الفصل الخامس عشر
حصر بيت المقدس
فلنترك إيليا الآن أسيرًا في خيام العرب، ولنعد إلى المدينة وحاصريها لنرى ماذا حدث
فيها.
«أقام جند العرب على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب، ولا ينظرون رسولًا يأتي
إليهم، ولا يكلمهم أحد من أهلها. إلا أن أهل بيت المقدس حصنوا أسوارها بالمجانيق والطوارق
والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخر.»
١ *
«فلما كان اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة:
٢ أيها الأمير، كأن هؤلاء القوم صمٌ فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عميٌ فلا
يبصرون. ازحفوا بنا إليهم. فلما كان اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول
من
ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان
٣ فشهر سلاحه، وجعل يدنو من سور المدينة، وقد أخذ معه ترجمانًا (يعرف اليونانية
والعربية) ليبلغه عنهم ما يقولون. فوقف بإزاء السور بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون وقال
لترجمانه: «قل لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام والحق
وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من
ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم، وإن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما يصالح غيركم
ممن هو
أعظم منكم عدة وأشد منكم، وإن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار.»
* فتقدم الترجمان إليهم وسألهم من المخاطب عنكم * فكلمه قس عليه مدراع
الشعر * وقال: ماذا تريد؟ فأبلغهم الترجمان أن أمير العرب يدعوهم إلى إحدى هذه
الخصال الثلاث: إما الدخول في الإسلام أو أداء الجزية وإما السيف. فبلَّغ القس مَن وراءه
ما
قال الترجمان، وكان فوق السور جمع غفير من الروم، ووراءهم والي المدينة، وقائد الحامية،
والبطريرك. فضحك بعضهم، ثم عادوا إليه بالجواب أنهم يختارون السيف؛ لأنه خير الحاكمين
* فعاد يزيد بن أبي سفيان إلى معسكر العرب، وأخبر الأمراء بجوابهم. ثم قيل لهم: «ما
انتظاركم بهم. فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول
عليهم، ولكن نكتب إلى أمين الأمة (يعني أبا عبيدة) فإن أمرنا بالزحف زحفنا. فكتب يزيد
بن
أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر». *
وفي ليلة إرسال هذا الكتاب كان بين خيام جند يزيد بن أبي سفيان خيمة غاصة بنساء العرب
وهن
مجتمعات حول فتاة غريبة في نحو العشرين من العمر، وكانت أسيرة في الخيمة، وكان النساء
يخاطبنها بالعربية وهي لا تفهم لغتهن. فلما أعياهن أمرها قالت إحداهن وكانت هي خولة بنت
الأزور الفارسة المشهورة أخت ضرار بن الأزور الفارس المعروف: هل ترين يا أخواتي أن أبا
عبيدة ينهانا عن قتال أهل بيت المقدس حرمة للمكان، والله إنني لأود أن أكون أول المقاتلين
والداخلين إلى بلد الأنبياء. فقالت خولة بنت ثعلبة الأنصارية: هل نظرت قبل اليوم صخرة
بيت
المقدس يا خولة؟ فأجابت خولة: وهل دخلنا بيت المقدس قَبل اليوم. فقالت كعوب ابنة مالك
بن
عاصم: وهل سمعتِ بصفتها؟ فأجابت خولة: «كانت صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلًا،
وكان أهل أريحا يستظلون بظلها وأهل عمواس مثل ذلك، وكان عليها ياقوتة حمراء تضيء لأهل
البلقاء، وكان يغزل في ضوئها أهل البلقاء.»
٤ فدهش النساء من ذلك وقالت لبني ابنة جرير الحميرية: وهل إذا دخلنا المدينة غدًا
نرى المسجد ومربط البراق؟ فأجابت خولة: مرب البراق تحت ركن المسجد
٥ أما المسجد فخرب، وسنأخذ المدينة بحول الله وقوته، ونعيد بناءه وإن غاظ ذلك
الروم واليهود. فلما لفظت كلمة «اليهود» ظهرت البغتة على وجه الفتاة كأنها كانت تفهم
كلمة
«يهود» العربية، ولكن النساء لم يلتفتن إليها.
