موقِف وَداع
أفاقا في وقتٍ واحدٍ. دَبَّتْ فيهما حركةٌ بطيئة كتقلُّصاتٍ اعترت زوايا الفم، والجفون والأطراف. فتَحا عينَيهما، ندَّتْ عنهما آهةٌ عميقة من التوجع، تقلَّبا على الجنبين، زحفا على أربعٍ مقدارَ ذراع، جلسا على الرمال، أجالا في الخلاء المحيط بهما نظرةً ثقيلة نصف عمياء. تلاقت عيناهما في نظرةٍ عابرة لم تكد تكفي لكي يرى أحدُهما الآخر.
– ما أثقلَ رأسي!
– ما أثقل رأسي!
– لا ريب أني أغادرُ مرضًا طويلًا.
– لا شكَّ أني أُبعَث من موت.
– يا له من خلاءٍ ميت.
– لعلي في قبر، أكذلك يبدو القبر من الداخل؟!
وتلاقَت عيناهما مرة أخرى.
– مَن أنتَ؟
– من أنتَ؟
– إنك عارٍ تمامًا كيوم ولَدَتك أمك.
– وأنت أيضًا، ألا تُدرك ذلك؟
– يا للعجب! أين ملابسي؟
– أين ملابسُنا؟
– من أنت؟
– من أنت؟
– اسمي عبد الواحد.
– اسمي عبد القوي.
– تُرى أسمعتُ هذا الاسم من قبل؟
– محتملٌ أنني سمعتُ اسمَك كذلك.
– ماذا جاء بك إلى هنا؟
– ماذا جاء بك إلى هنا؟
– في الذاكرة تلفٌ وعناء.
– في الذاكرة تلف وعناء.
– واضح أننا تعرَّضْنا معًا لشرٍّ واحد.
– أجل.
– غيرُ بعيدٍ أنني لا أراك لأول مرة.
– ويُخيَّل إليَّ أنني عرَفتُ في حياتي شخصًا يُقاربك في الشبَه.
نهضا معًا بصعوبة، وقَفا يترنَّحان، أخذا يتنفسان بعمقٍ.
– ما الذي جمع بيننا؟
– لا يمكن أن نوجد هكذا معًا مصادفة.
– ثمة علاقة تربط بيننا، فما هي؟
– ما هي؟
– سنتخلَّص من الإعياء والخوَر ونتذكر كل شيء.
– من خبرتي السابقة أؤكِّد لك أن رأسَينا تعرَّضا لضربٍ مركَّز.
– ضُرِبنا لنُسرَق، وقد سُرِقنا بالفعل كما ترى.
– ومن خبرتي أيضًا أؤكد لك أننا تعاطينا مخدرًا جهنميًّا.
– ولكنني لا أتعاطى أيَّ مخدر.
– لعله دُسَّ إلينا في غفلةٍ منا!
– لعله، ولكننا سنعودُ إلى وعينا …
– استيقظي يا ذاكرة، حقًّا إن الإنسان بلا ذاكرةٍ هو لا شيء!
– ها أنت تتنبَّه إلى أننا من فصيلة الإنسان.
– لا يتعرَّى إلا الإنسان؛ أمَّا الحيوان فيُخلَق بملابس طبيعية.
– من حُسن الحظ أن تكون إنسانًا ولو سُرقتَ وتعرَّيت وتألمت.
– علينا أن نُقاوم الذهول وإلا ذُبنا في الخلاء.
– وهو خلاءٌ صامت لن يُجيب بحرفٍ لو سُئل ألفَ سؤال.
– صدقت.
– الحق أن وجهك غيرُ غريب، ولا صوتك.
– كذلك وجهك وصوتك.
– نحن نتقدَّم بلا شك.
– الذِّكريات تُقبِل حتى أكاد أُمسك بها؛ ولكنها سرعان ما تُدبِر.
– اشحَذْ جهاز استقبالك.
– صَهْ .. ها هي ذِكرى، كأنها عواء! وثمة ظلام كأنما يتكدَّس في كهف!
– حقًّا؟! .. وإني أكاد أُمسك بأرقام محددة .. تُرى ما هي؟
– وثمة إيقاع شيطاني، لعله زار، أتعرف الزار؟
– كلا، ولكن هناك خطة .. خطة هامة!
وفرَّق بينهما صمتٌ. مضى كلٌّ منهما يُحرك رأسه بشدةٍ، ويتنفس بعمقٍ، ثم تبادلا نظرةً حيَّة لأول مرة.
ارتسمت في وجهيهما الدهشة.
– ربَّاه!
– عبد القوي!
– عبد الواحد!
– ماذا حدث لنا أيها الأخ؟
– أجل ماذا حدث؟
وساد الصمت مرةً أخرى تحت شمس الخريف الدافئة حتى تمتمَ عبد الواحد: كنا ماضيَين نحو الطريق الزراعي.
– أجل رأيناه بالعين على ضوء النجوم.
– ثم؟
– ثم انقضَّ علينا قطَّاع الطرق، لا شك عندي في ذلك.
– وسرعان ما غِبنا عن الوجود.
– آه، تذكَّرت، كنا قادمَين من مخيَّم البدوي.
– ذلك الرجل الكريم الذي استضافَنا في الواحة.
– الواحة! .. أجل الواحة .. وقد قضينا وقتًا طيبًا في الخيمة .. وتعاطينا …
فقاطعه عبد الواحد بحدة: إنك أنت أصل المصائب!
– كلما هفَتْ نفسُك إلى لذَّة مسحتَ ضعفَك فيَّ أنا!
– أنت الذي شجَّعته!
