الفصل الخامس
منذ ذلك اليوم لم يُسمع صوت هذا الرسول الجهوري. إن جسده مسدودٌ عليه من كل صوب كأنه في قبر، ولكن ما كانت القبور لتحبس الفكر، فإن روح غاندي الخفية لم تزل محييةً الجسم الهندي العظيم. السلام واللاعنف واحتمال العذاب، تلك هي الرسالة الوحيدة التي أتت من السجن، وقد سُمعت الرسالة وانتقل هذا الأمر من أقصى الهند إلى أقصاها. لو أن غاندي سُجن قبل هذا الحين بثلاث سنين لانغمست الهند في الدم. وإذ شاع في مارس ١٩٢٠ أنه قُبض عليه ثار الأهلون في أمكنة كثيرة، لكن حكم أحمد آباد تقبلته الهند بسكينة دينية، وتقدم إلى السجون آلاف من الهنود بفرح هادئ. اللاعنف واحتمال العذاب … مثال عجيب دال على أن تلك الكلمة الإلهية قد نفذت إلى صميم روح الأمة.
ويظهر أن العامة كانوا أحفظ لمذهب المهاتما من الذين عُهد إليهم بقيادة الأمة: مر ذكر المعارضة التي قامت في لجنة المؤتمر بدلهي قبل سجن الإمام بعشرين يومًا، وقد ظهرت المعارضة مرة ثانية لما اجتمعت لجنة المؤتمر بلكنو في ٧ يونيو ١٩٢٢. كان الاستياء شديدًا من خطة الانتظار والإنشاء البطيء التي وضعها غاندي، وقويت الرغبة في سلوك سبيل العصيان المدني، فأُلفت لجنة للنظر فيما إذا كان استعداد البلاد للعصيان كافيًا، فطوفت اللجنة في الهند، وكان البيان الذي قدمته في فصل الخريف مُيئسًا، لا لإثباته فقط أن العصيان من المستحيلات في الزمن الحاضر، بل لأن نصف أعضاء اللجنة (وكلهم ثقات صادقو الإيمان) اقترحوا أن يُعدَل عن أساليب اللامعاونة الغاندية وعن مقاطعة الأعمال السياسية، وأن يُؤلف حزب سواراج (الحكم الذاتي) وسط مجالس الحكومة، وبكلمة وجيزة أن تصبح اللامعاونة معارضة برلمانية بالفعل، وهكذا كان مذهب غاندي يُهدم من أساسه، يهدمه دعاة العنف من ناحية والمعتدلون من ناحية أخرى.
ماذا يكون في المستقبل؟ هل تظهر إنكلترة، بعد أن علمتها الخطيئات السالفة، أمهر في إرضاء الأمة الهندية، أم يُصاب ثبات هذه الأمة بالكلال؟ إن الشعوب ضعيفة الذاكرة، ولو لم تكن دروس المهاتما منقوشة في سويداء الوجدان القومي من عهدٍ بعيد؛ لشككت كثيرًا في حفظ الهنود هذه الدروس زمنًا طويلًا؛ ذلك أن النابغة مهما تكن عظمته، سواءً أكان والذين يحيطون به على وفاقٍ أم لم يكن، فليس بقادرٍ على أن يعمل أو يُحدث أثرًا إلا إذا كان ملبيًا غرائز أمته وحاجات عصره ورجاء العالم.
وهكذا ماتهما غاندي، إن مبدأ الأهمسا (اللاعنف) الذي جاء به، منقوش في صدر الهند منذ ألفي سنة: لقد جعله مهافيرا وبوذا وعبادة فشنو غذاء الملايين من النفوس، وقصارى غاندي أنه أدخل فيه دمه، دم بطلٍ من الأبطال، فهو يستوحي تلك الأخيلة العظمى: قوى الماضي الخامدة، الدفينة في سباتٍ مميت، وقد أيقظها صوته، فقامت لأنها رأت فيه صورتها، وليس غاندي قولًا فحسب، بل هو عمل وقدوة، لقد تجسدته الآلهة والقوى. ما أسعد الرجل الذي هو شعب، شعبه الملحود يُبعث فيه.
