العصاة صراحةً ببرنامج السوادشي واللامعاونة ويعملوا به، ومن مواده الغزل اليدوي وعهد اللاعنف، فاللجنة إذًا عملت، بإرشاد غاندي، على التوفيق بين الثورة وبين روح النظام وشريعة التضحية، ولإظهار هذه الشريعة بوضوح، أنبأت القائمين بالعصيان المدني وعائلاتهم أنه لا ينبغي لهم أن يتَّكلوا على معونة المؤتمر المالية.

كان العصيان الأكبر على وشك الابتداء لما نزل ولي العهد (البرنس دوغال) بمباي في ١٧ نوفمبر، فأنفذت الطبقات الوسطى والدنيا أمر الإضراب عن استقباله، لكن الأغنياء والبارسي وكبار الموظفين لم يحسبوا لذلك الأمر حسابًا، فأهانهم الغوغاء غير راحمين النساء، واتسع نطاق الفتنة بسرعة، فهُدِّمت بيوت وسقط جرحى وقتلى، وهو الانفجار الوحشي الوحيد الذي حدث في الهند، حيث أُدِّي الحرتال (الاغتصاب الديني) الذي قُرِّر، حق أدائه، في أمنٍ وسلام. لكن غاندي على حد قوله كان «كمن أُصيب بسهم في أحشائه»، فلما بلغه أول الأنباء عن القلاقل خف إلى موضع حدوثها، فهتف له الثائرون، فزاد هذا في عذابه، وقرَّع الجماهير بشدة آمرًا إياهم بأن يتفرقوا، وقال إن للبارسي إذا شاءوا، أن يحتفوا بالأمير، وليس ثمة ما يبرر هذه الأعمال العنيفة المنكرة، فسكت الناس، لكن الفتنة اضطرمت في أمكنة أخرى. إن عناصر الشر خرجت من مكامنها في بطن الأرض، وليس من المستطاع أن يُعاد إلى الرشد في لحظة واحدة ٢٠ ألف رجل أُثيروا، ومع ذلك فإن الفتنة ظلت محصورة، وإن أقل أيام الثورة في أوروبة ليربو على تلك الفتنة الهندية إضرارًا، فأرسل غاندي إلى أهل بمباي وجماعة اللامعاونة نداءً حزينًا تناقلته الصحف جميعًا، وأعلن أن أشباه هذه الحوادث تجعل العصيان جماعةً، من المستحيلات في الحاضر، وأرجأ إنفاذ الأمر الآنف إلى أجل غير مسمًّى، وقصاصًا لنفسه على فظائع بني قومه فرض عليها الصوم الديني أربعًا وعشرين ساعة كل أسبوع.

كان ذعر أوروبيي الهند من اضطرابات بمباي أقل من ذعرهم لإجماع الهنود على الحرتال الصامت إجماعًا معجبًا، فلجوا في حض نائب الملك على أن يعمل، فاتخذت حكومات المقاطعات تدابير قاسية لم تراعَ فيها للقانون حركة، وأُخرج قانون قديم سُنَّ سنة ١٩٠٨ لمعاقبة الفوضويين والجمعيات السرية، فاتخذته الحكومة ذريعة للقضاء على جماعات متطوعة المؤتمر والخلافة، وأُلقي القبض على آلاف من الخلق، فكان الجواب أن آلافًا من المتطوعة الجدد سجلوا أسماءهم في القوائم العامة، وصدر الأمر إلى لجان المقاطعات بأن تنظم فرق المتطوعة تنظيمًا متماثلًا، وقُرِّر أن يكون الرابع والعشرين من ديسمبر، وهو يوم زيارة الأمير كلكتا، حرتالًا. وفي اليوم الموعود اجتاز ولي العهد كلكتا وهي قفرٌ من أهلها.

في تلك الساعات التي كأنها تضمر الثورة، افْتُتح بأحمد آباد مؤتمر جميع الهند الوطني، فكان له جلال المجلس الفرنسي عام ١٧٧٩، جلاله المؤثر، وكان رئيس المؤتمر قد سُجن يومئذٍ فأوجز الأعضاء في الجدل، وأعاد المؤتمر الكرة مقرًّا مذهب اللامعاونة، حاثًّا الوطنيين جميعًا على التطوع كي يُسجَنوا، داعيًا الشعب الهندي إلى عقد اجتماعات في كل مكان، معلنًا إيمانه بالعصيان المدني الذي يوازي بعظيم فعله العصيان المسلح، ويفضله من الوجهة الإنسانية، ونصح بتنظيمه متى أصبح السواد الأعظم مشربًا أساليب اللاعنف. وكان المؤتمر يعلم أن أغلب أعضائه سوف يُلقى القبض عليهم في نهاية الدورة، فخَلع على غاندي سلطته بتمامها، أي جعله حاكمًا بأمره، وترك له الخيار في تعيين خلفه، وهكذا خُص الزعيم بالسلطان المطلق على سياسة الهند غير مقيد إلا بعدم إدخال تحويرٍ ما على قانون الإيمان الوطني، وبأن لا يعقد صلحًا مع الحكومة إلا برضاء لجنة المؤتمر، وكان فريق من الأعضاء قدموا اقتراحًا مؤاده وجوب استعمال العنف لنيل الاستقلال التام بأسرع ما يمكن، لكن الأغلبية ردته محافظة على مبادئ غاندي.

