العالم الآخر

رقصَت الفتاة على عزفِ جوقة صغيرة في القهوة الوحيدة بالدرب. جميع المقاعد خاليةٌ في تلك الساعة من الأصيل عدا مقعدين أمام القهوة؛ احتلَّت المعلمة أحدهما، وجلس على الآخر شابٌّ تابعٌ لها. تبدَّى بلاط الدرب الضيق نظيفًا لم تطَأْه قدمٌ بعد. أمَّا الشمس فتوارَت وراء البيوت القديمة طارحةً آخِرَ دفقةٍ من شعاعها على أسوار الأسطح المتآكلة. وعلى جانبَي الدرب — أمام الأبواب المفتوحة — جلسَت نساءٌ على كراسي خيزران في أزياء متهتِّكة وزينةٍ فاقعة يُدخِّنَّ ويتَبادلن الأحاديث. قالت المعلمة لتابعها الشاب: حياتنا خنوعٌ واستسلام ودفعُ إتاوات، حتى متى؟

فقال التابع، وهو متين البُنيان في العشرين من عمره: حتى تتهيَّأ الفرصة للقضاء عليه!

– متى تتهيَّأ الفرصة؟

– كلُّ شيء بأوانه، وإلا دمَّرنا تدميرًا لا يُبقي ولا يَذَر.

– مهنة كالقطران؛ ادفع، ادفع، ادفعْ؛ للطبيب .. للشرطي .. للضابط … وكله كوم وشيخ البلطجية كوم وحده، هل قُضِي علينا أن نَشقى بمهنةٍ جزاؤها النار وبئس القرار لنُبدد مكاسبَنا على كل مَن هَبَّ ودَبَّ!

– لكل عملٍ متاعبه.

– ما أكثرَ الذين يفوزون باللقمة الهنية بلا قرف!

– الصبر طيب يا معَلِّمة.

فبصقت المَعَلِّمة بازدراءٍ وقالت: الليلة موسم، وعلينا أن نُحقق أكبر ربح، بالإضافة إلى نفقات الحكومة والبلطجية!

– ستكون ليلة مباركة.

– همِّتك، فَتَّح عينك، خُذْ بالكَ من النسوان!

– اطمئني يا معلمة، ولكن الرجل المرعب سيمرُّ آخرَ الليل ليأخذ الإتاوة.

ثم وهو يشير ناحية الفتاة التي ترقص داخل القهوة: وليجرَّ وراءه أجمل بنت عندنا!

فتنهَّدَت المعلمة قائلة: حسبي الله، ولكنْ أمامها ليلٌ طويل قبل ذلك تستطيع أن تُحوِّل ساعاته إلى ذهب!

وقام التابع فدخل القهوة. أشار إلى الجوقة فكَفَّت عن العزف. أخذ الراقصةَ من ذراعها وانتحى بها جانبًا بعيدًا عن الأنظار. وفي تلك اللحظة ظهر في مدخل الدرب شابٌّ يافع يدل مظهرُه على أنه تلميذٌ أو طالب، ألقى على الدرب نظرةَ استغراب، ونقَّل عينَيه بين النسوة في دهشةٍ واضحة. تردَّد مليًّا، استعدت كلُّ امرأة لاستقباله بحركة ترحيب، لكنه ألقى ببصره فيما أمامه بلا فهم أو مبالاة وتقدَّم نحو القهوة. حيَّا المعلمة برفع يده إلى جبينه، ثم سألها بأدبٍ: أين صاحب القهوة؟

سألته بدورها وهي تتفحَّصه بإمعانٍ: ماذا تريد منه؟

– أريده لأمرٍ هام.

فأشارت إلى نفسها وهي تقول: مَحْسبوتك صاحبة القهوة.

تساءل بدهشة: حضرتك؟!

– حضرتي!

وضحكَت ضحكةً عالية ثم قالت: بُشْرى لنا، السماء تمطر أدبًا!

– لا مؤاخذة، أرجو ألا أكون أخطأت.

– لا سمح الله، ولكن خُيِّل إليَّ بادئ الأمر أنك زبون نهاري!

– زبون نهاري؟!

– ما علينا، ماذا تريد من صاحبة القهوة؟

فقال الشاب بجدية: يجب أن أُقدِّم نفسي أولًا، أنا مندوبُ لجنة الطلبة.

– لجنة الطلبة؟

– اللجنة العامة للطلبة.

فتساءلت مازحة: ولِمَ لَم تجئ معك باللجنة لتقضي سهرةَ الموسم عندنا؟

فقال بجدية مضاعفة: نحن مندوبو اللجنة، انتشرنا في أنحاء القُطر للدعوة إلى قرار خطير!

– قرار خطير؟

– تعلمين حضرتك أن غدًا هو الذكرى الأسيفة لمرور عام على إلغاء دستور الأُمَّة؟

فقالت وهي ما زالت تتفحصه بذهول: حضرتي لم تعلم.

– دستور الأمة!

– دستور يا أسيادي.

– الموضوع لا يحتمل المزاح.

– ليس المزاح أفضل من الجِد؟

– الموقف خطير، والضحايا يتساقطون كلَّ يوم بالعشرات!

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

– والوطن يُطالبنا …

فقاطعَته: ما الذي جاء بكَ إلى هذا الدَّرْب؟

– وقع شارع كلوت بك في قُرعتي، مررتُ على المحالِّ والدكاكين والمقاهي فوجدتُ استجابةً شاملةً، سيُغلقون الأبواب جميعًا بلا استثناء غدًا، وأنا عائد من مهمتي تنبَّهتُ إلى هذه العطفة التي لم ألحظها في مروري الأول.

– ألم تدخُلها من قبل؟

– كلا يا سيدتي.

– لِم لَم تُوجِّه دعوتك إلى الفتيات الجالسات أمام الأبواب؟

– على فكرة، لمَ يجلسن بهذه الصورة المنافية لتقاليدنا؟

– اجلِسْ، اجلسْ واشربْ شيئًا، أشهد الله أنك أظرف شاب قابلتُه في حياتي!

