الخليفة عمر بن الخطاب
فيا له من زمن صغير كبير ذلك الزمن الذي كانت فيه ملوك الأمم وقوادها يرجعون إلى رجال العقل والفكر في سياسة ممالكهم، ويفصلون في الأمور السياسية الجسام التي عليها تتوقف حياة ممالك ودول عظيمة في مسجد صغير ساذج في مدينة صغيرة ساذجة بدون كلفة بين أفراد من الأصحاب والأصدقاء كأنهم عائلة واحدة.
على طريق الشام
هكذا كان لباس الأمير العظيم الذي فتحت له كنوز قيصر وكسرى.
وكان معه جماعة من الصحابة ممن شهدوا واقعة اليرموك، وعادوا إلى المدينة بعدها في جملتهم الزبير وعبادة بن الصامت. *
وانطلق بعير عمر ووراءه مطايا أصحابه في رمال بلاد العرب، وقفارها وسهولها وجبالها يقصد بيت المقدس، وكان عمر إذا نزل منزلًا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح. فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وخطب فيهم يحضهم على الاتحاد * وشكر الله على نعمه «ثم يأخذ الجفنة فيملأها سويقًا ويصفُّ التمر ويقرب للمسلمين، ويقول: كلو هنيئًا مريئًا. فيأكل ويأكل المسلمون معه». *
هذه كانت مائدة صاحب السلطنة العربية التي كانت آخذة بالامتداد من شاطئ البحر الأحمر إلى ما وراء الفرات. فلا طباخ ولا تأنق ولا تمتع، وإنما الطعام طبيعي وبسيط يأكله الإنسان ليعيش، بدل أن يعيش ليأكل ويفعم جوفه بالأطعمة المختلفة التي تفسد صحة النفس والبدن.
ثم انطلق عمر فمر في طريقه بحي من بني مرة «فإذا بقوم قد أقيموا في الشمس يعذَّبون. فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون؟ فقيل: عليهم خراج. قال: فما يقولون؟ قال: يقولون: ما نجد ما نؤدي. فقال عمر: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون.» * فخلوا سبيلهم.
ثم سار «حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أن شيخًا على الماء، وله صديق يودُّه فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبًا وأكفيك رعي إبلك والقيام عليها؟ قال له الشيخ: قد فعلتُ. فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال: ويلكما ما دينكما؟ قالا: الإسلام. قال عمر: فما الذي بلغني عنكما، أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام؟ قالا: لا والله ما علمنا ذلك. فقال عمر للشاب: إن بلغني عنك شيء من ذلك بعد ضربت عنقك». *
ثم أخذ أبو عبيدة يحدث عمر بما لقي الجند من الروم، وعمر باهت؛ فتارة يبكي وتارة يهدأ. فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر. فقال الناس: يا أمير المؤمنين، اسأل بلالًا أن يؤذن لنا * وبلال هو العبد الذي كان مؤذن النبي، وكان قد حضر إلى بيت المقدس اغتنامًا لأجر القتال في سبيل فتحها. فقال عمر لبلال: «يا بلال، إن أصحاب رسول الله يسألون أن تؤذن لهم وتذكِّرهم أوقات نبيهم.» * «فقال بلال: نعم.» ثم أخذ يؤذن الظهر. «فلما قال: الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم. فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله بكى الناس بكاءً شديدًا حتى كادت قلوبهم تتصدع عند ذكر الله ورسوله». *
ويظهر أن بلالًا رأى في جند المسلمين شيئًا جديدًا لم يره من قبل، وفي الحقيقة أن هذا الشيء ليس بالجديد فإنه أزلي لوجوده منذ وجود الإنسان تقريبًا، وهو أن أكابر المسلمين وأجناد الشام كانوا «يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي.» * والضعفاء كثيرًا ما كانوا لا ينالون شيئًا، وبما أن بلالًا قد نشأ في أحضان النبوة فقد رأى لنفسه حق الشكوى من هذه الحالة الجديدة. فشكى ذلك بعد الأذان إلى الإمام عمر * مختتمًا قوله بهذه العبارة: «الكل يفنى، ومآله إلى التراب، ومصيرنا إليه.» * فأجابه يزيد بن أبي سفيان «إنَّا لنصيب ما قاله بلال ها هنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز؛ لأن الأسعار رخيصة في بلادنا هذه.» * فقال عمر: «إن الأمر كما ذكرتَ فكلوا هنيئًا مريئًا» * ولكنه أردف ذلك بقوله: إنه سيفرض لكل أهل بيت ما يكفيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه.