– لِم اشتركتَ أنت معنا؟
– ضقتُ بالعزلة …
– هي حُجَّتك إذا أردتَ أن تمسح ضعفك فيَّ …
– وقد وصلنا البدوي حتى مشارف الطريق …
– وعقب رجوعه بوقتٍ غير قصير وقَع لنا ما وقع.
– وحمَلَنا المعتدون إلى هذا الخلاء ثم تركونا عرايا!
وجعل كلٌّ منهما يُقطب متذكرًا، حتى قال عبد الواحد: سرَقوا ملابسنا بما فيها.
– نقودنا وأوراقنا الخاصة.
– تركونا بلا شيءٍ في لا شيء.
– فنحن وما حولنا لا شيء.
– هُراءٌ ما تقول!
– ولكنَّك أنت مَن قُلته!
– إني لا أتكلم؛ ولكني أُفكر، والتفكير طرحُ فروضٍ واحتمالات …
– معذرة يا أخي، ولتُفكر في هدوء.
– ويجب أن تفكر أنت أيضًا.
– إنما اعتمادي — بعد الله — على إحساسي الباطني وحده.
– ماذا يقول لك إحساسُك الباطني؟
– إنها ستُفرَج من حيث لا ندري!
– ربما هلَكنا قبل ذلك.
فرفع عبد القوي كتفَيه العاريَين في صمتٍ واستسلام فقال عبد الواحد: لقد سلبونا جميع ما نملك، إلا العقل.
– وهو ما زال في شِبه غيبوبة.
– أجل، ولكن من اليسير أن نُدرك أن علينا أن نذهب إلى أقرب نقطة شرطة.
– فكرة صائبة، هيَّا بنا …
– لا تتعجَّل، أنسيتَ أننا عرايا يستحيل عليهم مواجهةُ الناس؟!
– ولكنك أنت الذي اقترحتَ ذلك.
– قلتُ لك إني أفكر، وإن التفكير ما هو إلا طرحُ فروض واحتمالات!
– معذرة …
– وإذن فعلينا قبل ذلك أن نحصل على ملابس.
– فكرة صائبة، ولكن كيف؟
– أن نعود مثلًا إلى صاحبنا البدوي.
– أسرع، لنُسرع أيها الأخ …
– ولكننا في خلاء مجهول لا ندري شيئًا عن موقعِه، ولا بوصلة معنا ولا مرشد.
– لم يبقَ إلا أن تنتظر حتى يعبر أحدٌ فنَنهَبه كما نُهِبنا.
– وأي مجنون يعبر هذه المتاهة؟
– يا لها من ورطةٍ مضحكة!
– مضحِكة؟!
– المآزقُ تبعث في نفسي الضحك.
– ذاك أنك أهوجُ ملهوج لا يُركَن إليه في أزمة.
– أنسيتَ مواقفي في نجدتك عند الخطر؟
– لا يمكن أن يُنسى ذلك، ولكن لا تضحك في المآزق!
أحنى عبد القوي رأسه مستجيبًا، أو متظاهرًا بالاستجابة، فواصل عبد الواحد كلامَه قائلًا: اتفق الرأيُ على أننا نزَلنا ضيفَين في خيمة البدوي، ولكن ما الذي دفع بنا إلى الواحة؟
– ولكنك لم تحلَّ مشكلة وجودنا في الخلاء عرايا بعد؟
– يقتضي حلُّها بالرجوع إلى الوراء قليلًا؛ فنحن لم نستكمل الوعي بنفسنا وحالنا بعد.
– فلْيتمَّ ذلك قبل أن نهلك في الخلاء.
– لا تُبدِّد الوقت، ماذا جاء بنا إلى الواحة؟ .. لا أظننا من أهل الواحات!
– الثابت أننا من أهل الأرض.
– أين كنا قبل أن نذهبَ إلى الواحة؟ .. ولِمَ ذهبنا إلى الواحة؟
فضرب عبد القوي جبهته بكفه وصاح: شدَّ ما كانت جيوبي مَلْأى بالنقود!
– ولكننا لا يمكن أن نُعَدَّ من الأغنياء بحال!
– صَهْ، ها هي ذِكرى تقع في قبضتي، الاستراحة! .. ألا تذكر الاستراحة؟!
– الاستراحة! .. أجل .. الاستراحة والحديقة وبِركة البط.
– برافو .. والركن القصيُّ حيث قبَعَت مجموعة من الأفندية؟
– أجل .. كانوا يلعبون الورق …
– وجعلتُ أنا أتابع اللعب من بعيد.
– وحذَّرتك من ذلك.
– ولكني لا أملك أن أرى اللعب دون أن أتفرج.
– قلتُ لك ابتعدْ.
– وإذا بأحدهم يسألني برقة: «أتريد أن تنضم إلينا؟»
– وهمستُ في أذنك أنهم زملاء وقد يتضامَنون عليك.
– والخطر لا يُخيفني بقدر ما يستفزُّني للتحدي.
– سَجيَّة مفيدة في مجالها، مُضرة فيما عدا ذلك.
– ولكنك أنت نفسك لحقتَ بي في اللعب!
– عندما طالت بي الوحدة!
– كلا .. عندما ثبَت لديك أن اللعب نظيف وأنني أربح باستمرار!
– ليس إلا أنني أكرهُ الوحدة!
– وسرعان ما انهمكتَ في اللعب …
– وقد ربحتَ أنت مالًا طائلًا …
– ثروة! .. أخذتُها من أصحابها لأهَبَها لقطاع الطرق.
– وأعقب ذلك معركة!
– رماني أحدُهم بتهمة باطلة فلكَمتُه!