وأظهرت الأسابيع التي تلت الحماسة الدينية التي تملكت الهند من أقصاها إلى أقصاها، فتقدم ٢٥ ألف رجل وامرأة إلى السجون جذلين مستبشرين.

وتأهب بعدهم آلاف آخرون لإثبات صدق إيمانهم، وهمَّ غاندي للمرة الثانية بأن يصدر أمر العصيان المدني جماعةً، وكان رأيه أن يبدأ بلدٌ مختار جدير بأن تقتدي به سائر البلدان، فيه وجد مذهبه أرضًا خصبة، نعني باردولي من مقاطعة بمباي،١ فأنبأ غاندي بذلك نائب الملك في كتاب مفتوح (٩ فبراير ١٩٢٢) هو من باب المجاملة، لكنه أيضًا إعلان حرب صريح، يقول فيه: إنه زعيم الحركة المسئول وإن باردولي هي الفرقة الأولى من جيش العصيان الهندي على الحكومة التي اعتدت اعتداءً فظًّا على حرية القول والاجتماع والنشر.
ويمهل غاندي اللورد ريدنغ سبعة أيام ليقوِّم اعوجاج سياسته وإلا فقد أُصدر الأمر: ستبدأ الثورة.٢
ما كادت تُرسل الرسالة إلى نائب الملك؛ وإذ بفاجعة تحدث في «شوري شورا» من أعمال غوراخبور، جاءت أفظع من كل ما سبق، كانت الجماهير تسير في موكب، فهاجمتها الشرطة فقابلها الأهلون بالمثل، فأصلتهم الشرطة نارًا حامية ثم اعتصمت في الطانا٣ فأحرقته الغوغاء، وعبثًا سأل المحصورون رحمة وغفرانًا، فقد قُتلوا وأُحرقوا. إن رجال الشرطة هم البادئون بالشر، ولم يشترك في تقتيلهم متطوع واحد من متطوعة اللامعاونة. يقدر غاندي إذًا أن يبرأ منهم، لكنه أصبح حقًّا وجدان الهند، فجريمة يقترفها أي هندي تلطخه هو بالدم، كأنه حمَّل نفسه آثام أمته قاطبة. كان وقع هذه الحادثة موجعًا، فوقف للمرة الثانية الحركة التي أمر بها من قبلُ. إن الموقف أشد حراجة الآن منه بعد فتنة بمباي، ذلك أنه بعث منذ بضعة أيام بإنذاره إلى نائب الملك، فكيف يسترده اليوم دون أن يعرض نفسه للسخرية؟ إن الكبرياء (ويلقبها غاندي بالشيطان) تسول له أن لا يفعل، لكن هذا على الضد يشدد عزيمته.
وفي ١٦ فبراير ١٩٢٢ ظهرت في «الهند الجديدة» وثيقة من أعجب وثائق هذه السيرة الرائعة، هي بمثابة اعتراف على رءوس الأشهاد، وكان أول ما صعد من أعماق ذله وضراعته كلمات تهليل وحمدٍ لله على أنه وضعه وأذله: «لقد كان الله بي رحيمًا، جد رحيم، فأنذرني مرةً ثالثة بأن الهند لما تحصل على جو الحق واللاعنف الذي به، وبه وحده نقدر أن نبرر العصيان المدني جماعةً، العصيان الذي يصح نعته بالمدني؛ لأنه رفيق وضيع رشيد يقوم به الناس طوعًا، ولأنه محب لا يضمر سوءًا ولا يحمل حقدًا. أنذرني مرةً أولى سنة ١٩١٩ لما ابتدأ الهياج حول قانون رولات، لقد ضلت يومئذٍ أحمد آباد وفيرامغام وخدا، وضلت أمرتسار وقاسور، فانقلبتُ على عقبي وسميت خطيئتي غلطة حسابية حملايائية، وأذللت نفسي أمام الله والناس، لم أقف العصيان المدني جماعة فحسب، بل وقفت أيضًا عصياني أنا، وفي المرة الثانية أنذرني بحوادث بمباي التي شاء الله أن أشهدها بعينَي رأسي … فوقفت العصيان المدني الذي كنت اخترت باردولي لتبدأ به. كانت المهانة آنئذٍ أعظم لكنها أفادتني وأحسنت إليَّ. أنا على يقين من أن الوطن انتفع بهذا التأجيل؛ لأن الهند ظلت بذلك ممثلة الحقيقة واللاعنف، لكن المهانة هذه المرة كانت أشد وقعًا … إن الله تكلم في شوري شورا بجلاء … إن عنف الغوغاء في الساعة التي تريد الهند أن تجلس على عرش الحرية باللاعنف، لدلالة شؤم مؤسفة. يجب أن يسيطر جماعة اللاتعاون على عنف الشعب، ولن يتيسر لهم هذا إلا متى سيطروا على رعاع الهند أجمعين.»٤