بيد أن أمثال هذا البعث لا تحصل اتفاقًا، وإذا نحن شهدنا روح الهند يثب من معابدها وغاباتها؛ فلأنه جاء العالم بالجواب المقدر الذي ينتظره العالم.
وفعلًا إن الجواب يجاوز حدود الهند بلا نهاية، والهند وحدها قادرة على أن تأتينا به، لكنه يثبت على السواء عظمتها وتضحيتها، ومن الممكن أن يكون صليبها.
ويظهر أنه لا مناص، كيما يُبعث العالم ويتجدد، من أن تضحي أمة بذاتها، فقد ضُحِّي اليهود لمسيحهم الذي حملوه وغذَّته آمالهم قرونًا، حتى إذا أزهر على الصليب الدامي في النهاية أنكروه، لكن الهنود أسعد منهم حظًّا؛ لأنهم عرفوا مسيحهم، فهم يمشون إلى التضحية التي يرون فيها نجاتهم جذلين مستبشرين.
بيد أن الهنود، كالنصارى الأولين، لا يدركون جميعًا معنى هذه الحرية الحقيقي، فإن أماني طائفة كبيرة منهم لا تتعدى حد السواراج في الهند، ورأيي أنهم سيبلغون هذه الغاية السياسية عاجلًا، فقد استنزفت الحروب والثورات دم أوروبة، وأفقرتها وأنهكت قواها، وعرَّتها من أبهتها الأولى في نظر آسية المضطهدة، فلن تستطيع إذًا أن تقاوم طويلًا أمم الإسلام والهند والصين واليابان التي أيقظتها الحادثات.
والأمر أيسر من ذلك لو لم يكن فيه إلا أن بضع أمم ستُزاد على الأمم المستقلة، مهما يكن من شأن الأنغام الجديدة التي قد تضيفها تلك الأمم إلى السمفونيا الإنسانية، الأمر أيسر لو لم تكن هذه القوى الآسيوية حاملة باعثًا جديدًا على الحياة وعلى الموت، وكذلك (وهذا أجلُّ خطرًا) على العمل للإنسانية جمعاء، وبعبارة أخرى لو لم تكن حاملة لأوروبة المنهوكة عنصرًا جديدًا، عنصر قوة وحياة.
لقد عصفت بالعالم عاصفة العنف، وليس في هذه السَّموم التي تهب على حصاد مدنيتنا فتحرقه ما هو غير منتظر، فإن عصورًا من الصلف القومي الفظ، المغرى بنظريات الثورة الفرنسية، والمضخَّم والمذاع بتقليد الديمقراطيات الأعمى، تلك العصور المتوَّجة بعصر صناعي لا أثر للرحمة الإنسانية فيه، يسيطر عليه ممولون جِشاع، ومكينية مذلة مستعبدة، ومادية تموت فيها الروح خنقًا. ستؤدي تلك العصور حتمًا إلى الاختباطات العشواء التي تضيع فيها نفائس الغرب وأعلاقه. ليس بحسبنا أن نقول إن ثمة وجوبًا، فلا بد من القول إن ثمة قدرًا لا محيص عنه، فكل أمة تذبح أختها باسم مبادئ واحدة تستر مصالح وغرائز قابيليَّةً واحدة، كلهم — غلاة القومية والفاشيون والبلاشفة والشعوب والطبقات المضطهِدة والشعوب والطبقات المضطهَدة — كلٌّ يدعي لنفسه حق العنف الذي يبدو له أنه الحق المطلق، وينكره على سائر الناس. منذ نصف قرن كانت القوة تغلب الحق، أما اليوم فإن الخَطب أعظم: أصبحت القوة هي الحق، لقد افترسته.