– ولكنها اتسعت واضطُررتُ إلى المشاركة دفاعًا عنك، ونلتُ نصيبي من الضرب الأليم …
– ولكننا انتصرنا في الضرب كما انتصرنا في اللعب.
– وبعد أن ورَّطتَنا فيما لا يليق!
استمتع عبد القوي بلحظاتٍ من الارتياح؛ على حينِ مضى عبد الواحد يُفكر حتى رجع يتساءل: ولكن ماذا دفَع بنا إلى الاستراحة؟
أفاق عبد الواحد من لحظاته السعيدة فحدَجَه بنظرةٍ بلهاء، وتساءل عبد الواحد: أين كنا قبل أن ننزلَ بالاستراحة؟
– الاستراحة .. الواحة .. مؤكَّدٌ كنا نقوم برحلة.
– من أين؟ وإلى أين؟ .. أعْمِل ذاكرتَك الفذَّة.
– ولكنها ما زالت في قبضة المخدِّر وعلقة قطَّاع الطرق!
– تغلَّبْ على ضعفك الطارئ؛ فأنت رجلٌ مخلوق للشدائد.
راح عبد القوي يعصر ذاكرته مليًّا ثم قال: أذكر أنني رفعتُ بين يدَيَّ رجلًا يرتدي جبة وقفطانًا وطرَحتُه أرضًا!
– ولكن خُصومنا في الاستراحة كانوا أفندية!
– أكان أحدَ قطاع الطرق؟
– ولكنا لم ندخل معركةً معهم؛ فقد غدروا بنا بغتةً فغِبنا عن الوجود.
وإذا بعبد القوي يصيح متهللًا: كان الرجل صاحب الراقصة!
– الراقصة؟!
– مَلْهى الزهرة .. ملهى الزهرة بالمدينة .. كنا في المدينة قبل أن نمضيَ إلى الاستراحة!
– عفارم عليك .. كنا حقًّا في المدينة.
– قضينا ليلةً عجيبة.
– الله يكسفك!
– حيَّاك الله يا ملهى الزهرة!
– أنت الذي قدَّمتَني إليه.
– ينبغي أن أستحقَّ شُكرَك.
– وشربت، وشربنا، ولكنك جاوزتَ الحد.
– وكانت الراقصة تضيء كاللؤلؤة.
– ورغم تحذيري لك، فإن النهم تجلَّى في عينيك كوحش ضارٍ.
– كنتَ تُحذرني يا أخ وتسترقُ إليها النظر.
– الإعجاب بالجمال في ذاته من ضمن أشواق العقل!
– لذلك لم أنسَك في مغامراتي الباهرة فساومتُها على ليلة كاملة لرجلين معًا!
– أخزاك الله!
ولم تُمانع الفاتنة.
– مؤامرة حيوانيَّة.
– ولكنها ضمِنَت لكِلَينا ليلةً ساحرة.
– ثم اعترضتنا متاعبُ غير متوقَّعة ومخجلة.
– كان ثمة عشاق قدامى لها اعتبَروا مغامرتنا اعتداء صارخًا على رجولتهم.
– وهكذا خضنا في طريقنا إلى بيتها معركةً حامية …
– وانتصرنا انتصارًا حاسمًا.
– وكِدْنا نقع في قبضة الشرطة.
– ولكن الله سلم وقضينا ليلةً حمراءَ مُتْرَعة بجنون اللذة.
– وها نحن عَرايا في خلاء ميت!
– ولكن الليلة الحمراء لا يمكن أن تُنسى.
– لولا حماقتُك ما وقعنا في هذا المأزق.
– حماقاتي قادتنا من لذةٍ إلى لذة، ومن نصر إلى نصر …
– حتى مجرد الاعتراف بالخطأ تأباه، أيها العنيد المكابِر، أتذكُر كم من مرة قلت لك: إن العبث قد يحول بيننا وبين إنجاز مهمتنا.
وسرعان ما تبادلا نظرة حادة منزعجة! وهتف عبد القوي: ماذا قلت؟ .. أعِدْ ما قلت مرة أخرى.
فقال عبد الواحد بذهول: يحول بيننا وبين إنجاز مهمتنا!
– إذن فهنالك مهمةٌ تتطلب الإنجاز؟
– صبرك. دعني أتذكر بهدوء.
– بهفوة لسان تذكرتَ أخطر شيءٍ في رحلتنا.
– مهمة .. أي مهمة؟ .. دعني أتذكر.
– لا شك أننا كنا في العاصمة قبل أن ننتقل إلى المدينة.
– أجل .. لا شك في ذلك.
– وها أنا أتذكر آخرَ ليلة لنا فيها، كنا في زيارةٍ للكهف الذي أقام فيه الوجوديون معرِضَهم التشكيلي!
– صدقت أيها الأخ عبد القوي.
– وقابلنا هناك الزميل نوح، فأمرنا همسًا بأن نذهب من فورنا إلى مستشفى الولادة لمقابلة الدكتور المولِّد رئيس وحدتنا السرية ومندوب الزعيم.
– وذهبنا إلى المستشفى فانتظرناه في حجرته حتى يفرغ من توليد امرأة.
– وجاءنا فتحدث معنا عن رحلتنا.
– أمرنا أن نسافر إلى الجنوب، ولكن لِم لَم نسافر إلى الجنوب رأسًا؟
– رسم للسفر خطة معقَّدة، فكان علينا أن نذهب أولًا إلى المدينة، فالاستراحة، ثم الواحة قبل أن نمضيَ إلى الجنوب.
– أجل وحدَّد لكلِّ مكان وقتًا ومدةَ إقامة، ولكن ماذا كانت المهمة؟
– آن لنا أن نتذكر أخطرَ ما في رحلتنا.
