الفصل الخامس

منذ ذلك اليوم لم يُسمع صوت هذا الرسول الجهوري. إن جسده مسدودٌ عليه من كل صوب كأنه في قبر، ولكن ما كانت القبور لتحبس الفكر، فإن روح غاندي الخفية لم تزل محييةً الجسم الهندي العظيم. السلام واللاعنف واحتمال العذاب، تلك هي الرسالة الوحيدة التي أتت من السجن، وقد سُمعت الرسالة وانتقل هذا الأمر من أقصى الهند إلى أقصاها. لو أن غاندي سُجن قبل هذا الحين بثلاث سنين لانغمست الهند في الدم. وإذ شاع في مارس ١٩٢٠ أنه قُبض عليه ثار الأهلون في أمكنة كثيرة، لكن حكم أحمد آباد تقبلته الهند بسكينة دينية، وتقدم إلى السجون آلاف من الهنود بفرح هادئ. اللاعنف واحتمال العذاب … مثال عجيب دال على أن تلك الكلمة الإلهية قد نفذت إلى صميم روح الأمة.

كان السيخ، كما هو مشهور، من أشد الأقوام الهندية مراسًا وأكثرهم شغبًا، ولقد تجندوا جماعات في الحرب الكونية، ففي العام المنصرم شجر بينهم خلاف ذو خطر، وكان منشؤه تافهًا (في نظرنا نحن الأوروبيين). إن حركة تجديد ديني أخرجت بين ظهراني السيخ، فرقة العقاليين الذين يريدون تطهير المعابد من قُوَّام سيئي السمعة احتكروها ولا يرضون أن يخرجوا منها، ولأسباب قانونية أخذت الحكومة بناصرهم؛ إذ ذلك في أغسطس ١٩٢٢ بدأ استشهاد غورو-قا-باغ اليومي.١ كان العقاليون اعتنقوا مذاهب اللامقاومة، ونزل ألف منهم في جوار المعبد وأربعة آلاف في «المعبد الذهبي» بأمرتسار، ففي كل يوم كان يغادر المعبد الذهبي مائة متطوع (أغلبهم في سن الجندية وكثير منهم اشتركوا في الحرب الكبرى) نذروا عدم استعمال العنف لا قولًا ولا عملًا، وأن يبلغوا غورو-قا-باغ أو يرجعوا محمولين مغمًى عليهم، وينضم إليهم ٢٥ عقاليًّا من الألف النازلين عند المعبد نذروا مثل ذلك النذر، وكانت الشرطة البريطانية تنتظرهم على جسر غير بعيد، بأيديهم رماح محددة الأطراف، وهكذا كنت تشهد كل يوم مشهدًا مروعًا. كتب أندريوس صديق تاغور والأستاذ في صانتينكتان فصلًا في وصفه٢ لا ينساه قارئه. العقاليون بعمة سوداء مزينة بإكليل من أزهار بيضاء يتقدمون نحو جماعة الشرطة ويقفون قبالتهم على مسافة متر واحد، صامتين ساكنين مصلين، فيضربهم الشرطة بالرماح ضربًا مبرحًا، فيسقطون صرعى، ثم ينهضون إذا استطاعوا، ويعود الشرطة إلى ضربهم، وقد يُداسون بالأقدام حتى يُغمى عليهم، ولم يسمع أندريوس صرخة توجُّع، ولم يلحظ نظرة حنق، وحول الساحة مائة من الهنود يشهدون هذا المشهد وهم يصلون، على وجوههم أمارات الخشوع والألم وفي نفوسهم أشد الحزن، ويقول أندريوس إنهم «كانوا يذكِّرونه بظل الصليب»، وكان الإنكليز الذين يصفون هذا المشهد في صحفهم٣ يظهرون العجب ولا يدركون له معنى، لكنهم كانوا يسلمون مكرهين بأن التضحية الجنونية نصرٌ مبين يصيبه جيش اللامعاونة، وبأن الشعب البنجابي مسحور مأخوذ بها. أما أندريوس الكريم النفس الذي هداه كماله الروحاني إلى فهم لغز الروح الهندي، فقد رأى هنا ما رآه غوتي في معركة فالمي، أعني فاتحة عهدٍ جديد: «بطولة جديدة مستفادة من الألم أشرقت على هذه الدنيا … حرب فكرية جديدة …»

