بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
ثم سار عمر من الجابية وحوله أمراء المسلمين، وما زال سائرًا حتى أشرف على معسكر الجند وبيت المقدس. فلما ظهرت له المدينة صاح: «الله أكبر، اللهم افتح لنا فتحًا يسيرًا، واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا.» * وما أشرف عمر بموكبه على المعسكر حتى قامت العشائر والقبائل على ساق وقدم، وهرعت لاستقباله بالتهليل والتكبير * فارتجت الأرض، وأشرف أهل المدينة من على الأسوار؛ ليعلموا سبب تلك الضجة الهائلة، ولما علموا بمقدم عمر ذهب أحدهم وأخبر البطريرك: «فأطرق البطريرك ولم يتكلم.» * أما عمر فإنه نزل في خيمة من شعر * ضُربت له بجانب خيمة أبي عبيدة * «فجلس فيها هناك على التراب. ثم قام يصلي أربع ركعات». *
فلما أشرف البطريرك ورجاله على أبي عبيدة من عن السور قال البطريرك: «ما تشاء أيها الشيخ الباهي» * فأجاب أبو عبيدة: «هذا أمير المؤمنين عمر، وليس عليه أمير، قد أتى فاخرجوا إليه، واعقدوا معه الأمان» * فقال البطريرك: «يا ذا الرجل، إن كان صاحبك الذي ليس عليه أمير قد أتى فدعه يدنو منا.» * وأقرئه عني السلام (— وقل له: إنني أحب مقابلته، فاستغرب أبو عبيدة هذه اللهجة الودادية الجديدة. فعاد إلى عمر وأبلغه جواب البطريرك، ولكنه لم يبلغه سلامه إلا همسًا في إذنه. فأطرق عمر ثم هم بالقيام * «فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، أتخرج إليهم منفردًا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة، وإنَّا نخشى عليك منهم غدرًا أو مكرًا فينالون منك.» * فلم يجب عمر، ولكنه قرأ الآية: * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ثم استوى على بعيره وعليه مرقعته «وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه، وليس معه إلا أبو عبيدة وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور، ووقف بإزاء السور والبطريرك والوالي». *
وكان يوحنا الغساني الذي تقدم ذكره واقفًا وراءهما.
فلما دنا عمر من السور، ووقع نظر يوحنا عليه همس يوحنا في أذن البطريرك والوالى قائلًا: وحياة العذراء مريم هذا هو.
فأحنى البطريرك رأسه مسلمًا، ونادى من أعلى السور: افتحوا الباب للأمير.
فلم يفهم عمر كلام البطريرك، ولكنه لم يلبث أن أبصر الباب يُفتح في وجهه، وخرج الناس منه * «فتواضع عمر حينئذ لله وخرَّ ساجدًا على قنب بعيره.» * ثم نزل لملاقاة البطريرك؛ إذ أعلموه أنه قادم لاستقباله.
وبعد دقيقتين ظهر البطريرك صفرونيوس في الباب، ومعه قس من أخصائه يعرف العربية ليترجم له. فلما رآه عمر وأبو عبيدة تقدم الأول وتنحَّى الثاني.
وكانت الأسوار حينئذ غاصة بالناس، وهم يتطالُّون ليشاهدوا ملتقى عميدي المسيحية والإسلام، وكأن على رءوسهم الطير.
أما قبائل العرب من بعيد فإنها كانت تهلل وتكبر ابتهاجًا بفتح بلد عيسى وموطن الأنبياء.
ولما دنا عمر من البطريرك مد البطريرك إليه يده مصافحًا فمد عمر يده إليه، وكان البطريرك ينظر في وجه عمر وعمر ينظر في وجه البطريرك. فيظهر أن نفسيهما اتفقتا لأول نظرة؛ لأن النفوس الكبيرة تتعارف حين التقائها بالنظر كما يتعارف باقي الناس بالكلام. فابتدأ البطريرك الحديث بقوله: لقد طلبتُ أن يكون الأمير الكريم متولي عقد الصلح بيننا؛ لأنني إذا وضعتُ هذه المدينة المقدسة في عهده وذمته خاصة أكون في أمن عليها وعلى أهلها من كل وجه، وأنا الآن ألقي مفاتيحها إليه.
فلما ترجم الترجمان هذا الكلام لعمر أشار عمر برأسه موافقًا على كلام البطريرك، وأجاب: المسلم من حفظ العهد ورعى الود، ونحن جميعًا عباد الله فعلينا أن نكفل بعضنا بعضًا.
