عيد الميلاد في بيت لحم سنة ٦٣٦
حالة الإمبراطور هرقل والسلطنة البيزنطية في صدر الإسلام «البيت الأحمر».
***
بيت لحم في يوم عيد الميلاد المسيحي كعبة يحج إليها المسيحيون من كل أقطار العالم، كما يحجون إلى كنيسة القيامة الكبرى في القدس في عيد الفصح الذي هو عيد القيامة. ففي سنة ٦٣٦ للميلاد المسيحي ليلة عيد الميلاد خلت القدس من أهلها ومن الحجاج لزحفهم إلى بيت لحم لحضور العيد، وقد بدءوا بالسفر إلى بيت لحم منذ يومين رجالًا ونساءً وأولادًا؛ بعضهم يقيمون عند أقاربهم ومعارفهم، وبعضهم يستأجرون غرفًا خصوصية لذلك. فامتلأت بلدة بيت لحم على صغرها بأجناس القادمين إليها من نواحي فلسطين، والثغور، وسوريا، ومصر، والأناضول، والقسطنطينية، وقبرص، ورودس، وغيرها، وكان اختلاف أزيائهم ووجوههم مما يروق النظر فيخيل للناظر أن أجناس البشر كلها تُعرض له في تلك البلدة الصغيرة.
فلنترك الناس خارجين وداخلين، ولنذهب بالقارئ إلى منزل كبير قائم تجاه الكنيسة في الجهة الغربية، وهو مدهون بلون أحمر؛ ولذلك يسمونه: «البيت الأحمر»، وقبل الدخول إلى هذا البيت نقرأ على خشبة مسمرة فوق بابه هذه الكتابة باللغة اليونانية: «لا شراب رديء يُزعج معدتك، ولا رفيق السوء يُزعج نفسك» ذلك أن هذا البيت كان معدًّا لنزول الضيوف في الأعياد والمواسم والاحتفالات المختلفة.
وكان البرد في ذلك اليوم شديدًا، والغيوم متلبدة في السماء تنذر بالمطر، والهواء يهب من الجهة الجنوبية الغربية هبوبًا عنيفًا، ومع ذلك فقد كان في الحديقة في جهة قسم الرجال رجل يتمشى وفي يده كتاب خطي، وهو تارة يقرأ وطورًا يتأمل، وربما يظن القارئ أن ذلك الكتاب كان نسخة من كتاب ديني، ولكن إذا دنونا من الرجل وجدنا على غلاف كتابه هذه الكلمات: «كتاب في النفس – تأليف أرسطو».
الطبقات العالية لا هم لها إلا ملاذها. فهي تفرح وتطرب لأن الإمبراطور يترك لها حرية التمتع بها. فكأن الدنيا كلها عندها أكل وشرب ولذة، والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء، ولذلك يلهونها بأصغر الأمور، ويعملون على ظهرها كل الأعمال. فهل تنفتح عيونها يا ترى يومًا من الأيام؟
وما أتى صاحب الكتاب على هذه العبارة حتى اندفع من قسم النساء في الفندق نحو عشرين سيدة ضاحكات مقهقهات وتفرقن في الحديقة. فألقى صاحب الكتاب إليهن نظرة، ثم عاد إلى كتابه بأنفة وكبرياء. أما السيدات: فلم يصرفن أنظارهن عنه، بل أخذن يتأملن فيه. فقالت إحداهن: من هو هذا البارد الذي يقرأ في هذا الظلام والبرد يا أخواتي؟ أظنه راهبًا من رهبان دير إيليا. فضحكت رفيقاتها، وأجابت سيدة أخرى: وحياة العذراء يا أخواتي إنني نظرت هذا الرجل قبل اليوم. فإنه في كل مساء يخرج من باب يافا وفي يده كتاب فينحدر إلى الوادي ويغيب فيه.
فرسمت إحداهن علامة الصليب على صدرها، وقالت: «كيريالايسون» (يارب ارحم) أظنه يختلي ببعلزبول. فصاحت بعض رفيقاتها: باسم الصليب الكريم يا تيوفانا إنك تذكرين بعلزبول دائمًا، فيظهر أنه بينك وبينه شيء من الصحبة. فضحكت السيدات، وأما تيوفانا فإنها رسمت علامة الصليب على صدرها وبصقت على الأرض موجهة هذه البصقة إلى بعلزبول.
أما صاحب الكتاب فإنه لم يسمع من حديث السيدات سوى هذه الكلمة «دير إيليا» فظن أنهن يقلن «اسمه إيليا» فقال في نفسه: من أين يعرفنني هؤلاء السيدات؟
ومن البديهي أنه لا يخرج النساء إلى الحديقة، ويبقى الرجال في الداخل. فخرج الرجال على صوت النساء، وتفرقوا في الحديقة محيِّين السيدات برءوسهم، وما زالوا يتمشون حتى التقت طلائع الفريقين فتبادلوا التحيات والابتسامات، وتداعوا إلى الجلوس على مقاعد الحديقة مع شدة البرد. فجلس النساء فى صفوف والرجال في صفوف، ودار الحديث بين الفريقين، وصاحب الكتاب في زاوية يصغي ويعي.
