على الطريق
في أن الفتاة قد تكون أشد تمسكًا بمبدئها من الشيخ لأن نفسها عذراء لم يلوثها الخوف والجبن ورجاء الفائدة.
***
وكان الناس لا يزالون يفدون على بيت لحم من القدس، وهم منتشرون على طول الطريق بين مشاة وركاب، وفيهم المغنون والعازفون بالآلات الموسيقية. فلما رأى الشيخ والفتاة ذلك علما أنهما ما زالا في خطر، وفي الحقيقة أن الناس كانوا ينظرون إليهما حين المرور بهما نظر الاستغراب؛ لعودتهما في تلك الساعة من بيت لحم مع أن جميع الناس كانوا حينئذ ذاهبين إليها.
ولقد أحسنت الفتاة بترك البكاء في ذلك الحين؛ إذ بعد دقيقة سُمع على الطريق أمامهما جلبة شديدة، وكان السبب في ذلك قدوم شرذمة من الجنود الفرسان مسرعة من القدس؛ لأن والي المدينة بلغه خبر الاضطراب في بيت لحم وهياج الشعب لظنهم أن في المدينة رجلًا إسرائيليًّا فرأى زيادة الجند هناك. فلما نظرت الفتاة لمعان السلاح في الليل وسمعت ضوضاء الخيل ارتعدت فرائصها وغار الدم إلى قلبها. فشجعها رفيقها بكلام رقيق تظهر فيه القوة مع أنه كان خائفًا مثلها. أما الجند فمرت خببًا بانتظام جميل. فتنفَّس الصعداء، وكان إيليا قد دنا منهما أكثر حين سماعه تلك الحركة.
فلما مرت الجنود صار الناس يتساءلون عن سبب إرسالها بسرعة كهذه السرعة، ولما عرفوا السبب انتشر بينهم بسرعة البرق فضحك منه الراكبون لعدم تصديقهم إياه، وأما المشاة فإنهم جدُّوا في السير لمشاهدة المصابيح التي أبت أن تشتعل واليهودي الذي أمسكه الناس، وكانوا في أثناء سيرهم يتهددون ويتوعدون ذلك اليهودي الذي كدر صفوهم في ذلك العيد. فلما وصلت طلائع هذه الجماعات إلى الشيخ والفتاة وسمعا حديثهم عراهما حينئذ خوف شديد. أما الناس فلما أبصروا الشيخ والفتاة أخذوا يحدقون فيهما ويعجبون بعودتهما في تلك الساعة قبل الاحتفال بالعيد، وكانت تصوراتهم ملتهبة للقصة التي سمعوها عن بيت لحم فأخذوا يقتربون من البغلين ويتفرسون في صاحبيهما وهم سائرون. فأصاب الفتاة ضعف شديد فمدت يدها وغطت بها وجهها؛ لتخفي لوائح الاضطراب والاصفرار، وفي الوقت ذاته بدرت منها زفرة رغمًا عنها؛ لأن صدرها ضاق بما كانت تجده من الاضطراب. فازدادت شبهة الناس فيهما، وصاروا يلتفتون نحوهما من كل جانب. ثم قوي قلب بضعة من المتحمسين منهم فاتجهوا نحو البغلين وأمسكوهما ليسألوا الراكبين عن حادثة بيت لحم وبذلك ينبشون حقيقة أمرهما.
فلما رأت الفتاة ذلك لم تتمالك أن أجهشت بالبكاء، وأطلقت لزفراتها العنان. أما الشيخ فقد صار وجهه كوجوه الموتى من الاصفرار؛ لأنه تحقق الخطر، وأما إيليا فإنه أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وبوثبتين صار بجانب البغلين.
وكان الناس قد تألبوا حول الشيخ والفتاة من كل صوب حتى سدت الطريق، وصار كل قادم ينضم إليهم مستخبرًا مستعلمًا، وكان هذا يقول: إنهم قد ألقوا القبض على اليهودي الذي فر من بيت لحم، وذاك يقول: بل هذا رفيقه لا هو نفسه؛ لأن ذاك مسجون في بيت لحم الى أن يحضر البطريرك، وهكذا شبهات العامة وتصوراتها أحيانًا تكون مصيبة وأحيانًا مخطئة. فإذا أصابت اكتشفت ما لا يستطيع أحد غيرها اكتشافه؛ لأن اكتشافه إنما يكون بالشبهة والتهمة أي بالصدفة، وإذا أخطأت فالويل للبريء الذي ينشب فيه سهم خطأها.