– أذكر أنه انتحى بك جانبًا مقدار خمس دقائق، فلم أسمع ما دار بينكما.
– ألم أُحدثك عن المهمة عقب مغادرتنا المستشفى؟
– كلا، مؤكَّد أنني لم أعرف شيئًا عن المهمة، ولكنك …
– ولكنني؟
– ولكنك قلتَ لي ونحن في الطريق نصفِ المظلم: إننا سنعرف المهمة عندما نصل …
– ذاك يؤكد أنني لم أكن أعرفها وقتذاك.
وهنا صاح عبد القوي متهللًا: قلت إنها في جيبك، إنه سلمك مظروفًا مغلقًا لا يجوز فضُّه قبل الوصول.
– أحسنتَ التذكر …
وضرب يدَه على موضع الجيب، فأصابت لحمَ فخذه الضامرة، فصاح بحسرة: يا للداهية السوداء، لقد سُرق المظروف فيما سُرق من أموالنا!
– يا للكارثة!
– إنك أنت المسئول عمَّا حاق بنا.
– لا تمسَحْ فيَّ ضعفَك.
– اعترِفْ بجنونك.
– إني راضٍ عن نفسي، فاعترف أنت بضعفك …
وتبادَلا نظرة نارية، تلاقى فيها الغضب بالتحدي، ولكن عبد الواحد انتزع عينيه يائسًا، رمى ببصره إلى الخلاء، ثم تنهد قائلًا: نهاية خَليقة بالحشرات!
فقال عبد القوي: لا تنسَ مشكلتنا الراهنة؛ علينا أن نتخلص من ورطتنا!
لم ينبس عبد الواحد، فعاد عبد القوي يقول: لنبحث عن العُمران، وسنحصل بوسيلةٍ ما عمَّا يسترُنا، ولنرجع بعد ذلك إلى الدكتور.
– هذا يعني القضاءَ علينا.
– حتى إذا علم باعتداءِ قُطاع الطرق علينا؟
– له قدرةٌ خارقة على أن يُقرِّرنا حتى نُقرَّ بما يُديننا!
– ولِم لَم يُفْضِ إليك بالمهمة من بادئ الأمر؟
– إنه أدرى بما ينبغي أن يُتَّبَع.
– ولكننا نحن الذين نقوم بالمغامرة، ومن حقنا أن نعرف.
– لقد دخلنا التنظيمَ باختيارنا وقَبِلنا لائحتَه دون شرط، فما وجهُ اعتراضك الآن؟
– كان علينا أن نرفض أن نكون مجردَ آلات.
– بالتنظيم كذلك أناسٌ لا عمل لهم إلا التفكير والتدبير.
– ولم يختصُّون هم بالتدبير ونختصُّ نحن بالتنفيذ الأعمى؟
– لا يستقيم التنظيم إلا بتوزيعٍ دقيق للعمل.
– ومتى ثبَت لهم أننا دونهم في التفكير والتدبير؟
– يبدأ العضو عادةً بعملٍ تنفيذي، ثم يتدرَّج في مدارج الرقي.
– كلام جميل؛ أما الواقع فهو أنهم يستأثرون بالعلوِّ والأمان، ونتعرض نحن كلَّ ساعة للموت، وتمر الأيام ونحن نُمنِّي النفس بترقيةٍ لا تريد أن تتحققَ أبدًا!
– الحق أنه لا همَّ لك في دنياك إلا التمردُ وانتهاب اللذَّات!
فرفع عبد القوي كتفيه العاريتين امتعاضًا وأطبق فاه، فقال عبد الواحد: شدَّ ما يُغضبك قول الحق!
فتساءل عبد القوي ساخرًا: خبِّرني عن تفكيرك ماذا أفادنا؟
فتساءل عبد الواحد بالسخرية نفسِها: حدِّثني عن إحساسك الباطنيِّ ماذا أفادنا؟
فنفخ عبد القوي مَغيظًا وقال متشكيًا: آنَ لنا أن نبحث عن طريقٍ للخلاص.
– حسن، لنسأل أنفسَنا ماذا نريد؟ وعلينا أن نُجيب على ذلك بوضوح.
– نريد العمران، الملابس، المظروف الضائع، مواصلة الرحلة …
– قد نهتدي إلى العمران، وقد نجد ما نُغطي به جسدَينا، ولكن كيف يمكن العثور على المظروف؟
– نلجأ إلى نقطة الشرطة!
– لقد أنهكَك الضياعُ فنسيتَ أن رجال الشرطة هم أعداؤنا!
فتفكَّر عبد القوي مَليًّا في حيرةٍ بالغة ثم قال: أصبحنا مُطاردَين من الشرطة والتنظيم معًا، فلم يبقَ أمامنا إلا سبيلٌ واحد!
– وهو؟
– الهرَب؟
– الهرب!
– أجل .. الهرب.
– وكيف نحيا؟
– لنا خبرتنا في الحياة، وما أكثرَ الذين يعيشون خارج نطاق التنظيم؟
– ولكن كيف؟
– لنبدأ من جديدٍ، لنتسوَّلْ أو نُقامر أو نسرق، وهناك تجارة الرقيق الأبيض!
– أتتصوَّر أنني أرضى بشيء من ذلك بعد أن اختِرتُ عضوًا في التنظيم، وبعد أن كُلِّفت بمهمة لا يُكلَّف بها إلا الأكفاء؟!
– عيبك الأساسيُّ هو الغرور، اعترِفْ بأننا خَسِرنا اللعبة، ومن حقنا أن نتعلق بأذيال الحياة بأي ثمن.
