تاريخ حياة إيليا
ولما رجعت تيوفانا القهقرى إلى الدير عند ذكر العرب جرَّت معها إيليا بيدها، وهي تقول: هلم بنا إلى الدير يا كيريه إيليا فإننا نخشى أن يقصد أحد منهم هذا المكان، ولكن رئيسة الدير لما سمعت من تيوفانا خبر وصول العرب هزت كتفيها غير مبالية، وقالت بتسليم ملائكي: لدينا جيش أقوى من جيش الروم والعرب وهو حماية الله، ثم رفضت قبول إيليا وأرميا رفضًا قطعيًّا، وأدخلت إلى الدير تيوفانا وحدها.
فبعد إقفال باب الدير قال إيليا لأرميا: هل تذهب معي إلى المزرعة يا كيريه أرميا أم تبقى هنا للسعي كما ذكرتُ لك؟
فقال أرميا: كنت في هذا الصباح في المزرعة فلست أعود إليها، وقد سمعت فيها أن الجميع كانوا ينتظرونك؛ لتتناول معهم طعام العيد في الصباح، ولكن بعيشك قل لي ماذا يصنع كيريه سليمان إذا وصل العرب إلى مزرعته؟ فقال إيليا: سأسأله عن ذلك الآن. أما أنت فدبر شغلك كما أخبرتك.
ثم إن إيليا ودَّع أرميا، وأخذ في الانحدار عن الجبل لا من جهة المدينة، بل من جهة طريق وراء الجبل تؤدي إلى مزرعة كانت قائمة في الجهة الشرقية.
وبينما إيليا سائر نحو المزرعة يحسن بنا الآن أن نذكر شيئًا من تاريخ حياته فقد آن ذلك، لا سيما وأن ما يلي متعلق بما تقدم.
•••
كان إيليا ابن فلاح من الناصرة يكسب رزقه من حراثة الأرض، فربي إيليا بين النباتات والأزهار والحقول، وكانت أمه قد نذرته للعذراء، ورغبة منها في أن تخصه العذراء بعنايتها كانت في كل مساء يوم أحد تأخذه إلى البيت الذي قيل إنه كان منزل العذراء في الناصرة، والذي كان قد أقيم عليه كنيسة احترامًا له، وهناك تجعله يفرِّق بين الفقراء المجتمعين حول الكنيسة أرغفة خبز تصنعها له أمه خاصة لهذا اليوم، وكان كلما ناول الصغير إيليا أحد الفقراء رغيفًا وهو يبتسم ضاحكًا بفمه الوردي كانت أمه تقول للفقير: «ادع لإيليا» فيقول الفقير متحمسًا بالدعاء لذلك الولد اللطيف: «إن شاء الله سيصير بطريرك القدس» فكان إيليا يقرع كفًّا بكف من فرحه، والدموع تترقرق في عيني الأم من حنانها وتأثرها، وفي ذات يوم قدم الناصرة عالم عظيم من القسطنطينية؛ ليزور الأماكن المقدسة. فلما شاهد إيليا يفرِّق أرغفته الأسبوعية، وسمع دعاء الفقراء له أخذ العالم رأس الصبي بين يديه، وقال: «نعم يا بني، ستكون بطريرك أورشليم الجديدة».
أما العالم القسطنطيني فإنه لم يتنبأ تلك النبوءة للصغير إيليا عبثًا؛ بل كان له منها غرض أسمى من الغرض الذي فهمته أمه. فإنه كما تقدم الكلام كان قادمًا من القسطنطينية، وكان لا يزال يدوي في أذنيه ما رآه وسمعه فيها من المجادلات الدينية الفارغة والانقسامات السياسية وضوضاء المدنية البالغة حدود التهتك والإفراط، فلما رأى ذلك الصغير الناصري على أبواب الكنيسة يوزع الخبز على الفقراء مع أنه يكاد يكون فقيرًا مثلهم شعر حينئذ بعظمة التدين الحقيقي؛ فقال في نفسه: إن هذا الطفل وأمه أقرب إلى الله من كل أصحاب تلك المجادلات والمشاحنات التي يدَّعون بها التقرب من الله، وأعجب بصدق العواطف الدينية في الشرق وبساطتها بإزاء القسطنطينية التي صارت فيها العواطف الدينية آلات للسياسة والرئاسة والربح. فقال حينئذ لإيليا ما قاله مشيرًا إلى أن صنع الخير المجرد عن كل مصلحة خصوصية ونقاء العواطف وصدق الضمير وسذاجة القلب هذه هي المبادئ التي ستكون في المستقبل أساس أورشليم الجديدة، وإلا فلا يكون هنالك أورشليم.
أما أم إيليا فإنها لما بدأت تدفع ابنها في الطريق الإكليريكية صارت تجلب له الكتب لمطالعتها، فكانت لا تلقى رجلًا من رجال الدين حتى تطلب منه كتابًا، وكان إيليا يقرأ كل ذلك بلذة وصبر عجيب، وكانت أمه أمية لا تحسن القراءة، ففي ذات يوم لقيت في كنيسة الناصرة راهبًا غريبًا فطلبت منه كتابًا لابنها، وأخبرته أنها ستدخله دير القدس. فقال لها الراهب: سأعطيه كتابًا يعلمه، ويجعله أكبر من أكبر بطريرك. ففرحت الأم وقويت ثقتها بابنها، وكان عنوان الكتاب الذي أخذته من هذا الراهب الغريب: «ثلاثة في المسيح» فدفعته إلى ابنها دون أن تعلم بموضوعه، وكان ذلك الراهب نسطوريًّا، وموضوع هذا الكتاب تعاليم نسطوريوس وأوتيشيوس وآريوس الذين مذاهبهم في المسيح أقلقت الكنيسة وضعضعت المعتقدات فاضطر الإمبراطرة أن يجمعوا المجامع للحكم فيها تسكيتًا للاضطراب الذي حدث في المملكة.
فلما وقع هذا الكتاب في يد إيليا هم أن يصيح بموضوعه أمام أمه، ولكنه كتم الأمر إلى ما بعد الاطلاع عليه، وكان إيليا يومئذ في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد أصبح فتى قوي البنية رقيق العود طويل القامة أبيض اللون أسود العينين جميل الهيئة قليل الحركات كثير السكنات، وكان يلذ له الصعود إلى الجبال التي فوق الناصرة للتأمل فيها. حتى إنه لو كان رنان في عصره ونظره يتأمل من تلك الجبال في المناظر الشائقة التي تحت قدميه؛ لظن أن الناصري عاد إلى الأرض مرة أخرى فولد من عذراء وشبَّ حتى صار فتى، وجلس على تلك الجبال التي كان يلذ له الجلوس عليها؛ للتفكير بإنقاذ العالم مرة أخرى.
