أنا أعرف الله
وفي تلك الدقيقة برز القمر من وراء الأفق يعمم نوره الأبيض اللطيف سطوح الدير، فاستاء إيليا من ذلك؛ لأن النور فضَّاح. إلا أنه رأى في ظل الأشجار التي كانت مغروسة بجانب نوافذ الدير في الحديقة مخبأً حسنًا.
فانسلَّ إيليا نحو تلك الأشجار، وأخذ يصغي بكل جوانحه لعله يسمع شيئًا في داخل الدير. فلم تمض عليه دقيقة حتى ارتعدت فرائصه لأصوات هائلة بعيدة كانت واردة من جهة المدينة. فخشي أن يكون العرب هاجمين حينئذ على الدير، ولكن الحقيقة كانت أن جيشًا ثانيًا وصل إلى المدينة بعد الجيش الأول، وكان صراخه هذا لإرهاب أهل المدينة كما أوصاه أبو عبيدة.
وبعد انقضاء دقيقة أخرى لم يسمع إيليا في أثنائها شيئًا انتقل متسللًا متنصتًا كلصوص الليل من نافذة إلى نافذة، وكانت كل النوافذ مغلقة لفصل الشتاء، وما زال سائرًا حتى وصل إلى آخر نافذة فسمع فيها صوتًا ضعيفًا كزفير وبكاء.
فهنا جمد إيليا في مكانه، وصار كله آذانًا تصغي. فبعد حين سمع في الغرفة بابًا يُفتح وصوت أقدام. ثم سمع قائلًا يقول باللغة اليونانية: – يا أختي المحبوبة، خففي عنك فقد أزعجت ضميري ببكائك وجزعك، ولذلك لم أقدر على الرقاد حتى الآن، فبحياة أهلك إذا كان لك أهل، ووطنك إذا كان لك وطن أن تريحي نفسك وتريحينا. انظري إننا هنا كلنا أخواتك، وكل ما تحتاجين إليه يُقضى في الحال؛ فتعيشين معنا بهناء وسرور لا ينقصك شيء ولا يُزعجك شيء، ولا نطلب منك في مقابل ذلك إلا شيئًا واحدًا.
ثم سكت الصوت فلم يجاوبه أحد بل اشتد صوت الزفير قليلًا. فاستأنف ذلك الصوت الكلام قائلًا – ما بالك لا تجاوبين يا أختي، إننا لم نطلب منك إلا ما فيه خلاص نفسك، وهل مثلك تدنس نفسها بعبادة باكوس وجوبيتير وجينون وتترك الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، ألا تخجلين يا أختي من عبادة الأصنام والتماثيل الحجرية التي يكسرها أضعف إنسان بيده.
ولكن هذا الصوت لم يأت على هذا الكلام حتى أجاب صوت آخر صارخًا بحدة وبكاء: – أنا أعرف الله أكثر منكم.
فصاح الصوت الأول بابتهاج قائلًا – شكرًا لله شكرًا لله. فلقد أنار عقلك، وياما أحيلى اسم «الله» في شفتيك يا أختي المحبوبة، الآن أرحت بالي، وعلمتُ أن النور قد بدأ يدخل إلى نفسك، ولكن من أي ساعة بدأت تعرفين الله يا أختي المحبوبة؟
فأجاب أيضًا الصوت الثاني بنزق وحدَّة وبكاء – عرفته منذ ولادتي. فهو إلهي وإله آبائي وأجدادي. هو الذي أخرجنا من مصر، ووهبنا هذه الأرض أرض الميعاد، وحمانا في خلال القرون والأجيال، ولولانا لما عرفتموه، وهو لم يسمح لكم أن تستولوا على هذه الأرض حينًا إلا عقابًا لنا كما سمح بذلك للبابليين من قبل، ولكن كما حدث للبابليين سيحدث لكم أيضًا فيعيد إلينا إلهنا مملكتنا، ويخذل أعداءنا.
وكان إيليا يصغي إلى المتخاطبتين بانتباه شديد؛ لأنه من بدء الحديث فهم أن الصوت الأول صوت إحدى الراهبات ولعلها الرئيسة، والصوت الثاني صوت أستير حبيبته. فازداد قلبه نبضًا للجرأة والتهور اللذين ظهرا من الفتاة، وقال في نفسه: إنها لو فاهت بهذا الكلام أمام أحد من العامة لما بقيت حية زمنًا طويلًا.
أما الراهبة فإنها لما علمت أن الفتاة لم تكن وثنية بل إسرائيلية قالت بلطف مساوٍ للطفها الأول – يا أختي سواء كنت يهودية أم وثنية فإن ضميري يوجب عليَّ أن أسعى لهدايتك، ولكن لماذا لم تخبرينا من قبل بذلك؟ إنني الآن عرفت سبب إغمائك حينما وقع نظرك في الصباح على صليب المخلِّص في الكنيسة. فيا بنيَّة ارقدي الليلة بهدوء وسلام، وغدًا سنتباحث في شأنك. ألا تريدين أن تأكلي شيئًا فإنك لا تزالين صائمة منذ الصباح؟
فبكت الفتاة وصاحت: لا أنام ولا آكل قبل أن ترفعوا هذا من هنا فإنه لا يدعني أستريح أبدًا.