فقال عبد الواحد بإباء: أرفض أن أتعلقَ بأذيال الحياة بأي ثمن.
– ولكن الحياة تستحقُّ ذلك.
– لعلي أُفضِّل الانتحار.
– أيُّ شيء أفضل من الانتحار.
– ليس أيَّ شيء!
– لنكن عمَليِّين!
– لنكن عمليين ولنُفكر في وسيلةٍ لإصلاح الخطأ وإنجاز المهمة.
– بضياع المظروف ضاع الأملُ في ذلك.
– لا تتسرَّع في الحكم.
– حدِّثني عن سبيلٍ لمعرفة المهمة …
– فلنستعِن بالعقل.
– سلْ عقلَك عن سرٍّ مدفون في مظروفٍ مفقود!
– إنك لا تحترمُ العقل، وذلك هو سرُّ تعاستك.
– ولكني لستُ تعيسًا.
– ومن آيِ تعاستِك أنك لا تعرف أنك تعيس.
– إني مُسلِّم بمقدرتك في الجدل، وبسُخريتك مني إذا حلا لك ذلك، ولكن من الخير أن تُوجِّه قوَّتك المزعومةَ إلى حل اللغز الذي تتوقفُ عليه حياتنا.
– كأنك عازمٌ على الوقوف مني موقفَ المُشاهد أو الشامت؟
– اقترحتُ عليك ما أرى، وهو الهرب.
– لنُمارسَ حياةً وضيعة في ظل المطاردة؟!
– سنكون مطاردَين على الحالَين!
– مطاردة الشرطة لنا شرفٌ لم نستحقَّه إلا بالعرق؛ أما مطاردة التنظيم فهي اللعنة الكبرى!
– لستُ راضيًا عن دوري الآلي فيه.
– ولكنك دخَلته مختارًا؟
– بل لأنك دخلته، ولأني لم أعتَد الحياة بعيدًا عنك!
– وإذن فعلينا أن نتقبَّل مصيرنا بالصبر والشجاعة.
فقال عبد القوي متنهِّدًا: ليكُن .. حدِّثني الآن كيف نعرف المهمة؟
– كنْ معي بكلِّ حواسِّك، لقد أُمِرنا بأن ننزل في المدينة، فالاستراحة، ثم الواحة في طريقنا إلى الجنوب حيث نفضُّ غلاف المظروف.
– أجل، والحق أني لم أُدرك وجه الحكمة فيه، وقد نفَّذنا الشطر الأكبر منه بكلِّ دقة ودون جنيِ أي ثمرةٍ إلا ما حاق بنا من خسران!
– لا تنسَ أننا ضيَّعنا وقتَنا في العربدة والعراك.
– هو خيرٌ عندي من المكوث بلا عملٍ أو تسلية.
– فاتتنا أشياءُ وأشياء لم نفطن لها في حينها!
– ما كان قد كان، انتهينا إلى ما نحن فيه، فما العمل؟
– لنسأل أنفسَنا ما المهمَّة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجَد نفسه في الجنوب؟
فضحك عبد القوى وأجاب: قد يقتل أو يشهد حفل كوكتيل!
– إنك لا تُساعدني البتَّة!
– معذرة، الأفضل أن نتسلَّل إلى رئيس وحدتنا لنُحاول الاتفاق معه …
– الاتفاق معه؟
– أن يعطينا مظروفًا جديدًا بثمنٍ معقول يمكن دفعُه ولو بأقساط.
– إنه رجلٌ أمين، وفضلًا عن ذلك فالراجح أنه لا يدري شيئًا عمَّا في المظروف.
– لا يدري شيئًا عمَّا في المظروف؟!
– كلا.
– يا لها من مهزلة!
– إنه تنظيمٌ ضخم ويُحسِن توزيع العمل بين أعضائه.
فقال عبد القوي بنفادِ صبر: لنرجع إلى السؤال المطروح؛ ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟
– بالاستقراء والقياس تتَّضح الأمور، فنعرف ما يجب عمله.
– ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟
– لا أملك إجاباتٍ جاهزة، ولكننا نملك خَلْق الفروض وتجرِبتَها …
– كما يتراءى لنا؟
– كما يتراءى لعُقولنا!
– نُفكر ونتعب، نقترح الفروض، نُجرب كلَّ فرض، نرتطم بالخطأ، نُعاود التفكير والتعب، نقترح فروضًا جديدة، وطيلةَ الوقت نتلفَّت فيما حولنا بحذر؛ أن يقبض علينا رجال الشرطة، أو يقتُلَنا رجال التنظيم، وعاجلًا أو آجلًا سنقعُ في المصيدة.
– إنك مثبِّطٌ للهمم، ولكن حتى لو وقَعنا في المصيدة فسنكون قد أثبَتنا حُسن نيتنا، وربما نُوفَّق إلى نجاح فذٍّ يُغطي على أخطائنا.
– عظيم .. عظيم.
– ولكني أراك غيرَ متحمس في الواقع!
– مَعاذ الله!
– وشاردَ النظر، سرَحتَ بفكرك بعيدًا، فيمَ كنتَ تفكر؟
– أتريد الحق؟
– نعم.
– تذكَّرت كيف هوَّشتُ المقامرين في الاستراحة، فربحتُ في دورٍ عشَرة جنيهات بجوز عشرة!
فقطَّب عبد الواحد في استياءٍ وقال: يا لك من مستهتر!
– وعندما جندلتُ اثنين في معركة الراقصة بلكمةٍ واحدة مستعرضة!
– إنك ثملٌ بذكريات عَفِنة.
