الخاتمة
هكذا كانت نهاية هذه القصة المؤلمة التي مزج فيها المؤلف دموعه بدموع إيليا، وربما بدموع القارئ أيضًا.
وفي تلك الليلة لم يزر الكرى جفن إيليا، ولما أصبح الصباح لزم فراشه لاعتلال طرأ عليه، ومنذ هذا اليوم عاوده ضجره القديم فصار سكوتًا منقبضًا لا يلتفت إلى شيء ولا يبالى بشيء، ولما سمع الشيخ سليمان باعتلاله أسرع إليه شديد الاهتمام بأمره.
ذلك أن الشيخ سليمان كان كثير الخبرة في الحياة.
ذلك أنه كان يعلم تأثير بعض الأمراض.
فقد كان له في شبابه طفلان مات أحدهما بعلة سرية في الأسبوع الأول، وتبعه الثاني في الأسبوع الثاني.
فيا أستير ليتك لم تهبي إيليا دفترك. فإنك وضعتِ له مع عواطفك ميكروبات مرضك.
ولما كان يقبِّل فيه عوَاطفك بشفتيه كان يلتقط بهما ميكروباتك.
فافتحوا يا أهل المزرعة قبرًا ثالثًا بجانب قبرَي أستير والراهب ميخائيل.
ويا أستير سري وافرحي أن عزيزك إيليا راحل إليك.
وهو أيضًا كان مسرورًا بذلك.
إنه قبل معرفتك ضجر من الحياة الباردة وسئم اهتماماتها الباطلة، فلما عرفك أصبح يراها لذيذة جميلة. فهل من غرابة أن يكرهها بعدك كما كرهها قبلك؟
•••
فبتسيير الرجال هذا التسيير إلى أقطار الأرض لفتحها وتوحيدها أشبه الإمام عمر السيد المسيح لما أرسل تلامذته إلى العالم؛ ليفتحوه ويوحدوه، وينشروا فيه الوداعة والمحبة والسلام بقوة الكلام فقط، ولكن كأن الكلام لم يفعل في العالم الفعل المقصود ولذلك قام السيف الآن، وإذا كان الكلام لم ينجع فالسيف لا ينجع أيضًا.
•••
وفي أثناء ذلك بينما كانت فلسطين قائمة قاعدة لحركات الجند المختلفة فيها كان رجل جالسًا تحت الأرزة على جبل الزيتون وفي يده كتاب يقرأ فيه بصوت جهوري قراءة جدية وينظر إلى أورشليم أمامه.
وكان هذا الرجل أرميا، والكتاب الذي في يده نسخة من التوراة.
وكان أرميا يقرأ فيها نبوءة (سميِّه) أرميا ورثاءه أورشليم. فكان صوته يدوي في جو المدينة المقدسة كأنه بوق ينذر بسقوط المدينة العظيمة — وكان في فكره يرثي أورشليم وأستير معًا.
هم من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح الحرام، ومن النبي إلى الكاهن كلٌّ يعمل بالكذب.
هكذا كان أرميا يخطب على جبل الزيتون، ويرثي أورشليم حين دخول حامية العرب إليها لتولي شأنها، ولو سمعه حينئذ الإسرائيليون الذين كانوا يرافقون جيوش العرب لقالوا له إنه قد جاءت نوبة قومه في هذا الرثاء بعد أن صرف قومهم فيه عدة قرون.
•••
ولم يكد أرميا يطوي الكتاب الذي بين يديه، ويترك الرثاء حزينًا متألمًا حتى طلع عليه بعض فرسان العرب. فعرف أرميا منهم عَمْرَ بن معدي كرب، وقد جاء بطلب إيليا لغرض له. فأخبره أرميا عن مرض إيليا، ودله على المزرعة، ولما وصل الأمير إليها كان إيليا غائبًا عن الرشد، وهو على أهبة الرحيل.
ذلك أن الحمى التيفوئيدية فعلت فيه ما فعلته بأستير.
وكان الشيخ وأهل المزرعة حينئذ في منتهى الحزن والغم لحالة إيليا، وهم من ذلك في بكاء مستديم.
