النِّيل
يَجْري بماءِ حياتِنا وحياتِهِ
فكأنَّما صِرْنا سَرِيَّ١ نَباتِهِ!
مِن مَوْجِه يُوحَى خُفوقُ قُلوبِنا
ودِماؤُنا مِن لونِه وصِفاتِهِ
لولاهُ كانتْ «مصرُ» قَفْرًا قاحِلًا
وبهِ تَرَى الجَنَّاتِ مِن جنَّاتِهِ!
يَجْري بغالي الرِّزْق جرْيَ موفَّقٍ
للبِرِّ لا يَمْتَنُّ من حسناتِهِ
وسخاؤُه يأْبَى الرُّجوعَ لبذْلِهِ
فيَذُوقُ مِلْحُ البحرِ عذْبَ فُراتِهِ
حتى الهواءُ فلُطْفُهُ من جُودِهِ
حتى النَّسيمُ فطَبْعُه من ذاتِهِ٢
وتَرَى الْمُرُوجَ يَمِينَه وشِمالَهُ
صُوَرَ الجمالِ حنَتْ على مِرْآتِهِ!
أو كالعَساكر في عمائمِ قُطْنِه
رفَعَتْ تحيَّتَها على راياتِهِ!٣
مُخضَرَّةً بأَهِلَّةٍ من زَهْرِه٤
بَسَّامةً تَفْتَرُّ عن آياتِهِ
وتَرَى الحقولَ قصائدًا منظومةً
بالرَّائعِ الفَتَّانِ من أبياتِهِ!
شيخُ الجُدُودِ وليس يعرف مَوْلِدًا
لكنَّ عُمْرَ الْخُلْدِ من غاياتِهِ!
فحقُوقُه التقديسُ فوقَ محبةٍ
وحقوقُنا مَقْرُونةٌ بحياتِهِ
وإذا أتيتَ له تُناشِدُ نُصْحَهُ
ألْفَيْتَ غالي النُّصْحِ في شاراتِهِ٥
يُوحِي ويُرْشِد في صُموتٍ بالِغٍ
صَمْتُ القُرون تُشامُ في لَمَحاتِهِ
وتهزُّه طَرَبًا حماسة أهْلِه
سِيَّانِ في الفِتْيانِ أو فَتَيَاتِهِ٦
يا «نيلُ» لن ينْسَى عُهودَك شاربٌ
ممَّا مَنَحْتَ وذاكِرٌ لِحُماتِهِ٧
١
السَّرِيُّ لغةً: النَّهْر الصَّغِير، ومجازًا في البيت بمعنَى
المتفرِّع المتنقِّل؛ أي الحي المتحرِّك.
٢
إشارة إلى تأثير النيل طبيعيًّا في حُسْن جوِّ مصر.
٣
اختار الشاعر تخصيصَ الإشارة للقُطْن في هذا البيت نَظَرًا لأنَّه
أهمُّ حاصِلات مصر الزراعية.
٤
قوله: «مخضرة» فيه إشارةٌ إلى لَوْن الرَّايةِ المصرية.
٥
يقصد بشاراتِهِ قِلاعَ المراكب المعبِّرة عن حركة الانتفاع بخيره،
كما يقصد بها ما على جانبَيْه من منشآت الرَّيِّ المفيدة.
٦
«أو» هنا بمعنَى واو العطف.
٧
في هذا البيت مُناقَضةٌ لقول الشِّاعر قديمًا:
أتطلُبُ من زمانِك ذا وفاءً
وتأملُ ذاك جَهْلًا من بَنِيهِ!
لقد عُدِمَ الوَفاءُ به وإني
لأَعْجَبُ مِن وفاءِ «النِّيلِ» فِيهِ!