إذًا فهو في ١١ فبراير جمع بباردولي لجنة المؤتمر التنفيذية وأطلعها على حيرته وقلق نفسه. إن عدة من رفاقه لم يكونوا وإياه على وفاق، لكن الله أنعم عليه، كما يقول، بأن لقي منهم هذا القدر من المسامحة والاحترام. لقد اكتنهوا أسباب حيرته ورضوا بناءً على إلحاحه أن يؤجلوا العصيان المدني، داعين الجمعيات المنظمة إلى إيجاد جوٍّ صافٍ من اللاعنف أولًا، ثم يقول غاندي: «أعلم أن عملي هذا لن يُعد من الرشد في السياسة، لكنه رشد من ناحية الدين. إن الوطن يستفيد من ضراعتي واعترافي بخطئي، والفضيلة الفريدة التي تتوق إلى اكتسابها نفسي هي فضيلة الحق واللاعنف. لست أدعي قط قوى ومزايا معجزة، ولا هوى لي في شيء من ذلك. إني أحمل جسدًا كجسد أضعف الخلق في تعرضه للفساد والضلال، وإن لخدماتي حدًّا لا تتعداه، لكن الله بارك فيها حتى اليوم رغم نقائضها. إن الإقرار بالخطأ هو كضربة مكنسة، وأحس الآن أني أقوى من ذي قبل لأني أقررت بخطئي، ولتستفيدن قضيتنا من نكوصها هذا … لم يبلغ رجل غاية قط بإصراره على الزيغ عن السبيل الأقوم … يردون عليَّ قائلين أن لا صلة لجناية شوري شورا بالعمل المنْوي في باردولي، أنا لا يداخلني ريب في ذلك؛ لأن أهل باردولي أكثر الهنود حبًّا بالسلام، لكن باردولي ليست سوى نقطة، ولن يُوفَّق عملها ما لم يكن بينها وبين سائر أجزاء الهند تناسب كلي. إن حَبة من السليماني في جرة حليب تسممها … إن شوري شورا سم زعاف، وليس هذا مثلًا فذًّا، بل هو عارضٌ متفاقم من عنف العامة المنتشر هنا وهناك … إن العصيان المدني الصحيح لا يكون مصحوبًا بأقل هياج، هو تأهبٌ للعذاب الصامت، فعله عجيب وإن يكن رفيقًا لا يكاد يُدرك. إن فاجعة شوري شورا إصبع دالة على طريقنا، فإذا كنا نريد أن لا يخرج العنف من اللاعنف فيجب أن ننقلب على أعقابنا معجلين لنرجع جو السكينة في وطننا، وأن لا نفكر قط بالعودة إلى العصيان المدني جماعة قبل أن نتثبت من أن السلام سيظل سائدًا رغم كل شيء … لخصمنا أن يتهمنا بالجبن! فخيرٌ لنا أن يُساء الظن بنا من أن نخون عهد الله.»

وقد شاء الرسول أن يكفر هو عن الدم الذي أراقه آخرون: «يجب أن أطهر نفسي، يجب أن أكون بحالة أستطيع معها أن أحسن تسجيل أخف التغيرات الطارئة على الجو المعنوي الذي يحيط بي،٥ يجب أن أكون في صلواتي أصدق وأكثر خشوعًا. ليس أبلغ في تزكية النفس من الصوم الحق، به تتجلَّى ذات المرء بتمامها، ويسيطر الروح على الجسد …»

لهذا قضى غاندي على نفسه، مُشهدًا الملأ، أن يصوم خمسة أيام صيامًا متواصلًا، وليس لأحد أن يقتدي به، يجب أن ينفرد بمعاقبة نفسه. إنه كان جرَّاحًا غير ماهر، فإما أن يعتزل وإما أن يكتسب خبرةً أحكم وأثبت. إن صيامه توبة وقصاص على السواء، له ولأصحاب شوري شورا الذين أثموا واسمه على ألسنتهم. إن غاندي يود لو يتعذب وحده من أجلهم، لكنه يشير عليهم بأن يسلموا أنفسهم للحكومة ويعترفوا بذنبهم، ذلك أنهم نالوا القضية التي أرادوا أن يخدموها، بشرٍّ عظيم: «أحب أن أحتمل كل المهانات، وكل أنواع العذاب، والنفي والطرد بل الموت أيضًا؛ لأصرف حركتنا عن أن تصبح مظهر عنف أو ذريعة إلى العنف.»

