الفصل السابع
العرب في بيت المقدس
وفي تلك الساعة كان البطريرك ووالي المدينة وقائد الحامية فيها منفردين في إحدى قاعات
المقام البطريركي بجانب كنيسة القيامة في القدس، وكانت لوائح الغضب بادية في وجه البطريرك،
وهو مطرق يفكر، ويده تعبث بلحيته البيضاء الطويلة المنتشرة على صدره، وكان الوالي وقائد
الحامية يتحادثان همسًا احترامًا له.
وكان الوالي يقول للقائد: هل إذا هاجمونا وعدتهم مائة ألف يقدرون على أخذ مدينتنا؟
فأجاب
القائد: إن القدس لا تُفتح أبدًا إلا صلحًا خصوصًا في هذا الفصل فصل الثلج والبرد والمطر.
فقال الوالي: قد قيل لي: إن العرب حفاة، فلنطاولهم ما استطعنا فإن البرد يهرأ أقدامهم
فتسقط
أصابعهم. فهز القائد رأسه وقال: أما هذا فلا سبيل إليه؛ لأن أصابع رجالنا مع احتذائهم
تسقط
من البرد، وأصابعهم هم لا يصيبها أذى؛ لألفة أجسامهم المشقة وشظف العيش * فقال
الوالي: لا شك أن ذلك كان من أسباب قوتهم.
وبينما هما يتناجيان وإذا براهب قد دخل مسرعًا، وقال للبطريرك: إن الرسول في الباب.
فأمر
البطريرك بإدخاله على عاجل. فأدخل عليه بدوي بملابس العرب وهيئتهم. فسأله البطريرك
باليونانية: هل عرفت ما نريد معرفته يا يوحنا. فأجاب البدوي باليونانية أيضًا: نعم يا
مولاي. فقال البطريرك: اجلس وقص علينا كل أخبارك.
ولا ريب أن القارئ قد أدرك أن هذا البدوي العربي الذي يتكلم باللغة اليونانية واسمه
يوحنا
إنما كان من الغسانيين وهم عرب الشام النصارى * الذين كانوا يعاونون الروم على
المسلمين والفرس في حروبهم معهم * وقد حاربوا في اليرموك في جيش الروم حربًا شديدة.
*
فجلس البدوي يوحنا على مقعد بعيد، وكان قد تزيا بزي البدو؛ ليسهل له الاختلاط بالعرب
إخوانه بالنسب والجنس تنسمًا لأخبارهم، ثم أخذ يقول: لما توفي نبي المسلمين وخلفه أبو
بكر
أنفذ الخليفة وصية النبي في استعمال أسامة بن زيد على جيش وإرساله لفتح الشام *
وكان العرب قد أخذت ترتد عن الدين الإسلامي لموت النبي * فلما رأت مسير الجيش للشام
هابوا الخلافة وقالوا *: «لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير
مما كانوا يريدون أن يفعلوه».
١ فكأن جيش الشام كان عونًا شديدًا للعرب في الداخل، وبعد إخضاع المرتدِّين من
العرب أبلغ أبو بكر عدد هذا الجيش إلى ١٢٤ ألف مقاتل * وقد قسمه إلى جيشين: جيش
لمقاتلة الفرس، وجيش لمقاتلتنا * ومن فرط دهائه أوصى الجيشين بأن يلبثا دائمًا
أحدهما على مقربة من الآخر؛ ليتمكنا من الاتحاد في ساعة الخطر * وقد فتح جيشهم في
الفرس بلاد بابل كلها ودعوها العراق العربي * وكان قائدهم فيها خالد بن الوليد الذي
يلقبونه «سيف الله» * وهو الذي وثب بعد ذلك بأمر أبي بكر من العراق إلى الشام ففتح
غزة، وكتب إلى الإمبراطور يطلب منه أن يسلم إليه دمشق، فأجابه الإمبراطور بهذا الجواب
«ملكك
القفر فعد إليه» * ولكن لما توفي أبو بكر بعد أن استخلف عمر بن الخطاب عزل عمر
خالدًا، وولى الشام أبا عبيدة الملقب بأمين الأمة * ويظهر أن أبا عبيدة يقصد دولتنا
أكثر من دولة الفرس * لأنه بعد إسقاطنا دولة الفرس يعلم أنه إذا أسقط مملكتنا لا
سمح الله استولى على الكرة الأرضية كلها، وهذا ما سمعته من أحد رجاله، ولذلك يريد الاستيلاء
على مدينة القدس عاصمة المسيحية بعد استيلائه على دمشق عاصمة سوريا.
