وليد العَناء
جلس وحيدًا في الصالة. أرهقه ذَرْعُها ذَهابًا وإيابًا فجلس. ثبتَت عيناه على الباب المغلق، وأرهفَ السمع. أشعل سيجارة، دخَّنها بطريقةٍ آلية خالية من الاستمتاع، ولم تتحوَّل عيناه عن الباب المغلق. بدَتْ من وراء الباب أصواتٌ مبهَمة، حركةُ أقدام، تأوُّهات خافتة، أشاعت في جوِّه الخالي روحًا مبلَّلًا بعرَقِ العناء المُر. ونظر في الساعة، مرت عيناه بالنافضة المكتظَّة بأعقاب السجائر، ونفخ وهو يمدُّ ساقيه.
وفُتح الباب فمرقَت منه امرأةٌ عجوز مطوقة الوجه بخمارٍ أبيض. ردَّت الباب وراءها وتقدَّمَت؛ ولكنه وثب معترضًا سبيلها. انتبهَت إليه وقالت برقَّة: كل شيء حسن، لا تقلق.
فقال بانقباض: ولكن طال الوقت.
– إنها ساعة لا يعلم بأسرارها إلا الله فتوكَّل عليه.
– لولا السوابقُ الماضية ما باليتُ شيئًا.
– لا تُذكِّرنا بما مضى، الطبيبة مطمئنَّة، قالت إنها ستلدُ ولادة طبيعية.
– بدأ الطَّلقُ في أول الليل وها نحن في الهزيع الأخير منه.
– ربك كريم، وعندها طبيبة لا داية، فاصبِرْ وانتظر.
شعر بامتعاضِ نبرتها فقال: لا تلوميني يا دادَة، هذا زمن الأطباء لا الدايات.
– كم وَلَّدَت الداية أمَّها في يسرٍ كالسحر.
– ذاك زمان مضى، وما من دايةٍ تستطيع أن تُواجه هذه الحال.
– كم واجهت مثيلاتٍ لها في الماضي!
– كل شيء تغيَّر، حتى المرض نفسُه.
مضَت نحو الحمام، ثم رجعَت بوعاء من الصاج، فدخلت الحجرة وأغلقت الباب. وجد شيئًا من الطُّمأنينة. لم يألُ جهدًا في إقناع نفسه بها ما دامت الطبيبة قد قالت. دقَّ جرس الباب الخارجي فبادرَ إليه. استقبل القادمَ بدهشةٍ وترحاب معًا، وهو نحيلٌ طويل يكاد يُماثله شكلًا ويُقاربه في العمر. أجلَسَه على مقعدٍ إلى جانب مقعده وهو يُتمتم: خَطْوة عزيزة، أهلًا بك.
– علمت بالخبر وأنا عائدٌ من سهرة طويلة فلم أتردَّد في المجيء إليك.
– أشكرك يا عزيزي، إنها ساعة متأخرة جدًّا.
– لا شكر على واجب.
– ولكن كيف علمتَ بالخبر؟
– من أكثرَ من مصدر فيما يُخيَّل إليَّ.
– لم أتصور أن أحدًا علم به سوى أمِّها.
– أنت يا صديقي لا تعلمُ بما يدورُ حولك.
– حَدِّثني عن مَصادرك!
– لا أدري، لا أذكر …
– لا تدري ولا تذكر؟!
– كنتُ وقتَها ثملًا بالشراب!
– وكانوا سُكارى؟
– المهم كيف حال الست؟
– قالت الطبيبة إنها ستلدُ ولادة طبيعية …
– حمدًا لله.
– ولكن السوابق تُقلقني …
– لا لوم عليك في ذلك.
– ولكن لا يجوز الخوفُ من السوابق أكثرَ مما ينبغي.
– عين الحكمة والصواب.
– أهذا هو رأيك أيضًا؟
– علينا أن نستفيد من السوابق، لا أن نخافَها.
– كانت سوابق إجهاض جبريٍّ ونزيف.
– لا أعادها مِن أيام.
– ترى كيف يمكن الاستفادة منها؟
– بأن نتجنَّب الأسبابَ التي أدت إليها …
– ولكنه الحبلُ نفسه.
– فلنتجنَّبه.
– ولكنَّ أمر الله نفَذ، وكل شيء بأمره.
– أظنُّ لك دخل في الأمر أيضًا؟
– طبعًا.
– مأثورٌ عنك حبُّ الأُبوة بلا حدود.
– لا أنكر ذلك.
– صدِّقني إنه حبٌّ لا معنى له.
– إنه أصل الوجود!
– لا معنى له في هذا العصر.
– إنها مُداعبة ولا شك؟
فقال الصديق وهو يشير إلى الباب المغلق: أهذا وقت تجوز فيه المداعبة؟
– ولكنه أصل الوجود بلا ريب.
– في عصرنا هذا تقع له مضاعفات لم تكن معروفةً قديمًا.
– الطبيبة قالت إنها ستلدُ ولادة طبيعية.
– فليُباركْها الله.
– ولكن الوقت طال وها نحن في الهزيع الأخير من الليل؟
– يا لها من معاناة تهتزُّ لها الأفئدة!
– أسعِفْني برأيك؟
– لا رأي لي يُعتدُّ به في هذه الشئون، ولكن ماذا قالت الطبيبة في السابقة الأولى؟
– كانت في الواقع داية؛ ولذلك أرجَعْنا الإجهاضَ الجبري إلى جهلها.
– والسابقة الثانية؟
– قالت الطبيبة إنَّ النزيف حدَث نتيجةً لعيبٍ في الجهاز.