فنحن إذا رمنا أن نسمِّي هذا الأمر باسمه العلمي المألوف اليوم فإننا نقول: إن الإمام باهتمامه هذا كان يهتم بالمسألة الاجتماعية العظمى، وغني عن البيان أن المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي في هذه المسألة مناقضان لمبدأ المدنية الحاضرة القائمة على مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل، ولكن المدنية الحاضرة بدأت تعود إلى المبدأ المسيحي والمبدأ الإسلامي من حيث اهتمام الهيئة الاجتماعية بجميع الأفراد، وهو مبدأ الاشتراكية الجديد الذي قد طما سيله على أوروبا، ولا يُعرف مستقبله الآن معرفة جلية.
ولما سمع أبو عبيدة جواب يزيد وحكم عمر انحرف نحو الأمير، وقال: «لقد أحسن أمير المؤمنين، ورأيه الموفق إن شاء الله في إسعاد أحوال فقراء المسلمين. فإن المسلمين إخوة وهم بعضهم لبعض كالبناء المرصوص، لا كالروم الذين يتمتع أغنياؤهم بملاذ الدنيا ويتركون فقراءهم كالكلاب».
فيا لجمال هذه الحركة التي نبذ بها عمر الثوب المصري الأبيض؛ ليعود إلى لبس المرقعة الصوفية، وأبعد الفرس المختال؛ ليعود إلى البعير الذلول المتضع، وربما يظهر ذلك لأبناء هذا العصر حتى المسلمين أنفسهم أمرًا غريبًا صغيرًا، ولكن الذين يعرفون سر فعل عمر لا يستغربون صنعه. نعم، إن كل ما في الأرض من شقاء وشرور وفساد مصدره شيء واحد وهو «كبرياء الإنسان» فالإنسان لا يحلل كل المحرمَّات في سبيل جمع المال وإنماء الثروة إلا إرضاء لكبريائه. لا يسطو فرد على فرد أو شعب على شعب لإذلاله وسلب ما في يده إلا لإرضاء كبريائه. لا يُرى الإنسان متصدرًا مختالًا فخورًا كأنه مفرد في الدنيا كلها وكأن الدنيا كلها ملك يده مع أنه أصغر من فيها، إلا إرضاء لكبريائه. لا تُسخَّر الألوف من البشر في بناء المدن والقصور وصنع الزخارف وحشد الجنود وإقامة المعامل التي تشقى فيها فئة من البشر لتستعد بها فئة أخرى، إلا إرضاء لكبريائه. فمتى محيت هذه الكلمة «الكبرياء» من قواميس البشر ومن نفوسهم فحينئذ تصبح الأرض مكانًا طيبًا ويبطل أصل الفساد فيها. حينئذ لا يعود فيها سيد ومسود، وعبد وحر، وكبير وصغير، وغني وفقير. بل يكون الجميع أخوة في الاتضاع والدعة والسذاجة ومكارم الأخلاق كما يكون الأولاد في طور سذاجتهم، فلنخفضنَّ هنا رءوسنا احترامًا للإمام الجليل الذي رام بتلك الحركة الجميلة سحق أفعى الكبرياء في نفسه ونفس أمته، ولنؤاخينَّ بين هذه الحركة الجميلة وقول كتاب المسيحيين: «إن لم ترجعوا وتصيروا كالأولاد فلا تدخلوا ملكوت السموات» — فإن هذه بمعنى تلك وتلك بمعنى هذه.