فقرأ إيليا هذا الكتاب، وأكثر كتبه الأخرى هناك في ذلك المكان البديع، وما فرغ من كتابه حتى تغير رأيه في الثلاثة الذين تقدم ذكرهم. فإنه كان قبل قراءة الكتاب يبغض اثنين منهما بغض الشيطان لما قرأه وسمعه حتى إنه كان يرى الناس إذا ذكروا أمامه أحدهما فإنهم كانوا يصلِّبون استعاذة منه بالله، وأما الآن بعد قراءة تاريخ حياتهم فقد ذهب بغضه لهم؛ لأنه لم يرَهم سودًا كما وصفوا له؛ بل إنه أعجب بجرأتهم على الجهر بما اعتقدوه حقًّا، وذكر لهم فضل العمل والصدق في الفكر والقول، ولكنه لم يقتنع بمذهبهم؛ لأن أمه أرضعته مع اللبن حب كنيسته وأمه الحنون التي سيندمج في سلك أبنائها بعد حين، ولذلك أطبق الكتاب بعد الفراغ منه، وتنهد قائلًا: «لا تدينوا لكي لا تدانوا» إلا أنه بقي في ذهن الفتى برق من هذه المطالعة السرية وهو حب البحث وحرية القول والفكر.
وفي العام التالي أخذته أمه إلى القدس؛ ليندمج في السلك الإكليريكي. فذهب إليها إيليا بسرور وشوق كما يذهب إلى الفردوس الأرضي لو علم بمكانه، ودخلها كملاك خَلقًا وخُلقًا، وقلبه يرقص طربًا؛ لأنه سيكون في المستقبل من أولئك الرجال الضعفاء الذين تُحنى أمامهم رءوس القياصرة والملوك والكبراء، ولا سلاح لهم غير ثوبهم الأسود.
ففي القدس لقيت أم إيليا في كنيسة القيامة الراهب النسطوري الذي أعطاها الكتاب الذي تقدم ذكره؛ فقدمت إليه ابنها المحبوب، وأطلعته على نيتها، وكان ذلك الراهب يدعى «ميخائيل» وهو شيخ في الخمسين من العمر أصله من بلاد الكلدان، ولكنه يقيم في بيت المقدس. فلما وقع نظره على الفتى وآنس في وجهه الروح الملائكي الذي تقرأ النفوس الكبيرة آياته في عيون النفوس الكبيرة التي لا تزال صغيرة قرع ظهره بيده تحببًا، وقال: «فلتكن روح سيدنا المسيح معك يا بني، إنني أرى نورًا إلهيًّا في وجهك، ولو لم ينقض عصر الأنبياء لقلت إنك ستكون النبي الذي تنتظره المسيحية».
فبكت أم إيليا من هذا القول المؤثر، ولم يبق لديها شك في أن ابنها فوق البشر تقريبًا، ولا نكتم القارئ أنها فتشت في السر كثيرًا في التوراة والإنجيل؛ لتعلم هل هنالك نبوءات عن ظهور نبي جديد من الناصرة أم لا، ولولا مجيء ابن الإنسان منذ نحو ٦٢٨ عامًا، فربما كان حنانها الوالدي أطلق على صغيرها النبوءات الواردة في التوراة بشأن مجيئه.
فلما رأى إيليا ذلك المشهد الغريب ارتعدت فرائصه، وصبغ الدم وجهه حتى كاد يخنقه. ثم نظر إلى الأسقف ليرى هل يجترئ بعد صنعه هذا على مس الإنجيل بيده الضاربة؛ فوجد أنه تناول بها الكتاب بكل قوة — ذلك الكتاب الذي يحرِّم عليه الصلاة بعد ذلك إن لم يستغفر أخاه الشماس الذي أساء إليه — وصار يتلوه بصوت جهوري.
أما الراهب ميخائيل فإنه لما نظر تأثر إيليا ابتسم ابتسامة هو وحده يعرف معناها.
فخرج إيليا من أول حفلة حضرها، ونفسه الدينية قد جُرحت جرحًا أليمًا، وفي خروجه استوقفه على الباب صراخ كاهن يبكي ويصيح عند مرور الأسقف، وبعد الاستخبار ظهر له أن هذا الكاهن كان من القائلين بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، وقد أغضب البطريرك صفرونيوس بشدة مقاومته فعاقبه البطريرك بأن «ربطه» أي قضى عليه بالامتناع عن إقامة القداديس والصلاة فوق المذبح. فتأمل إيليا في الكاهن وهو خارج، ورثى لحاله؛ لأن ذلك الضغط لا يقطع رزقه فقط بل يلقي عليه وعلى اسمه شبهة عدم الاستقامة في الإيمان ويقيد حريته.
وكان كثيرون من أكابر القدس قد حضروا هذه الحفلة؛ فأخذ إيليا والراهب ميخائيل يتأملان في سيدات أورشليم الجميلات الخارجات من القداس، وشبانها الذين كانوا في الظرف واللطف والكياسه أشبه بالسيدات، وكانت الأطالس والأثواب الحريرية والتيجان اللؤلؤية التي تكلل شعور السيدات في شبكة خصوصية * والروائح العطرية التي تفوح من تلك الملابس الجميلة والغضاضة البادية في الأجسام البضة النقية التي تحتها — كل ذلك يدل على أمة سعيدة في الظاهر غنية متمتعة بالملاذ والأطايب. إلا أن الفقراء الذين كانوا صفوفًا صفوفًا تجاه الكنيسة وحول بابها وجدرانها، وهم بحالة يرثى لها من الشقاء والضعف والفقر، كانت حالتهم تدل إيليا الفتى الساذج على أن في تلك المدينة العامرة بغناها وأبهتها إنسانيتين؛ واحدة سعيدة وواحدة تعيسة، والمضحك أنه ظن لسذاجته أن الأولى مسيحية والثانية غير مسيحية؛ لأنها لو كانت مسيحية لشاركت إخوتها المسيحيين السعداء في خيرات الأرض ونعمها، وكانت مساوية لهم في المملكة.