– وهل برَأ الجهاز من عيبه؟
– هيَّأتُ لها ما استطعتُ من دواء.
– إذن فلا داعي للقلق.
– ولكن الوقت طال والمعاناة تتراكم.
وانطلقت من وراء الباب المغلق تأوهةٌ عميقة، أعقبَتها صرخةٌ مدوِّية، ثم موجةٌ متقهقرة من الأنين. صمَت الزوج محدقًا في الباب، ولما مضى الانتظار بلا نتيجة، قال الصديق: لعله البشير …
– هي حالٌ تتكرَّر من أول الليل.
– يا لها من ولادة عسيرة!
– ولكن الطبيبة قالت إنها ستلدُ ولادة طبيعية.
– إذن فهي ولادة طبيعيَّة طويلة!
– من أين لي باليقين؟
– فلنرجع إلى أهل الخبرة.
– لديها طبيبة ممتازة.
– الآراء تختلف.
– هل لديك اقتراحٌ عملي؟
– دعنا نفكِّر.
– قلتُ إن الآراء تختلف.
– هذا قولٌ صادق في ذاته.
– كيف نبلُغ اليقين؟
– الحقيقة بنت البحث!
– إنك مُغرَم بالأقوال المأثورة.
– سجيَّة جميلة في ذاتها!
– ولكن لا وقتَ لدينا للبحث.
– هذا حق …
– فكري تبَلْبل.
– هذا حق.
– أراها حالًا مرَضية.
– هي أحيانًا كذلك!
– لم يبقَ إلا الصمت والانتظار.
– قد تفوت فرصةٌ نادرة!
– فماذا أفعل؟
بعد تردُّد: الصمت والانتظار!
– ولكنك قلت إنه قد تُفوت فرصةً نادرة؟
– وقد لا يحدث شيء!
– فكيف أتصرف؟
– فكِّر!
– أئذا فكَّرتُ تلدُ امرأتي بسلامٍ؟
– يتوقف ذلك على نوع العلاقة بين التفكير والولادة!
– تُرى أيُّ نوع من التفكير يمكن أن يؤدي إلى الولادة السعيدة؟
– فكِّر!
– يبدو أنك لا تعرف أكثرَ مما أعرف.
– وربما أقل!
فسأله بنرفزة: لِمَ جئت؟
– جئتُ مدفوعًا بواجب اللياقة.
– شكرًا.
– عفوًا.
– في أمثال هذه الظروف يُقدِّم المجاملون ما في وُسعهم من خدمات؟
– إني على أتمِّ استعداد.
– ماذا في وُسعك أن تفعل؟
– أأنت في حاجةٍ إلى نقودٍ يا صديقي؟
– إني في حاجة إلى مَن يُسعفها هي.
– عندها طبيبةٌ ممتازة.
– ترى هل أخطأت؟
– أنت؟
– نعم.
– ما كان يجوز أن تتركها تحبل.
– إنها بنت غلطة.
– بل أنت مجنونٌ بالأبوة.
– هذا شأن الرجال جميعًا.
– احذر الأحكام الشاملة.
– إذن لماذا يتزوج الرجال؟
– أفكَّرتَ يومَ عشقتَها في الأبوة أم في الاستمتاع بها؟
– الاستمتاع يَخمُد؛ أما الأبوة فخالدة!
– ما كان أجدَرَك أن تجد في السابقتَين نذيرًا!
– الحياة إقدامٌ لا نكوص.
– إذن فلتتحلَّ بالشجاعة.
رماه بنظرة نافذة. همَّ بالكلام، ولكن الباب فُتح وخرَجَت امرأةٌ في الخمسين منهوكة القُوى. وقف الزوج لاستقبالها. قدَّم لها صديقه وقدَّمها له باعتبارها حماتَه؛ رفَضَت المرأة الجلوس وظلت متجهِّمة الوجه. سألها بإشفاقٍ: كيف الحال؟
– الحمد لله …
ثم بحدَّةٍ موجِّهةً خطابها للزوج: إني أحتجُّ على ما تُذيعه في كل مناسبة من التشكيك في كفاءة ابنتي للحبل!
فقال الزوج محتجًّا بدوره: لم أشكك في كفاءتها؛ ولكن الحكمة تقتضي تذكُّر الأزمات السابقة!
– لا عيب في ابنتي على الإطلاق.
– إني مؤمنٌ بذلك.
– العيبُ فيكَ أنت!
– أنا؟!
– طالما نغَّصتَ صفْوَها بنزَواتك حتى سمَّمتَ بَدنها؛ فأصبحت جميع شئون حياتها عسيرة، لا ولادتها فقط!
– علم الله أنَّ زوجًا لا يحب زوجه كما أحبها.
– وجريك وراء كل مَن هبَّت ودَبَّت من النسوان؟
– أعوذ بالله، أتُصدقين شائعاتٍ يفتريها عليَّ الحاسدون؟
– أنا لا أتكلَّم بلا حسابٍ دقيق.
– وأنا مظلوم ظلم الحسن والحسين.
وتدخل الصديق قائلًا بلطفٍ: أشهد أنه يُحبها فوق كلِّ شيء.
فالتفتت إليه متسائلةً في حدَّة: ماذا تعرف عن أسرار هذا البيت؟
– أعرف ما يجدر بالصديق أن يعرفه.
– إذن فأنت خبيرٌ ولا شك بغرامياته؟
– لا غرام له إلا الأبوَّة.
– بل لعلك تُشاركه بعضَ مغامراته؛ ولذلك تنبري للدفاع عنه؟
– سيدتي!