قَلَّ أن تجد في تاريخ الوجدان البشري صفحات شريفة بهذا المقدار. إن قيمة ذلك العمل المعنوية لا تُقدَّر، لكنه من الوجهة السياسية يدعو إلى الحيرة، وقد اعترف غاندي نفسه بأن عمله «من الوجهة السياسية يصح عده خرقًا وبُعدًا عن الصواب»، فإن من الخطر أن تشد لوالب الأمة، فهي تلهث ترقبًا للعمل المقرر، وأن ترفع ذراعًا لإصدار الأمر، حتى إذا تحركت هذه الآلة الضخمة، وقفتها، لا مرةً واحدة بل ثلاثًا، إنك بهذا توهن لوالب الآلة، وتحطم اندفاع الأمة.

ولما اجتمعت لجنة المؤتمر بدلهي في ٢٤ فبراير ١٩٢٢ لم يتوصل غاندي إلى حملها على تصديق القرارات المتخذة في باردولي إلا بعد معارضة شديدة، ووقع الخُلْف بين جماعة اللامعاونة. غاندي يرى من الواجب أن يبالغ في تنظيم الحركة قبل متابعة السير، وقد جاء بخطة اختطها لتعمل الأمة بها، لكنَّ نفرًا كثيرين من رفاقه كان يغيظهم هذا البطء والتأجيل، فاحتجوا على تسويف حركة العصيان، قائلين إن فيه قتلًا لحماسة الأمة، وقدَّم فريق من الأعضاء اقتراحًا بتأنيب اللجنة التنفيذية وإلغاء الأوامر التي أصدرتها، ومع ذلك فقد فاز غاندي، إلا أنه كابد ألمًا شديدًا، ولم ينخدع بالأغلبية التي اتبعته؛ لأنه لم يثق في صدقها، وما أكثر الذين عضدوه بأصواتهم، فإذا ولى ظهره سموه حاكمًا بأمره (ديكتاتورًا)، كان يعلم أنه ووطنه على خلاف، قال ذلك بصراحته المعهودة في ٢ مارس ١٩٢٢: «إن في الأغلبية كثيرًا من نزعات العنف الخفية، سواء الصادرة عن فكر وروية أم التي لا روية فيها؛ لذلك دعوت الله أن يعاقبنا بخسرانٍ مبين. قُدِّر لي أن أكون دائمًا في أقلية، ففي أفريقية الجنوبية بدأت والإجماع في جانبي، ثم نزلت إلى أقلية مؤلفة من ٦٤، فمن ١٦ صوتًا، ثم صعدت كرة أخرى إلى أغلبية عظيمة. إن خير الأعمال وأوطدها قد تم في بيداء الأقلية. إني أخاف الأغلبية وأكره عبادة السواد الأعظم الذي لا رأي له ولا حكم، وإني لأجد الأرض أثبت تحت قدمي إذا بصقوا عليَّ … لقد حذرني صديق لي ناصحًا بأن لا أستغل «ديكتاتوريتي»، ما أبعدني عن هذا! بل إني لأتساءل عما إذا كنت غير ممكِّن الناس من «استغلالي» أنا، وأقر بأني أخاف اليوم هذا أكثر من قبل. لا سبيل إلى النجاة إلا بعدم استحيائي، وقد أسمعت رفاقي في المؤتمر أن طبعي لا يُقوَّم، فكلما زلت الأمة لا بد لي من الإقرار بزلاتها. لا سلطان عندي في هذه الدنيا إلا «للصوت الخافت الصامت» الذي في باطن كل منا، ولو أُكرهت على أن أكون في الأقلية المؤلفة من واحد لما خشيت أن أكون في هذه الأقلية القانطة. تلك هي وحدها خطة الصدق عندي. أصبحت اليوم أشد حزنًا، وأحسبني أعقل أيضًا. أرى أن اللاعنف عندنا سطحي، فنفوسنا تشتعل سخطًا، والحكومة تزيد في ضرامها بالأعمال الخرقاء، حتى ليصح القول إنها تود لو ترى هذه البلاد بأسرها مغطاة بحوادث القتل والحرق والنهب؛ لتدعي بعد ذلك أنها وحدها قادرة على قمعها. يبدو لي أن اللاعنف عندنا ناشئ عن عجزنا، فكأننا نضمر الرغبة في الانتقام لأنفسنا متى تسنح الفرصة، فهل يُرجى خروج اللاعنف الاختياري من هذا اللاعنف الاضطراري الذي في ضعاف عاجزين؟ أليس ما أحاوله تجربة باطلة؟ وبعدُ فإذا لم يسلم، حين ينفجر الغيظ، رجل واحد، وإذا بسطت بالأذية كل يدٍ، فما يجدي إذًا بعد هذه الكارثة صومي ولو مت جوعا؟ إذا كنتم غير قادرين على اللاعنف، فاختاروا العنف صراحًا ولكن من غير رياء.٦ إن الأغلبية تزعم أنها راضية باللاعنف … فلتعرف إذًا مسئوليتها! يجب عليها اليوم أن تؤجل العصيان المدني وأن تقوم بعمل إنشائي أولًا، وإلا غرقنا في خضمٍ لا يُدرك غوره ولو وهمًا …»