فبقي إيليا مفكرًا بعد كل هذه المناظرة المختلفة يمشي بجانب الراهب ميخائيل الذي كان يفكر مثله أيضًا، وكان يقول في نفسه، وهو ماش مفتكرًا بضرب الأسقف الشماس: ماذا أصنع بعد ما رأيته؟ هل أدخل تحت يد هذه السلطة التي لا تخجل من الإساءة إلي وإهانتي حتى أمام الناس مع أنني في دخولي تحت يدها أتنازل لها عن أثمن شيء عندي، وأعطيها أكثر مما تعطيني. هل أرضى لنفسي أن تكون في المستقبل في منزلة ذلك الكاهن المسكين الذي أهانوا إيمانه، وقيدوا حريته من أجل شيء صغير. لا لا. إنني أحب الرهبانية. أحب معيشتها الهادئة الاشتراكية. أحب الأناشيد جماعات جماعات تحت سقوف الكنائس الكبرى والأديرة العميقة حيث تتجاوب الأصداء فيها كأن الجو مأهول بملائكة تردد أصوات النشيد والصلاة مع المنشدين والمصلين — ولكنني أحب قبل كل شيء حريتي، وشرف نفسي؛ فإنني ربيت في الحقول بين الأزهار والطيور حرًّا مطلقًا مثلها؛ فإذا قيَّدت نفسي الآن هذا التقييد الذي يجعلني رمة هامدة حرمت نفسي أعظم نعم الله وأكبر اللذات الروحية، وأعني بها الحرية. فماذا أصنع يا ترى؟ ماذا أصنع؟ أأترك هذه أم أترك ذاك؟ وإذا تركت الرهبانية فماذا أصنع في العالم؟ ومن أين أعيش؟ وأين أذهب في معترك هذه الحياة؟
ولما علم الراهب ميخائيل باضطراب نفس ذلك الفتى في هذا الشأن أشفق عليه إشفاق من سبقه إلى هذه الأفكار في صباه، وإذ سأله الفتى الإرشاد والنصح تردد الراهب وبقي ساكتًا. فبكى الفتى، وقال: إنني وحيد فريد في الدنيا، وقد جعلك الله في طريقي؛ لتكون لي مرشدًا، فلماذا تضن عليَّ بثمرة اختبارك. أما أنت إنسان ومسيحي مثلي؟ أنسيت قول الإنجيل: من طلب منك فأعطه ومن سألك فلا ترده. إنني لا أطلب منك ذهبًا ولا فضة ولا أكلفك عناء، وإنما أطلب رأيك. فقل لي ماذا أصنع في هذه الحياة التي تركني الله فيها وحدي؟
فاغرورقت حينئذ عينا الشيخ ميخائيل بالدمع؛ فقرع كتف الفتى بيده تحببًا إليه، وأجاب: هل تحب أن نشهد معًا بزوغ الشمس غدًا يا بني؟ فأجاب إيليا: نعم، أحب ذلك. فقال الراهب: وافني غدًا بعد الفجر إلى جبل الزيتون، وهنالك نشهد بزوغ الشمس، ونتحادث على انفراد في الموضوع الذي طلبت رأيي فيه.
الخطبة على الجبل
فأشار الراهب الشيخ إلى الفتى بجد ورزانة أن يجلس بجانبه، وإذ جلس أخذ الشيخ يقول، والطبيعة كلها في أواخر ذلك الليل مصغية مع الفتى إلى كلامه اللطيف: – يا بني: لا تزال الشمس بعيدة، فلنتحادث قليلًا قبل أن تشرق. فإننا لا نحتاج إلى نورها لبث الحرارة في نفوسنا، فإن الروح الإلهية التي أودعها الله في داخلنا كافية لذلك، ولقد سرت أمس حرارة نفسك إلى نفسي فرأيت أن أحادثك هذا الحديث بعد ما شهدته أمس من اضطرابك وبكائك.
يا بني، نعم إنك لم تطلب مني فضة ولا ذهبًا، ولم تكلفني عناء، ولكن فاعلم أنك طلبت مني ما هو عندي أهم من الفضة والذهب، لقد طلبت مني أمرين عظيمين: الأول أن أمد يدي إلى ضميرك في باطن نفسك، وأديره إلى حيث أشاء، والثاني أن أحكم لك على هيئتنا ومعيشتنا الحاضرة الحكم الذي أراه.
هذا ما يجب أن يدور عليه محور جوابي إذا أجبتك على سؤالك، ولذلك رأيتني ترددت أولًا عن تحمل هذه التبعة العظمى، ولكن دموعك واضطرابك غلبتني فجئت معك إلى هنا على هذا الجبل المقدس الذي دوت في فضائه تعاليم إلهية؛ لأذكر لك فيه ثمرة اختباراتي في هذه الحياة كما طلبت مني.
يا بني، إنك تسألني بعد ما شاهدته في المدينة وفي القداس أمام القبر المقدس، هل تنخرط في سلك الخدمة الدينية كما كنت تنوي أم تعدل عن ذلك إلى خدمة أخرى؟ وما هي الخدمة التي تليق بك؟ فأجيبك أنك أخطأت في تركك تلك الأمور الجزئية تؤثر على عقلك، والأرجح أن سبب خطئك توقعك من لبس الثوب الأسود الوصول إلى الراحة والهناء والسعادة في هذه الأرض، ولذلك أجفلت لما رأيت الأسقف يلطم شماسه أمام الناس، والكاهن يبكي وينوح؛ لأنهم قطعوا رزقه وضغطوا على حريته، ولكن فاعلم يا بني أنني لا أحثك على ترك الثوب الأسود للفرار من الأذى والإهانة والضغط والاضطهاد؛ لأن هذا الثوب ما خلق إلا ليتحمل هذه كلها، فإذا كنت تشعر في نفسك بالقوة على تحملها والترفع عن الاهتمام لها فأقدم عليه، وإلا إذا كنت تطلب به الراحة والهناء فاتركه؛ لأنك تكون ضعيفًا يجب أن يخدمك الناس لا أن تخدم الناس.
نعم يا بني، لا تدع فساد أعمال الرؤساء يمنعنا من صنع الخير والقيام بواجباتنا في هذه الحياة، وهل الأرض للرؤساء لنتركها لهم حالما يظهر لنا أنهم عادون عليها وعلينا؟ كلا، إن كل إساءاتهم وظلمهم وسوء تدبيرهم وعماهم واضطهادهم وعدوانهم لا ينبغي أن تمنعنا من إتمام ما علينا للبشر الذين يعيشون معنا. فنحن نكون خدَمة لله والناس حتى بالرغم عنهم، وإذا أصابنا في حياتنا إبان الخدمة ما أصاب ذلك الشماس من رئيسه أمام القبر، فإننا نقبل اللطمة ونتعزى بأننا أقرب إلى المسيحية وكتابها من ذلك الرئيس اللاطم، وحينئذ يرى الله والناس أننا نحن الصغار المساكين إنما نحن الرؤساء الحقيقيون بالفعل؛ إذ في نفوسنا قوة الرئاسة التي هي قوة المبادئ والعمل بها، على حين أنه لا يكون من الرئاسة لذلك الأسقف الرئيس وأمثاله غير ملابسها المزخرفة.