– إني خيرُ مَن يفهمكم.
– الزوج الوفيُّ يظل وفيًّا حتى لو تسلل بصرُه إلى هذه أو تلك من النساء …
– ما شاء الله!
– صدِّقيني يا سيدتي، إنه لا يُثبِّت أركان الحياة الزوجية ويُجنِّبها الملل مثل التنقُّل العابر بين النساء!
– ها أنت تعترف!
فصاح الزوج: أنا لم أعترف، وأعلن استنكاري لهذه النظرية!
فقال الصديق متراجعًا: إني أضرب مثلًا ليس إلا.
فهتفَت المرأة: يا لسوء حظك يا ابنتي!
فقال الصديق: لا تخلو حياةٌ من المر مهما تكن حلوة، وأشهد أني ما سمعت زوجة صديقي تشكو قط.
– ذلك أنها من الصابراتِ الصديقات!
– لو كان هناك ما يدعو للشكوى لشَكَت …
– حتى الجوع! .. تضوَّرت أيامًا من الجوع!
فصاح الزوج: الجوع!
وقال الصديق: لعلها تُشير إلى الأيام التي ندرَت فيها اللحوم؟
فقال الزوج: على أيامك يا حماتي أكل الناسُ لحوم الخيل.
فهتفت المرأة في كبرياء: كانت أيامَ بلاء واحتلال.
– على أي حالٍ فنحن سعداء، ولن نسمح لمخلوق بإفساد حياتنا السعيدة!
دوَّتْ صرخةٌ وراء الباب المغلق فألجمَت الألسُن. أسرعت المرأة الحجرة فأغلقَت البابَ وراءها.
عاد الصديقان إلى مجلسهما، وعاد التوترُ يركب الزوجَ جسدًا وروحًا. لم يجد مَن يُفرغ فيه شِحنةَ قلقه سوى صديقه فقال له: كلامك جاوز كلَّ حد.
– كثيرًا ما أنسى نفسي في الحديث فيغلبني الصدق.
– قد يغلبك الصدق مرةً أخرى فتخرب بيتي.
وقبل أن يردَّ عليه دقَّ جرسُ الباب الخارجي. قام الزوج فاستقبل زائرًا جديدًا في تلك الساعة من الليل. عجوزٌ طاعن في السن. لو قُدِّر عمره بتجاعيدِ وجهه وغضونه لَجاوز المائة، ولكنه تمتَّع بحيويةٍ لا بأس بها. وهو نحيلٌ لدرجةٍ مخيفة كأنه محضُ عظام؛ برَزَت وجنتاه وفكَّاه وغارتْ عيناه فلم يبدُ في محجرَيهما إلا ظلام. وتربَّع رأسُه فوق عنقه الدقيق ضخمًا أصلَع، مُنبعِجَ الجبين. وعكَسَ الوجهُ هيئةً جامدة؛ بل متحجِّرة، وندَّت عن القدَمَين خطواتٌ متقاربة غيرُ مسموعة. قبَّل الزوج يده المدبوغة، قدَّم إليه صديقه، قدَّمه هو باعتباره صديقَ المرحوم أبيه والمرحوم جَدِّه من قبل، وجاءه بفوتيل فأجلسَه بينهما وهو يقول: لم أتوقَّع أن تتجشَّمَ مشقة الحضور في هذه الساعة يا عمَّاه.
فقال العجوز بصوتٍ غائر مثل عينَيه: طال انتظاري للبُشرى فقرَّرتُ زيارتَك.
– ما كان ينبغي أن تُكلف نفسك هذا التعب.
– هل من خدمةٍ يمكن أن أقدِّمها لك؟
– لا مطلبَ لي إلا زوجتي.
– يُخيَّل إليَّ أنها ولادة عسيرة حقًّا؟
– قالت الطبيبة إنها ستلدُ ولادة طبيعية.
– عظيم!
– ولكنها طالت كما ترى.
– هذا واضح.
– وعندما أتذكَّر المرتين السابقتين؟ …
– المؤمن لا يخاف ولا يقلق.
فقال الصديق: هذا ما ردَّدتُه له مِرارًا.
فقال العجوز باسمًا عن أنيابٍ عتيقة: أتشكُّ في ذلك يا بني؟
ضحك الصديق متسائلًا: ألا يُتوقَّع مني مثلُ ذاك القول الحكيم؟
– هذا أقلُّ ما يُقال!
– شكرًا.
– عفوًا.
– يُخيَّل إليَّ أني رأيتُ سيادتك قبل الآن؟
– يعرفني أهلُ الحي جميعًا.
– لستُ من أهل الحي فمعذرة، ولتحلَّ برَكتُك بالبيت.
– فلتحل به بركةُ الله الرحيم.
– صديقي قَلِق وفي حاجةٍ إلى مَن يشجعه.
– علينا أن نُذعن لمشيئة الله قبل كل شيء.
والظاهر أن قوله لم يُبشر بالطمأنينة المفتقَدة، فساد الصمت قليلًا حتى خرقه الزوج قائلًا: جئت لها بطبيبة ممتازة.
– لم تكن توجد طبيبات في الزمن الماضي.
– ذاك زمنٌ مضى وانقضى.
– أعرف زوجةً ماتت في مستشفًى خاصٍّ تحت إشراف ثلاثة أطباء!
– أعوذ بالله!
– فلا عاصم لنا إلا إرادة الله.
– ولكني لم أخطئ باستدعاء الطبيبة!
وقال الصديقُ متضايقًا: ما أجدرَ أن نتجنَّب ذِكر الموت في موقفنا هذا.