– لا وقت عندي، أشكرك وأعتذر، عليَّ أن أمرَّ على بقية المحال في الدرب.

– لا يوجد فيها إلا قهوتي.

– حقًّا؟ إذن فقد انتهَت مهمتي، ولكنكِ لم تَعِديني بشيء!

– أيُّ وعد؟

– بخصوص الإضراب العام المزمَع تنفيذه غدًا؟

– ماذا تريد؟

– أن تُغلقي القهوة غدًا.

– سبحانَ الله! لمَ؟

– احتجاجًا على إلغاء الدستور.

فضحكَت المعلمة وقالت: عِشْنا وشُفْنا!

– الجميع استجاب لنداء الوطنية.

– عِشنا وشُفنا!

– لم يعترض أحد، حتى الخواجات!

فغمزَتْ له بعينها وسألَته متهكِّمة: أأنت وحيد مامتك؟

فقال وهو يُداري استياءه: لا وقت للمزاح، ولا للخروج على الإجماع.

فهتفت المعلمة بحدَّةٍ لأول مرة: يا دافع البلاء يا رب، لا يكفينا رجال الحكومة والبلطجية، حتى ينضمَّ إليهم مندوب الطلبة والدستور!

– الزعيم نفسه سيطوف بأنحاء القاهرة ليتفقَّدَ حال الإضراب بنفسه!

– الزعيم سيُشرفنا هنا؟

– بشخصه!

– أهلًا به وسهلًا، سنفتح له الأبوابَ بالمجان!

– موقفك غير مفهوم يا هانم!

– هانم!

وأغرقَت في الضحك.

– موقفك غير مفهوم!

– أُقسِم برأس أمي إن الإنجليز سيخرجون من مصر قبل أن تفهم أنت أيَّ شيء.

فقال الشاب بنبرة لم تخلُ من تهديدٍ: أخشى أن يتعرَّض الخارجون عن الإجماع لغضبِ الشعب!

– نحن نخدم الشعب من قبل أن تولَد لجنة الطلبة.

– حتى النساء سيشتركن في مظاهرات الغد.

أجالت المعلمة عينيها بين النساء القابعات أمام البيوت وصاحت بهنَّ: اهتفن معي .. يحيا الإضراب!

وهتفَ أكثرُ من صوت: يحيا الإضراب.

ثم ضَجَّ الدربُ بالضحك، وإذا بالتابع يرجع على صوت الهتاف. ولما رأى الشابَّ ارتسمَت الدهشة في أساريره، وتنبَّه الشابُّ إليه فبادله دهشةً بدهشة، هرول كلٌّ منهم نحو صاحبه وتعانَقا بحرارةٍ، وقال الشاب: لا أصدق عينَيَّ …

فقال التابع: ماذا جاء بك إلى هنا؟

وعند ذاك سألته المعلمة: تعرفه؟

– جار العُمر، وزميل من أيام المدرسة.

فقالت ساخرة: بِسَلامته يُطالبنا بالإضراب غدًا احتجاجًا على إلغاء الدستور!

فضحك التابع ضحكةً عالية وقال: والله زمان! .. فكَّرتنا بالذي مضى!

وجذبه من ذراعه فجلس وأجلسه على كرسيٍّ جنبه. وهنا قامت المعلمة وهي تقول للتابع: أنا ذاهبة، فتَّحْ عينك.

مضتْ خارج الدرب وقد وقفَت النساء لها على الجانبين. التفت التابع نحو الشاب قائلًا: متى رأيتك لآخِر مرة؟

– منذ عامين؛ بل أكثر، أين اختفيت؟ كأنك هاجرت إلى الخارج!

– وأنت .. ألا زِلتَ غارقًا في السياسة؟ .. ولكن كيف تريد لهذا الدرب أن يُضْرِب؟!

– إنه أعجبُ مكان رأيتُه في حياتي!

– أَمَا زلتَ تُذاكر وتنجح وتشترك في المظاهرات؟

– وأنتَ! .. أين أنت؟ .. كم أوحشتني!

– يُخيَّل إليَّ أنك نسيتني!

– أبدًا، حتى والدك نفسه واتتني الجُرأةُ مرةً على أن أسأله عن مكانك …

فضحك التابع وتساءل: وكيف أجابك؟

– نَهَرني، وحَذَّرني من العودة إلى ذِكْر اسمك على مسمعه!

– وكيف حالُ أسرتي؟

– بخير، ولكن لِمَ انقطعتَ عن زيارتهم؟

– أليس لديك فكرةٌ عن حيِّنا هذا؟

– ولا عن أي شيء سوى الكتب والدستور!

– باختفائك فقَدْنا أبهجَ صديق!

– لعلك الوحيدُ من العالم الآخر الذي كنت أحنُّ إلى رؤيته.

فنظر الشابُّ فيما حوله وقال: أوضِحْ ما غَمُض عليَّ أمره في هذا الدرب.

– لكل شيءٍ وقته، لا تتعجَّل!

– أتُقيم هنا؟

–نعم.

– أتعمل هنا؟

– نعم.

– وهؤلاء النسوة؟

– لطيفات وطوْعَ الأمر!

– مظهرهنَّ فاقعٌ مبتذَل.

– بدأت تفهم.

– حقًّا!

– وتُطالبهنَّ بالإضراب؟!

وضحك عاليًا، وهمَّ الشاب بالكلام ولكن الموسيقى عُزفت بالقهوة فعادت الفتاة إلى الرقص. وانجذبت عيناه إليها بقوة، فتابع رقصَها باهتمامٍ وإعجاب. ثم شعر بعينَي التابع تتجسَّسان عليه، فابتسم مرتبكًا بعضَ الشيء وتمتم: فتاة جميلة!

– حقًّا؟

– من الطراز الذي يستهويني!

– ترى ما نوعُ هذا الطراز؟

– يصعب تعريفُه، ولكنها ترقص في قهوة خالية!