والتفت نحو الأقلية قائلًا: «إنكم لا ترضون اللاعنف، فاخرجوا إذًا من المؤتمر. ألفوا حزبًا جديدًا. انشروا على الملأ مذهبكم، وللأمة الخيار بيننا وبينكم … ولكن لا لبس ولا إبهام، كونوا صرحاء!»

في هذه الكلم الشديدة حزن مرٌّ، لكنَّ فيها حزمًا ورجولة، هي ليلة جبل الزيتون؛ إذ عما قريب يُلقى القبض على غاندي، ومن يدري، فلعله كان في أقصى ضميره يرجو ذلك كأنما فيه نجاته.

كان ينتظر هذا الحادث من زمنٍ طويل، وقد احتاط له منذ ١٠ نوفمبر ١٩٢٠، فأملى إرشاداته إلى الأمة يوم لا تجده الأمة في مقالة «إذا حُبست»، وأعاد الكَرة في مقالة أخرى (٩ مارس ١٩٢٢) لما لهج الناس بنبأ القبض عليه، يقول إنه لا يخشى عنف الحكومة، لا يخشى سوى أمر واحد: عنف الشعب، فإن هذا يشينه هو، «ليكن يوم حبسي يوم عيد وفرح للشعب! تحسب الحكومة أنها متى تسجن غاندي ينقضِ أمرها مع الهند. أثبتوا لها عكس ذلك، ولتزنْ قوة الشعب.» إن أعظم تكريم يكرم الشعب به غاندي هو أن يظل محافظًا على السكينة التامة. إن غاندي ليبتئس إذا رأى الحكومة تحجم عن القبض عليه حذرًا من ثورة دامية. إذًا على الشعب أن يظل ساكنًا، وأن لا يقف سير أعماله، وأن لا يتجمهر ولا يعقد اجتماعات قط! ولكن لتُقفل المحاكم، ولتُهجر دواوين الحكومة، وليُنفَّذ برنامج اللامعاونة بتمامه، في هدوء وانتظام، فإذا سلكت الأمة هذه السبيل نُصرت، وإلا سُحقت.

وبعد أن أخذ غاندي عدته انتقل إلى عزلته العزيزة في أشرم سبار ماتي (على مقربة من أحمد آباد) ليعتكف بين صحابته الأحباء وانتظر قدوم الذين سيلقون القبض عليه، وكانت نفسه تتوق إلى السجن، لعل إيمان الهند يتجلى في غيبته بأوضح مما تجلى في حضرته: «وهو واجد ثمة راحة قد يكون حقيقًا بها.»٧

وفي مساء ١٠ مارس، قُبيل وقت الصلاة، وصل رجال الشرطة، وكان الأشرم قد نُبئ بقدومهم، فأسلم المهاتما نفسه، وفي الطريق التقى بصديقه المسلم مولانا حسرت مهني الذين جاء من مكان بعيد ليسعده الحظ بمعانقته، واقْتِيد غاندي ومعه بانكر ناشر جريدة «الهند الجديدة»، وأُذن لامرأته أن تصحبه حتى عتبة السجن.