فقال العجوز: ولكنه حديثُ كلِّ يوم وكل ساعة.
فقال الزوج: هذا حق؛ ولكنه حديثٌ غير محبوب …
– لِمَ يا بني؟
– الموت لا يُحبه أحد!
– يا له من خادمٍ أمين مظلوم!
– مظلوم؟!
– كيف تتصوَّر الدنيا بغيره؟
– أفضل مما كانت معه عشَرات المرات.
– أنت مخطئ يا بني، مخطئٌ في حقِّ ثائر عظيم.
– ثائر عظيم؟!
– بل زعيم الثوار في كلِّ زمان ومكان.
– لغة أيِّ عصر هذه؟
– لغة العصر، لغة الغد …
– فلنختر حديثًا آخر …
– ما جَدْوى الأحاديث المعادة؟
– أُصارحك يا عمَّاه بأنني لا أفكر إلا في سلامة زوجتي.
– فلتحلَّ بها بركةُ الله.
– آمين.
– ولكن خبِّرْني هل جدَّدتَ مقبرةَ الأسرة؟
فهتف الصديق: يا ألطاف الله!
وتساءل الزوجُ بامتعاض: مَن أخبرَك أنني أُفكر في ذلك؟
– تلك كانت رغبةَ أبيك لولا أنْ عاجَلَه الموتُ.
– أمَّا أنا فلا يمكن أن أُنفق مِليمًا على تجديد مقبرة!
– أحسنت.
وقال الصديق نافخًا: إني أنذر جنيهًا إسترلينيًّا إذا تغيَّر الحديث.
فقال العجوز دون مبالاةٍ للمقاطعة: كلما رأيتُ مقبرة متجددة حزنت!
فتساءل الصديق: الظاهر أن سيادتك تَزور المقابرَ كثيرًا؟
– شيَّعتُ المئاتِ من الموتى بحكم سنِّي الطاعن!
– وماذا يحزنك في مقبرةٍ متجددة!
– أرى المقبرة العتيقة البالية من آيات الرحمن!
فقال الزوج برجاء: هلَّا حدَّثتَنا بحديث آخر؟
– سنجد حديثًا أو آخَر، سيُشرِّق بنا ويُغرِّب، ثم لا مفرَّ من العودة إلى الحديث الأول.
– إنه حديثٌ كئيب خانق للقلب.
– أشكُّ في ذلك!
– لا شكَّ في ذلك من ناحيتي!
فقال العجوز بصوتٍ هامس مخاطبًا نفسَه: عليَّ ألا أيئسَ مهما طال الزمن، حتى لو طال بالقدر الذي أتصوره كافيًا.
ثم نهض قائمًا. نظر نحو الباب المغلق وقال: آنَ لي أن أُلقيَ نظرة.
فعَلَت الدهشةُ وجهَي الصديقين، وتساءل الزوج: على أي شيء يا عمَّاه؟
– على زوجتك.
– زوجتي! .. شكرًا .. ولكن لا تُكلف نفسك مزيدًا من التعب.
– إنه واجبٌ يا بُني!
– ولكنه غيرُ جائز!
– كيف؟
– غير جائز بلا حاجةٍ إلى تفسير!
– إني صديقُ أبيك وجَدِّك من قبل، صديق حميم.
– لو كان أبي نفسُه مكانَك ما خطر له ذلك!
– إنك تمنعُني من أداء واجبي!
– إني أطالبك بالجلوس مشكورًا.
– هَبْني طبيبًا.
– ولكنك لستَ طبيبًا!
– وما الفرق يا بني؟
– مزاحٌ لطيف!
وقال الصديق: ويا له من مزاح!
فقال العجوز دون التفاتٍ لمقاطعة الصديق: إني ألصَقُ بك من الطبيب.
– اجلس يا عمَّاه مشكورًا مُكرَّمًا!
فُتح الباب، خرَجَت امرأةٌ متوسطة العمر تتهادى في معطف أبيض، وتنظر من خلال نظارةٍ أنيقة ذات مشبك ذهبي. أقبل الزوجُ نحوها متسائلًا في لهفة: دكتورة؟
فقالت المرأة بهدوء: غيرُ منتظَر أن تلدَ سريعًا؛ ولكنها ستلدُ ولادةً طبيعية.
انتبهَت إلى وجود العجوز فصافحَته مصافحةً حميمة، وقال الرجل: أهلًا بك يا عزيزة، رحم الله أباك.
– أهلًا بك يا عماه.
– وكيف حال الأمِّ الصغيرة؟
– طبيعية، وإن تكن شديدةً بعضَ الشيء.
– كلام يُذكِّرني بأقوال الأطباء!
– ماذا تعني يا عماه؟
– كلام يَشي باحتمالات كثيرة!
– الحال طبيعية جدًّا، ولكننا لا ندخل في علم الله.
– آه من الأطباء إذا ردَّدوا ذِكر الله!
– ولكني أتكلم بصراحة.
قال الزوج بحدة: صارِحوني بكل شيء.
فقالت الطبيبة: ضعْ ثِقتَك في الله.
فقال العجوز: كلام له مغزًى خاص.
فقال صديق الزوج: عمنا يتلهَّف على سماع كلمةِ سوء!
فقال العجوز: وأنت تتلهَّف على سماع كذبة.
وقالت الطبيبة: الحال طبيعية جدًّا يا عماه.
– لِمَ ترَكتِ الحجرة؟
– لأستريحَ دقيقة.
– أردتُ الدخولَ فمنعوني.