– مجرد تمرين؛ فالسهرة لم تبدأ بعد.

وتوقف العزفُ والرقص، وسرعان ما جاءت الراقصة وجلسَت إلى جانب التابع، وحمل إليها صبيٌّ فنجال قهوة فراحَت تحتسيه بتمهُّل وتلذُّذ لا مُبرر له.

حانت منها التفاتةٌ إلى الشاب الجديد، فضبطت عينيه الصافيتين وهما ترنوان إليها بإعجابٍ لا خفاءَ فيه. وفي الحال وهبَته عينيها بسخاء أذلَّه وأثملَه، فقال التابع وهو يُتابع الحكاية باهتمامٍ موجهًا خطابه للراقصة: صديقي معجبٌ بكِ!

فقالت ببسالة: أرجو إبلاغه إعجابي أيضًا!

فتساءل التابعُ ضاحكًا: من أول نظرة؟

– نظرة كفاية وفوق الكفاية!

فقال الشاب في تلعثم: لا شكَّ أني سعيدُ الحظِّ …

فقالت الفتاة باسمةً: ما أجملَ أن أرى وجهًا يحمرُّ خَجلًا!

فقال التابع للشابِّ بتحريض: أثبت رجولتك!

فغمغم الشاب بأصواتٍ مبهَمة حتى قالت الراقصة مازحة: تاتا .. تاتا .. خَطِّ العتبة!

فنهرها التابع قائلًا: شَجِّعيه ولا تُرْعِبيه!

فأعطته الفنجال بعد أن فرَغَت منه وهي تقول: شُفْ لي بَختي!

فقلب الفنجال فوق الطبق ثم مضى يقرأ ما بداخله، قال: أمامك ليلة موسم طويلة غنيَّة الموارد …

– وماذا أيضًا يا سيدنا الشيخ؟

– في نهايتها يطرق بابَكِ شيطانٌ ليخطف روحك.

– أَلَا ترى في طريقه رجلًا جديرًا برجولته؟

فاكفهرَّ وجهُ التابع وأعاد الفنجال إلى الطبق، ولكنها ربتت على ذراعه مُلاطفة، ثم سألته بنبرةٍ جادة: ماذا أعددتم له؟

– ذهبَت المعلمة لتُجهز له الإتاوة …

– متى يحضر؟

– قد يمر في أي ساعة؛ لكننا لا ندري متى ينزل بقهوتنا!

فقالت بحنق: سيأخذني معه ولا يدري أحدٌ متى أعود!

– لا تُحدثيني عن ذلك!

فسألت الراقصة الشابَّ راجعةً إلى الدُّعابة: وأنت .. ألن تُدافع عن حبيبتك؟

فتساءل الشاب: عمَّ تتحدثين؟

ولكن التابع بادَره قائلًا: إن كنتَ تُحبها حقًّا فهي لك!

– لي؟!

– النظرة والحب والتنفيذ تحدث في دَرْبنا في ساعةٍ واحدة!

– أفندم؟

وقبل أن يُجيبه تراءت المعلمة في أول الدرب. سارت بعجلةٍ إلى داخل القهوة وهي تومئ إلى الراقصة فتبِعَتها في الحال. تبادل الصديقان نظرة طويلة، ثم قال التابع: الظاهر أنك وقعت!

– ليس الأمر كما تتصور! إنها فتاةٌ جذابة وفي عينَيها نظرة بريئة!

– بريئة!

– بكل معنى الكلمة.

– ألك ثقةٌ في فِراستك؟

– قلبي لا يُخطئ.

– هنيئًا لك موهبتك، ولكن ألا ترغب في شيء من الترفيه قبل أن تخوض جهاد الغد؟

– يبدو أنك لم تَعُد تهتم بالسياسة!

– خَلِّنا فيما نحن فيه، ألَا ترغب في شيء من الترفيه؟

– ألم يعد يهزُّك حدثُ إلغاء الدستور؟

– انظر إلى دربنا العجيب، تأمَّلْه لتتذكرَه فيما بعد، فيه تسعد النفس بجميع محرَّمات العالم الآخر؛ مثل الحب والحرية والاحترام!

ومالَ فوق أُذنه وراح يهمس له وكأنما ينفث في أساريره الذهول، وهتف الشاب: فوق العقل! .. ولكن ماذا تفعل هنا؟

– أُقيم هنا كما قلتُ لك.

– ولكن …

– أَلَا ترى في عينَيَّ نظرة بريئة؟

ضحك الشاب وقال: إنه مكان عبور لا مكان إقامة!

– لكلِّ قاعدة استثناء كما قيل لنا في المدرسة!

– مَن يتصور أنك ابنُ أبيك الرجل الطيب؟!

فبصق بازدراءٍ وقال: اللعنة على الجميع!

وحلَّ صمتٌ فاتخَذا منه هدنة للتفكير، ثم قال التابع بنبرة خَلتْ من المزاح أو السخرية لأول مرة: إني أكرهُ العالم الذي جئت منه؛ هجَرتُه بلا أسفٍ عليه، وإذا ذكَرته فإنما أذكر عنفَ أبي وغباءه، وسجن المدرسة الرهيب، وهراوات الشرطة، وما إن اهتديتُ إلى هذا المكان حتى أدركتُ أنني ولجتُ أبواب الجنة!

– الجنة! .. أي جنة؟!

– هنا يتقرَّر مصيرك بقوة رأسك، ويتحدد مركزك المالي بجُرأتك، وتقرر سعادتك بطاقة حيويتك، لا زيف على الإطلاق، اعتبرني الآن رئيس وزراء يعترض طريقَه رجلٌ خطير، فإذا تغلبتُ عليه يومًا ما تُوِّجت ملكًا!

فضحك الشاب قائلًا: عاش الملك!