وظهر يوم السبت في ١٨ مارس افتُتحت «القضية الكبرى»٨ أمام قاضي مقاطعة أحمد آباد، فكانت المحاكمة شريفة جدًّا: لقد تبارى القاضي والمتهم في مضمار الأدب والكياسة وكرم النفس، ولم تصعد إنكلترة خلال ذلك الجهاد إلى أسمى من هذا الإنصاف، فإن القاضي س. ف. برومسفيلد كفَّر يومئذٍ عن كثير من خطايا الحكومة. إن صحف أوروبة نقلت طرفًا من وصف المحاكمة الذي نشره أصدقاء غاندي، وبلغت فرنسة أصداءٌ منه؛ لهذا نكتفي بذكر خلاصته.
لماذا عمدت الحكومة إلى القبض على غاندي؟ علامَ، بعد أن ترددت عامَين، اختارت لإصدار أمرها حين غل غاندي ثورة شعبه وأثبت أنه الحائل الوحيد دون استعماله الشدة؟ هل أضاعت رشدها؟ أم هل شاءت أن تحق كلمة غاندي الرهيبة: «يظهر أن الحكومة تود أن ترى هذه البلاد مغطاة بحوادث القتل والحريق والنهب لتكون لها ذريعة إلى قمعها.» والحق أنها كانت في موقف ضنك: كانت تجل غاندي وتخشاه على السواء، وكانت ترغب في رعاية جانبه، لكن غاندي لم يرعَ جانبها قط. إن المهاتما يستنكر العنف، ولكن لا عنف أقرب إلى معنى الثورة من «لا عنفه»، ولقد نشر أيام كان يعارض في العصيان المدني جماعة، عشية مؤتمر دلهي في ٢٣ فبراير، إحدى مقالاته الأبلغ توعدًا للسلطة البريطانية، يومئذٍ صُفعت الهند ببرقية وقحة من اللورد بركنهيد والمستر مونتاغو،٩ فهب غاندي، وقد أحفظته الإهانة، يقابل ذلك التحدي بمثله: «لا صلح مع الإمبراطورية، ما زال الأسد البريطاني يحرك عند وجوهنا براثنه الدامية! إن الإمبراطورية البريطانية القائمة على استغلال منظم لشعوب الأرض الضعيفة مادةً، وعلى استطالة ظاهرة بالقوة البهيمية، لا يمكن أن تدوم إذا كان هناك إلهٌ عادل مسيطر على الوجود. لقد آن للشعب البريطاني أن يفهم أن الجهاد الذي بدأ منذ سنة ١٩٢٠ هو جهاد إلى النهاية سواء استمر شهرًا أم عامًا أم شهورًا أم أعوامًا … أسأل الله أن يهب الهند من الضعة والقوة ما تستطيع به أن تجاهد إلى النهاية من غير ما عنف، ولكن الصبر على هذه التحديات الوقاح أمرٌ مستحيل …»
على هذه المقالة ومقالتَين أحدث منها١٠ بُني الاتهام. اتُّهم غاندي بأنه «حض على مقاطعة وكره وازدراء حكومة صاحب الجلالة، الحكومة التي أقرتها القوانين.» ولم يكن له محامٍ، فرافع مسلِّمًا بكل ما اتُّهم به.

وادعى نائب بمباي العام السر ج. ت سترنجمان أن المقالات الثلاث التي بُني عليها الاتهام ليست فريدة في بابها، بل هي شطر من حملة على الحكومة مستمرة منذ عامَين، وأثبت ذلك بالشواهد. إنه مصدق بمزايا غاندي السامية، لكن الضرر الناشئ عن تلك المقالات هو لهذا أعظم، وعزا إلى غاندي حوادث بمباي وشوري شورا الدامية. لا ريب أن غاندي كان يدعو إلى اللاعنف، لكنه كذلك كان يغري بكره الحكومة، فهو مسئول إذًا عما أتاه العامة من أعمال العنف.

استأذن غاندي بالكلام. إن مخاوفه وقلق نفسه في الأسابيع الأخيرة وشكوكه في أصالة القرارات التي اضطر أن يصدرها وفي آثار هذه القرارات في وجدان أمته، قد تلاشت جميعًا. عادت الطمأنينة إلى نفسه، فهو راضٍ بكل ما حدث وبكل ما قد يحدث، كأنها ضرورة يأسف لها ولكن يجب عليه أن يحملها، وصرح أنه والنائب العام على وفاق. أجل، إنه مسئول، هو مسئول تمامًا، لقد نفَّر من الحكومة منذ زمن أبعد مما ذُكر في بيان النيابة العامة. هذا هوًى في نفسه شديد، وهو حقيق بأن يُلام من أجل «جرائم مدراس الإبليسية» و«تعديات بمباي الجنونية»:

«يحق للنائب العام أن يقول إنه كان يجب عليَّ، بصفتي رجلًا مسئولًا أوتي حظًّا كبيرًا من العلم والتربية ونال شطرًا عظيمًا من تجارب هذه الدنيا، أن أعرف نتائج أعمالي، فأنا كنت عالمًا أني كنت ألعب بالنار، وقد أقدمت على ذلك الخطر، وإذا أُطلق اليوم سبيلي عدت إلى مثله. في هذه الليالي فكرت مليًّا في الأمر، وشعرت في هذا الصباح بأني أخل بواجبي إذا لم أقل ما أقوله الآن. إني عملت ولا أزال عاملًا على اجتناب العنف. إن اللاعنف هو في عقيدتي أول وآخر بند، ولكن كنت بين خطتَين لا ثالث لهما: إما أن أخضع لنظام سياسي أرى أنه نال بلادي بشرٍّ لا يُعوَّض، وإما أن أقتحم خطر ثوران العاصفة، عاصفة الغضب الجنوني من ناحية أمتي. إذا علمت الحقيقة من شفتي، أعلم أن أمتي تُصاب بمسٍّ من الجنون أحيانًا، وهو مما يسوءني في سويداء قلبي؛ ولهذا أنا الآن هنا، راضٍ لا بعقوبة خفيفة بل بأثقل العقوبات، لست سائلًا رحمة ولا مدعيًا أحد الأسباب المخففة. أنا هنا لأطلب راضيًا مسرورًا، أشد عقوبة يُحكم بها على ما يعتبره القانون جرمًا متعمدًا، وما أعتبره أنا رأس واجبات الوطني. أيها القضاة، لا خيار: اعتزلوا أو عاقبوني!»