فسرَّ البطريرك بهذا الجواب، وعلم أنه وضع ثقته في من هو أهل لكل ثقة. فطلب من الأمير أن يدخل معه إلى غرفة قرب باب السور؛ ليخلو به فيها بضع دقائق. فلم يتردد الأمير في الدخول بل مد رجله وتخطى عتبة الباب. فلما رآه أبو عبيدة يضع قدمه في تلك المدينة المدججة بالسلاح ليدخل إليها وحده اصفرَّ وجهه خوفًا عليه، وكأن البطريرك قد تنبه لذلك من تلقاء نفسه. فإنه لما رأى اصفرار وجه أبي عبيدة تألم من سوء الظن ووقف ممتنعًا عن الدخول بالأمير. ففهم حينئذ عمر ذلك فنظر إلى أبي عبيدة، وابتسم ابتسامة تأنيب، ثم دخل مع البطريرك.
يروى في التاريخ القديم: أن إسكندر الكبير كان يثق بطبيب له كل الثقة. ففي ذات يوم ورده كتاب فحواه أن هذا الطبيب عازم على تسميمه، واتفق أن الإسكندر فرغ من تلاوة هذا الكتاب حين دخول طبيبه عليه يحمل له كأس دواء. فتناول الإسكندر الكأس في يد وناوله الكتاب في يد أخرى. ثم شرب الكأس قبل أن يقرأ طبيبه ذلك الكتاب * فالمؤرخون والكتَّاب يهتفون هتاف الدهشة حين وقوفهم على هذا الأمر إعجابًا بثقة الإسكندر وشجاعته، ويقولون: إنه لا يصدر إلا عن نفس عظيمة كنفس الإسكندر. قلنا: ولكن صنع عمر هذا ليس بأقل من صنع الإسكندر.
وكانت الغرفة التي اجتمع فيها عمر والبطريرك بجانب باب السور، ولم يكن معهما غير القس ترجمان البطريرك.
فقال الأمير بعد جلوسه موجهًا السؤال إلى الترجمان: ماذا يريد البترك؟
فأجاب البطريرك: أريد قبل كل شيء صداقة أمير مثلك. فإننا نحن معاشر رؤساء الأمم تجمعنا جامعة الرئاسة وإن فرَّقت بيننا المذاهب، وكلنا نعبد إلهًا واحدًا لا إله إلا هو ولا شريك له، وعلينا تدبير نفوس رعايانا لإبقائها في سبيل الفضيلة والخير. فإذا اختلفنا في الجزئيات والظواهر فنحن متفقون في الكليات والبواطن. فعلينا إذن أن ننظر إلى ما يجمعنا لا إلى ما يفرقنا، ولذلك أطلب من الأمير ثلاثة أمور: الأول؛ أن يكتب لنا عهدًا بالصلح نحفظه عندنا للمستقبل، والثاني؛ أن يوصي رجاله بأن لا يتعرضوا لأحد منا في دينه، والثالث؛ أن لا يصلي بجانب قبر المسيح في كنيستنا الكبرى؛ لأنه يعلم أنه إذا صلى هناك طلب المسلمون جعل المكان مسجدًا.
فلما تُرجم هذا الكلام للأمير أطرق، ثم قال: أهذا كل ما يريده البترك. فقيل له: نعم. فنهض عمر ووضع يده في يد البطريك، وقال: نحن كما قلتَ. أما العهد فسأكتبه الساعة وأرسله إليك، ولولا رغبتي في أن يشهد عليه شهود من المسلمين لئلا يُشتبه به في ما يأتي من الزمن لكتبته الآن، وأما الوصية: فوالله الذي نفس عمر في يده إنكم لا تجدون أحدًا منا يعتدي على أحد منكم بغيًا وظلمًا، وعندنا: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وأما الصلاة بجانب قبر عيسى — عليه السلام — فسأفعل ما ذكرتَ؛ لأنني أشد رغبة منكم في اجتناب النزاع على قبر عيسى في مستقبل الزمان، وأنتم أحق منا به.
ثم هم الأمير بالخروج فمد البطريرك حينئذ يده إلى جيبه وتناول منها رقًّا مطويًّا. ثم ناوله للأمير يدًا بيد، وقال للترجمان: أخبره أن هذا الرق مكتوب بلغتنا، وفيه أمر سري لا أحب أن يعلم أحد أنني صاحبه. فليمعن فيه النظر ثم يعيده إلي غدًا أو بعده.