فقال عبد القوي بحماس: أصغِ إليَّ، إنها ذكريات جميلة، لا أدَلَّ على ذلك من أنك شاركتَ فيها جميعًا معتلًّا بشتى العلل، لا تُنكر ذلك، أصغِ إليَّ، هلمَّ نهرب، دعنا من خلق فروض خيالية في الجنوب، دعنا من تعبٍ غير مُجدٍ البتة، نحن مطارَدون، وسنظل مطارَدين، وخيرٌ لنا أن نهبَ حياتنا للمغامرات الشائقة.
– لا تستسلمْ لتيار خيالك الجامح، اسبَحْ ضده بقوة، وهلمَّ نبحث عن العُمران.
فضرب عبد القوي الأرضَ بقدمه في عنادٍ وقال: كلا.
– ثقْ أننا سنعرف المهمة.
– كلا!
– إني أطالبك بالسير معي.
– كلا.
– معنى ذلك أننا سنفترق.
– لِنفترق.
– ولكنك قلتَ إننا اعتدنا الحياةَ معًا.
– منذ نشأتِنا الأولى!
– لم تُجرب الحياة وحدك.
– ولا أنت.
– إذن يجب أن نُحافظ على وحدتنا.
– تعالَ معي.
– بل عليك أنت أن تأتيَ معي.
– إني أرفض وصايتَك كما رفضتُ وصاية التنظيم.
– لقد انقطع ما بيننا وبين التنظيم، ولئن زالت عنا ولايته فقد وُهِبنا الحرية، ولكنها ليست الحريةَ التي كانت لنا قبل أن ننضمَّ إليه، إنها حريةٌ جديدة غيرُ عابثة، وليست وصايةً مني عليك.
– إنك تُحسن الجدل ولكني مُصرٌّ على الرفض!
– لا يجوز أن نفترق.
– لا يجوز أن نفترق.
– هلُمَّ معي.
– هَلُمَّ معي أنت.
– ليتقدَّم كلٌّ منا خطوةً من جانبه؛ عندي اقتراحٌ للتوفيق.
– ما هو؟
– ليكُن لكلٍّ منا اختصاصُه، وليعمل في دائرته؛ ولكن تحت شرط!
– وهو؟
– أن تُسلِّم بالمهمة، لا تهرب منها ولا تُنكرها؛ فبدونها تُضْحي الحياةُ لا شيء.
– ولكن المظروف سُرق؟
– لا يهم، إن فَقْده يعني الانفصال عن التنظيم، لا إهمالَ المهمة أو الكفر بها، بل لعل الإيمان بالمهمة هو الذي دفَعنا إلى الانضمام إلى التنظيم وليس العكس.
– بوُسعِك دائمًا أن توقِعَ عقلي أسيرًا لمنطقك، ولكن كلماتك لا تَنفُذ إلى باطني.
– اقتراحي يبدو لأول وهلة خارقًا للمألوف؛ من أين لنا أن نعرف المهمة؟ ولكن مَن الأصل في اقتراح المهمة؛ أليس هو الزعيمَ المجهول؟ حسن، وأليس هو يقترح المهمةَ بعقله؟ حسن، فلِمَ نتصور أن عقله فوق جميع العقول؟ بل حتى مع التسليم بتفوُّقه، فهل يعني هذا التسليمَ بعجز عقولنا؟ فإذا انقطعَت الصلةُ بيننا وبينه، فما علينا إلا أن نُفكر، ثم إن الصلة بيننا وبينه مقطوعةٌ في الواقع من بادئ الأمر؛ فنحن لا نعرف إلا مندوبه الذي يرأسُ وحدتنا، ولا علم لنا عن مدى صلةِ المندوب به، ولا يبعد أنه يترك للمندوبين مهمةَ اقتراح المهمة.
– ها أنت تتشكَّك في القيادات العليا نفسِها!
– أنا لا يُهمني إلا المهمة؛ فبِها أكتسب وظيفتي في الحياة، وبغيرها لا يبقى لي إلا العدَم، ولقد اعتدنا أن نُسلم بالمهمة على ثقتنا بالزعيم، ولكن ليس ثمة فارقٌ كبير أن تقوم بالمهمة لذاتها، وبين أن تقوم بها لحسابِ زعيم مجهول.
– هل البدءُ بالمهمة يعني الانتهاءَ إلى الزعيم؟
– كل شيء محتمل، قد يؤهِّلنا النجاحُ لوظيفة المندوب فنتَّصل بالزعيم، وقد يتَّضح لنا أن المندوبين أنفسَهم لا يتصلون بالزعيم كما يدَّعون، وقد يَثبُت لنا أن التنظيم يُدار بطريقة جديدة لم تَجْرِ لأحدٍ على بال.
– وإذا تبيَّنَ لنا أن إنجاز المهمة قد يُكلفنا حياتنا؟
– ألم يكن من الجائز أن نفقدَها في بيت الراقصة؟
– أن أموت بين يدَيْ راقصةٍ أفضلُ من أن أموت وراءك!
– علينا أن نختارَ على ضوء احترامنا لأنفسنا.
– بكل صراحةٍ أنا لا يُهمني الاحترام!
– بل إنك تُشعل معركةً لأقلِّ إهانة توجَّه لذاتك!
– لا علاقة لذلك بالاحترام الذي تطالبني به.
– لقد أصبحنا وحدنا؛ فإما أن نختار العمل كأعضاء محترمين رغم زوال صفة العضوية الرسمية عنا، وإمَّا أن نرضى بحياة الصعلكة.
– إني أعشق حياةَ الصعلكة!
– يا لك من مجنون!
– يا لك من رجل متعِب!