وقد تحقَّقتُ أن العرب سلموا من الاضطرابات والفتن الداخلية التي كانت تتهددهم، وذلك
بأمرين: الأول: شدة أميرهم عمر وحزمه وعدله، والثاني: انصرافهم إلى فتح الشام وفارس،
وهذا
ما كان من أكبر أسباب اتحادهم وقوتهم؛ لأنهم لو أقاموا في بلادهم، ولم يشتغلوا بمقاتلتنا
لانصرفوا إلى مقاتلة بعضهم بعضًا كما كانوا من قبل، وهذا من دهاء أبي بكر وعمر بن الخطاب
وسياسته. *
فهز البطريرك هنا رأسه، وكان الوالي والقائد مصغيين كثيرًا، فأردف الرسول بقوله:
أما ما
علمته عن زحفهم إلينا فهذا:
٢ بعد أن فتح أبو عبيدة دمشق، وأقام فيها شهرًا يتمتع فيها مع جنده بمناظرها
الجميلة، ويستريح بعد عناء القتال جمع إليه أمراء المسلمين، وقال لهم: «أشيروا عليَّ
بما
أصنع وأين أتوجه» فاتفق رأي المسلمين إما إلى قيسارية (قيصرية) وإما إلى بيت المقدس.
٣ فقال معاذ بن جبل: «اكتب إلى أمير المؤمنين، فحيث أمرك فسر، واستعن بالله»
فقال: «أصبتَ الرأي يا معاذ» فكتب كتابًا إلى الأمير، وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح
النخعي. فلما قرأ أميرهم الكتاب جمع إليه أعوانه ومشيريه فاستشارهم في ذلك. فقال له علي
بن
أبي طالب: «يا أمير المؤمنين، مر صاحبك أن يسير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا
أهلها
فهو خير الرأي وأكبره، وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعدها
إن
شاء الله تعالى. كذا أخبرني رسول الله» * فقال له الأمير: «صدقتَ يا أبا الحسن»
* فإننا إذا ملكنا بيت المقدس خارت عزائم الجند والشعب، وفتحها يعدل فتح
القسطنطينية من هذا الوجه.
(— وكان عثمان بن عفان حاضرًا فقال: (— رأي الأمير صائب وموفق إن شاء الله. إلا أنني
أخشى
أمرًا. فقال الأمير: (— وما هو أيها الناصح النصوح؟ فقال: إن الروم لم تدب فيهم الحماسة
وينهضوا على مملكة الفرس نهضة واحدة إلا لأخذ الفرس صليبهم من بيت المقدس وإحراقهم كنيسة
القيامة * فأخشى أن نثير حميتهم التي خمدت إذا أخذنا بيت المقدس، فنكون كأننا
أضرمنا النار بيدنا (— فقال علي: (— والله إنني لا أرى مناسبة بيننا وبين الفرس؛ فإن
الفرس
يدخلون المدن هادمين مخربين منتقمين، وأما نحن فندخل مسالمين مصلحين.
فقال الأمير: (— أجل إن الفرس هجموا على الشام لسحق الرؤساء والشعوب معًا، أما نحن
فندخل
الشام للإنصاف بين الشعب والرؤساء، فدخولنا نعمة للشعب لا نقمة. ثم تناول الأمير حينئذ
رَقًّا وقلمًا، وكتب إلى أبي عبيدة يقول: * «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله
عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة. أما بعد؛ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا
هو
وأصلي على نبيِّه، وقد ورد عليَّ كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها، وقد أشار
ابن عم رسول الله ﷺ بالسير إلى بيت المقدس؛ فإن الله — سبحانه وتعالى — يفتحها على
يديك، والسلام عليك».