ويظهر أن العامة كانوا أحفظ لمذهب المهاتما من الذين عُهد إليهم بقيادة الأمة: مر ذكر المعارضة التي قامت في لجنة المؤتمر بدلهي قبل سجن الإمام بعشرين يومًا، وقد ظهرت المعارضة مرة ثانية لما اجتمعت لجنة المؤتمر بلكنو في ٧ يونيو ١٩٢٢. كان الاستياء شديدًا من خطة الانتظار والإنشاء البطيء التي وضعها غاندي، وقويت الرغبة في سلوك سبيل العصيان المدني، فأُلفت لجنة للنظر فيما إذا كان استعداد البلاد للعصيان كافيًا، فطوفت اللجنة في الهند، وكان البيان الذي قدمته في فصل الخريف مُيئسًا، لا لإثباته فقط أن العصيان من المستحيلات في الزمن الحاضر، بل لأن نصف أعضاء اللجنة (وكلهم ثقات صادقو الإيمان) اقترحوا أن يُعدَل عن أساليب اللامعاونة الغاندية وعن مقاطعة الأعمال السياسية، وأن يُؤلف حزب سواراج (الحكم الذاتي) وسط مجالس الحكومة، وبكلمة وجيزة أن تصبح اللامعاونة معارضة برلمانية بالفعل، وهكذا كان مذهب غاندي يُهدم من أساسه، يهدمه دعاة العنف من ناحية والمعتدلون من ناحية أخرى.

لكن الهند احتجت على ذلك، وعاد المؤتمر الوطني الهندي المنعقد بغايا في آخر ديسمبر ١٩٢٢ إلى توكيد تعلقه الشديد بالإمام المضطهد وإيمانه الصحيح بمذهب اللامعاونة، فرد ﺑ ١٧٤٠ صوتًا ضد ٨٩٠ اقتراح الاشتراك بالمجالس التشريعية.٤ وفي النهاية أجمعت الآراء على دوام الإضراب السياسي بتبديل طفيف في الأساليب المعمول بها، لكن المؤتمر رد اقتراحًا بمقاطعة السلع الإنكليزية خشية أن ينشأ عن ذلك خصومة طوائف العمال الأوروبية للقضية الهندية، وكان مؤتمر الخلافة الإسلامي أجرأ كعادته، فقرر المقاطعة بأغلبية عظيمة.
يجب أن نقف في هذا الموضع من تاريخ حركة غاندي العظيمة. إن هذه الحركة، رغم بعض العثرات التي لا مناص منها في غياب الإمام وخيرة أعوانه (لا سيما الأخوَين علي) الذين سُجنوا أيضًا، قد اجتازت السنة الأولى من حياتها بلا دليل، منصورة موفقة، وإن الخيبة التي عرفتها الصحف الإنكليزية بعد مؤتمر غايا لدليل واضح على ذلك الفوز المبين.٥

ماذا يكون في المستقبل؟ هل تظهر إنكلترة، بعد أن علمتها الخطيئات السالفة، أمهر في إرضاء الأمة الهندية، أم يُصاب ثبات هذه الأمة بالكلال؟ إن الشعوب ضعيفة الذاكرة، ولو لم تكن دروس المهاتما منقوشة في سويداء الوجدان القومي من عهدٍ بعيد؛ لشككت كثيرًا في حفظ الهنود هذه الدروس زمنًا طويلًا؛ ذلك أن النابغة مهما تكن عظمته، سواءً أكان والذين يحيطون به على وفاقٍ أم لم يكن، فليس بقادرٍ على أن يعمل أو يُحدث أثرًا إلا إذا كان ملبيًا غرائز أمته وحاجات عصره ورجاء العالم.

