المقدمة
أهم أنواع الروايات ثلاثة (الأول) الروايات الاجتماعية والأخلاقية وهي أفضلها؛ لأنها تبحث في إصلاح أخلاق الأمة وتكوينها، وتنبيه نفسها إلى ما فيه منفعتها، (والثاني) الروايات التاريخية؛ وغرضها بسط تاريخ الأمم، أي ذكر أسبابه ومسبباته لاستخلاص النتائج منها بحرية تامة بلا تزلف ولا تحامل للوقوف على الفواعل في تقدم الأمم وتأخرها، (والثالث) الروايات البسيكولوجية؛ وتدخل فيها الروايات الحبية التي يصوَّر فيها احتكاك العواطف وتنازع القلوب والأهواء.
على أن هنالك نوعًا آخر من الروايات أفضل من هذه الأنواع الثلاثة وهو الذي جمع بينها في سياق واحد؛ فيكون تاريخيًّا لمحبي التاريخ، فلسفيًّا اجتماعيًّا لمحبي الفلسفة والاجتماع، أدبيًّا حبيًّا لمحبي الأدب والعواطف الحبية الطاهرة المنزهة عن الخلاعة والغرام البارد، ومن هذا النوع أشهر الروايات الخطيرة التي كان ظهورها عبارة عن حادثة وطنية كبرى؛ لأنها رفعت مبادئ وخفضت مبادئ «كالميزارابل» لفيكتور هيغو و«الجحيم» لدانتي وغيرهما.
ولقد سلكت «الجامعة» هذا المسلك في روايتها الجديدة «أورشليم الجديدة» فجمعت فيها بين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والحب والأدب، وفوق ذلك ضمت إليها «الدين» لأن العصر الذي نبحث هنا في شئونه عصر ديني محض، سواء كان ذلك عند المسيحيين أو عند المسلمين. فالكلام عنه يشمل الدين بالطبع والضرورة، وبدونه يكون الكلام ناقصًا أهم وجوهه.
وهي على يقين من أن أبناء العصر وكتَّابه الأفاضل الذين يرومون تنبيه الشرق من سباته، وأن يمحوا عنه عار الاستسلام للسلطات المضرة، ويطلبون الحقيقة أينما وجدوها سينظرون إلى هذا الكتاب نظرًا يُنسي مؤلفه شيئًا من التعب الذي عاناه في تأليفه؛ لأنه لو لم يكن على ثقة من رضاهم وتنشيطهم قياسًا على ما مضى، لما وجد في نفسه القوة اللازمة للإقدام على كتاب كهذا الكتاب مع ما هو معروف في بلادنا عن بضاعة العلم والأدب، وما هو مشهور من تهشيم حرية الفكر ونزاهة النشر؛ تزلفًا للسذج وذوي المصالح، خصوصًا في الشئون الوطنية والمسائل الشرقية.
والمؤلف لا يدعي في هذا الكتاب فضلًا أو مزية، ولكنه يصرح بأنه بذل جهده للجهر — بحرية تامة — بكل ما يجب الجهر به عند الاشتغال بمسائل مهمة خطيرة كالمسائل التي في هذا الكتاب، وطلب الحقيقة بين كل الأحزاب باستقلال تام كأن الكاتب غير منسوب إلى أحدها. فإذا كان إخواننا الرصفاء والقراء الكرام يرون بعد مطالعة هذه الرواية أن المؤلف قد قام بهذه الوظيفة، فهذا خير جزاء يريده منهم، وأفضل ثناء يقبله على الطريقة التي أقدم عليها مع معرفته صعوبتها في بدء الأمر في بلادنا الشرقية التي فيها سلطان الجبن والذل والمصلحة، أقوى من سلطان عزة النفس، وحرية الفكر، وجرأة المبدأ.