– لا يوجد رجلٌ في الداخل.
– وما رأيكِ أنتِ في ذلك؟
– لا رأي لي في ذلك يا عماه.
– بل تستطيعين أن تُدْلي برأي حاسم في الموقف.
فقال الزوج بإصرار حازم: مكانك معنا يا عماه.
وتساءل الصديق: ألم تجئ للاطمئنان على ابن صديقك الراحل؟
– ولكنه لا يُعاني ولادة عسيرة!
– وأنت لا تعرف الزوجة إلا بصفتها زوجةَ ابنِ صديقك الراحل.
– والدها أيضًا كان صديقًا لي.
– لعلك شيَّعتَه كالآخرين؟!
– وهو ثوابٌ كبير.
وهتف الزوج: مكانك بيننا يا عمَّاه، ولا لزوم للأخذ والردِّ.
فرفع العجوز منكبَيه آسفًا وقال مخاطبًا الطبيبة: إنكم تُعذبون الناس بلا سبب معقول.
فقالت الطبيبة: نحن نؤدِّي واجبنا الإنساني.
– ولا تُميزون الصديق من العدو.
– ما أظرفَك يا عماه.
– وأنتم المسئولون عمَّا يحلُّ بالإنسان من ضررٍ بالغٍ.
– سامحك الله يا عماه.
– فلْيُسامحك أنت.
وسأله الصديق: ماذا تعني يا عمَّنا؟
– لا غموضَ في كلامي.
– لعله يحتاجُ إلى شيءٍ من التبسيط.
– يتعذَّر التبسيط على مَن هو في مِثل عمري.
– إن عطفك يا عماه يُركِبك الصعب.
– إنك فتًى مشاغب.
أحنَت الطبيبة رأسها تحيةً، ثم رجعَت إلى الحجرة فأغلقت الباب، وهتف الزوجُ: يا لها من ليلةٍ ليلاء!
فقال صديقُه: عمَّا قليلٍ يطلع الفجر.
عاد العجوز إلى مقعده وهو يقول: ما باليدِ حيلة.
وأسنَد رأسه إلى ظهر الفوتيل، وأغمض عينيه مستوهبًا الراحةَ أو النوم.
وارتفع الصراخُ من وراء الباب مراتٍ متتابعات، ثم سكَت. تابَعه الزوج باهتمام، ولكنَّ الباب المغلق تبدَّى صُلبًا عنيدًا أصمَّ مُحدقًا في لاشيء بنظرةٍ باردة مترفِّعة. واضحٌ أنه لم يَجِدَّ جديدٌ وأن الكفاح غيرَ المنظور يضطرمُ بلا هوادة. وفُتح الباب عن زاويةٍ ضيقة، وتسلَّلَت منه فتاةٌ في العشرين ترفُل في فستان أبيض، أشرقَت بوجهٍ بدا — رغم الإنهاك — كالقمر الساطع. حيَّت الجالسين، ولكنَّ العجوز لم يُبدِ حَراكًا وظلَّ مُغمَض العينين، وقالت للزوج: إنها تريدك.
قام الرجلُ فمضى إلى الداخل وأغلق الباب. ذهبَت الجميلة إلى كنبةٍ في الجانب المقابل لمجلس الرجال ثم جلسَت. لم يُحوِّل الصديق عينَيه عنها مُذ طلَعَت عليه من الحجرة. التقتْ عيناهما مرةً ثم غضَّت البصرَ في إعياء. قال: لعلَّكِ في حاجةٍ إلى شراب منعِش.
فأجابت: إني في حاجةٍ إلى شيء من الراحة.
– شقَقْتِ على نفسك بالبقاء في الداخل إلى جانب شقيقتك.
– إنها معاناة مروِّعة …
وقام، ربما متشجِّعًا بنوم العجوز، فجلس إلى جانبها وهو يقول: قلبي معك طيلةَ الوقت!
– الله معها.
– من أجلكِ جئتُ في هذه الساعة من الليل.
– ظننتُك جئتَ من أجل صديقك.
– كان من الممكن أن أزوره صباحًا؛ ولكن من أجلك أنت …
– ماذا تريد؟
– إنكِ مرهَقة الأعصاب؟
– ربما.
– كِلانا مُرهق الأعصاب!
– أنتَ أيضًا؟
– شاركتُ صديقي آلامَه، يُضاف إلى ذلك تفكيري الدائمُ فيك!
– شكرًا.
مال نحوَها كالمسحور فلثَم فاها. لم تُقاومه ولم تُشجعه، قالت: معذرةً فإني أكره الرجال في هذه اللحظة!
– ذاك من تأثير ما شاهَدتِ في الحجرة، ولكنها لحظة سرعان ما تمضي.
– مَن يدري، ولكن كيف قبَّلتَني؟!
– إنه سحرك الذي لا يُقاوَم، وغرامي القديم الذي لم ترفضيه على الأقل!
– إنه تصرف لا يُغتفَر.
– هيا معي إلى الليل في الخارج.
– أحلامٌ جنونية.
– سنستقبلُ الفجر النديَّ معًا.
– هيهات لقلبٍ ميت أن يستجيب لجنونك.
– إنه الدواء الشافي لما نُعاني من اضطراب.
أراد أن يُقبِّلها مرةً أخرى؛ ولكنه رآها تنظر نحو العجوز المغمَض العينين باهتمام طارئ فقال: لا تهتمِّي له، إنه مستغرقٌ في النوم!
حاول أن يضمَّها إلى صدره، ولكنها دفَعَته، فأراد أن يُعيد المحاولة، وإذا بصوت العجوز يقول دون أن يفتح عينيه: عُدْ إلى مجلسِك يا بُني!