في هذا العالم القديم المتداعي، لا ملجأ ولا رجاء، ليس فيه نورٌ ساطع، إن الكنيسة تسدي نصائح أخلاقية مسكِّنة موزونة؛ خشية أن يقوم بينها وبين أرباب الحول والطول خصام، ثم هي تنصح فقط ولا تجعل نفسها قدوة، وثمة أيضًا دعاة إلى السلام غامضون يَثغون ثُغاءهم بضعفٍ وفتور، وإنك لتحس أنهم مترددون، فهم يحدثون عن عقيدة ليسوا على يقين من أنها في صدورهم، فمن يثبت لهم صحة هذه العقيدة؟ وكيف تثبت لهم في هذا العالم الذي يجحدها؟ كما تثبت كل عقيدة: بفعلها.
تلك هي «الرسالة إلى العالم» كما يسميها غاندي، رسالة الهند: «لنضحِّ أنفسنا!»
أي تاغور وغاندي، يا نهرَي الهند! إنكما كالهندوس والغانج، تضمان في عناقكما الشرق والغرب. هذا فاجعة العمل البطولي وذاك حلمٌ نوراني عظيم، وكلاهما فيضٌ من الله على هذا العالم المحروث بسكة العنف، فاطرحا فيه بِذارَكما.
يقول غاندي: «إن غاية جهادنا صداقتنا والعالم أجمع … لقد أشرق اللاعنف على الناس وسيظل مشرقًا، هو بشير السلام في العالم.»
إن الساسة العمليين المؤمنين بالعنف (الثوريين منهم والرجعيين) يسخرون من مذهبنا هذا، وهم إذًا يدلون على جهلهم بالحقائق البعيدة. ليسخروا ما شاءوا! ذلك هو اعتقادي، إني أراه مسفَّهًا مضطهَدًا في أوروبة، ونحن في فرنسة حفنة (بل أنحن حفنة حقًّا؟) ولكن لو ظللت وحدي، فماذا يهمني تفردي؟ ليست ميزة الإيمان أن ينكر عداء العالم له، بل أن يراه ويسلِّم به وأن يصارعه، وهذا خير؛ لأن الإيمان جهاد و«لا عنفنا» هو أعظم جهاد. ليست سبيل السلام سبيل الضعف، نحن أشد عداءً للضعف منا للعنف، فلا يقوم شيء بلا قوة: لا الشر ولا الخير، والشر بتمامه أفضل من الخير المخصي. إن السلمية البكَّاءة مميتة للسلم: هو جبنٌ وضعفُ إيمان، فليخرج من بيننا الذين لا يؤمنون أو الذين يخشون! إن سبيل السلام تضحية النفس.
تلك هي قدوة غاندي الذي لا ينقصه إلا الصليب. كلنا يعلم أن رومة لولا اليهود كانت تضن به على المسيح، والإمبراطورية البريطانية ليست دون الإمبراطورية الرومانية قدرًا، لكنها الحماسة دبت، وقد تحركت لها أعماق روح الشعوب الشرقية، وهذه هَزاهزها تنبسط على الأرض جمعاء.
إن للظهورات الدينية الكبرى في الشرق نظامًا. أحد أمرَين: إما أن يُنصر ظهور غاندي وإما أن يُعاد، كما أُعيد منذ قرون بوذا والمسيح، حتى يتجلى تجليَّه الكامل في نصف إلهٍ من البشر، مبدأ الحياة الذي يقود الإنسانية في مرحلتها الجديدة.