ولما علم الأمير بموت أستير ومرض إيليا إلى هذا الحد حزن حزنًا شديدًا، وقبل عودته من المزرعة سأل الشيخ سليمان أن يدله على قبر الراهب ميخائيل الذي كان إيليا قد أخبره خبره كما تقدم. فذهب به الشيخ إليه، وقبل رحيل الأمير سأله الشيخ ماذا يريد من إيليا؛ ليبلغه إياه بعد انتباهه من نوبته. فأجاب الأمير بلسان ترجمانه: هي مسألة كتاب سري بين خليفتنا عمر وبترككم لم يدر بها أحد غير إيليا. فأحببت أن أقف منه على فحواه لأمر ما، وسأراه مرة أخرى.
ولكن هذا السر بقي في صدر إيليا ومات بموته. لا سيما وأن أبا أستير الذي وقف عليه أيضًا قد توفي بعد شهر من وفاة ابنته.
وقد فاتنا أن نقول: إن زوجته العجوز توفيت في ذات الأسبوع الذي توفيت فيه أستير من حزنها على ابنتها.
وقد دفنوا إيليا بين قبر أستير وقبر أستاذه الراهب ميخائيل، وكان يوم دفنه يوم عويل وحزن عظيم عند أهل المزرعة كبارًا وصغارًا حتى الأولاد.
فيا أيتها القبور الثلاثة التي تعانقت رفاتها في جوف الأرض تعانق الأحباء، وضمت الحكمة والجمال والشباب والعقل: سلام عليكم من كاتب قصتكم وقارئها.
سلام عليكم وهنيئًا لكم؛ لأنكم رقدتم براحة وسلام قبل زمن الاضطرابات التالية. هنيئًا لكم لأنكم خلصتم من مشاهد الحياة الباردة، واهتماماتها الباطلة، وشهواتها الفارغة، واعتداءاتها الوحشية. إنكم خلصتم من مشهد الصغير النفس يجرُّ ذيل الكبر منتصرًا، والدميم خلقًا يتيه دلالًا، ويمشي اختيالًا، والسالب يتمتع بما سلب مكرمًا محترمًا بين قومه؛ لأن الناس لم يتعودوا شم رائحة الذهب قبل إكرام صاحبه ليعلموا هل كان كسبه حرامًا أو حلالًا، والوقح يبلغ مآربه بوقاحته ويزدري كل الفضائل والأخلاق اللطيفة؛ لأنها بين الحيوانات البشرية في الدنيا لا تجرُّ مغنمًا، ولا تدفع مغرمًا.
هنيئًا لكم أيضًا؛ لأنكم قضيتم قبل العصر الذي تزحف فيه الأمم والقارات بعضها إلى بعض ليفني بعضها بعضًا. إنكم يا أيتها الجواهر الثلاثة قد شهدتم سقوط أورشليم الجميلة عاصمة العواصم وزينة الدنيا وعروس العالم، ولكن كل هذا ليس بالشيء الذي يذكر بإزاء الأهوال الآتية. إن عنصرين جديدين من البشر سيشتبكان ويتخالطان ويتماسكان، وكل منهما يطلب إذلال الآخر أو نبذه من الدنيا. فأشفقوا على إخوانكم الضعفاء الآتين بعدكم في هذا النزاع الهائل. أشفقوا على الدماء التي ستسفك من الفريقين، والمظالم والفظائع والصبيانيات التي ستحدث في الجانبين، وبما أنكم قد خرجتم عن دائرة النزاع والعراك في الحياة، وأصبحت نفوسكم نفوس ملائكة لا نفوس حيوانات بشرية فأوحي إلى الشرقيين يا أيتها النفوس الكريمة المبادئ الجميلة الشريفة التي تريهم أباطيل نزاعهم. ثم أرسلي إلى حكامهم روح العدل والحق والنزاهة والمحبة والألفة والسلام؛ ليعيش الجميع في هذه الأرض التي أصبحت مشتركة بينهم والتي سقوها بالدماء والدموع معيشة هادئة لا يسبُّون معها الأرض ولا يشكون من السماء.