ارتدَّ عنها منزعجًا. نظر نحو العجوز فرآه مغمض العينين مطروحَ الرأس إلى ظهر الفوتيل. قطَّب حانقًا، ولكنه لم يتخلَّ عن مجلسه. جاءه الصوتُ البارد يقول معنِّفًا: لا ترتكب فضائحَ أمام الباب المغلق!
قام الصديق متعثرًا. عاد إلى مجلسِه حانقًا. فتح العجوزُ عينيه فتلقَّى نظرة الفتاة الثابتة. تبادَلا نظرةً طويلة دسمة. ابتسَما معًا. قام العجوز وهو يقول: أعصابكِ مرهَقةٌ يا ابنتي.
جلس إلى جانبها. تناوَل يدَها برقَّةٍ فوضَعها بين يدَيه المدبوغتين، قال: ما أحوجَكِ إلى راحةٍ طويلة!
جذبها بلطفٍ فاستسلمَت له حتى أجلسها على فخذه وهو يهمس: كما كنتِ تجلسين وأنتِ صغيرة.
ثم وهو يُربت على خدِّها: رحم الله أباك.
فقال الصديق بغضب: وضعٌ غير لائق.
فقال العجوز: كل شيء في وضعه!
– ألا ترى أنها لم تَعُد صغيرة بعد؟
ومدَّ لها شفتَيه الجافتين المكرمشتين، فوهبَته شفتَيها فراحَ يُقبِّلهما. وقف الصديق هاتفًا: أيُّ فعل فاضح!
ولكن الفتاة طوَّقَته بذراعيها وأنامت رأسَها على كتفه، منخرطةً في هيمان ساحر.
صاح الصديق: لا تتمادَيْ في الإجرام.
فهمس العجوز في أذن الجميلة: اهدَئي يا جميلتي.
فغمغمَت: أريدُ أن أنام.
– ستنامين كأسعدِ ما يكون.
وفُتح الباب وخرَج الزوج. عاد إلى مجلسه فجلس واضعًا رأسَه بين يديه. توقَّع الصديق أن ينفصل العجوزُ عن الفتاة، ولكنه واصل مناغاتَه وكأنه لم يشعر برجوعه. عند ذاك صاح الصديق: دَعْها أيها العجوزُ القبيح!
رفع الزوج رأسَه منزعجًا وقال لصديقه: ما هذا الصياح! .. أجُننت؟
فأشار إلى العجوز والفتاة قائلًا: انظر!
– لعلها في حاجةٍ إلى عطف، عُدْ إلى مجلسك.
– أأنتَ أعمى؟
– احترِم حالي التعيسة!
وهمس العجوز في أذن الفتاة: هلمِّي نذهب معًا.
– إلى أين؟
– إلى الليل.
– الصبح قريب.
– ما زال في الليل بقيةٌ تكفي غطاءً للعاشقين!
– خُذني إلى حيث تشاء.
– ما أجملَ عينيك المخضَّلتين بالأحلام.
– ما أعذبَ همساتك ولمساتك!
فهتف الصديق: ماذا يحدث في الدنيا؟
فقال الزوج مُحتدًّا: تصرَّفْ كرجل مهذب.
– ثمة علاقة عاطفية تنشأ بين العصر الحجري والعصر الحديث!
– تأدَّبْ، إنه عمُّها، عمنا جميعًا، ألا تفهم؟
– أنتركها تذهبُ معه؟
– هذا شأنها.
– ولكنه يحدث في بيتك ومع بعض أهلك؟!
– عندي من الشواغل ما يكفي.
وكان العجوز قد قام وقامتِ الجميلة معه مستسلمةً كالمنوَّمة، فوثب الصديق معترضًا سبيلَها وهو يقول: لن أسمح بذلك، سأدافع أنا الغريب عن شرفك!
فقال له العجوز بنبرة ساخرة: إنها نفس الرحلة التي دعوتها إليها!
– ولكنها معك تفقد كلَّ الإنسانية!
وصاح الزوج: اذهبوا جميعًا واتركوني في سلام.
فقال العجوز: سمعًا وطاعة.
ولكن الصديق صرخ: دَعْها فهي لي أنا وحدي، أنا المرشح للزواج منها.
فسأله العجوز ساخرًا: من ذا الذي رشحك؟
فأجاب الصديق بحنق: كانت الأمور تسير سيرًا حسَنًا بيني وبينها حتى تدخَّل صوتُك الكريه.
جَلْجَلتْ وراء الباب المغلق صرخةٌ مدوِّية أفظعُ من سابِقاتها جميعًا. تحوَّل الزوج نحو الباب منذعرًا. تسمَّر الصديقُ في موضعه. رفعَت الجميلةُ رأسها عن صدر العجوز كمَن تُفيق من غيبوبة، تخلَّصَت من ذراعيه وهي ترمقه في ارتياع، ثم هُرِعَت إلى الحجرة فدخلَت وأغلقَت الباب وراءها. تمتم العجوز ممتعضًا: ما أضيعَها من ليلة!
ومضى نحو مقعده فارتمى عليه وأغمض جَفنَيه، وجَلْجَلت صرخةٌ أخرى.
تنهَّد الزوج متسائلًا: أمَا لهذا العذاب من نهاية؟
– لا تتوقَّعْ خيرًا طالما هذا النحس باقٍ!
ولكن الباب فُتح، ومنه مرَقَت الطبيبة متهللةَ الوجه. هتف الزوج واقفًا: ماذا وراءك؟
– مبارك عليك.