وهكذا ماتهما غاندي، إن مبدأ الأهمسا (اللاعنف) الذي جاء به، منقوش في صدر الهند منذ ألفي سنة: لقد جعله مهافيرا وبوذا وعبادة فشنو غذاء الملايين من النفوس، وقصارى غاندي أنه أدخل فيه دمه، دم بطلٍ من الأبطال، فهو يستوحي تلك الأخيلة العظمى: قوى الماضي الخامدة، الدفينة في سباتٍ مميت، وقد أيقظها صوته، فقامت لأنها رأت فيه صورتها، وليس غاندي قولًا فحسب، بل هو عمل وقدوة، لقد تجسدته الآلهة والقوى. ما أسعد الرجل الذي هو شعب، شعبه الملحود يُبعث فيه.

بيد أن أمثال هذا البعث لا تحصل اتفاقًا، وإذا نحن شهدنا روح الهند يثب من معابدها وغاباتها؛ فلأنه جاء العالم بالجواب المقدر الذي ينتظره العالم.

وفعلًا إن الجواب يجاوز حدود الهند بلا نهاية، والهند وحدها قادرة على أن تأتينا به، لكنه يثبت على السواء عظمتها وتضحيتها، ومن الممكن أن يكون صليبها.

ويظهر أنه لا مناص، كيما يُبعث العالم ويتجدد، من أن تضحي أمة بذاتها، فقد ضُحِّي اليهود لمسيحهم الذي حملوه وغذَّته آمالهم قرونًا، حتى إذا أزهر على الصليب الدامي في النهاية أنكروه، لكن الهنود أسعد منهم حظًّا؛ لأنهم عرفوا مسيحهم، فهم يمشون إلى التضحية التي يرون فيها نجاتهم جذلين مستبشرين.

بيد أن الهنود، كالنصارى الأولين، لا يدركون جميعًا معنى هذه الحرية الحقيقي، فإن أماني طائفة كبيرة منهم لا تتعدى حد السواراج في الهند، ورأيي أنهم سيبلغون هذه الغاية السياسية عاجلًا، فقد استنزفت الحروب والثورات دم أوروبة، وأفقرتها وأنهكت قواها، وعرَّتها من أبهتها الأولى في نظر آسية المضطهدة، فلن تستطيع إذًا أن تقاوم طويلًا أمم الإسلام والهند والصين واليابان التي أيقظتها الحادثات.

والأمر أيسر من ذلك لو لم يكن فيه إلا أن بضع أمم ستُزاد على الأمم المستقلة، مهما يكن من شأن الأنغام الجديدة التي قد تضيفها تلك الأمم إلى السمفونيا الإنسانية، الأمر أيسر لو لم تكن هذه القوى الآسيوية حاملة باعثًا جديدًا على الحياة وعلى الموت، وكذلك (وهذا أجلُّ خطرًا) على العمل للإنسانية جمعاء، وبعبارة أخرى لو لم تكن حاملة لأوروبة المنهوكة عنصرًا جديدًا، عنصر قوة وحياة.