– ما الأمل الذي تشقى من أجله؟ وظيفة حقيرة في حكومة حقيرة! ثم إنك عبدٌ مضطهَد، الاضطهاد يُطبِق عليك في بيتك، ويطاردك في الخارج، وكل عام أو عامين يتصدى لك دكتاتور كالكلب الأرمنت يلتهمُ لحمك ويُهشِّم عظامك …

– أترى أن الحل أن أحملَ متاعي وأُقدِم إلى هنا؟

فقال التابع معاودًا سخريته: ذاك مطمح فوق قدرتك!

– ولكن …

– ولكن؟

– ولكن رُبَّ زيارة من آنٍ لآخر تنفع ولا تضر!

– في هذا ما يكفي في الوقت الحاضر!

وغادرَت المعلمة القهوة. هُرِع التابعُ إليها فقالت له: إني ذاهبةٌ مرة أخرى، سأُوفَّق بإذن الله، انتبه، وإذا مرَّ قبل أن أرجع فتصرَّفْ بحكمة، إيَّاك والتهور، وإلا هدمتَ الدرب فوق رءوسنا!

ذهبت المعلمة. عادت الراقصة إلى مجلسها، ومضت فترة قبل أن يسترجعوا جوَّهم السابق، وتساءلت الفتاةُ: هل قرأت البخت لصديقك؟

– نعم، في طريقه بنت حلوة ورخيصة.

– هل تُشبهني هذه البنت؟

– لا أدري، لم يبدُ في الفنجال إلا جسمها العاري وحده!

ومالت الراقصة بغتةً نحو الشاب فقبَّلَت خدَّه. ضحك التابعُ وقال: قُمْ .. لا تؤجل عمل اليوم إلى غدٍ، فإنَّ يوم الدستور غد!

ونهض التابع ومضى إلى داخل القهوة وهو يقول: سآمر لكما بكأس كونياك على حسابك!

جعل الشاب يُبادلها النظرات. رأى حِلْية في عنقها فمدَّ يده إليها وقرَّبها من وجهه. ابتسم متسائلًا: صورة مَن؟

قطَّبَت الفتاة مأخوذة؛ ولكنه قال دون أن يلاحظ شيئًا: طفلٌ جميل، من هو؟

تبدَّى التأثُّر في وجه الفتاة حتى اغرورقَت عيناها على رغمها.

– ربَّاه .. ما لك؟

أشاحت عنه بوجهها وهي توشك أن تنهار تحت موجة بكاء عاتية.

– آسف .. آسف لا تؤاخذيني!

وعاد التابعُ بالكأسين فوضعهما على الخوان متمتمًا: «عشرة قروش فقط، ما أجمل عيونك!» ثم تنبَّه إلى الفتاة فتساءل: تبكين؟!

شرح الشاب له ما غمض عليه بإشارة من يده إلى الحلية، فاكفهرَّ وجه التابع وهوى بكفِّه على خدها بوحشيةٍ غير متوقعة غيرَ مبالٍ بما تولَّى الشابَّ من ذعرٍ وذهول، وهتف بها: تُقِيمين مأتمًا للزبائن في ليلة الموسم! اشربي!

تناولت الفتاة الكأس فتجرَّعَته دفعةً واحدةً، وقدَّمَت الآخَر إلى الشاب؛ ولكنه تراجع قائلًا بعصبيةٍ وحدة: كَلَّا!

فقال له التابع: خُذْه معك إلى الحجرة!

– الحجرة؟

– ستذهبان معًا إلى ذلك البيت القريب.

– كلا!

– لا تتأثَّر كالأطفال، انسَ ما رأيتَ بسرعة، اذهب، لن تندم أبدًا، البنت مدهشة، والبكاء ما هو إلا حيلةٌ نسائية مشهورة!

وهرولَت الفتاة إلى البيت وهي تقول بإغراء: اتبعني، تاتا .. تاتا .. خَطِّ العتبة!

وقال له التابع: قمْ قبل أن يجيء الليل وتتقاطرَ أفواج الزبائن.

فقال بإصرار: كلا.

– كُفَّ! .. أنسيت الطراز الذي يستهويك؟

– لا رغبة على الإطلاق!

– لا تُعقِّد الأمور.

– دَعْني من فضلك.

– لقد سُجِّل في حسابها أول زبون، فلا تتسبب لها في ضررٍ.

– سأدفع ما تطلبه؛ ولكني لن أذهب.

– عشرة قروش، هذا حسن، ولكنك لن تستطيع مواجهة الحياة بقلبٍ كالملبن!

– ولكن .. أنت .. كيف هانَ عليك أن تلطمها بتلك القسوة؟ .. أأنت وليُّ أمرها؟

– إني ولي أمرها .. وأعمل لصالحها ولصالح الكل.

– أتعدُّ بكاءها على وليدها جريمة؟

– لا وقت هنا للبكاء .. إني الأمين على الصالح العام!

فضحك الشاب على رغمه وقال: إنك تُذكرني بفعلِ وكلمات الطاغية! لَشدَّ ما تغيرتَ!

– كُفَّ عن التفلسف والحقْ بها!

– لَشدَّ ما تغيرت!

– لا تقسُ في الحكم عليَّ، إنَّ أي ضعفٍ يعترينا هنا إنما يعني هلاكنا!

– وماذا يضطرُّك إلى الإقامة هنا؟

– مهما يكن من أمره فهو أفضلُ من العالم الآخَر.

– ما هو إلا مزاح!

– حقًّا! .. أنسيت؟ .. أليس الطاغية يحكمكم؟ والشرطة تجلدكم؟ والجيش يحصدكم؟ والإنجليز يتربصون فوق رءوسكم؟ لا أحد يحكمني هنا، وأنا لا أستعمل القوة إلا دفاعًا عن الصالح العام.

فقال الشابُّ وهو يُلوِّح بيده في أسًى: وجئتُ بغبائي لأطالبكم بالإضراب غدًا!