•••
ولكن من حسن الحظ أن عاطفة الجمال الطبيعية الموجودة في نفوس الناس في الأرض أقوى من أن تُخنق إذا لم يفهمها بعض الناس، ولذلك ترى (جمال صناعة القلم) يؤثر في الناس في الشرق من غير أن يدروا به، وهذا سبب نهضة الشرقيين إلى الكتابة والمطالعة وتعلقهم بهما، وكلما ارتقت فيهم عاطفة الجمال، أي كلما ارتقت «نفسهم نفسها» ارتقى فيهم الميل إلى هذه الصناعة، وجميع الصنائع الجميلة على نسبة واحدة. فمقياس ارتقاء الأمم إذن إنما يكون بالنظر إلى ما تقدر على إبرازه من عاطفة الجمال هذه مقرونة بشقيقتها عاطفة الخير «لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير مطلقًا» لا بالنظر إلى ما تقدر على تقليده من شئون غيرها، والفلاسفة يضيفون إلى «عاطفتي الجمال والخير» «عاطفة الحق» التي مقتضاها الجهر بالحقيقة، وطلبها باستقلال تام ونزاهة عن كل مواربة وجبن، ويقولون: إن هذه الثلاثة هي أغراض العلم العليا ومواضيع الفلسفة السامية، وهو قول حق؛ ولذلك نتمنى أن يكثر في بلادنا العزيزة كل ما يُنمي هذه العواطف الثلاث؛ لأنها أساس كل ارتقاء ونزاهة وفضيلة، ومصدر كل شيء عظيم، والأمم التي لا تؤسس على هذا الأساس المثلث تتعب وتبني عبثًا؛ لأنها لا تبني إلا على المصالح المادية والقابلية الحيوانية.
(والأمر الثاني) الذي أحببنا التنبيه عليه أن الروايات التاريخية لا يُقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه. فإن طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال؛ لتجردها عما ليس منها لا في الروايات المطولة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها، ولا يصبر طالب التاريخ البحت على مطالعتها، وإنما المقصود من الروايات التاريخية (فوق سرد الوقائع والأرقام، وتصوير الوسط المراد تصويره، وإبراز العواطف والأفكار التي كانت تختلج في هذا الوسط) تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة.
ونعني هنا «بتكميل التاريخ» أن يضع المؤلف نفسه موضع الأشخاص التاريخيين الذين يتكلم عنهم، ويعبر عن أفكارهم وآرائهم في المواقف التي يصورها لهم، والتي لا أثر لها في التاريخ مستدلًّا على ذلك بما يعرفه عنهم، وهذا الأمر في روايات «ديماس» المشهور كان أهم الأمور. فكأنه به يحيي الأبطال الذين يتكلم عنهم، ويجعلهم يشعرون بالأمور التي كانت تنطبق على تاريخهم ومقاصدهم، ويكشف لك خبايا كانت مدفونة في صدورهم، ولقد سلكنا هذا المسلك أيضًا في هذه الرواية. غير أننا خشينا أن يختلط التاريخ بما ليس هو في شيء منه فيضل القارئ، سيما القليل الاطلاع، فوضعنا علامات للتفريق بين التاريخ وبين التصنيف والاستدلال، وإليك هذه العلامات: «هذه العلامة * (أي النجمة) تدل على أن ذلك القول وارد في التاريخ، والعلامة (— تدل على عكسه أي أنه تصنيف أو استدلال من المؤلف لا أثر له في التاريخ، والكلام الموضوع بين قوسين هكذا « » أو ( ) أو فاصلتين ،، ،، ومعه نجمة * هو نص تاريخي بحرفه، وأما إذا كان الكلام بين هذه الأقواس بلا نجمة أو كان بلا أقواس ولا نجمة فليس هو من التاريخ في شيء، خصوصًا إذا كان بين أشخاص الرواية الخياليين – هذا إلا إذا نبه عليه في الحاشية».
وسنتابع هذه الاصطلاحات في كل رواياتنا التاريخية؛ ليتسع لنا مجال الاستنباط والاستدلال التاريخي في أمثال هذه المسائل. إذ بدون هذه الاصطلاحات يُشوِّه الكاتب التاريخ إذا حرص على الاستنباط والاستدلال، ويهمل أهم ما في التاريخ الروائي إذا أهملهما، والقراء في الشرق على الخصوص يعرفون أن الكاتب في شئون المسلمين والمسيحيين في بلادهم لا غنى له عن هذا الاحتياط؛ لحرج الموقف، وصعوبة الطريق.
أما المصادر التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب فهي عدة لمؤلفي العرب والإفرنج، وقد رجعنا في شئون العرب إلى كتب العرب، وفي شئون الروم إلى كتب الإفرنج كما يجب أن يكون ذلك؛ لأن كل قوم أدرى بتاريخهم، ولقد أشرنا في الحواشي إلى أكثر تلك المصادر.
هذا ما قصدنا ذكره في هذه المقدمة، والآن نأخذ بيدي القارئ الكريم؛ لنسيح معه في هذا الكتاب سياحة طويلة.