أجل يا بني، إنني لا أرى في تلك الصغائر ما يمنعك من الخدمة؛ لأنني أهمل إساءات الناس وأعتبرها كأنها غير موجودة، ولكنك هنا تسألني ولا شك، إذن أنت تشير عليَّ بالإقدام على الخدمة، ونبذ الهواجس من نفسي؟
يا ولدي العزيز، هنا وصلت إلى موقف صعب، أنا فيه بين نارين؛ فمن جهة يعز عليَّ أن أجهر بما في ضميري لأنه مؤلم، ومن جهة أخرى يعز عليَّ أن أكذب وأخادعك، ولكن الحقيقة هي عندي يا بني أثمن من كل شيء، ولذلك أنا أصرح لك بها.
نعم، إنني لا أخشى عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم، فإن نفسك القوية لا تبالي بهم؛ لأنك لا تخدمهم، وإنما تخدم الناس تحت رئاستهم، وإنما أخاف عليك شيئًا آخر.
أنظرتَ يا بني تينك الإنسانيتين اللتين التقتا بعد الفراغ من القداس أمام باب الكنيسة؟ هناك رأيتَ ولا شك إنسانية سعيدة وإنسانية تعيسة؛ هناك بشر يلبسون الحرير والديباج، ويتحلون بالجواهر، ويسكنون القصور، ويشربون الخمور، ويحشون بطونهم حتى حيواناتهم بكل ما في الأرض من أطايب وملاذ، وهناك إنسانية أخرى تعيسة شقية تطلب خبزًا لتأكل فلا تجد فتنام على الطوى بلا أكل، وتطلب ملجأ تأوي إليه فلا تجد فترقد على تراب الأسواق والشوارع تحت قبة السماء، وتسأل ثوبًا يقيها البرد ويستر أجسامها الهزيلة الصفراء من المرض والحاجة فلا تجد أيضًا فتعيش عارية الأجسام كالحيوانات. يا بني، هنا أعيد عليك قولي السابق: إنني لا أخاف عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم إذا صرتَ خادمًا للأرواح: وإنما أخاف عليك من الله والناس أن تمد يدك يومًا إلى تلك الإنسانية السعيدة وتباركها فتبارك بذلك الظلم الاجتماعي الذي يسبب هذا الفساد.
أجل يا بني، إننا عدنا إلى الحالة التي حاربها المسيح منذ ستمائة سنة، وبذل دمه لهدمها. إنه جاء ليعلمنا الرفق والمحبة والمساواة، ويجعل الجميع إخوة. مبطلًا قسمة الناس إلى قسمين: أسياد، وعبيد. كبار، وصغار. أغنياء، وفقراء. أقوياء، وضعفاء: وهو ذا نحن اليوم كما كان اليهود لما صلبوه. – إنه جاء لمحاربة الفريسيين الذين يعرِّضون أكمامهم، ويشمخون بأنوفهم، ويحبون المتكئات الأولى في المجامع، وأن يناديهم الناس سيدي سيدي، ويتخذون وظيفتهم الكهنوتية آلة لكسب المال من الأغنياء والأقوياء مهملين الفقراء والضعفاء؛ إذ لا يرجى منهم نفع ولا ربح: وهو ذا الفريسيون عائشون في هذا العصر أيضًا ولم ينقرضوا بانقراض أولئك. – إنه جاء لمحاربة الدين الذي يُدعم بالمصلحة والمادة وعبادة المحسوسات، وصرع رجاله المرائين الذي يصلُّون بشفاههم صلاة لا تصدقها قلوبهم، ومقاومة جعل الكنيسة إدارة واسعة فيها رئاسة ضاغطة وكهنة خصوصيون يرتزقون من وظيفتهم؛ لأن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، ومعارضة الذين يقيدون الله بالهياكل فلا يعتبرون الصلاة في غيرها صلاة حقيقية: وها نحن يا بني نكاد نعود إلى هذه كلها، ولو عاد الآن السيد المسيح الذي لبسنا من حبنا له هذا الثوب الأسود المتعب لاضطر أن يصلب نفسه على يدهم مرة أخرى للدفاع عن المبادئ التي دافع عنها في المرة الأولى.
يا بني، عفوًا إذا وجدتَ في كلامي شيئًا من الحدة؛ إذ كيف تريد أن أكون هادئًا رزينًا حين تذكُّري هذه الأمور كلها. إنني كاهن ويحق لي أن أستشيط غضبًا لإلقاء جوهرتنا في وحل العالم، وقد غضب يومًا سيدنا مع كثرة صبره وحلمه فحمل السوط وطرد الباعة والصيارفة من الهيكل. فلي أسوة به إذا غضبت وأرسلت سوط الكلام إلى ظهور باعتنا وصيارفتنا …
إنك ربما تستغرب كلامي هذا يا أيها الفتى الساذج النقي؛ لأنك لم تعرف شيئًا من فساد العالم، ولم ترَ قبل الآن بلدًا غير الناصرة وطن سيدنا، ولكن فاعلم الآن — ولا استغراب — أن كل الناس يعرفون هذه الحقائق التي ذكرتها لك ولا يجهلونها، وكم من مرة سمعتُ بعضهم يقول على نغم رنين النقود في الكنيسة وباقي المظاهر اليهودية القديمة: إن المسيح لو جاء الآن لما دخل علينا إلا وهو حامل سوطًا. أجل يا بني، إننا كلنا لا نجهل هذه الحقائق، ولكن ما الحيلة؟ فإننا سائرون بالرغم عنا إلى طور الهرم … وهذه سنَّة كونية لا تردها إلا سنَّة مثلها، وفعلها عام على كل المذاهب والأديان في كل زمان ومكان لا علينا وحدنا.