فسألت امرأة أخرى وهي سلمى ابنة هاشم:
٦ أصحيح يا خولة أن كل الناس سيبعثون في بيت المقدس؟ فأجابت خولة: أجل يا سلمى
«ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم نعوذ بالله منها إلى بيت المقدس، وتزف الجنة يوم
القيامة مثل العروس إلى بيت المقدس، وتُزف الكعبة فيجاء بها إلى بيت المقدس، ويقال لها:
مرحبًا بالزائرة والمزورة، ويُزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من
جبل
أبي قبيس.»
٧ فقالت نعم ابنة فياض: يا أخواتي فما أفضل بيت المقدس. فقالت خولة: أجل يا نعم،
ولها فضائل أخرى أيضًا «منها: أن الله رفع نبيه إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى
من بيت
المقدس، ويغلب المسيح الدجال على الأرض كلها إلا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس،
والأبدال كلهم من بيت المقدس، وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل أن يُدفنوا
في بيت المقدس.»
٨
وهكذا لم يكن للمسلمين والمسلمات من حديث في تلك الليلة غير التشوُّق لفتح بيت المقدس
والتحدث بآثارها.
فبعد مدة ورَدهم جواب أبي عبيدة «يأمرهم بالزحف، وأنه واصل في أثر الكتاب.» *
فأشرقت وجوههم * وقد باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادمًا يقدم عليهم من شدة
فرحهم بقتال أهل بيت المقدس، وكل أمير يريد أن يُفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه، والنظر
إلى آثار الآنبياء. فلما أضاء الفجر أُذِّن وصلَّت الناس صلاة الفجر فقرأ يزيد لأصحابه:
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا * (الآية)، ومن غرائب الاتفاق أن باقي
أمراء الجند قرءوا في جندهم هذه الآية أيضًا كأنهم كانوا على ميعاد واحد
٩ وبعد ذلك نادوا «النفير النفير يا خيل الله اركبي.» * وبرزوا
للقتال.
وكان أهل بيت المقدس قد استخفوا بالعرب ونبالهم، ولذلك كانوا يتعرضون لها في بادئ
الأمر
* وكان أول من برز للقتال حمير ونبالة اليمن * فأخذ الروم يرشقونهم بالنشاب
من على الأسوار فتفتك بهم والنبالة ترشق الروم بالنبال. فلما رأى الروم أن النبال كانت
تصيب
رجالهم «فيتهافتون من سورهم كالغنم احترزوا منه بعد إهمالهم أمره، وستروا السور بالجحف
والجلود وبما يردُّ النبل.» * إلا أن حامية المدينة كانت مع ذلك تحارب بجرأة وشجاعة
وبشاشة، وهكذا مر اليوم الأول من القتال على غير طائل.
«ولما غربت الشمس رجع الناس، وصلى المسلمون فرضهم، وأخذوا في إصلاح شأنهم وعشائهم.
فلما
فرغوا من ذلك أوقدوا النيران، واستكثروا منها؛ لأن الحطب كان عندهم كثيرًا. فبقي قوم
يصلون،
وقوم يقرءون، وقوم يتضرعون، وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل.» * وفي اليوم
التالي برزوا للقتال أيضًا وحامية المدينة يظهرون الفرح ويضحكون، فمر هذا اليوم كاليوم
الأول، وهكذا إلى اليوم العاشر * على غير طائل.
وفي اليوم الحادي عشر أشرقت على بيت المقدس راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن
ورائها
الفرسان، وقد أحدقوا بأميرهم أبي عبيدة وخالد بن الوليد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي
بكر عن
يساره، وجاءت النساء والأموال، وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير، فأجابتهم القبائل،
وارتجت المدينة لهذا الاستقبال الحافل * فضعفت قلوب المحصورين وقويت قلوب الحاصرين
بهذا المدد العظيم الجديد. فذهب وجوه الجند والمدينة إلى مقام البطريرك قرب كنيسة القيامة
١٠ ليتشاوروا في أمرهم، ويبلغوه مقدم أمير العرب. فلما سمع البطريرك بهذا بُغت
بغتة شديدة؛ لأنه حسب أن الأمير الذي قدم هو الخليفة عمر بن الخطاب، وكان يعلم أن الخليفة
لا يقصد فتح بلد حتى يكون كل العرب وراءه، ولكنه لما علم أن الذي قدم هو أبو عبيدة عامل
الشام سكَّن خاطر الناس، وشجع قلوبهم بقرب وصول المدد إليهم، فعادوا إلى الحرب بالجرأة
اللازمة.
١١