– يا للحزن، إنَّ الانفصال يُهدد وحدتنا الرائعة.
– إنه لأمر محزنٌ حقًّا.
– انفصَلنا عنه، وننفصل عن بعضِنا البعض، سلسلة من الانفصالات لا أدري أين تقف.
لاذا بالصمت وهما يتبادلان نظرةً طويلة. وهمَّ عبد الواحد بالكلام، فتح فاه ولكنه سرعان ما أطبقه. ورفع رأسه نحو السماء في دهشة. ورفع عبد القوي رأسه كذلك وهو يُتمتم: صوت طائرة!
– أجل.
– ولكن أين هي؟
أشار عبد الواحد إلى الأفق قائلًا: هيلكُبْتر!
جعلا ينظران إليها وهي تقترب وتتَّضح في سَمْت السماء. وقال عبد القوي: هلم نُلوِّح بأيدينا؛ لعلهم يروننا.
– لَوِّح، ولكنهم لا ينظرون إلينا.
فصاح عبد القوي: انظر، إنها تهبط!
هبطت بتؤدةٍ كأنما تمضي إلى هدفٍ محدَّد حتى استقرَّت فوق الأرض غيرَ بعيد منهما، وهما يتطلَّعان إليها بذهول. وتساءل عبد القوي: هل هبطَت من أجلنا؟
– لعلها مناوَرةٌ لا علاقة لها بنا.
– أو أنها …
ولكنه انقطع عن الكلام عندما انفتح بابها، وتدلى السلَّمُ نحو الأرض. ولاح في الباب رجلٌ يحمل حقيبةً متوسطة الحجم سرعان ما أخذ في النزول. ضيَّق عبد الواحد عينَيه ليُحدَّ بصره، ثم هتف: زميلنا نوح!
– أجل .. هو الزميل نوح.
مضَيا نحوه فتلاقَوا في منتصف المسافة. تهلَّل وجْهاهما بالفرح؛ ولكنه قابلهما بوجهٍ جامد لا يُفصح عن أي تعبير إنساني، فباخا وهما يُصافحانه، وصافحهما بآليةٍ صمَّاء. ودون أن ينبس بكلمة فتح الحقيبة وأخرج لكلٍّ طاقمَ ملابس متكاملة. ارتَدَيا الملابس الداخلية والخارجية في فتورٍ وقلق، ولما فرغا نظرا إليه في استطلاع، فأشار صوب الطائرة وقال: الطائرة تحت تصرُّفِكما إذا رغبتما في العودة.
وساد الصمتُ قليلًا حتى تساءل عبد الواحد: كيف عرَفتم بمكاننا أيها الزميل؟
ولكنه لم يُجب، فعاد عبد الواحد يقول: لعلهم أرسَلوا وراءنا عيونًا؟
لم يبدُ عليه أنه سمعه، فقال عبد الواحد بإصرارٍ: أرجو أن يكون رجالنا قد استردُّوا المظروفَ المسروق!
فثابر على صمتِه دون مبالاة، فقال عبد القوي باسمًا: بحسن نية أيها الزميل ارتكبنا بعضَ الأخطاء، ودون تقدير للعواقب!
كأنه أصمُّ لم يستجب؛ ولكن عبد القوي لم ييئس فسأله: هل نجد محاكمةُ عادلة ورحيمة ونُمنَح فرصة جديدة للعمل؟
قام الصمت كجدار سجن. ولَمَّا لم يُحاولا الكلام مرة أخرى قال نوح وهو يتناول الحقيبة الفارغة: سأنتظر في الطائرة ثلثَ ساعة، ثم أرجع من حيث أتيت.
ورجع كما جاء، فرقيَ في السُّلم حتى اختفى داخل الطائرة. تبادلا نظرةً حائرة، ثم تساءل عبد القوي: ما له يُعاملنا كأنه غريبٌ أو عدو؟
– إنه يُنفذ ما أُمر به.
– ماذا تظنُّهم فاعلين بنا؟
– سنُقدَّم إلى محاكمةٍ عاجلة.
– وما العقوبة المتوقَّعة؟
– العقوبات تتراوحُ بين الإعدام والخصم من المرتب.
– لو كنا نستحقُّ الإعدامَ في نظرهم لأَمَروه بقتلِنا في هذه المتاهة!
– لا تعتمد على المنطق في فَهْم نواياهم.
– ستوقَّع علينا عقوبةٌ ما، ثم نُمنَح فرصة جديدة للعمل، هذا هو إحساسي!
– أترى أن نعود معه؟
– إنه المخرج الوحيد من حيرتنا، إلا …
– إلا؟
– إلا إذا وافقتَني على الهرب!
فنفخ عبد الواحد في ضيق وقال: لا تَعُد إلى ذلك.
– إذن فلا مفرَّ من العودة.
– ألم تتمرَّد منذ حينٍ قليل على الوضع الذي يجعل منا آلاتٍ صماء؟!
– ولكنك تكرهُ فكرة الهرب وتقترح — بدلًا من التنظيم — حياةً غريبة لا يقينَ فيها ولا أمان.
– ولكنك لعنتَ دورنا الآليَّ في التنظيم!
– معذرة أيها الزميل، لا رأي لي إذا اعتبرت الرأي عقيدةً ثابتة، إنما أنا ابنُ الساعة التي أنا فيها.
– وهكذا فأنت ترغب في العودة؟
– ليس ظلمًا أن ندفع ثمنَ الخطأ، وسأجد بعد ذلك عملًا أنال عليه أجرًا، ولن تنعدم الفرصُ المشروعة للتسلية والمغامرة!
– لا فائدة من مناقشتك!