ولكن الجمهور لم يتفرق بل كانت أنظاره متجهة إلى تلك الفتاة الحسناء التي بكت منذ حين بكاء يدل على الخوف. فقال أحدهم: ولكن لم تخبرونا شيئًا عن اليهودي الذي قبضوا عليه في بيت لحم، فماذا صنعوا به؟ فهنا ظهر الارتعاد على الفتاة رغمًا عنها، وما الحيلة بأعصاب النساء فإنها ضعيفة. فازدادت شبهة المتحمسين، وصاح أحدهم: الحق نقول لكم إننا لا نترككم تمرون إلا إذا وجدنا بيننا من يعرفكم وقد رآكم في المدينة. فهلموا بنا إلى دير مار إلياس القريب على الطريق * وهناك نراكم على النور.
فهنا علم إيليا أن الجبانة مضرة، ولا يفيد شيء مثل الجرأة والشجاعة. فقال بنزق وحدَّة لا سيما وأنه كان يعلم تأثير بعض الألفاظ على أذهان العامة: ألا تخجلون أيها الإخوة من إلقاء الشبهة على مسيحيين مثلكم «باسم الأب والابن والروح القدس» قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره. ثم قال للشيخ والفتاة: برهنا لهم على أنكم مسيحيون أيضًا.
فعند هذا الكلام اتجهت جميع الأنظار إلى الشيخ والفتاة. أما الشيخ: فإنه مد يده بكل تأن ورسم علامة الصليب على صدره كما رسمها إيليا، وأما الفتاة: فإن يدها لم تتحرك بل عاودها البكاء.
فهنا علم إيليا الخطأ العظيم الذي حدث، وزاده علمًا به تهيج العامة حينئذٍ ونداؤهم «فلتصلِّب الفتاة فلتصلِّب الفتاة» أي فلترسم إشارة الصليب على صدرها. فرأى الشيخ حينئذ أن الخطر قد وقع ولا سبيل لرده. فقال بصوت يرتجف من التأثر والانفعال: نعم، هي تصلِّب يا إخوان، صلِّبي يا بنيَّة، واسألي إلهنا أن يعينك على المرض الذي تبكين منه.
فشعر إيليا بما في هذا الكلام من المعنى، وحدق في يد الفتاة ليرى أتخلِّص نفسها ورفيقها أم لا. فإذا بيد الفتاة قد بقيت جامدة وزاد بكاؤها.
فصاح الجمع حينئذ بأصوات متقطعة متتابعة «بُصرى بُصرى، ها ها فهي إذن وثنية، بصرى بصرى، صحيح صحيح. لذلك هي بهذا الجمال. إن «باكوس» الملعون قد كساها كل جماله، كيريالايسون كيريالايسون، هلموا بنا إلى بيت لحم لتعميدها في هذه الليلة ليلة العيد».
ثم صاح أحدهم: ورفيقها هذا أهو من بصرى أيضًا؟ فأجاب إيليا: لا بل هو من المدينة، ولكنه جاء بها لإرشادها وتعميدها.
هذه هي الحيلة التي دبرها إيليا لإنقاذ الفتاة. فإنه كان يعلم أن العامة يتساهلون مع الوثنية أكثر من اليهودية؛ إذ ليس بين المسيحية والوثنية دم زكي وثأر عظيم فضلًا عن أن الأولى كانت على ثقة من أن مصير الثانية إليها، ولم يكن محرمًا على الوثنيين دخول أورشليم، ومن جهة أخرى: فقد كان يعلم أيضًا بناء على ما ظهر له أن تلك الفتاة قد تفضل اسم «وثنية» على اسم «مسيحية».
وبينما كان الناس يتحدثون ويلغطون مسرورين بأنهم سيعيِّدون في تلك الليلة عيدين؛ عيد الميلاد وعيد هداية نفس بشرية، وإذا بالمشاعل والمصابيح قد ظهرت في الطريق من جهة القدس. فعلم الناس حينئذ أن البطريرك قادم بموكبه إلى بيت لحم استعدادًا لصلاة العيد. فسرَّ الحاضرون بذلك لرغبتهم في أن يدفعوا إلى البطريرك الفتاة الوثنية يدًا بيد، ولذلك انتظروا جميعًا وصول الموكب. أما إيليا فقد لبث واقفًا بجانب الشيخ والفتاة يفكر في طريقة لحل هذه المشكلة، وقلبه يتفطر شفقة على تلك الفتاة كلما وقع نظرها الفاتر الكسير على نظره، ولكن الحق يقال: إن عاطفة الشفقة هذه كانت ممزوجة بعاطفة أخرى أيضًا …