إن «المانشستر غارديان» المشهورة باستقلال الرأي وبُعد النظر والتي تمثل أيضًا المصالح الكبرى المهددة مباشرةً بأخطار اللامعاونة الغاندية عهدت إلى بعض ثقاتها بالتحقيق في المسألة الهندية، فطاف في القطر الهندي ونشر سلسلة مقالات يشعر قارئها بتزايد قلق الإنكليز وحراجة موقفهم، رغم ما يظهره الكاتب من كره الحركة الغاندية (وهذا أمر طبيعي) ومن الرغبة في بخسها حقها، وإني ملخص المقالة الأخيرة المنشورة في ١٦ فبراير ١٩٢٣ (المانشستر غارديان الأسبوعي). يريد الكاتب إيهام نفسه أن خطة غاندي قد أُصيبت بخسران مبين وأن لا مناص للامعاونة من انتهاج خطط مستحدثة، ثم يستدرك قائلًا: «لكن روح اللامعاونة ما زال، إنك تجد في كل مكان سوء الظن بالحكومة الأجنبية والرغبة الشديدة في التخلص منها. إن الطبقات النيرة وأبناء الحواضر قد أُشربوا هذا الروح، وانفعال الفلاح به سطحي، لكن أحوال القرى تنبئ بأنه سيستحكم فيها أيضًا عما قريب. يظهر أن الجيش لا يزال سليمًا، لكن جنوده يُؤخذون من القرى، وسيتبع الحركة إن لم يكن اليوم فغدًا، ويظهر أن روح اللامعاونة هو أقوى ما يكون. عند خيار الهنود، أي المعتدلين منهم، فإن هؤلاء ينفرون من الأساليب الثورية فقط، والعامة لا يشاطرونهم هذه النفرة، وقلوب الناس أقرب إلى جرأة دعاة اللامعاونة منها إلى حكمة المعتدلين وأناتهم.» ويقدر الصحافي الإنكليزي بعشر سنين الوقت اللازم لتنظيم الفلاحين الهنود كي يتوصلوا إلى العصيان المدني وعدم أداء الضرائب، لكن الحالة ستزداد سوءًا خلال هذه المدة، وقد أصبح الآن من المستحيل إخافة الهنود بالسجن، فهم لا يعرفون هذا الخوف. سنضطر إلى التذرُّع بذرائع قاهرة أعنف، ومن شأن الشدة أن تزيد الأحقاد، «الحل السلمي الممكن الوحيد، إن يكن ثمة حل لهذه المشكلة»، هو أن تقدم إنكلترة من تلقاء نفسها على الإصلاح الهندي وأن تكون السابقة في مضماره. لا أنصاف إصلاحات كتلك التي قررتها عام ١٩١٩ وحاولت إنفاذها منذ أقل من سنة، فهذه ليست بكافية والوقت ضيق. على إنكلترة أن تجمع مجلسًا وطنيًّا هنديًّا يمثل مصالح الهند ومذاهبها وآرائها جميعًا: من غاندي ومريديه إلى أمراء الهند، وأصحاب الأموال الأوروبيين، والمسلمين والهندوسيين والبارسيين والأوراسيين والنصارى والطوائف النجسة … وعلى هذا المجلس أن يسن دستورًا أساسيًّا للهند المستقلة ضمن الإمبراطورية، وأن يعين مراحل تطبيق هذا الاستقلال الداخلي. بهذا وبهذا وحده نستطيع أن نحول دون تمزيق الإمبراطورية شر ممزق.
لا أدري كيف تتقبل حكومة الهند والدواوين الإنكليزية مثل هذا الاقتراح الذي تؤيده المانشستر غارديان بقوة بعد أن أدلى به مراسلها، ومن العسير عليَّ أن أصدق بأن غاندي ودعاة اللامعاونة يرضون أن يشتركوا وممولي أوروبة والهند في مجلس واحد، لكن الثابت هو أن «الاستقلال الداخلي» لم يعد موضوع جدل في الهند؛ لأنه أمر محتوم لا بد منه، في صورة من الصور، وليس أرعى للانتباه من تبدل لهجة إنكلترة، بعد مساعي غاندي، في كلامها على الهند، ولم يبقَ من أثر لاحتقار الأوروبيين الهنودَ، بل هم يتحدثون عنهم برعاية ظاهرة، ويجمعون على استنكار التدابير العنيفة الخرقاء التي كانت الذريعة القصوى التي تتذرع بها السلطة، وأحيانًا أولى ذرائعها، لقد فازت الهند، إن لم يكن مادة فمعنًى.