تمثالا ممنون
قاما شهيدَيْ فخارٍ١ بانَ صاحبُهُ
ولم يَنَلْ منهما ذُلٌّ وساحِبُهُ!
ولا تحدَّاهما النسيانُ في زمنٍ
فالدَّهْر بينَهما يعتزُّ جانِبُهُ!
تهدَّم «الهيكلُ» العاتي وقد بَقِيا
في جِلْسةِ السائلِ الجاني يُحاسِبُهُ!
ومثَّلَا صاحبَ الفنِّ الذي ندبا
والدهرُ مثلَهما في التَّوْبِ نادِبُهُ!
إِيهًا «أمنفيسُ» لا تجزعْ فما برحتْ
ذكراك ذكرى السَّنَى المعشوقِ صاحبُهُ
إنْ مَضَّك الدهرُ في غلواءِ نشْوَتِه
وهزَّ تِمثالَك «الزلزالُ»٢ غالِبُهُ
ففيه فلسفةُ الآسِي لمنشئِهِ
فكمْ تغنَّى لنُور «الشمس» جاذِبُهُ
وفي «دموع النَّدَى» شعرُ الحنانِ له
كأنَّها «أمُّه» مالتْ تُداعِبُهُ!
فعِشْ كذلكَ أنت اليومَ في طَربٍ
وانصِتْ لشَعْبِك فالذِّكْرى تُخاطِبُهُ
ومِثْلُ حُبِّك لن يُطوَى على زمنٍ
ومِثلُ مجْدِك لن تَخْفَى كواكِبُهُ
أليس من عَجَبٍ أنْ عادَ في بَعَثٍ
«ممنونُ» في صورةِ «التِّمثالِ» حاجِبُهُ؟!
أليس هذا دليلَ الجذْبِ مِن عِظَمٍ
يحسُّ صِدْقًا به رانٍ يُرَاقِبُهُ؟!
كأنَّ «طروادةَ» اعتزَّ الشهيدُ بها
فكافأَتْهُ بإحسانٍ يناسِبُهُ
ولم تَجِدٍ غيرَ شمسِ «النِّيل» مُسْعِدةً
وغيرَ «طيبة» دارًا لا تُجانِبُهُ
وغير رسم «أمنفيس» يَهَشُّ له
كلاهما فارسٌ عزَّتْ كتائِبُهُ!
إنْ أَنْسَ لا أَنْسَ فجرَ الصبحِ عن كَثَبٍ
والنُّورُ قد سالَ سَيْلَ التِّبْر ذائبُهُ!
على روائعِ «تمثالَيْك» في وَهَجٍ
من فِتْنة النُّورِ كم يَفْتَرُّ ساكِبُهُ!٥
وللنسيمِ حَفِيفٌ كلُّه وَرَعٌ
وللطيورِ نشيدٌ لا أُغالِبُهُ!
فكنتُ في موقفِ المذْهُولِ من شَغَفٍ
بما يَرَى كالذي راقتْ مشارِبُهُ٦
كأنَّما كلُّ حسِّي للجمال غدا
عبدًا، ولكنَّما رقَّتْ مَطالِبُهُ!
فقلتُ: ربَّاه! هل شعبٌ يَمُتُّ كذا
للفنِّ والعلمِ مَنْ تَهْوِي رغائِبُهُ؟!
وقد شعرتُ بوَحْيٍ هاتِفٍ فجَرَى
في النفسِ مِن ضَرَمِ الإيمانِ لاهِبُهُ!
١
تمثالا «ممنون» يمثِّلان في الواقع الملكَ «أمنفيس» الثالث — أحدهما
يمثِّله مَلِكًا للشمال، والآخَرُ مَلِكًا للجنوب — وقد بناهما منذ
ثلاثة آلافٍ من السنين تقريبًا أمامَ «معبد بيلون» الذي اندَثَر فيما
بعدُ اندثارًا تامًّا، وهذا المَلِك العظيم هو أيضًا الباني لمعبد
الأقصر.
٢
أصاب التمثالَ الشماليَّ بشقوقٍ زلزالٌ شديدٌ في سنة ٢٧ قبل الميلاد،
ومنذ ذلك الوقْتِ لُوحِظ صُدُور نغمةٍ وأزيزٍ منه وقْتَ الشُّروق،
مَنْشَؤُه تبخُّر النَّدَى الذي يتجمَّع داخلَه في غُضون الليل. وقد
نسبتِ الميثولوجيا اليونانية والرُّومانية ذلك الصوتَ إلى «ممنون» بعد
أنْ بعث — في زعْمِهم — بصورة ذلك التِّمثال. و«ممنون» هذا من شُهداء
حرب «طروادة» وابن «أورورا» — أو الشفق — فهو بصوتِهِ يُحَيِّي
والدتَه، وهي تَجُود عندَ سماعِ صوتِهِ بدُموعها اللؤلئية (الندى) وإلى
هذه العقائد الخرافية القديمة يذهبُ الخيالُ الشعريُّ في
القصيدة.
٣
أي الشمس والتمثال.
٤
أُصْلِح التِّمثالُ المشقَّق حوالي سنة ٢٠٠ بعد الميلاد، ومنذ ذلك
الوقت انقطع الصوت الذي كان يُسمَع منه في الإصباح.
٥
ساكبه: يعني الفجر.
٦
راقتْ مشاربه: عذُبتْ مُيُولُه.