لقد عصفت بالعالم عاصفة العنف، وليس في هذه السَّموم التي تهب على حصاد مدنيتنا فتحرقه ما هو غير منتظر، فإن عصورًا من الصلف القومي الفظ، المغرى بنظريات الثورة الفرنسية، والمضخَّم والمذاع بتقليد الديمقراطيات الأعمى، تلك العصور المتوَّجة بعصر صناعي لا أثر للرحمة الإنسانية فيه، يسيطر عليه ممولون جِشاع، ومكينية مذلة مستعبدة، ومادية تموت فيها الروح خنقًا. ستؤدي تلك العصور حتمًا إلى الاختباطات العشواء التي تضيع فيها نفائس الغرب وأعلاقه. ليس بحسبنا أن نقول إن ثمة وجوبًا، فلا بد من القول إن ثمة قدرًا لا محيص عنه، فكل أمة تذبح أختها باسم مبادئ واحدة تستر مصالح وغرائز قابيليَّةً واحدة، كلهم — غلاة القومية والفاشيون والبلاشفة والشعوب والطبقات المضطهِدة والشعوب والطبقات المضطهَدة — كلٌّ يدعي لنفسه حق العنف الذي يبدو له أنه الحق المطلق، وينكره على سائر الناس. منذ نصف قرن كانت القوة تغلب الحق، أما اليوم فإن الخَطب أعظم: أصبحت القوة هي الحق، لقد افترسته.

في هذا العالم القديم المتداعي، لا ملجأ ولا رجاء، ليس فيه نورٌ ساطع، إن الكنيسة تسدي نصائح أخلاقية مسكِّنة موزونة؛ خشية أن يقوم بينها وبين أرباب الحول والطول خصام، ثم هي تنصح فقط ولا تجعل نفسها قدوة، وثمة أيضًا دعاة إلى السلام غامضون يَثغون ثُغاءهم بضعفٍ وفتور، وإنك لتحس أنهم مترددون، فهم يحدثون عن عقيدة ليسوا على يقين من أنها في صدورهم، فمن يثبت لهم صحة هذه العقيدة؟ وكيف تثبت لهم في هذا العالم الذي يجحدها؟ كما تثبت كل عقيدة: بفعلها.

تلك هي «الرسالة إلى العالم» كما يسميها غاندي، رسالة الهند: «لنضحِّ أنفسنا!»

ولقد أعاد تاغور هذا القول في كلامٍ ساحر؛ لأن تاغور وغاندي واحد في هذا المبدأ العلي:٦ «… أرجو أن ينمو هذا الروح، روح التضحية والصبر على العذاب والرضاء بالألم … تلك هي الحرية الحقة … لا شيء أغلى منه قيمة، حتى ولا الاستقلال الوطني … إن للغرب إيمانًا راسخًا بالقوة المادية وبالغنى المادي، فعبثًا يصرح داعيًا إلى السلام ونزع السلاح! إن زمجرة وحشيته تعلو على ذلك الصوت، إن مثله مثل سمكة تجرحها وطأة الماء فهي تحاول أن تطير في الجو، فكرٌ حسنٌ! لكنه يستحيل على السمكة أن تطير. علينا نحن الهنود أن نثبت للعالم هذه الحقيقة التي لا تقتصر على جعل نزع السلاح من الممكنات، بل تحوله إلى قوةٍ. سيبرهن هذا الشعب الأعزل أن للقوة المعنوية سلطانًا أكبر من القوة البهيمية. ويدل تطور الحياة أنها طارحةٌ عنها تدريجًا عبء سلاحها الباهظ وذلك القدر العظيم من اللحم لتبلغ اليوم الذي يصبح الإنسان فيه ملك هذا العالم البهيمي. سيأتي يوم يبرهن فيه الإنسان الضعيف، ذو القلب، وقد ألقى عنه سلاحه بأجمعه، أن الحلماء الودعاء هم وارثو الأرض. من المعقول إذًا أن يستنجد غاندي الضعيف البنية، المحروم من كل الوسائل المادية، بما للضعاف الوادعين من سلطانٍ كبير كامن في قلب أبناء الهند التي أُهينت وأُنزلت عن عرشها. إن الأقدار في الهند اختارت «النارايانا» لشد أزرها لا «الناراياني سنا»، قوة الروح لا قوة الساعد. فلا مناص لها من أن ترفع التاريخ الإنساني عن مستواه الوحل في الصراع المادي، إلى ذرى الجهاد الروحي. ليست غايتنا السواراج مهما خُدعنا بالعبارات التي تلقيناها عن الغرب. إن جهادنا جهادٌ روحي، جهاد في سبيل الإنسان. يجب أن نطلق الإنسان من الحبائل التي نسجها حوله، أعني من أوضاع الأثرة القومية. يجب أن نقنع الفراشة بأن الجو الطلق خيرٌ لها من وقاية الشرنقة … ليس في لغتنا لفظٌ دالٌّ على معنى الأمة، فإذا استعرنا هذا اللفظ من الشعوب الأخرى لم يكن صالحًا لنا؛ إذ لا بد لنا من محالفة «النارايانا» الموجود الأسمى، ولن يجدي علينا هذا النصر شيئًا إلا أننا قد أعلينا كلمة الله، وحققنا ملكوته. إذا كنا قادرين على أن نتحدى الأقوياء والأغنياء والمدججين بالسلاح، بكشفنا للعالم عن سلطان الروح الخالد، فإن قصر المارد الذي يدعى «المادة» سيتداعى وينقض في الفضاء، وحينئذٍ يوفق الإنسان إلى السواراج الحقيقي. نحن صعاليك الشرق، في أثمالنا البالية، سننعم بالحرية على الإنسانية جمعاء.»