فلما عاد الرسول بهذا الكتاب إلى أبي عبيدة وجده في الجابية * فقرأه أبو عبيدة
على المسلمين؛ فهللوا وكبَّروا، وفرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس * ثم «دعا أبو عبيدة
بيزيد بن أبي سفيان
٤ وعقد له راية على خمسة آلاف، وأمره أن يزحف إلى بيت المقدس وفلسطين، وقال له:
يا بن أبي سفيان ماعلمتك إلا ناصحًا. فإذا أشرفت على بلد إيلياء (أي بيت المقدس) فارفعوا
أصواتكم بالتهليل والتكبير، واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين
أن
يسهل فتحها على أيدي المسلمين. فأخذ يزيد الراية وسار. ثم دعا أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة
الذي كان كاتب وحي نبيهم، وعقد له راية، وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن، وقال
له: سر
بمن معك حتى تقدم بيت المقدس، وانزل بعسكرك عليها، ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك. ثم
دعا
بالمرقال بن هشام بن عتبة بن أبي وقاص، وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين،
وسرحه
على أثر شرحبيل بن حسنة، وقال له: انزل على حصنها، وأنت بمعزل عن أصحابك. ثم عقد راية
رابعة
فسلمها للمشيب بن نجية الفزاري، وأمره أن يلحق بأصحابه، وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع
وغيرهم من القبائل، وعقد راية خامسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي، وضم إليه خمسة
آلاف
فارس، وسيره وراءه. ثم عقد راية سادسة وسلمها إلى عروة بن المهلهل بن زيد الخيل، وضم
إليه
خمسة آلاف فارس، وسيَّره وراءهم — فكان جملة من سرَّحه أبو عبيدة إلى هذه المدينة خمسة
وثلاثين ألفًا» وقصده بذلك إرهابنا بنزول أمير علينا في كل يوم، وهذه مقدمة جيشهم، وقد
سمعت
واحدًا منهم يقول بعد وصولهم: «ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن
عدة
من بيت المقدس، وما نزلنا بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل
بيت
المقدس فلا يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة».
٥
فهنا ضحك الوالي، ونظر إلى القائد، فابتسم القائد افتخارًا بشهادة العدو بثبات جأش
الجند
والأمة. فقال الوالي ليوحنا: وماذا سمعت عن باقي مدن فلسطين؟ فقال الرسول: إن جند العرب
تفرقوا فيها، وهاجموها من كل صوب؛ فبيسان وطبرية واللد والرملة ويافا وقيسارية (قيصرية)
وغزة ونابلس وعمواس وبيت جبرين وأجنادين — بعضها وقع وبعضها سيقع في قبضتهم. فقال القائد:
وهل سمعت شيئًا عن الشام؟ فقال الرسول: إن أبا عبيدة قصد حمص من دمشق بعد إرساله الجند
إلى
فلسطين. فلما علم جيشنا بذلك ظن أنه قادر على استرداد دمشق فزحف إليها، فعاد أبو عبيدة
وخالد بجندهما، ولاقياه في مرج الروم قرب دمشق فكانت الغلبة لجيش العرب أيضًا *
ويُقال: إن قائد العرب أبا عبيدة سيقصدنا في وقت قريب.
وما أتى الرسول على هذا الكلام حتى دخل راهب، وأخبر البطريرك أن في الباب سيدة وشيخًا
يستأذنان بالدخول، وكانت السيدة هي أم تيوفانا قدمت وهي تبكي خوفًا من العرب على ابنتها
التي ذهبت لتوصل الفتاة الوثنية إلى دير العذراء، وأما الشيخ فهو أبو أستير وقد جاء خائفًا
على ابنته أيضًا؛ ليلتمس من البطريرك الإذن له بالذهاب إلى الدير لافتقاد ابنته. فضجر
البطريرك من مقابلتهما، وأمر الراهب أن يبلغهما أن العذراء تحمي ديرها، وتسهر عليه. ثم
أردف
بقوله: إن العرب ليسوا كالفرس؛ بل هم يعبدون الله مثلنا، ولذلك يحترمون المنقطعين إليه
تعالى
٦ فلا تخافوا منهم على الدير.