– دستورنا هنا لم يُلغَ ولا يمكن أن يُلغى؛ إنه دستور أَبَديٌّ، وهو يقضي بأن نعملَ لا أن نُضرِب، أن نعمل لا أن نبكيَ موتانا، ووراء هذه الجدران المتداعية نُقدِّم لأمثالك السعادةَ التي يحلمون بها.

فقال الشابُّ كالحالم: وا أسفاه! لِمَ أعجز عن تحقيق ما أريد؟

– ماذا تريد؟

ولما لم ينبس عاد يسأله: ماذا تريد؟

فأجاب بصوت حالم أيضًا: أشياء كثيرة، ما يُهمُّني منها الآن أن أُرجِع تلك الفتاةَ إلى العالم الآخر!

فضحك التابع وقال: لقد كانت هنالك ولم تجد مَناصًا من هجره والمجيء إلى هنا.

– من الممكن أن تتوفَّر لها حياة مستقرة هنالك.

– صدِّقني لقد لاذَتْ بنا كما يلوذُ الغريقُ بصخرة!

وفجأة ظهر قزمٌ وهو يصفر ثم صاح: «إبليس». وفي الحال انفجرت في الدرب حركةٌ شاملة؛ هُرِعت النساء إلى داخل البيوت وأغلقنَ الأبواب. قبض التابع على ذراع الشاب واندفع به إلى داخل القهوة وأغلق بابها. في ثوانٍ خلا الدرب تمامًا وشمله الموت. ومرَّت دقيقتان، ثم ظهر الفتوة وسط عصابة مدجَّجة بالنبابيت. ألقَوْا على المكان الخالي نظرةَ استعلاء وساروا على مهلٍ في خُيَلاء. ساروا يرجُّون الأرض بوَقْع أقدامهم الثقيلة وارتطام نبابيتهم بالبلاط. مضى الزحفُ وئيدًا حتى اختفَوا وراء المنعطَف. ومرَّت دقائقُ والدرب مستسلمٌ للموت، حتى ظهر القزمُ مرة أخرى وصاح: «أمان».

ورويدًا رويدًا أخذَت الأبواب تُفتح والحركة تدبُّ واللغَط يعلو، كما عاد التابع والشابُّ إلى مجلسهما حول الخوان. وقال التابع بهدوء: مُناوَرة، ما هي إلا مناورة، وعندما سيعود سيجد الإتاوة جاهزة!

وانتابت الشابَّ نوبةُ ضحك هيستيرية.

– ماذا يُضحكك؟!

– فكرتُ أنْ لو حصل الإضرابُ غدًا بهذه الصورة فسيكون أكبرَ مظاهرة وطنية.

– إنَّه يُناور ونحن نناور!

– إنَّه الخوف يا صديقي.

– لا تحكم بالظاهر.

– لستم أفضلَ حالًا منا!

– قياسٌ مع الفارق، ثِقْ من أنني سأضربه ذات يوم!

– وتصبح عند ذاك الطاغيةَ!

– لقد نالها عن جدارة، وسأنالُها عن جدارة، أمَّا في العالم الآخر فالطاغية يطغى استنادًا إلى قوة أسياده.

– أأنت راضٍ عن نفسك حقًّا؟

– ثمة أملٌ دائمًا لا يغيب!

– يا للخسارة! لقد كنتَ تلميذًا ذكيًّا؛ ولكنك كنتَ عدوَّ الاجتهاد!

– الحمدُ لله، فلو كنتُ مجتهدًا لمضيتُ في طريقك حتى أُدفَن في إدارةٍ من إدارات الحكومة!

وهنا عادت الراقصةُ إلى مجلسها وهي تقول مخاطبةً الشاب: خيَّبتَ ظنِّي!

فقال لها التابع بخشونة: الفضل لدموعك الحارَّة!

فقال الشاب برجاء: لا تَعُد إلى ذلك.

فقال لها التابع: استعدِّي للرقص …

فقالت بإشفاق: إني مُتعَبة!

فضحك ضحكةً عاليةً وقال: متعبة في ليلة الموسم!

– إليَّ بكأس كونياك.

– اطلُبيه من عاشقك!

وأدرك الشابُّ المقصودَ فقال: هاتِ لها كأسًا!

ذهب التابعُ. نظر الشابُّ إليها باهتمامٍ ورثاء وقال: ثَمة شيء في عينيكِ، أنت متعبة حقًّا.

– أعراضٌ عابرة سرعان ما تزول.

– يُخيَّل إليَّ أن هذا الدرب ليس بالمكان المناسب لكِ!

فقالت بسخرية: ربما، لعلَّ المكان الأنسب هو السجن أو القبر.

– أعوذُ بالله!

– أليس الأفضل أن نذهب إلى الداخل لنُغير المكان والحديث؟

فتردَّد الشاب قليلًا ثم قال: في وقتٍ آخر .. ولكن … أنتِ متعَبة حقًّا.

– حقًّا؟!

ووقفتْ فجأةً كأنما تنتزع نفسَها من كابوس. وخبَتْ نظرةُ عينيها، وأخذتْ تتنفَّس بعمقٍ وبجهدٍ كأنما تحشر الهواء في قناة مسدودة. وقفَ منزعجًا واقترب منها خطوة، ولكنها أشارت إليه أن يبتعد. خاضتْ معركةً مجهولةً وحدها بلا نَصير وبلا استجداء. ثم انقشَعَت السحابة السوداء فاستردَّت العينُ نظرتها المألوفة. تنهَّدَت، ابتسمَت في استسلامٍ، ثم انحطَّتْ فوق مقعدها. غَمغمَت: لا شيء.

– ولكنكِ …

– انتهى.

– أأنتِ بخير؟

– نعم، اجلس.

جلس وهو لا يُحوِّل عنها عينيه.

– أعتقد أنه يلزمكِ راحةٌ طويلة.

– تلزمني راحةٌ أطول مما تتصوَّر!

– وهل تستطيعين أن ترقصي؟

– أستطيع، لا أستطيع، سيَّان!

وشحب لونُها من جديد. وخبَتْ نظرتُها.

– أنتِ متعَبة يا عزيزتي!