أي تاغور وغاندي، يا نهرَي الهند! إنكما كالهندوس والغانج، تضمان في عناقكما الشرق والغرب. هذا فاجعة العمل البطولي وذاك حلمٌ نوراني عظيم، وكلاهما فيضٌ من الله على هذا العالم المحروث بسكة العنف، فاطرحا فيه بِذارَكما.

يقول غاندي: «إن غاية جهادنا صداقتنا والعالم أجمع … لقد أشرق اللاعنف على الناس وسيظل مشرقًا، هو بشير السلام في العالم.»

إن السلام في العالم لا يزال بعيدًا، فلسنا من الذين تضلهم الأوهام، لقد شهدنا في نصف قرن كثيرًا من أكاذيب النوع البشري ومن دلائل جبنه وقسوته، ولكن هذا لا يمنع من أن نحبه؛ لأن في أحط الناس أَثارةً من الروح الإلهي … إننا لا نجهل شيئًا من الضرورات المادية المحتومة التي ترزح بأعبائها أوروبة في القرن العشرين، ولا نجهل الجبرية الباهظة في الأحوال الاقتصادية التي تمسك بخناقها، ولا عصور الشهوات والأهواء والضلالات المتحجرة التي تحيط بنفوس رجال العصر كأنها قشرة غليظة لا ينفذ منها الضياء، ولكننا نعرف أيضًا معجزات الروح: إني رأيت بروقه في التاريخ تشق سموات أشد ظلمة من سمائنا، وأنا الحي ساعةً من الزمن، أسمع في الهند طبل «سيوا» إمام الراقصين الذي يحجب نظره الضاري، ويسيطر على خطواته؛ لينجي الكون من السقوط في الهاوية.»٧

إن الساسة العمليين المؤمنين بالعنف (الثوريين منهم والرجعيين) يسخرون من مذهبنا هذا، وهم إذًا يدلون على جهلهم بالحقائق البعيدة. ليسخروا ما شاءوا! ذلك هو اعتقادي، إني أراه مسفَّهًا مضطهَدًا في أوروبة، ونحن في فرنسة حفنة (بل أنحن حفنة حقًّا؟) ولكن لو ظللت وحدي، فماذا يهمني تفردي؟ ليست ميزة الإيمان أن ينكر عداء العالم له، بل أن يراه ويسلِّم به وأن يصارعه، وهذا خير؛ لأن الإيمان جهاد و«لا عنفنا» هو أعظم جهاد. ليست سبيل السلام سبيل الضعف، نحن أشد عداءً للضعف منا للعنف، فلا يقوم شيء بلا قوة: لا الشر ولا الخير، والشر بتمامه أفضل من الخير المخصي. إن السلمية البكَّاءة مميتة للسلم: هو جبنٌ وضعفُ إيمان، فليخرج من بيننا الذين لا يؤمنون أو الذين يخشون! إن سبيل السلام تضحية النفس.

