أبو الهَوْل١
يا جاثِمًا أَعْيَا العقولَ صُمُوتُهُ
وتظلُّ قاهرةَ البُحوثِ نُعُوتُهُ!٢
حتَّامَ تَهْزَأُ بالأَنامِ وحالِهِم؟!
وكأنَّما أقْسَى البيانِ سُكوتُهُ!
ونُحِتَّ مِن صَخْرٍ كحالِكَ ثابتٍ
هيهاتَ يَأْبَهُ للزمانِ ثبوتُهُ٣
ويُقال: أنتَ «إِلهُ صُبْحٍ» مُقْبِلٌ
للمُلْكِ نحوَك أهلُهُ وسُمُوتُهُ٤
تَبْقَى ويَمْضِي مَن بَناكَ وهكذا
الفنُّ يَبْقَى والأصيلُ٥ يفوتُهُ!
وتُخالُ رمزَ جلالِ «مصرَ» وعِزِّها
وبها الهياكلُ في الشُّروق بيوتُهُ!
قد كان تاجُك حِليةً وضَّاءةً٦
فإذا بتابوتِ العُلَى تابوتُهُ
لَهْفي على العَهْد الذي بكَ أشرَقَتْ
آياتُهُ وكأنَّني أُعطِيتُهُ
وكأنَّنِي أُسْقِيتُ إِكْسِيرَ الهَوَى
فيهِ، وبالشِّعرِ الوَفِيِّ رثيتُهُ!
وطغَتْ عليكَ مِن الرِّمال كتائبٌ
كالدَّهْرِ يعبَثُ بالجَمالِ مُرُوتُهُ٧
وتفتَّتَ الوجْهُ الصَّبِيحُ وما عنَا٨
وكأنَّما مِسْكُ الفَخارِ فَتِيتُهُ!
وكأنَّ مِن ماضِي الحُروبِ٩ دلالةً
وهي الوُجومُ الجمُّ فيكَ رأيتُهُ!
بينا يَهَشُّ لدى الشُّروقِ لزائرٍ
مرآكَ، مِن رُسُلِ الأشعَّةِ قوتُهُ!
ألقاهُ عند الليل — والقمر الذي
يرعاه — يَبْكِي عصرَه فبكَيْتُهُ!
وكذا البِعادُ عنِ الأَعِزَّةِ مُرْهِقٌ
والحُسْنُ يَشْقَى إنْ مَضَى مَلَكُوتُهُ١٠
واليومَ أُقْرِئُكَ التحيةَ مُكْرَمًا
مَجْدًا، ولوْ أنِّي استطعتُ فَدَيْتُهُ!
فالمجدُ للأجدادِ باعثُ مجْدِنا
والصِّيتُ في المجدِ المجدَّدِ صِيتُهُ
والشَّعْبُ إنْ لم يَحْتَفظْ بتُراثِه
ويَزِدْهُ سَعْيًا فالتَّهاوُنُ مَوْتُهُ!
١
سمَّاه مؤرِّخو العرب: «بلهوب»، والجمع «بلاهيب»، وهذا الجمع ممَّا يصحُّ إطلاقُه
على الأمثلةِ المُشاهَدة في الكرنك.
٢
الجاثم: المنطَرِح المتلَبِّد بالأرض. والصُّموت: الصَّمْت.
والنُّعوت: الأَوْصاف.
٣
ليس أبو الهول بناءً مستقلًّا كأبنيةِ الأهرام مثلًا، بل إنَّه
منحوتٌ ومصوَّر في صخرٍ طبيعيٍّ بمكانِه، ويَأْبَهُ له بمعنى
يَلْتَفِتُ إليه ويُعنَى به.
٤
أي يتَّجِه نحوَك. وسُمُوته: جمع سَمْت، وهو الطريق. ومِن آراء
العلماء أنَّ «أبا الهول» في عقيدة قُدَماء المصريين يمثِّل إلهَ
الصُّبْح هرماكس Hurmachis، ولا
يُعرَف أكيدًا حتى الآن مَن الذي نَحَتَه.
٥
الأصيل: المقصودُ بها المتفنِّن الذي أبْدَعَه.
٦
تكلَّم بإعجابٍ عن تاجِ أبي الهول المَنْزُوع القسُّ استانلي
الشَّهِير في كتابِه Sinai &
Palastine، وقد عَثَر عليه مَدْفُونًا في الرِّمال
الأثرية بجانِبِه الكولونيل دوم سنة ١٨٩٦م.
٧
مُرُوته: جَدْبه.
٨
كان وَجْهُ «أبي الهول» جميلًا، كما وُصِفَ قديمًا، ولكنْ يُقال
إنَّه أصابَ وجهَه التشويهُ في تعاقُبِ الأَجْيال على أَيْدِي مَن
كَرِهوا هذا الأثرَ، ولم يَفْهَموا قيمتَه الفنيةَ، وعلى الأخَصِّ في
عهْدِ المماليكِ الذِينَ كانوا يتَّخِذونه هَدَفًا لقَنابِلِهم.
٩
يُشِير خاصةً إلى «موقعةِ الأهرام» بين «نابليون»
و«المماليك».
١٠
إشارة إلى ما تبدَّل من حال «أبي الهول»، فأصبحَ مهوبَ الشكلِ
كَئِيبَه غالبًا، بعد أنْ كان مَعْدودًا مثالَ الحُسْن وتناسُقِ
الخِلْقة. والملكوت: العِزُّ والسُّلْطان.