– حقًّا! وماذا بعد؟ الطريق طويل.

– دعي الأمرَ لي.

– طريق طويل، أطول مما تتصور.

– حالتكِ تزدادُ سوءًا.

ورجع التابع يحمل كأسين في يديه ويُدندن، وقال وهو يُلْقي عليهما نظرة باسمة: كعَروسَين في شهر العسل.

فقال له الشاب: إنها ليست على ما يُرام.

فقطَّب متسائلًا وهو يحدجها بنظرة ارتياب: عادت للبكاء؟

ولكنه قرأ في صفحةِ وجهها شيئًا جديدًا. قدَّم لها كأسًا، ولكنها أطاحت به ضَجِرةً فوقع على البلاط وتحطَّم مختلطًا بسائله، وتأوَّهتْ بعمقٍ طارحةً رأسها على مسند الكرسي، وصادف ذلك قدومَ المعلمة، فنظرت إليها عابسة وتساءلتْ: ما لها؟

فقال التابع وهو لا يحوِّل عن الراقصة عينيه: أزمة كالعادة!

– هل تعاطَت شيئًا؟

أغمضت الراقصة عينيها متدهورةً تمامًا، فهتفَت المعلمةُ بالتابع: أدرِكْنا بكوب ماء بالملح .. أسرِع.

وقال الشاب للمعلمة: يجب استدعاء طبيب!

فصاحت المعلمة بحنقٍ: انتهينا من الدستور وسندخل في الطب!

ورجع التابعُ بالكوب؛ ولكن الراقصة تقلصت بحركةٍ عنيفة ثم تهاوتْ ساقطةً على الأرض.

أسرع الشابُّ إليها؛ ولكن التابع كان أسرعَ منه. عكَف عليها يُربت على وجهها ويُدلك خدَّيها وصدرَها. قَرَّبَ وجهه من فيها، جسَّ نبضها، رفع وجهًا جامدًا ذاهلًا منهزمًا لأول مرة، وتمتم: ماتت!

– ماتت!

فندَّت عن المعلمة صيحةٌ خافتة يائسة وقالت: أنت أعمى!

فأعاد الكَرَّة ثم قال ببرودٍ: ماتت يا معلمة!

– يا خبَر أسود!

وهتف الشاب: خطأ، يجب استدعاء الإسعاف.

فقال التابع بوحشية: اصمتْ، لقد ماتت.

فهتفت المعلمة: في ليلة الموسم! .. يا له من حظٍّ أسود من الليل!

وقال الشاب بعناد: إنها حيَّة!

فصاحت المعلمة في وجهه: ألَا تفهم يا طَلْعة الشُّؤم!

– ولكن كيف؟

– إنك تخاطبني كما لو كنتُ قابضةَ الأرواح.

ثم التفتت إلى التابع وسألته: هل تعاطت شيئًا؟

– كلَّا.

– هو قلبُها إذن؟

– أعتقد ذلك.

– لو لم يكن بسبب تعاطي شيء فسنقع في «س» و«ج».

– كلَّا، ولكن ما العمل الآن؟

فقالت المعلمة: فلنحملها إلى حجرتها أولًا.

وتعاون الثلاثةُ على حملِها ومضَوا بها إلى البيت.

وتساءلت امرأةٌ: ما لها يا معلمة؟

فأجابت المرأة بلا تردد: مسطولة!

ودخل الموكبُ البيت بين ضحكاتٍ تتجاوب على الجانبين. وما لبث الأصيلُ أن وَلَّى تمامًا ومضى الظلامُ يهبط مَاحيًا كلَّ شيء. أُشعلت الأنوار. بدأ الروَّاد يحضرون فُرادى وجماعات. عزفَت الجوقة ودبَّت في الأركان حياةٌ صاخبة معربدة. ورجعت المعلمة وتابِعُها والشاب فجلَسوا حول الخوان المعدنيِّ في وجومٍ بادئَ الأمر؛ ولكن المعلمة سرعان ما قالت: ابسطوا وجوهكم كما يجدر بأناس يستقبلون موسمًا.

ثم بنبرة متشددةٍ منذرة: لا يجوز بحالٍ أن يفطن أحدٌ إلى سر الحجرة المغلقة .. وإذا سأل سائلٌ عنها فهي مشغولةٌ بزبون!

وتنهدت بحنقٍ وواصلتْ حديثها: لو عُرف أن الموت قابعٌ بالبيت لما طرَقه طارقٌ حتى القيامة!

فقال الشابُّ غاضبًا: ولكنه تصرفٌ أبعد ما يكون عن الإنسانية!

فقالت المعلمة مخاطبة التابع ودون مبالاةٍ باحتجاج الشاب: تكفَّل بصديقك، أنتَ مسئول عنه، ولا جَدْوى من تصرفٍ إنساني يقضي علينا بالخراب العاجل، سيجيء دورنا يومًا ما ولن تبكينا عينٌ؛ سنُشيَّع باللعنات حتى من زبائننا، الليلة موسم، فلتَمْضِ بالبهجة والحبور!

فقال التابع: لا تخشَيْ من جانب صديقي.

فقال الشاب: ولكنه وضعٌ لا يقبله عقل.

فقالت المعلمة: لم يحدث شيءٌ غير طبيعي، وليس في قدرتنا أن نردَّ الأرواح إلى أجسادها.

– ولكن شتَّان بين القسوة والرحمة!

فقال التابع: ليس إلا أننا نؤجل إعلان وفاة!

– ولكن للموت احترامه!

فهتفَت المعلمة بنفادِ صبر: احترام الموت بعد الدستور والطب!

فقال التابع معتذرًا عن صديقه: لعله يلتقي بالموت لأول مرة في حياته.

فقالت المعلمة للشاب: لا تطالبنا بالتفريط في الحياة باسم احترام الموت، ابقَ لصق صديقِك حتى تنتهيَ السهرة، واحتفِل بالموت بعد ذلك ما شاءتْ لك إنسانيتُك!