تلك هي قدوة غاندي الذي لا ينقصه إلا الصليب. كلنا يعلم أن رومة لولا اليهود كانت تضن به على المسيح، والإمبراطورية البريطانية ليست دون الإمبراطورية الرومانية قدرًا، لكنها الحماسة دبت، وقد تحركت لها أعماق روح الشعوب الشرقية، وهذه هَزاهزها تنبسط على الأرض جمعاء.

إن للظهورات الدينية الكبرى في الشرق نظامًا. أحد أمرَين: إما أن يُنصر ظهور غاندي وإما أن يُعاد، كما أُعيد منذ قرون بوذا والمسيح، حتى يتجلى تجليَّه الكامل في نصف إلهٍ من البشر، مبدأ الحياة الذي يقود الإنسانية في مرحلتها الجديدة.

فبراير عام ١٩٢٣
١  غورو-قا-باغ معبد قائم على مسافة ١٠ أميال من أمرتسار.
٢  «جهاد العقالية» نُشرت في صحيفة «سوارايا» بمدراس وعلى حدة في ١٢ سبتمبر ١٩٢٢.
٣  المانشستر غارديان الأسبوعي، في ١٣ أكتوبر ١٩٢٢.
٤  أما العناصر الثورية الداعية إلى العنف فقد كانت قليلة في مؤتمر غايا؛ لذلك كانت ضعيفة الأثر.
٥  في مقالة لبلانش وطسن (صحيفة الوحدة، في ١٦ نوفمبر ١٩٢٢) «تعداد الفوائد التي جنتها الهند من جهادها بالمقاومة من غير عنف». وتثبت هذه الكاتبة أن إيراد الهند الداخلي نقص نحو ٧٥ مليون دولار، وأن إنكلترة خسرت بمقاطعة النسيج الإنكليزي في سنة واحدة ٢٠ مليون دولار، وتذكر أن الهنود السجناء يومئذٍ يبلغون ٣٠ ألف سجين، وتظهر أن نظام الحكومة الإداري قد اختل بتمامه، لكن بلانش وطسن معجبة إعجابًا قصيًّا بالغاندية، فهي إذًا تبالغ دون ريب في وصف نجاحها، وثمة شهادات أخرى لا تعرب عن هذا القدر من الارتياح؛ لأن حركة التضحية تصطدم بأثرة طوائف التجار وذوي اليسار، ولأن كثيرًا من الموظفين الذين قدَّموا استقالتهم في الحماسة الأولى استردوها فيما بعد، وليس من العقل أن تتصور عكس ذلك، ففي كل ثورة يظل كثيرون في المؤخرة أو ينكصون على أعقابهم، والمسألة هي هذه: هل يستمر التيار في الطبقات الدنيا أم لا؟ إليكم شهادة لا ريب في خطورتها وإنصافها:
إن «المانشستر غارديان» المشهورة باستقلال الرأي وبُعد النظر والتي تمثل أيضًا المصالح الكبرى المهددة مباشرةً بأخطار اللامعاونة الغاندية عهدت إلى بعض ثقاتها بالتحقيق في المسألة الهندية، فطاف في القطر الهندي ونشر سلسلة مقالات يشعر قارئها بتزايد قلق الإنكليز وحراجة موقفهم، رغم ما يظهره الكاتب من كره الحركة الغاندية (وهذا أمر طبيعي) ومن الرغبة في بخسها حقها، وإني ملخص المقالة الأخيرة المنشورة في ١٦ فبراير ١٩٢٣ (المانشستر غارديان الأسبوعي). يريد الكاتب إيهام نفسه أن خطة غاندي قد أُصيبت بخسران مبين وأن لا مناص للامعاونة من انتهاج خطط مستحدثة، ثم يستدرك قائلًا: «لكن روح اللامعاونة ما زال، إنك تجد في كل مكان سوء الظن بالحكومة الأجنبية والرغبة الشديدة في التخلص