اسمع يا بني لأخبرك خبرًا مهمًّا؛ إنك سمعت ولا شك شيئًا عن العرب، فهذه القبائل البدوية قام فيها رجل همام يدعوها إلى ترك الأصنام، وعبادة الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيتاء الزكاة … وهو النبي العربي الذي شاع خبره، وقد تمكن هذا النبي من التغلب على القبائل المشركة بقوة السيف المؤيدة بقوة الاعتقاد والثقة من أفضلية المبدأ، فجمعها كلها تحت لوائه استعدادًا لغزو العالم وفتحه بها، وقد كنت منذ مدة في تلك البلاد؛ لأننا نحن النساطرة لنا حظوة عند النبي العربي ورجاله، وقد عرف بضعة منا وحادثهم * فلما شاهدتُ النبي وسمعت ما سمعته عنه من الحلم والشجاعة والعدل والرفق والمساواة والعناية بالضعفاء قبل الأقوياء عرفت السر في تأييد العناية الإلهية له في نهوضه، وسررت سرور الطفل؛ لأنني عاصرتُ زمنًا عظيمًا وعصرًا ذهبيًّا. أجل يا بني، إن عصر الأنبياء عصر ذهبي؛ لأن الشرائع التي يضعونها تكون عذراء طاهرة لم توضع عليها يد غير اليد الكريمة التي وضعتها، ولكن لا بد بعد واضعيها أن يأتي المفسرون والمؤولون والرواة والناقلون، وليس ذلك فقط؛ بل إن الطبيعة نفسها تبدأ بفعلها الأبدي. فإن الليل والنهار يتعاقبان، والقرون والأجيال تمر. فالأمم والمذاهب التي تكون أطفالًا في البداءة تشبُّ وتنمو وتتغير أحوالها فلا تعود تكفيها شرائعها الفطرية الأولى — وهذا ما حدث لنا، وسيحدث لغيرنا بعدنا.
ولما كنتُ في بلاد النبي العربي يا بني، وقفت في ذات يوم خارج «المدينة» وكانت خيام جمهور من الحجاج مضروبة في الخلاء، والنبي يتفقد الحجاج ويلاطفهم ويزودهم رضاه، وهم أمامه خشع خضع احترامًا وإكرامًا. فسرَّحت نظري في حالتهم البدوية الجميلة، وأعجبت بالفطرة الإنسانية التي يكون فيها البشر بلا هم ولا حزن غير الاهتمام بمعتقدهم. فتذكرت حينئذ منظرًا آخر. تذكرت سيدنا المسيح وتلامذته حول بحيرة طبريا في حقول الجليل الجميلة يتمشون بين الأزهار وسنابل الحنطة وهم منقطعون عن هموم الدنيا. فأطبقت حينئذ عيني من لذة الذكرى لتتمتع كل حواسي بها، وصرت أقول في نفسي لدى هذين المنظرين: هذه هي فطرة الإنسانية. هذه هي المعيشة الهادئة التي تنطبق على الحياة الروحية. ثم تساءلت: أي أفضل: أن تبقى الإنسانية هكذا طفلة صغيرة تعيش في وسط الطبيعة والنباتات والأزهار والأطيار وهي محافظة على أصول شرائعها الساذجة الأولى، أم تصير أمة عظمى فتبني المدن وتجمع الخيرات والثروات وتحيي الفنون والعلوم وتشيد الدول والممالك وإن تركت تلك الشرائع الساذجة الجميلة؟ وا أسفاه إننا جربنا ورأينا؛ رأينا أن الإنسانية متى خرجت عن طور الفطرة والطفولية صارت رجلًا خشنًا يهتم بمعدته أكثر من نفسه، رأينا أن مبادئ الدين إذا غلبت بعد الانغلاب وصارت سائدة بعد أن كانت مسوَّدة تسلحت بالقوة وعاملت من لم يكن منها كما كانوا يعاملونها لما كانت ضعيفة، ولذلك يا أيتها الفطرة الضعيفة الصغيرة إنما يتحرك قلبي حنينًا إليك، وأفضلك على كل المدنيات الكبيرة والممالك الواسعة؛ لأن هذه إنما هي عبارة عن «كرش» واسع فيه أقذار الهضم مقدمة على كل شيء.
يا بني، عذرًا لتحمسي هذا. فإنني صرفت شيخوختي في التفكير في هذا الموضوع، وقد وصلت إلى آخر العمر، وأنا أعتقد اعتقادًا هدم آمالي كلها، وهذا الاعتقاد هو أننا في الهيئة الاجتماعية الحاضرة لا يمكن الإصلاح بواسطة الدين إلا إذا كانت الإنسانية تعود إلى طفوليتها وفطرتها الأولى، فإن الدنيا قد زحفت وتغيرت، وصار يلزم نبيٌّ جديد للإنسانية الجديدة.
يا صديقي الصغير، لا تستغرب هذا الكلام الذي أقوله لك وأنا كاهن؛ فإنني تعودت أن أقول الحق ولو كان على نفسي وأعز شيء عندي. إن الدين لم يقدر على إصلاح الفساد الاجتماعي الذي وصفته لك في مقدمة الكلام، ولا يزال يباركه منذ مئات سنين بركة لا أحب لك أن تشترك فيها. نعم، إنه يشجب الرذائل والشهوات، ويحتقر المال ويسميه إلهًا مبالغة في إذلاله وتنفير الناس منه لئلا يشركوا بالله، ويوجب المساواة بين جميع طبقات البشر، ويدعو إلى الفضيلة والصدق والرفق والمحبة والتواضع والإخاء، ولكن يا صديقي أي تأثير لهذه الألفاظ في النفوس إذا لم تعمل بها؟ إنها تبقى ألفاظًا فارغة من المعنى كالبندق الفارغ، ويكون أصحابها الذين يقولون بها ولا يعملون بما يقولونه مؤمنين في الظاهر وثنيين في الباطل، وكثيرون منهم يزعمون أنهم معذورون لاقتصارهم على القول دون الفعل. فإنهم يقولون مثلًا: كيف نستطيع القيام بما يفرضه الدين علينا قبل أن تُعد َّ لنا لوازم حياتنا. كيف نكون أمناء مع الفقر والحاجة، وصادقين مع الضغط والظلم، ومحبين صافحين مع الحقد والبغض، وهادئين مطمئنين مع زوابع الحياة التي تعبث بنا من كل جانب. أفلا يجب على الأقل ضمانة معيشتنا اليومية لنا لنتمكن من التزام الحدود وقتل صل الطمع والحيوانية في داخلنا، فلتضمن لنا الهيئة الاجتماعية رزقنا اليومي، وترى بعد ذلك هل يخف الشقاء والفساد في الأرض أم لا.
أجل يا أخي الصغير، إن لهؤلاء البشر حق المساعدة والإسعاف على الهيئة الاجتماعية؛ لأنهم إخواننا في الإنسانية، وهذا دَين لهم علينا، ولا تقل إن الكنيسة والهيئة توصياننا بالإحسان إليهم؛ فإن هذه الكلمة المهينة «الإحسان» يجب أن تُمحى من قاموس البشر، ويحل محلها في هذا الباب كلمة «دَين» لأن جميع البشر يجب أن يكونوا متضامنين متكافلين. إذن فالأقوياء والأصحاء والأغنياء والكبراء مدينون للضعفاء والفقراء والمرضى والعاجزين دَينًا اجتماعيًّا؛ لأن هؤلاء هم عملتهم وأعوانهم في جميع مشروعاتهم، ولولاهم لما استطاع أولئك أن يعملوا شيئًا. فنحن نطلب قوة عادلة تستوفي هذا الدَّين من الأقوياء للضعفاء، وفوق ذلك تضمن لهولاء رزقهم الذي تقدم ذكره؛ لتهدأ زوابع الحياة وعواصفها المهلكة.