فقال التابع: دعي الأمر لي يا معلمة!

– ربنا يستر.

– جهزتِ الإتاوة؟

– نعم!

– وإذا طالب بالراقصة؟

– لن يُطالب قبل نهاية السهرة، وله إن شاء أن يُقاتل عزرائيل عند ذاك!

وقامت وهي تبسط وجهها، فمضَتْ إلى القهوة هاتفة: يا جمال الرقص يا جماله!

ورمق الشابُّ التابعَ بمرارة ثم قال: لشدَّ ما تغيَّرتَ!

فقال التابع بوجوم: لا تبالغ يا عزيزي!

– جثَّة مُلْقاة في الداخل، والعربدةُ دائرةٌ في الخارج!

– لا مفر، للعمل ساعة وللموت ساعة.

– إني حزين، بودِّي أن أفعل شيئًا.

– حَسنٌ، أَعِدْ إليها الحياةَ.

– يا لكم من وحوش!

– أتذكر كيف كان يُلْقَى بضحايا المظاهرات في القبور بملابسهم حتى لا يشملَهم الإحصاء الرسمي؟!

– إلى الجحيم بكل شرير وبكل شر!

– ما زالت دنيانا أفضل.

فقال الشاب بضيق: عن إذنك، أريد أن أذهب.

– كلَّا.

– كلا؟

– المعلمة لا تسمح بذلك.

– لتذهَب المعلمة إلى الشيطان!

– لقد وجدتَ نفسك في دربنا فلتتمَّ التجرِبة!

– بي غثيان منه.

– خذ الأمر ببساطة ولو من أجل خاطري!

وساد الصمتُ بينهما؛ ولكنَّ صخب العربدة انهال عليهما من الأركان كالصواريخ، ورغم الزياط سمع صوتَ الشاب وهو يُتمتم: يا لها من شابة تعيسة!

فقال التابع ملاطفًا: كانت مريضةً بالقلب.

– لم تنعَم بحياة هادئة تُناسبها.

– ذلك أنه لم يكن من الجائز أن تموت جوعًا.

فقال الشاب منفعلًا: إني أحتقر برودك.

فقال ضاحكًا: إني أحتقرُ حرارتك!

– دعني أذهب.

– غير ممكن، إنها تخشى أن تُبلغ عن الجثة.

– أيعني ذلك أنني سجين؟!

– أنت ضيفُ صديقك القديم.

– يجب أن أستيقظَ مبكرًا، أمامنا يومُ جهاد عصيب!

– يسرُّني أن أنقذَك من الرصاص الذي يُعد الآن لأمثالك.

– أنا لا أخشى الموت.

– ولكنك تحترمه أكثرَ مما ينبغي.

رفع رأسه إلى نافذة الحجرة الرهيبة وقال: جثة منسيَّة، بلا أهل ولا أصدقاء ولا رحماء.

– لم تعُد بحاجةٍ إلى أحد.

وظهر القزمُ وهو يصيح: «إبليس». خرجتِ المعلمةُ فجلسَت بين الشاب والتابع. سرعان ما سدَّ موكب الفتوة مدخل الدرب، ولما وصل إلى القهوة قامت المعلمة وتابعها لاستقباله، قالت بأدبٍ لأول مرة: تحيَّة لسيد الرجال.

– موسم طيب بإذن الله.

وضعت صُرة في يده وهي تقول: بفضل الله وبفضلك!

– وأين البنت؟

– مع زبون!

– أرسلي في طلبها.

– ستكون بين يدَيكَ في نهاية الليلة.

– سأنتظر في القهوة ساعة واحدة.

– ولكن …

– ساعة بالتمام والكمال!

– أنتَ سيد مَن يفهم ويُقدِّر.

– بالتمام والكمال؛ وإلا فليهنأ عزرائيل بوليمةٍ فاخرة!

ودخل القهوةَ متبوعًا برجاله.

نظرت المعلمة في حيرة إلى التابع وسألته: ما العمل؟

– ما من قوةٍ في الأرض تستطيع أن تأتيَ بها إليه كما يريد.

– ماذا تتوقع؟

– أنُفْضي إليه بالحقيقة؟

– هذا يعني خرابنا.

– أخشى أن يعرف الحقيقةَ رغم إرادتنا.

فقالت بغضب: أُفضِّل أن يدْهَمني القضاء على أن أسير إليه بقدمَي!

ثم قامت وهي تقول: سأجلس معه وليُعِنِّي الله على إقناعه!

ومضت إلى داخل القهوة. مدَّ الشابُ جِذعه يُتابعها حتى استقرت إلى جانب الفتوة، ثم تراجع إلى جلسته وهو يسأل التابع: ما معنى ذلك؟

– ليس عندي ما أضيفه إلى ما سمعت.

– ماذا تتوقع أن يحدث في ختام الساعة؟

– سيقتحم البيتَ محطمًا مَن يعترضه.

– ولكنه لن يجدَ سوى جثة.

– وعند ذاك يتقرَّر خراب البيت.

– وما دورك أنت في ذلك كلِّه؟

– لا أستطيع أن أدَعَه يمر دون مقاومة!

– أتُفكر في اعتراض سبيله؟

– هذا هو عملي.

– عملك؟

– أنا حامي منطقة المعلمة!

– ولكنه … ولكنه سيقضي عليك.

– ربما!

– إنه مؤكد، فلا تُخاطر بحياتك.

– هو عملي كما قلتُ لك.

– تجاهَلْه.

– أفقد عملي وكرامتي.

– يمكن أن تتسلل بطريقةٍ ما إلى الشرطة!

فقال ضاحكًا: أفقد كرامتي مرتين!

– لا أفهمك.

– هي تقاليدُ عملي.

– إنه الجنون عينُه.

فابتسم التابع قائلًا: ممكن أن يقال مثلُ ذلك عن زعيمك.

– أخشى أن تذهَب ضحيةً للغرور، دعني أتسلل أنا …

– أرفض اقتراحك.