وبعد هذه الخطبة المرتجلة العصماء التي تعادلت فيها، على هذه الصورة الجليلة، وساوس الوجدان الديني وعزيمة الزعيم السياسي البطل، تلا غاندي تصريحًا مخطوطًا وجَّهه إلى الرأي العام في الهند وإنكلترة، يقول فيه إن من واجبه أن يعلمهم «لماذا، بعد أن كان داعيًا إلى التعاون، مواليًا للحكم البريطاني» أصبح «كارهًا له، حاضًّا بقوة على اللامعاونة». وأتى على وصف حياته السياسية منذ ١٨٩٣ ذاكرًا ما آلم نفسه بصفته هنديًّا من مساوئ النظام البريطاني وما بذله من جهود، خلال خمس وعشرين سنة، لإصلاح ذلك النظام، متوهمًا، مصرًّا على توهمه أن هذا ميسور دون أن تُفصل الهند عن الإمبراطورية. لقد كان حتى عام ١٩١٩ رغم ما لقيه من الكرب والفشل، داعية التعاون، لكن الإهانات والخطيئات جاوزت الحد، فلم يكفِ الحكومة أنها تركت الجناة دون قصاص، بل إنها عمدت ساخرة بشعور الهند إلى إعلاء مناصبهم وزيادة رواتبهم والإنعام عليهم بالجوائز السنية. لقد قطعت الحكومة بيدها العرى التي تصل بينها وبين رعاياها. وتيقن غاندي الآن أن هذه الإصلاحات التي تقترحها الحكومة هي كذلك مهلكة للهند. إن الحكومة قائمة على استغلال الشعب، ولم يُسنَّ القانون إلا لهذه الغاية، وإنفاذ هذا القانون مسخرٌ لمصلحة المستغِل، وثمة نظام إرهابي بالغ في الدقة نافذ الفعل قد أذل الشعب وعوَّده الكذب والمداجاة. الهند دمارٌ وجوع وانحطاط، ويقول بعضهم إنها لن تصبح قادرة على حكم نفسها كالدومينيون إلا بعد أجيال. ليس في الحكومات التي جارت على الهند فيما مضى حكومة أساءت إليها بقدر ما أساءت إنكلترة. إن عدم مساعدة الجريمة واجب، وقد قام غاندي بواجبه، بيد أن العنف كان الوسيلة القصوى، فأعطى هو شعبه السلاح الأسمى: اللاعنف.

هنا بدأ البِراز الشريف بين القاضي برومسفيلد والمهاتما: «إنك يا مستر غاندي، إذ سلمت معي بالحوادث، قد جعلت مهمتي أيسر، لكنَّ النطق بحكم عادل هو من أصعب الأمور التي عُرضت لقاضٍ من القضاة. ليس لأحد أن يجهل أو يتجاهل أنك عند ملايين من الناس زعيم كبير ووطني جليل، بل إن الذين يفترقون عنك سياسيًّا، حتى هؤلاء يرون فيك رجلًا شريف الغاية سامي الفكر، عاش عيشة نبيلة بل قدسية … ولكن يجب عليَّ أن أحاكمك بصفتك رجلًا خاضعًا للقانون ليس إلا … والراجح أنه قل في الهند الذين لا يأسفون على أنك جعلت الحكومة في موقف لا سبيل منه إلى إخلاء سبيلك … ولكن هكذا كان، سأبذل جهدي لموازنة ما يجب نحوك وما تقتضيه المصلحة العامة …»

ثم سأل المتهم متأدبًا عن العقوبة التي يمكن أن يحكم بها عليه، وذكَّره بالحكم على طيلاق منذ اثني عشر عامًا: الحبس ستة أعوام … «هل ترى هذا الحكم بعيدًا عن الصواب؟ … وإذا أمكن فيما بعد، بتأثير الحوادث، إنقاص المدة، فليس إذًا أسعد مني بذلك …»