الله يعلم ذلك يا بني ولا يعلمه أحد غيره، ولذلك لا أذكر لك ما ذكرته كحقيقة مطلقة؛ بل كرأي لي لك أن تبحث فيه وترى فيه رأيك. فيا ولدي العزيز، كلنا في هذه الأرض عرضة للخطأ وهدف للضلال، وربما أثبت المستقبل بعد مليون سنة مثلًا أو نصف مليون أن هذا القصر العلمي الذي رسمته معك الآن إنما هو قصر في الهواء، وأن الحقيقة الحقيقية هي ما نودي به في حقول الجليل على شواطئ بحيرة طبرية منذ ستمائة سنة من أن المعيشة في الطبيعة بلا هم ولا غم هي المعيشة الإنسانية الحقيقية، وأن البعد عن صل المال وأفاعي الجاه والعالم لهو الخير المطلق، وهذا ما يصبو إليه قلبي كما ذكرتُ لك آنفًا، وإن كان عقلي متعلقًا بذاك. أجل ياصديقي، إن هذه الصورة الجليلية لهي الصورة السماوية التي تقبض على نفسي بمقابض من حديد بالرغم عنها، وكل ما حاولت أن أقول إن ذلك فيَّ من تأثير العادة والتربية ينادي منادي الطبيعة في داخلي هذا النداء الطويل: كلا كلا. هذه هي الطريقة المستقيمة. هذا هو سبيل السعادة الممكنة. اخرجوا اخرجوا إلى الطبيعة يا أبناءها، وعيشوا فيها بعيدين عن مفاسد الثروات والمدنيات. كونوا كطيور السماء وزنابق الحقل لا تهتم بشيء؛ لأنها تجد في الطبيعة كل شيء. اهدموا القصور حيث تعشش الرذائل المختلفة. أخربوا المدن حيث تسود الشرور. مزقوا الكتب وانبذوا العلوم والفنون فإنه يكفينا منها كلها علم النفس الذي يشعر به كل واحد منا، ولا تطمعوا في السعادة والراحة والكمال والإصلاح من طريق الدنيا، فإنها كالماء المالح كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشًا — وعلى هذا يخيَّل لي عند سماعي هذا الصوت الهائل أن العالم الآن خارج عن محوره شاذ عن طريقه فترتعد فرائصي لذلك، وأهم بأن أفر منه إلى البرية لأعيش هادئًا سعيدًا مطمئنًّا، وأعرف من ذلك الصوت السري الخارج من دمي السبب الذي من أجله كان واضعو الشرائع الدينية يحرِّمون على الإنسان التمتع بالدنيا.
فيا صديقي العزيز، هذان طرفان لا اتفاق بينهما إلا في النهاية؛ أحدهما: يمثل أورشليم الجديدة، والآخر يمثل أورشليم القديمة، ونفسي تتردد بينهما متألمة منذ تحرر عقلي، وحصلت على قوة الفكر. فلما سألتني عن رأيي في دخولك إلى أورشليم القديمة أثرتَ الاضطراب في نفسي؛ لأنك ذكَّرتني مصارعاتي الباطنية بيني وبين عقلي. فاضطررتني إلى الجهر بكل ما في ضميري بالرغم عني.
ولقد أطلت عليك الكلام يا بني، ولكن شجعني على ذلك إصغاؤك إلي بكليتك. أما الآن فقد فرغتُ تقريبًا. فلك الخيار بعد كل ما ذكرته لك أن تكون من جنود أورشليم القديمة أو جنود أورشليم الجديدة. إنما بقي عليَّ بعد كل ما ذكرته لك وما رأيته في الصلاة أمس أمام القبر وعلى باب الكنيسة أن أكمل هذه الملاحظات بما يوجب ضميري عليَّ ذكره لفتى مثلك تحدثه نفسه بالانتظام في سلك الخدمة الدينية.
قصة الشيخ الراهب
يا بني، إنك ولا ريب تحب أن تعرف شيئًا من تاريخ حياتي. فإنك ترى أنني شيخ بيضت السنون شعره، ومن كان بسني هذا وهو يعتقد بما بسطته لك آنفًا فإنه يدل بذلك على أنه لقي في زمانه اضطهادًا شديدًا من البشر، وهذا شأن المصائب يا بني، فإنها أعلى المدارس وأسماها؛ لأنها هي التي تشحذ همم النفوس، وتقطعها عن صغائر هذه الدنيا، وتصرفها إلى المعيشة الجدية التي يكون فيها للإنسان غرض شريف عمومي يسعى إليه. ففي السن الذي أنت فيه الآن تقريبًا كنت مثلك يا بني وحيدًا فريدًا في هذه الحياة؛ بل إنك أنت الآن أسعد مني لما كنت في سنك إذ لك أم تضمك وتدفئك تحت جنحي حنانها، وأما أنا فقد كنت بلا أم ولا نسيب ولا صديق، فكأنني خرجت من الأرض أو نُحتُّ من صخورها، ولكن مع انفرادي هذا في الحياة يا بني لم أجبن ولم أشك؛ لأنني أعرف مراحم العناية الإلهية التي لا تترك من يجعل نفسه أهلًا لمساعدتها وحمايتها، ولم أسبَّ البشر الذين تركوني من كل صوب؛ لأن سذاجتي كانت ترى حينئذ أنني لم أعمل بعد عملًا يستحق اهتمامهم والتفاتهم، فإذا أهملت فالذنب لي وحدي لا لهم، ولذلك عزمت على أن أعمل ما يستوجب اهتمامهم بي ويرفعني من وهدتي، ولكنني قلت في نفسي ماذا أعمل؟ هنا كنت في حيرة كحيرتك الآن؛ هل أجعل غرضي الوحيد نفسي فقط فأتاجر وأزرع وأصنع، أم أجعل غرضي في الحياة محبة الناس ونفعهم فأضحي حياتي كلها من أجلهم؟ وا أسفاه يا بني، إنني كنت أجهل يومئذ ما أعلمه الآن من أن للخير أبوابًا عديدة. كنت أجهل أن الذي يُخرج من الأرض قبضة من الحنطة مثلًا أو يصنع للناس آلة يحتاجون إليها، إنما ينفع الناس كما ينفعهم الذي ينقطع إلى إرشادهم وتعليمهم، وهذا ما جعلني أختار الخدمة الروحية؛ فدخلت أحد الأديرة في بلادي، بلاد الكلدان، ونفسي تتلهب شوقًا للعمل ونفع الناس، وكنت قد رأيت ما في الهيئة الاجتماعية من الفساد والظلم؛ لاستئثار فئة من الناس بكل خيرات الأرض وقوى البشر، فعزمت أن أكون سيفًا ذا حدين؛ فكنت أذهب حافيًا مكشوف الرأس بحالة يرثى لها إلى منازل الأغنياء وقصور الكبراء، وهناك مثل يوحنا المعمدان، كنت أقرعهم بسوط التأديب، وآخذ منهم مالًا لإخوانهم الفقراء، وكان الذي يتمنع منهم عن إعطائي أنادي باسمه على السطوح إنه ليس بمسيحي، ولذلك كانوا يعطونني خوفًا ورهبة لا سخاء، وكنت بعد جمع ما أجمعه كل يوم أنطلق إلى الأحراش والطرق وأكواخ المساكين، وهناك أوزعه على مستحقيه، وقلبي في غبطة وسعادة من صنعي هذا.