فقال رجل آخر: وهناك سبب آخر يوجب على البطريرك أن لا يستاء من ترك الإمبراطور سوريا وفلسطين وشأنهما تعتمدان على قواتهما الداخلية فقط، وهو اعتلال صحته واضطراب عقله. فإنني شاهدت الإمبراطور مرتين: المرة الأولى منذ ثماني سنوات لما عاد إلينا من حرب الفرس ظافرًا منصورًا بعد أن سحق سلطنة كسرى الكبير، وهدم معابد النيران، واسترد الصليب، وجاء لإعادته إلى الجلجلة * فإنه كان يومئذ في أوج عزه وعظمته، وكانت الإمبراطورية كلها تتحدث يومئذ بسطوته، وشاعره «الراهب جاورجيوس بيسيديس» الذي هو معلم اعترافه أيضًا ينشر فيه القصائد الرنانة التي تثير الأفكار ويشبهه بالبطل أشيل وقسطنطين الكبير * فيومئذ كان الإمبراطور معبودًا عند شعبه، وكانت لوائح السعادة تظهر على وجهه، ولست أنسى في حياتي منظره لما حمل في كنيسة الجلجلة في مدينتنا الصليب بنفسه، وصعد به وحده إلى موضعه في الجلجلة لنصبه بيده * فقد كانت لوائح القوة والصحة ظاهرة عليه. أما المرة الثانية التي شاهدته فيها فهي منذ مدة لما عاد إلينا من أنطاكية بعد استيلاء العرب على دمشق؛ ليأخذ الصليب إلى القسطنطينية، وينصبه في كنيسة هاجيا صوفيا * ففي هذه المرة كان الاضطراب والضعف باديين في وجهه، وصحته كانت في أسوأ حال، وهذا ما منعه من قيادة جيوشه بنفسه * للدفاع عن دمشق، وإلقائه عهدة ذلك إلى أخيه ثيودوروس الذي أساء في الدفاع فناله غضب الإمبراطور * ثم نظر المتكلم إلى ما حوله كأنه خائف أن يسمعه أحد، وقال: وهناك أخبار جديدة وردت في هذا الأسبوع من القسطنطينية تثبت أن الإمبراطور أصبح في حالة صعبة لطف الله به. فإن عقله صار مضطربًا * لكثرة مشاكل السلطنة، ويُخشى أن يفقد صوابه * وقد علمت عن ثقة أنه لما وصل إلى قصره في القسطنطينية اضطر رجاله أن يبنوا له على البوسفور أمام قصره حواجز خشبية على صفين من الجسور وتغطية هذه الحواجز بالخضرة والنباتات * لإخفاء منظر البحر عنه؛ لأنه أصبح يخاف خوفًا شديدًا لمجرد وقوع نظره على البحر * فهل من حق البطريرك أن يلوم رجلًا هذه حالته العقلية والصحية؟
وكان بين الرجال رجل يتشاغل عن هذا الحديث بفرك يديه ووجهه من البرد، فلما فرغ المتكلم من كلامه التفت إلى الحاضرين وقال: هل تعتقدون أن البطريرك مستاء من الإمبراطور من أجل مسألة الدفاع عن سوريا وفلسطين فقط. كلا فإن الاستياء بينهما قديم.
فقال الرجل الذي تكلم سابقًا: نعم، نحن لا نجهل ما قام بينهما من الخلاف في المسألة الدينية * ولكن ما هذا وقته الآن. فإن الواجب علينا لوطننا وديانتنا ومملكتنا أن نكون كلنا يدًا واحدة ونفسًا واحدة أمام العدو، وإلا كانت العاقبة وخيمة علينا.
فانبرت هنا إحدى السيدات وصاحت: يا لله إننا قدرنا على سلطنة عظمى كسلطنة الفرس فسحقناها واحتللنا عاصمتها * وقبائل بدو ضعاف حفاة كقبائل العرب لا نقدر عليها.
فساد السكوت حينئذ بين الحاضرين؛ لأن هذا السؤال البسيط نقل الحديث إلى أهم المواضيع، أي إلى أسباب ضعف الإمبراطورية يومئذ مع قوتها في ما سبق. فنظر الحاضرون بعضهم إلى بعض وابتسموا، وكان فيهم السوريون واليونان بين شرقيين وغربيين * فكأنهم أرادوا بابتسامهم أن يقولوا إن ذلك العيد يوم فرح وسرور لا يوم مناقشات ومخاصمات في أمور سياسية دينية جنسية * فقد كفى الناس مخاصماتهم في هذه الأمور في باقي أيام الأسبوع. *