ولم يقصر غاندي عنه في مضمار الكياسة وعلو النفس، فرأى أن في إشراك اسمه باسم طيلاق شرفًا كبيرًا له، وأن هذا الحكم أخف ما يستطيع قاضٍ أن يحكم به، وأنه لم يكن يرجو خلال هذه المحاكمة، أكثر مما لقيه من الإكرام وحسن الرعاية.١١
خُتمت القضية، ووقع صحابة غاندي على قدميه مجهشين في البكاء، ثم ودعهم غاندي مبتسمًا، وأُقفل باب السجن في سبارماتي عليه.١٢
١  ١٤٠ قرية سكانها ٨٧٠٠٠ نسمة.
٢  أنبأت جريدة «الهند الجديدة» الأمة الهندية بهذا الإنذار قائلة: إنه لن يستعاد الأمر الصادر إذا لم يجب نائب الملك على رسالة غاندي، وإن العصيان المدني سوف يتم على كل حال، حتى لو أن الأغلبية عدلت عنه الآن.
٣  مركز الشرطة.
٤  مقالة «جناية شوري شورا».
٥  لينتبه القراء إلى هذا النور المرسل على ما في نفس غاندي من قوة خفية، تلك النفس التي ترتسم عليها خلجات الشعب الهندي جميعًا.
٦  اتضح لغاندي أن جزءًا من أغلبيته التي تؤيد اللاعنف كان يراه وسيلة أو خدعة سياسية تغطي التأهب للغلبة بالعنف، ويقول غاندي: إن هؤلاء يحدثون بكلمات «محلاة» عن «القيام بضربات غير عنيفة». لقد فطن غاندي إلى الخطر الجسيم الذي أعرفه تاغور من زمن طويل، وكاد يتميز غيظًا، فهو الآن يشهره ويعيِّر أصحابه بأشد مما فعل تاغور.
٧  ٩ مارس ١٩٢٢.
٨  التجربة العظمى، جريدة الهند الجديدة، في ٢٣ مارس ١٩٢٢.
٩  «إذا أصبح كيان إمبراطوريتنا معرضًا للخطر، وإذا أُريد منع الحكومة البريطانية عن القيام بواجباتها في الهند، وإذا خُيِّل إليهم أننا نفكر بالخروج من الهند، فإن الهند إذًا تتحدى — وعبثًا تتحدى — أقوى أمم الأرض عزيمة، وسنرد هذا التحدي بما يقتضي من الشدة.»
١٠  في ١٩ سبتمبر و١٥ ديسمبر ١٩٢١، موضوع المقالة الأولى التهمة الموجهة إلى الأخوين علي، والمقالة الثانية كُتبت جوابًا على خطبة مغيظة ألقاها اللورد ريدنغ وفيها إعلان «الحرب إلى النهاية»: «نريد أن نقلب الحكومة وأن نكرهها على الخضوع لإرادة الأمة، نحن لا نسأل رحمة ولا رجاء لنا في ذلك …»
١١  إن بانكر مدير «الهند الجديدة» الذي اقتدى بغاندي في هذه المحاكمة اقتداءً دينيًّا ووافق على كل أقواله، حُكم عليه بالحبس سنة واحدة وبغرامة مالية.
١٢  أعلمت السيدة كاستوريبي غاندي بهذا الحكم رجال الهند ونساءها في رسالةٍ حصيفة تدعوهم بها إلى التضافر على برنامج غاندي الإنشائي في هدوء وسكينة.
لم يُترك غاندي في سجن سبرماتي حيث كانت المعاملة حسنة، فنُقل إلى مكان خفي ثم إلى يرافادا في جوار بونا، وفي مقالة للمستر ن. س. هارديكر بعنوان «غاندي في السجن» نُشرت في «صحيفة الوحدة، ١٣ مايو ١٩٢٢» تأكيد أنه كان سجينًا في غرفة كغرف المجرمين العاديين بلا تمييز، وأن هذا قد أثر في صحته الضعيفة، لكننا نعلم أنه الآن أحسن حالًا وأنهم يأذنون له بأن يقرأ ويكتب.
وقد قال لي س. ف. أندريوس إن المهاتما ناعم البال في سجنه وإنه سأل أصدقاءه أن لا يزوروه وأن يحترموا عزلته، فهو يتزكى ويصلي إلى الله موقنًا أن عمله بهذا سيكون أبلغ أثرًا في القضية الهندية. ويؤكد س. ف. أندريوس أن حزب غاندي أصاب بهذا الحبس فائدة جليلة، فإن الهند أصبحت تؤمن بغاندي إيمانًا أقوى من قبلُ، ولا تزال تراه مجلى للإله شري كرشنا الذي تقول الأساطير إنه احتمل ظافرًا بلاء السجن. إن غاندي في سجنه قد حال دون الانفجار العنيف الذي كان يخشى حدوثه بأوكد مما لو كان حرًّا طليقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