يا بني، إن من لم يعط شيئًا في زمانه لا يعلم لذة العطاء. نعم، إنني كنت لما آخذ الشيء أتلذذ بأخذه؛ لأنني لا آخذه لنفسي، ولكني كنت أجد أن لذة العطاء أضعاف لذة الأخذ؛ ذلك أن العطاء فعل من أفعال العناية الإلهية لأنها مصدر كل عطاء، فالذي يعطي يكون نائبًا عنها ورسولًا من قبلها، وهذا سبب لذته العظمى، ولذلك لا نجد في الكون كله شيئًا أجف وأثقل من قلوب الذين لم يتعودوا العطاء، ولنشفق على هؤلاء المساكين يا بني؛ لأن العناية الإلهية لم تجدهم أهلًا لأن يكونوا من رسلها، وكنت قد عاهدت نفسي على أن لا أترك الشمس تغيب على قطعة نقود في جيبي، فلما كنت أعود من سياحاتي اليومية في الأحراش والطرق والأكواخ وجيبي فارغ كنت أشعر بلذة الذي قضى واجبه وفرَّغ جيبه ليملأ قلبه، ولكن لما كان يبقى في جيبي ولو فلس واحد كنت أشعر أنه نار يحرقني؛ لأنني كنت أعتبر أنني سرقت ما ليس لي. يا بني، هنا أحد مصادر الفساد ومنابع الشرور، فإن اليوم الذي نرى فيه نحن خدمة الله تعالى أن كل فلس يدخل في يدنا إنما هو ملك للفقير لا ملكنا، ونعطيه إياه بأمانة وشرف بدل جمعه في صناديقنا، فذلك اليوم يوم ملكوت الله المنتظَر في عالمنا هذا؛ لأننا يومئذ نكون من حزب الضعفاء والفقراء لا هم لنا إلا إسعاد شعبنا بدل التزلف للكبراء والأغنياء مشاركة لهم في الأموال التي يستقطرونها من دماء الأمة.
فبعد تركي يا بني مساعدة إخواني الضعفاء والفقراء بجمع المال لهم انفتح أمامي باب آخر، وخيل لي حينئذ أن العناية الإلهية هي التي أغلقت في وجهي ذلك الباب لتفتح لي هذا. فإنني رأيت أن المساعدة التي كنت أقوم بها ليست مساعدة حقيقية؛ لأن المساعدة الحقيقية تقوم بانتشال المحتاج من وهدته وإيجاد عمل دائم له، وأي فائدة في جمع المال لمن ينفقه في يومه، ويبقى بعده محتاجًا ضعيفًا كما كان قبله. فخطر لي أن أبني بناء أرسخ من هذا وأعظم، ولكن إياك يا بني بعد قولي هذا أن تقع في الخطأ العظيم الذي يقع فيه غيرك من اعتبار العطاء مضعفًا لقوى المعطى له ومعوده الكسل والبطالة. لا لا، انبذ هذا القول نبذًا. فإنه إنما هو ستار خشن يُقصد به تغطية أنانية الإنسان وقسوته وبخله، ومن حق الإنسانية الضعيفة أن تطلب من الإنسانية القوية عذرًا للبخل والقسوة غير هذا العذر؛ لأن هذه إذا رامت ترك العطاء لأنه ليس بمساعدة حقيقية لزمها إذن المساعدة الحقيقية. لأن الذي لا يريد إعطاء الغريق خشبة ليبقى عائمًا عليها في البحر بدل أن يغرق يلزمه أن يرسل إليه زورقًا ينتشله وينقذه، وإلا فإذا تركه يغرق دون هذا ولا ذاك لم يكن إنسانًا.
وعلى ذلك حملت معولًا يا بني بدل الفضة والذهب، وسرت إلى الأحراش والطرق والأكواخ، وكان كل من رآني بهذه الحالة يضحك ويظنني راهبًا معتوهًا، ولما شاهدني من بعيد أصحابي الذي ألفوني هرعوا إلي كالعادة؛ فخرج الأطفال من أكواخهم لاستقبالي وهم يتسابقون إلي، وزحف المرضى والشيوخ والعجزة لملاقاتي، وتحرك الفقراء الجالسون في الطرق تحت السياجات ماشين نحوي؛ فصرت حينئذ أبكي لأنني ما كنت أحمل لهم هذه المرة ما اعتدت حمله، ولما وصلوا إليَّ وقفت والدموع في عينيَّ وقلت لهم: يا إخوتي وأبنائي، إن خبث البشر قضى بحرمانكم من مساعدتكم الماضية، ولكن الله أرسلني إليكم بمساعدة جديدة. إن خبز البطالة خبز مالح مر يا أولادي، فهلموا إلى العمل رجالًا ونساء وأولادًا. إن العاجزين والشيوخ يعملون في الأكواخ عمل النساء، والنساء تنزل مع الرجال الأقوياء للعمل في الحقول، والله يبارك ثمرة أتعابنا جميعا؛ لأنه إله الجد والنشاط والعمل.