– أنتَ مُهدَّدٌ بفقد حياتك.

– محتمل!

وسَادَ الصمت. نظر الشاب في ساعة يده فتزايد قَلقُه. هرب من مخاوفه إلى أمواج الروَّاد التي لا تنقطع؛ يُعربدون ولا فكرة لأحدهم عما يتأزَّم في المقهى، ولا عما يقبع في البيت. والتفتَ نحو صديقه قائلًا: الوقت يمرُّ أسرعَ مما تتصوَّر.

– ليس أسرعَ مما أتصور.

– قد تكون آخر ساعة في حياتك.

– قولٌ يَصْدُق على أي مخلوق!

– لن تكون معركةً عادلة.

– لا توجد معركة عادلة!

– يا له من انتظار!

– يا له من انتظار!

– ويا لها من نهاية!

– ويا لها من نهاية!

– بودي أن أصعد إلى حجرة الفتاة.

– لمَ؟

– لأجسَّ نبضَها من جديد!

– إني أتوثَّب لمواجهة القضاء وأنت تحلم بالخرافات.

– سمعنا عن جُثث دبَّتْ فيها الحياة بعد دفنها؟

– إذا قامت القيامة فابتعِد عن ميدان المعركة.

– كنت أعتقد أن الغدَ هو يوم الخطر.

– حافِظْ على حياتك حتى الغد!

– يا له من يومٍ عجيب!

– أرجو أن تكون قد تعلمتَ أشياءَ مفيدة.

– كيف تنتظر الموت بهذا الهدوء كلِّه؟

ابتسم التابع ابتسامة غامضة وقال: عندما ماتت الفتاة حلَّ بي تشاؤم غريب.

– لم يبدُ عليك شيء قط.

– لا يجوز في عملي أن يبدوَ على الوجه شيء!

– يُخيَّل إليَّ أنك تتكلم بحزن لأول مرة؟

صمتَ التابع مليًّا ثم قال بنبرة اعتراف: كانت حبيبتي الوحيدة في هذه الدنيا!

– مَن؟

– الميتة!

فغرَ الشابُّ فاه من ذهوله، فاستطردَ الآخَر: عِشْرة ليست بالقصيرة، وبها أصَّلتُ نجاحي في هذا الدرب.

ظل الشاب يرمقه بذهول؛ أمَّا هو فقال: والحق قد ماتتْ بموتها أشياءُ لا تُعَد ولا تُعوَّض.

ونهض وهو يهمس: ما علينا!

وأشار إلى المعلمة إشارةً خفيَّة، فجاءته بوجهٍ كالح. سألها: هل لانَ جانبُه؟

فقالت بيأس: أصلبُ من الصخر.

– لم تبقَ إلا دقائق معدودات!

والتفتَ نحو صديقه وقال: ابتعدْ دون تردد.

ومضى نحو القهوة في هدوءٍ وثبات. وجعل يقترب من الفتوة باسمًا حتى وقف بين يدَيه. وبغتةً استلَّ من صدره خنجرًا ودفنه في قلب الوحش. انتتر الفتوة قائمًا جاحظَ العينين. ترنَّح جسمُه الضخم ودار حول نفسه، ثم تهاوى كجدارٍ تهدَّم. وفي الحال أفاق الوحوشُ من ذهولهم؛ زُلزِلت القهوة بحركةٍ جائحة. انتصبَت أجسام، استُلَّت خناجر، ارتفعت نبابيت، تطايرت شتائم، اهتزَّت جدران، تحطَّمَت مصابيح، هرولَت أقدام. اختفى كلُّ شيء في ظلامٍ حالك، صرَخَت صفارة الشرطي. ومضى وقتٌ غيرُ قصير في الظلام … ولما أُشعلَت المصابيح من جديدٍ تبدَّى الدَّرْب في منظر مختلف. عند مدخل القهوة انطرحَت ثلاثُ جثث للفتوة والتابع والراقصة! خلا الدرب من جميع الروَّاد عدا نفرٍ قليل دهمَتهم المعركة فاندسُّوا تحت الأرائك، ثم أخذوا يخرجون من مَخابئهم بوجوهٍ شاحبة، على رأسهم الشاب. وطوَّق المكانَ قوةٌ من الشرطة والمخبرين بقيادة ضابط مباحث. وانتحت جانبًا المعلمة والنسوة بأبصارٍ زائغة. أمَّا رجال العصابة فلم يظهر لهم أثر.

تحوَّل الضابط إلى المعلمة وسألها: ما معلوماتك عن الواقعة؟

فأشارتْ إلى جثة الفتوة وقالت: جاء على رأس عصابة فهاجم الدربَ بلا رحمة.

– ماذا رأيتِ من المعركة؟

– إني امرأة ضعيفة، هرَبتُ فلم أرَ شيئًا!

أومأ الضابط إلى جثة التابع وسألها: مَن هذا؟

– مدير المقهى، قُتل ولا شكَّ وهو يدافع عن نفسه.

– وهذه الفتاة؟

– كانت ترقص في المقهى عندما نشبَت المعركة!

– لا يظهر بها أثرٌ لاعتداء؟

– كانت مريضةً بالقلب، فربما قتَلَها الخوف!

عند ذاك خاطب الضابطُ الجميع قائلًا: لا يبرحنَّ أحدٌ مكانه حتى يُدْلي بأقواله.

وإذا بمخبر يتَّجه نحو الشاب فيقبض على ذراعه ويشدُّه إلى موقف الضابط، ثم قال: إني أتذكَّر هذا الشابَّ يا حضرة الضابط.

فتساءل الضابط متهكمًا: أهو مِن رجال العصابة؟

– هو الذي اعتدى على حضرة المأمور في مظاهرات العنابر ثم نجحَ يومها في الهرب.

رماه الضابط بنظرة قاسية ثم قال: ما شاء الله! .. تُشعلون الفتنة في البلد وتُهروِلون إلى المواخير!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