ثم أشارت بيدها إلى زاوية فيها صليب صغير عليه السيد المسيح مصلوب، وذلك دون أن تنظر نحوها.
فلما سمعت الراهبة ذلك حمقت، وكادت تستشيط غضبًا لهذا الكلام الذي جرح صميم قلبها، ولكنها كانت طويلة البال كثيرة الحلم فأجابت وقلبها يقطر دمًا من كلام الفتاة – يا أختي، هذا البيت بيتنا، ونظامنا أن نضع في كل غرفة فيه صليب مخلصنا، فلا تتحكمي فينا في بيتنا، لماذا تغلقين قلبك إلى هذا الحد يا بنيَّة. انظري إلى المصلوب فهو يمد يديه نحوك. انظري ألا يخيل لك أنه يبتسم استقبالًا لك. إنه حنون صفوح فلا تخافي أن يذكر لك جناية آبائك. اسمعي اسمعي. فإنه يخاطبك بلساني قائلًا: إذا كان التبن الذي يُذرُّ في الريح العاصفة يعود ويجتمع فمملكتك تعود وتجتمع. لقد تشتتت أورشليم القديمة، وقامت مكانها بأمر الله يا أختي أورشليم الجديدة، ونحن بنات إسرائيل الجديد نستقبل فيك الآن بنت إسرائيل القديم. فيا له من يوم جميل يوم تضعن أيديكن بأيدينا لنمجد كلنا معًا أختنا الأم العذراء التي اختارها الله ونفخ روحه في أحشائها. نامي نامي يا بنية هذه الليلة على تذكار هذه الآمال الجميلة، وغدًا سنتباحث مليًّا في أمرك، وليكن الله معك.
وهنا انقطع الصوت وسُمع صوت الباب يغلق، ولكن ما أغلق الباب حتى علا صوت الفتاة بالنحيب والزفير، وقد اشتد جزعها حينئذ؛ لأنها صار يُخيل لها أن تينك اليدين الكريمتين الممدوتين اللتين ذكرتهما الراهبة إنما هما ممدوتان إليها. فكادت تجن من الخوف. فقصدت النافذة وهي تبكي وتطلب منفذًا لخوفها وفتحتها بعنف؛ فلطمت النافذة رأس إيليا فأدمته، ولكن إيليا لم يبال حينئذ برأسه الدامي؛ بل دنا من النافذة وقلبه يخفق خفقانًا شديدًا، وقال باللغة العبرانية همسًا – أنا آتٍ من قبل أبيك أيتها السيدة.
وقد نطق إيليا بالعبرانية، وذكر للفتاة أباها؛ لكي يطمئن قلبها عند سماع كلامه، ولا يهولها منظره في ذلك الليل على حين فجأة.
فلما سمعت أستير لغتها واسم أبيها تركت البكاء بالحال وأصغت. ثم دنت من النافذة وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا فوقع نظرها على إيليا؛ فعرفته من أول نظرة. فدنا إيليا وقلبه يكاد يفجر صدره من شدة خفقانه، وهمس قائلًا – أيتها السيدة. أنا منتظر هنا، فبعد ساعتين ينام الجميع، فاخرجي بتأنٍ من باب الحديقة أو من إحدى النوافذ.
فهنا تنفست أستير الصعداء؛ لتحققها الخلاص من أسرها والانضمام إلى أبيها، ولم تعد تخشى من اليدين الممدوتين لعلمها أن رجلًا بجانبها. فبعد ساعتين تقريبًا قرعت على النافذة مرتين دلالة على استعدادها للخروج، ثم خرجت تتسلل كأنها طيف، وبعد خمس دقائق ظهر شبحها في الحديقة.
فهرع إيليا حينئذ مضطربًا ومسرورًا معًا. فقال لها: اتبعيني، ثم اتجه نحو جدار الحديقة. فلما وصل إليه خالج ذهنه وذهن أستير فكر واحد: وهو كيف تتسلق أستير ذلك الجدار. فارتعدت لهذا الفكر فرائص الفتاة وبقي الفتى مبهوتًا. ذلك أن أستير لا يمكنها تسلق الجدار بدون مساعدة إيليا كحمله لها أو إنهاضها، وكيف يجوز ليهودية أن يمسها مسيحي خصوصًا إذا كان ذلك في ظلمة الليل على انفراد. إلا أن إيليا انتبه بسرعة إلى حل لهذا المشكل، فإنه شاهد على أحد الأشجار في طريقه سلمًا صغيرًا. فركض مسرعًا إلى السلم فحمله وتسلقا الجدار عليه دون أن يشعر أحد من أهل الدير بخروجهما منه.