منها. إن الطبقات النيرة وأبناء الحواضر قد أُشربوا هذا الروح، وانفعال الفلاح به سطحي، لكن أحوال القرى تنبئ بأنه سيستحكم فيها أيضًا عما قريب. يظهر أن الجيش لا يزال سليمًا، لكن جنوده يُؤخذون من القرى، وسيتبع الحركة إن لم يكن اليوم فغدًا، ويظهر أن روح اللامعاونة هو أقوى ما يكون. عند خيار الهنود، أي المعتدلين منهم، فإن هؤلاء ينفرون من الأساليب الثورية فقط، والعامة لا يشاطرونهم هذه النفرة، وقلوب الناس أقرب إلى جرأة دعاة اللامعاونة منها إلى حكمة المعتدلين وأناتهم.» ويقدر الصحافي الإنكليزي بعشر سنين الوقت اللازم لتنظيم الفلاحين الهنود كي يتوصلوا إلى العصيان المدني وعدم أداء الضرائب، لكن الحالة ستزداد سوءًا خلال هذه المدة، وقد أصبح الآن من المستحيل إخافة الهنود بالسجن، فهم لا يعرفون هذا الخوف. سنضطر إلى التذرُّع بذرائع قاهرة أعنف، ومن شأن الشدة أن تزيد الأحقاد، «الحل السلمي الممكن الوحيد، إن يكن ثمة حل لهذه المشكلة»، هو أن تقدم إنكلترة من تلقاء نفسها على الإصلاح الهندي وأن تكون السابقة في مضماره. لا أنصاف إصلاحات كتلك التي قررتها عام ١٩١٩ وحاولت إنفاذها منذ أقل من سنة، فهذه ليست بكافية والوقت ضيق. على إنكلترة أن تجمع مجلسًا وطنيًّا هنديًّا يمثل مصالح الهند ومذاهبها وآرائها جميعًا: من غاندي ومريديه إلى أمراء الهند، وأصحاب الأموال الأوروبيين، والمسلمين والهندوسيين والبارسيين والأوراسيين والنصارى والطوائف النجسة … وعلى هذا المجلس أن يسن دستورًا أساسيًّا للهند المستقلة ضمن الإمبراطورية، وأن يعين مراحل تطبيق هذا الاستقلال الداخلي. بهذا وبهذا وحده نستطيع أن نحول دون تمزيق الإمبراطورية شر ممزق.
لا أدري كيف تتقبل حكومة الهند والدواوين الإنكليزية مثل هذا الاقتراح الذي تؤيده المانشستر غارديان بقوة بعد أن أدلى به مراسلها، ومن العسير عليَّ أن أصدق بأن غاندي ودعاة اللامعاونة يرضون أن يشتركوا وممولي أوروبة والهند في مجلس واحد، لكن الثابت هو أن «الاستقلال الداخلي» لم يعد موضوع جدل في الهند؛ لأنه أمر محتوم لا بد منه، في صورة من الصور، وليس أرعى للانتباه من تبدل لهجة إنكلترة، بعد مساعي غاندي، في كلامها على الهند، ولم يبقَ من أثر لاحتقار الأوروبيين الهنودَ، بل هم يتحدثون عنهم برعاية ظاهرة، ويجمعون على استنكار التدابير العنيفة الخرقاء التي كانت الذريعة القصوى التي تتذرع بها السلطة، وأحيانًا أولى ذرائعها، لقد فازت الهند، إن لم يكن مادة فمعنًى.
٦  رسالة ٢ مارس ١٩٢١، نُشرت في «المجلة الحديثة» مايس ١٩٢١.
٧  شذرة مقتبسة من أقدم دعاء إلى «سيوا» في القصة التمثيلية «مودرا-راكشاسا» من وضع فيشاخدَّاتا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