– حقًّا؟!
– مولودٌ سعيد، حال الوالدة طيبة، وإن تكن جِدَّ مُتعَبة.
– حمدًا لله.
وشد الصديق على ذراعه قائلًا: مبارك.
على حينِ قال العجوز دون أن يفتحَ عينَيه: تهانيَّ يا بُني.
وقالت الطبيبة: كانت ولادةً عسيرةً حقًّا، لم أُصارحك بشيء طبعًا؛ ولكني استعنتُ بأحدثِ وسائل التكنولوجيا.
فسألها الزوج: وهل من الممكنِ أن أراه الآن؟
ولكن جرس الباب الخارجي دقَّ فجأةً. هرولَ الزوج إلى الباب، وما كاد يفتحُه حتى اندفَع إلى الداخل أربعةُ رجال شاهِري المسدسات. أغلقوا الباب وراءهم، وصاح أولهم: ليلزم كلٌّ مكانه، لا صوتَ ولا حركة.
تقهقر الزوج أمامهم حتى جلس مُؤتمِرًا على مقعده، وإلى جانبهم أُجلِسَت الطبيبة، وتساءل الزوج: مَن أنتم؟ ماذا تريدون؟
– عليك أن تُجيب لا أن تسأل.
قلَّب الرجل عينيه فيهم مُهددًا، ولما رأى العجوزَ — وقد فتح عينيه — قال له بنبرة جديدة: معذرة يا عمَّاه عن إزعاجك، ولكنها الضرورة …
فسأله العجوز: عمَّ تبحثون يا بني؟
– عن مولودٍ دخل الدنيا في هذه الساعة.
– وهل كنتم تتوقعون مولده؟
– أجل .. منذ عام ونحن نرقب مقدمه!
فتساءل الزوج: ما معنى هذا الكلام الذي لا معنى له؟
فانقضَّ عليه الرجلُ ولكَمَه لكمةً أذهلَته عمَّا حوله وقال: تأدَّبْ، نحن نتبع إشارات جهاز دقيقٍ لا يكذب.
انقبَضوا في الصمت حتى قالت الطبيبة متسائلة: وماذا تبغون من مولود لم يكد يرى النور؟
– إنه يُهدد الأمن والسلام، ونحن لن نُعفيكِ من المسئولية يا دكتورة!
وقال الرجل الثاني: كما لن نُعفي منها الأبَ والأم.
وقال الرجل الثالث: جميع مَن شهد الولادة مشتركون في الجريمة!
وقال الرابع: الجميع عدا العجوز الذي يُعفيه سِنُّه من مشكلات الدنيا.
همس الصديق — وهو لا يدري — في أُذنَي الطبيبة: وقعنا تحت رحمةِ مجانين.
فانقضَّ عليه الرجل الأول ولكَمه لكمةً شديدة وقال: ستُحاسَب على قلةِ أدبك، كما ستُحاسَب على اشتراكك في الجريمة.
وقال العجوز موجهًا خطابه للزوج: تمالكوا أعصابكم والزموا الهدوء؛ فالموقف أخطرُ مما تظنون.
فسأله الزوج: إنك تعرفُهم كما يعرفونك، فخبِّرنا عمَّا يريدون؟
فقال الرجل الأول بصراحة: نريد المولود.
– ماذا ستفعلون به؟
– نُنقذ الدنيا من شرِّه.
فقال الزوج للعجوز: إنهم يريدون اغتيال المولود البريء.
فقال العجوز: ما عليك إلا الإذعانُ للقدَر!
– نتركُهم يغتالون وليدًا لم يكد يرى النور؟
– ما جدوى إهدار دماءٍ جديدة بلا فائدة؟
وصاح الرجل الأول: حذارِ أن تبدرَ حركةٌ عن أحدكم فيهلك في الحال.
وتقدَّم الرجل نحو الباب المغلق، ولكن العجوز قام وهو يقول: أتقتحمون الحجرة على النساء؟
فتوقَّف الرجل قائلًا: نحن قومٌ متحضِّرون، فتصرَّفْ أنت يا عمَّنا.
مضى العجوز إلى الحجرة، نَقرَ على الباب مستأذنًا، ثم دفع الباب ودخل، غاب قليلًا ثم رجَع حاملًا الوليدَ بين ذراعيه، تتبَعُه الحماةُ والفتاة الجميلة والدادة في اضطراب وتساؤل. وقال العجوز للزوج: الأم مستغرقة في النوم فاطمئنَّ من هذه الناحية.
ورأت الدادة الرجال المسلحين فهتفَت: اللهمَّ الطفْ بنا.
وتساءلت الجميلة: أغرابٌ ومسدسات! ما معنى هذا؟
أمَّا الحماة فقد سألت الزوجَ بحِدَّة: مَن هؤلاء؟
فأجاب بنبراتٍ باكية: إنهم يريدون الوليد.
– ماذا يريدون منه؟
فقال الرجل الأول: نريد أن نُنقذ الدنيا من شره!
فصاحت الدادة: مجانين .. مجانين .. انظري إلى أعينهم!
فحرك الرجلُ مسدسه مهددًا وقال: سنُطلق النار لدى أيِّ حماقة تُرتكَب!
فقالت الحماة مخاطبة الزوج: لعلهم بعضُ مُدْمني المخدرات من أصحابك؟!
فرفع الزوج يدَه إلى موضع اللكمة وتأوَّه، فقالت الحماة وهي تزداد قسوة: أو لعلهم بعضُ أعدائك الذين تُسيء إليهم في نزواتك لندفعَ نحن الثمن!