– إني أعجبُ لشأنك، ألم تُبْدِ حرصك الدائمَ على المهمة؟ ها هي المهمة تعود بأيسرِ سُبل، ومعها التنظيم كله، والعضوية الرسمية، والمندوب، والزعيم المجهول!
– ماذا أقول أيها الزميل؟ لقد عايشتُ في هذا الخلاء جوًّا جديدًا، وسلَّمت نفسي لمنطقٍ جديد، وهيَّأتُ إرادتي لحياة جديدة …
– لعلَّك تُبالغ في الخوف من المحاكمة؟
– كلا، فهي لن تكون أقسى من المطاردة التي ستتعقَّبُنا!
– أتُصرُّ على الاعتماد على نفسك حتى بعد أن هبَطَت عليك معجزة النجاة؟
– لن أُطيق بعد اليوم أن أكون آلةً صمَّاء.
– ولكنه تنظيم كامل، يوزِّع العمل بكل دقة تضمن النجاح!
– لم تَعُد أعصابي تحتمل المعاملة مع المظاريف المغلقة، ولا المندوب الغامض الذي نلقاه دقائقَ في أوقاتِ راحته، ولا الزعيم المجهول الذي لا نَدْري عنه شيئًا، كلا ثم كلا، وأنت نفسك كنت البادئَ بالرفض!
– لا تدَعْ فرصة العمر تُفلت من بين يديك.
– خُيِّل إليَّ أني أقنعتُك قبل هبوط نوح؟
– كلا، إني أختار واحدًا من طرفَين؛ فإما الهرب وإما التنظيم، وها هي الطيارة تنتظر فلا مجال للتردد بعد!
– أما أنا فطريقي واضح، سأُعيد الرحلة من جديد بدءًا من المدينة؛ ولكن بعقل متفتِّح لا يُغادر كبيرةً ولا صغيرة، وفي الجنوب ستنبثقُ المهمة من صميم رأسي لا من مظروفٍ مغلق!
– توقَّعْ في كلِّ خطوة مطاردةً من الشرطة أو التنظيم!
– سيجد مني يقظةً كاملة لا يعتَوِرُها خوَر.
– سيكون فِراقنا موجعًا، ولكن لا بد من العودة.
– سنُعاني حياةً منفصلة لأول مرة، فكر في ذلك أيها الزميل القديم!
– إنه لَأمرٌ محزن؛ ولكن لا بد من العودة.
– ستوقَّع عليك عقوبة، سيُلاحقك سوء الظن كظلِّك، سيُضاعف ذلك من نصيبك من الآلية.
– وأنت! ستَهلِك في هذه المتاهة قبل أن تبدأ من جديد!
– لا، لقد جاءت الطائرةُ من تلك الناحية، فهناك يقع الشمال، وبالتالي عرَفتُ الجهات الأصلية، كما عرَفت الطريقَ إلى العمران، ابقَ معي!
– يا زميلي العزيز، سوف تُقتل في العمران إن لم تهلك في الخلاء، تعالَ معي.
– ستُمضي حياتَك وأنت ظلٌّ لا حقيقة له، تُنفذ مهمةً لا فكرةَ لك عنها، ابقَ معي.
– أنت تخاف المحاكمة!
– إني أرفض المحاكمة، أرفض العقوبة، أرفض العفو، أرفض الأمر الغامض والتنفيذَ الأعمى، أرفضُ المهمة داخلَ مظروفٍ مغلق، أرفض النجاة الرخيصة في الطائرة، ابقَ معي.
– إني أعجبُ لشأنك؛ كيف انقلبتَ من النقيض إلى النقيض.
– قلت لك: إني ابنُ الساعة التي أنا فيها، ولكنك أنت أولُ من فكَّر في الانضمام إلى التنظيم، أنت مَن دافعَ عنه بحسناته وسيئاته، أنت مَن قَبِل بحماسٍ الدورَ الذي رسمه لك دون مناقشة!
– لعل تمرُّدَك تسلَّل إلى نفسي، خالطَ فكري بعلم وبغير علم مني، فلما وقعنا في هذا المأزق تبدَّت الحقيقة عارية، وانتهيت إلى رأي حاسم.
– يحزنني أن يكون تمردي من أسباب انقلابك.
– سأشكر لك ذلك ما حييت.
هنا دار محركُ الطائرة محدِثًا دويًّا كالانفجار، فهتف عبد القوي: فكر مرةً أخرى أيها الزميل.
– فكرتُ بما فيه الكفاية.
– أمامَك فرصة أخيرة!
– وأمامك فرصةٌ أخيرة!
– ما أمَرَّ الفراق!
– إنه لكذلك أيها الزميل القديم.
تنهَّد عبد القوي يائسًا، فتَح ذراعَيه فتعانَقا بحرارة. اشتد دويُّ المحرك، انتزع عبد القوي نفسه من صاحبه، مضى نحو الطائرة في خطوات ثقيلة، أخذ يرقى في السلَّم حتى بلغ الباب. استدار فلوَّح لصاحبه مودِّعًا، فردَّ الآخر التحية بمثلِها. بدأت الطائرة في الصعود. دوَّمَت في الفضاء. أتبَعَها عبد الواحد عينَيه وهي تبتعد وترتفع وتصفِّر حتى اختفَت فيما وراء الأفق، وجد نفسَه وحيدًا، وجد نفسه حزينًا؛ ولكنه لم يُبدِّد دقيقةً من وقته سُدًى؛ شحذ إرادته لينفُضَ عن قلبه الحزن. قلَّب وجْهَه في الجهات الأصلية ليُحدد طريقه إلى العمران. سار متجهًا نحو الشرق …