الأهرام
أفنَيْتِ يا رمزَ الخُلودِ الأعْصُرا١
وبَقِيتِ للأملِ المجدَّدِ مَظهَرا
أُنشِئْتِ مِن بأسِ المُلوكِ قُبورَهم
فمَضَوْا وذِكْرُك قاهرٌ لن يُقْبَرا
وبُنِيتِ بالعَسْفِ الشديدِ شَهيدةً
بالظُّلْم، لكنْ صِرتِ معنًى أكبَرَا
عرفَ الجدودُ المجدَ دِينَ مُلُوكِهم
فبَنَوْا خزائِنَه الرَّفيعاتِ الذُّرى
وأبَوْا حَقِيرَ التُّربِ يَلمَسُ هَيْكلًا
منهم ولو صارَ التُّرابُ مُجَوْهرًا!٢
حَقَدوا على الدنيا الخئونة حِقْدَهم
واستصغروا للعَقْلِ أن يتقَهْقَرا
فعلى رُءوسِك للمُلوك نِداؤُهم
ما زالَ بالحثِّ العظيمِ مُظَفَّرًا!
مَن ذَا يَرَاكِ وليس يخْفِقُ قلبُهُ
عجبًا، ويُحجِم عن مُفاخَرة الوَرَى؟
مَن ذا يَشِيم٣ ثُبوتَكِ العالي ولا
يهتزُّ للعَلْياء مهما قصَّرا؟
مَن ذا يُراقِبُ للغروب مناحةً
ويظلُّ كالصخرِ المَدَى مُتحجِّرًا؟
قد قمتِ للإنسانِ غضبةَ ثائرٍ
يأبَى الفناءَ مدبِّرًا ومفكِّرًا
وبرزتِ «للمصري» معجزَ دينه
دينُ العظائمِ والبقاءِ مُكرَّرا
ورفعتِ للأحفادِ خيرَ منارةٍ
عندَ المصائبِ يَهْتَدون بها السُّرَى٤
وشهدتِ من ماضِي الحوادثِ مُفْجِعًا
يَذْرُو٥ الجبالَ فما اهتزَزْتِ على الثَّرَى!
ولبثتِ يَرْقُبُك البنونَ لوَعْظِهم
ويُعزُّك النجمُ الفَخيمُ مُحَيَّرًا!٦
ويُقال: هندسةُ العجائب … إنَّما
«للنِّيل» أنتِ ذخيرةٌ لا تُشْتَرَى!
١
الخطاب موجَّه إلى أهرام الجيزة الشَّهيرة، وإنْ وُجد عداها في
المنطقة الممتدَّة من الجيزة إلى مَيْدوم، ومجموع المستكشَف منها حتى
الآن ستةَ عشرَ هرمًا، وكلُّها بُنِيتْ مقابرَ للفراعنة، وكان بناؤها
من الحجر الجيري المشتَقِّ من جبل المقطَّم، وكانتْ مغطَّاة بألْواحٍ
من الجرانيت، وكثيرٌ من هذه الألْواح بعدَ سُقوطِها اتَّخذه العربُ
لبناء جوامعِ القاهرة بعد الفتح الإسلامي. وحسْبُنا في تقدير جَسامة
هذه الأهرام أن نذْكُر أنَّ الهرم الأكبر، وهو أفخَمُها، يبلُغ من
الارتفاع (وَفْقَ أحدث تقْدير) ٤٥١ قدمًا، وقاعدة كلِّ جانبٍ من جوانبه
تبلُغ من الطُّول ٧٥٥ قدمًا، ومساحة ما تَشغَلُه قاعدتُه العامة من
فراغ ٥٣٥٨٢٤ قدمًا مربعًا، وسعة حجْمه خمسة وثمانون مليونًا من الأقدام
المكعَّبة! وقدَّر الأثريُّون أنَّ أحجارَه كافيةٌ لبناء سُورٍ حولَ
فرنسا كلِّها عَرْضُه قدمٌ وارتفاعه أربعةُ أقدام، وأنَّ مقدار مادَّته
البنائية أعظمُ ممَّا يُوجد في أيِّ بناءٍ آخَر في العالَم، وأنَّه
يَشغَل فراغًا أعظمَ ممَّا يَشغَله معبدُ الكرنك العظيم! ولا يَزالُ
حتى الآنَ علماءُ الهندسة البنائية في حَيْرةٍ أمامَ ثبوته التامِّ
رغمَ مُرور الآلافِ من السنين على بنائِه المُتْقَن الذي استَنْفَد
مجهودًا عظيمًا وتسخيرًا للآلاف من العُمَّال!
٢
في قوله: «ولو صار التراب مجوهرًا» إشارة إلى توهُّم حدوث ذلك من
مُلامسة هياكلهم الجثمانية له!
٣
يشيم: يَرى.
٤
السُّرَى: سَيْر الليل. قوله: «يهتدون بها السُّرَى»: أي يعرفون
طريقَ السُّرى الموصِّل إلى نجاتهم.
٥
يذرو: يُطيِّر ويُفرِّق.
٦
مِن أحاسِن الأوصافِ النظْمية القديمة لهَرَمَيِ الجيزة الكبيرين
(الهرم الأول والثاني، أو هرم خوفو وهرم خفرع) قول ابن
الساعاتي:
وأمَّا الهرمُ الثالثُ (هرم منقرع) فلم يكنْ له حظٌّ من الإكْبارِ …
(راجع كتاب «حُسْن المحاضَرة في أخبار مصر والقاهرة» للعلَّامة الشيخ
جلال الدين السيوطي.)
ومِن العجائبِ والعجائبُ جَمَّةٌ
دقَّتْ عن الإكْثارِ والإِسْهابِ
هرمانِ قد هَرِمَ الزمانُ وأدْبَرَتْ
أيامُه، وتَزِيدُ حُسْنَ شبابِ!
للهِ أيُّ بَنِيَّةٍ أزلِيَّةٍ
تبغي السماءَ بأطولِ الأسبابِ!
وكأنما وقفتْ وُقوفَ تبَلُّدٍ
أَسَفًا على الأيَّامِ والأَحْقابِ!
كتمتْ على الأَسْماعِ فصْلَ خِطابِها
وغدَتْ تُشِير به إلى الأَلْبابِ!