واقترب الرجلُ الأول من العجوز فألقى على الوليد نظرةً وقال بحقدٍ: وقعتَ، أخيرًا وقعت، سنُريح العالم من شرِّك!
ووثب الزوجُ كالمجنون، ولكنه عولج بلكماتٍ كالمطر، فتهاوى فوق مقعده. وبسرعة فائقة أجلَس الرجال المسلحون الآخرين على مقاعد متقاربة، فأوثَقوا أيديَهم وكمَّموا أفواههم، ثم وقَفوا صفًّا واحدًا، وقال أولُهم للعجوز: ضَع الشيطان الصغيرَ فوق الخوان.
ثم قال لرجاله: لدى ابتعاد عمِّنا أطلِقوا النارَ على الشيطان!
تحرَّك العجوزُ في صمتٍ خانق، بين أعينٍ مُحدقة. وفجأةً انتفض الوليدُ في لفافته فأزاحها وتجرَّد عاريًا. وبسرعةٍ مذهلة طار كالفراشة، انقضَّ على الرجال الأربعة، فلكَم كلًّا منهم لكمةً بقبضته الصغيرة، ثم رجع فاستقرَّ فوق يدَي العجوز. وقع ذلك بسرعةٍ كسرعة الضوء، ذُهل الرجال الأربعة وتجمَّدوا، سقطَت المسدسات من أيديهم، تقوَّضَت قاماتهم فتهاوَوا على الأرض لا حَراك بهم. وخيَّم الصمتُ والجمود والرهبة؛ خيَّم الصمت والجمود والرهبة حتى تحركَ العجوز بالوليد فوضَعه على الخوان، وراح يحلُّ أوثقةَ الرجال والنساء، ثم مضى بالوليد إلى حضن أمه، فلما رجع وجَد الجميع واقفين في ذهول، يتبادَلون النظرات، ثم يُركزونها فوق الرجال الراقدين بلا حَراك.
– ما هذا؟!
– أحقٌّ ما رأينا؟
– أهو سحر؟
– أنحن نيام؟
– الوليد! .. أحقٌّ أنه هو؟
– لولا وجودُ الرجال الأربعة لمضى الحدثُ حلمًا من الأحلام.
– إنه حقيقة، حقيقة مخيفة.
– لنسأل الله اللطفَ بعقولنا.
وقالت الحماة: إنَّه معجزةٌ من معجزات الله القهار!
فسأل الصديقُ الطبيبة: ما رأيك يا دكتورة، ألديكِ تفسير لذلك؟
فقالت الدكتورة بحيرة شديدة: أحيانًا، أعني في أحوالٍ نادرة، عَقِب آلام معاناةٍ رهيبة …
– ماذا يحدث عقب الآلام والمعاناة؟
– ما يُشبه المعجزة!
– أن ينقلب وليدٌ إلى قوةٍ كونية خارقة؟!
– قريبٌ من هذا ما سجَّلَته مذكرات بعض الأطباء في العصر الفرعوني وفي العصور الوسطى.
وتحوَّل الصديقُ نحو الرجل العجوز فسأله: ما رأيك أنت يا عماه؟
فقال العجوز بلا مبالاةٍ بسؤاله: الأفضل أن نسأل عمَّا يمكن عملُه بهذه الجثث!
وهتفَ أكثرُ من صوت: الجثث!
وانحنت الطبيبة فوق الرجال ففحَصَتهم، ثم قامت وهي تقول: ربَّاه .. لقد فارقوا الحياة حقًّا!
فصرخ الزوج: فارقوا الحياة؟!
– بكل توكيد.
– يجب استدعاء الشرطة فورًا.
فسأله الصديق: وبمَ نُجيب إذا سُئلنا عن القاتل؟ أو إذا سُئلنا عن أسباب القتل؟!
فقالت الفتاة الجميلة: يا له من موقفٍ لم يخطر لأحدٍ على بال!
وقال الزوج: ستُوجَّه التهمة إلينا نحن!
وتساءل الصديق: أيمكن التخلصُ من الجثث؟
– وكيف نتخلص من جثثٍ أربعٍ عمالقة؟
فأجاب العجوز متطوعًا: ولكنه لا حلَّ لديكم سواه.
وتحولت إليه الأعين مستطلعةً ومستغيثة معًا، فقال: طالما أبديتُ استعدادي لأداء أي خدمة تُطلب مني، وها أنا أعتبر هذا العملَ من اختصاصي.
وأعرضَ عنهم متجهًا نحو الجثث حتى أطلَّ بقامته عليها. مدَّ يده إلى الجثة الأولى. رفعها ثم طرَحها على كتفه اليسرى وكأنه يرفع قشَّة! رفع الجثةَ الثانية فوضعها فوق الأولى بالسهولة نفسِها. كذلك حمل الجثتين الأُخريَين على كتفه اليمنى كأنه كان يتسلَّى بلعبةٍ مُحببة دون عناء، وكأنه استجدَّ لنفسه شبابًا أسطوريًّا بمعجزة، وقال بهدوء: افتحوا الباب!
ومضى بحملِه بأقدام ثابتة وفي غير جهد وفيما يُشبه المرَح، والجميع يُتابعونه بأعيُن ذاهلة، وظلُّوا في وقفتهم كالمنوَّمين حتى أفاق الزوجُ فأقبل على الطبيبة وهو يقول: أنت وحدكِ تستطيعين أن تُعيدي العقولَ المتطايرة إلى مستقَرِّها الآمن في الرءوس.