ومنذ هذا الحين انصببنا على الفلاحة والزراعة؛ فقلعنا الصخور، ومهَّدنا الآكام، وعزقنا الحجارة، وأزلنا الأحراش، وحرثنا الأرض على مسافات بعيدة. فلم يلبث أن قام في وسط مزارعنا قرى صغيرة عديدة يعيش أهلها في وسط الطبيعة وهم يتغذون من نباتات الأرض التي يزرعونها وألبان المواشي التي يربونها، وكانت أمور هذه القرى يدبرها عدة من الشيوخ معي؛ إذ بعثت كل قرية شيخًا من قبلها ينوب عنها وينظر في حاجاتها وتوزيع الأرزاق والبذور عليها، وكان أكثر شغلي وشغلهم مصروفًا إلى زيارة الأكواخ حيث كانت تقيم فيها تلك الإنسانية الصغيرة في أحضان الطبيعة الجميلة تحت حماية الله. يا بني، وكنت أدخل هذه الأكواخ النظيفة المرتبة التي كانت تخرقها الشمس طول النهار فتطهرها من مواد العفن برأس شامخ وسرور في القلب لا على الشفتين فقط؛ ذلك لأنني داخل لأعطي لا لآخذ، ولم يكن عطائي يومئذ فضة ولا ذهبًا؛ بل ما هو أثمن وأجمل من الفضة والذهب. إنني يا بني كنت أعطي إخلاص قلبي وصدق ضميري وصحة اشتراكي. فإذا دخلتُ وكان في الكوخ ولد يبكي أو أم منزعجة لهموم منزلها أو شيخ عاجز مريض يئن من مرضه وعجزه فإنني كنت أبكي لبكائهم، وأتوجع لتوجعهم، وأقول لهم: يا أولادي فلنشكر الله؛ لأن مصائبنا أصغر من مصائب غيرنا، انظروا إلى العالم فيزداد بكاؤكم ولكن لا على أنفسكم بل على أهله. ففي هذه الساعة التي أخاطبكم بها كم من أم وأب وأخت وأخ يبكون وييأسون في العالم؛ إما من ضيق رزقهم أو فقد أعزائهم أو اضطهاد الأشرار لهم أو لأمراض هائلة يقعون فيها لسوء تدبيرهم أو لوراثتهم إياها من أهلهم أو لوقوع الأقدار عليهم. يا أولادي، فلنصلِّ إلى الله من أجل هؤلاء التعساء ولنحمده؛ لأن تعاستنا لا تذكر بإزاء تعاستهم لأنها لم تنشأ إلا عن الضجر وضيق الخلق، ثم إننا كنا يا بني نرفع أيدينا وعيوننا إلى السماء ونصلي «أبانا» فقط. فلا نفرغ منها إلا والأمل قد عاد إلى نفس الشيخ، والأم ضحكت ونسيت انزعاجها وتعبها، والولد صار يضحك ويغرد كأنه هزار في بستان.
يا بني، إنك لا تتصور ما كان من التأثير لهذه التهم الهائلة على أناس سذج فضلاء مثل فلاحينا خصوصا التهمة الثانية والثالثة؛ فقد بقي النساء يبكين أسبوعين من تأثير التهمة الثانية، وقد صلينا مرارًا إلى الله أن يُنير عقول بني عصرنا، وينبذ من صدورهم ذلك الخبث الذي راموا محاربتنا به. أواه يا بني، إن بني عصرنا كانوا أبرياء من ذلك الخبث وإن كانوا شركاء فيه؛ إذ لا ذنب لهم غير تصديق تلك الإشاعات، وإنما كان مصدر الخبث حسد رفاقي ورؤسائي الذين كانوا يغضبون من مشروعي؛ لأنه جعل رعيتهم تطالبهم بمثله، وكثيرون منها هاجروا إلينا، وهكذا أجبرني خبث البشر مرة ثانية على أن أترك ما تعبت ببنائه؛ فصدر إلي أمر رئيسي أن ألزم الدير، وأن أقتصر على الوعظ في الكنائس. فعدت إلى الدير بنفس مسحوقة وظهر مقصوم وقلب متفطر، ويا أيتها السماء يا ظلمات الليل يا كواكب الفلك – أنت وحدك كنت تشهدين على ما قاسيته في ذلك الزمن في لياليَّ المظلمة الطويلة، ولكن الله كان معي يا بني، وهو يكون دائمًا مع جميع الذين يضطهدهم البشر ظلمًا وعدوانًا، ولذلك شعرت بعد مدة بعودة الثقة والأمل والقوة إلى نفسي، وفي ذات ليلة وأنا على سطح الدير أنظر البدر يطلع تمامًا من وراء الجبال البعيدة، وأشاهد بعضًا من رؤسائي ورفاقي يتمازحون ويتضاحكون في حديقة الدير وهم يتغنون بأناشيد روحية استغرقت في بحار التأمل والتفكير، وأخذت أخاطب نفسي قائلًا: لماذا أيتها النفس لا تصنعين صنع هؤلاء؟ لماذا لا تكتفين بغذائهم ومشاغلهم وأحوالهم؟ ما هذه النار الدائمة التي تحرقك فلا تدعك تستريحين أبدًا؟ افرحي وكلي واشربي وانعمي بالرئاسة والكرامة والجاه مثل غيرك. إنني آسف عليك وعلى جهدك. آسف لأنك تتعذبين والأشرار ينعمون. آسف لأنك تسهرين وتقلقين وترزحين والأردياء ينامون ملء الجفون. فخففي عنك وأريحي نفسك. يا بني، ولكنني سمعت تلك النفس التي كنت أتهكم عليها حينئذ بهذا القول كأنها تناديني في هدوء ذلك الليل، وتقول: يا رفيقي الحيوان في باطن هذا الإنسان، ما لك رفعت رأسك وانتبهت بعد طول رقادك؟ إنني كنت أظنك قد مت وقضي عليك. ألا فاعلم الآن أنني لا أصغي إليك أبدًا. نعم، أنت تتحكم في غيري فتجعل همهم الأول في هذه الأرض الأكل والشرب واللذة، أما أنا فقد أسرتك وكبحت جماحك من زمن بعيد، وكن على ثقة من أنني سأخنقك ولو خنقت نفسي. فأنا في هذه الأرض كذلك اليهودي الذي تمنع عن حمل صليب المسيح فبات يتيه في الأرض ويمشي فيها إلى الأبد. نعم نعم، إلى الأبد إلى الأبد أنا أعمل. إلى الأبد إلى الأبد سأخدم بني جنسي. إلى الأبد سأضحي نفسي من أجل غيري، وهذه هي لذتي. تقول: إنني لا أنفع شيئًا، وإن جهدي ذاهب أدراج الرياح بدليل تخريب البشر عملي مرتين، ولكن يا رفيقي الحيوان الجاهل، إنني لا أدع النملة تكون أفضل مني؛ فإنك إذا خربت بيتها مرتين أو عشرات مرات فإنها تعود إلى بنائه بصبر أشد وجلد أقوى، فدعني إذن وشأني. إنني أبذر بذور الحقيقة والفضيلة والعمل ومحبة الله والناس في أرضنا الشرقية الخصيبة، فإذا لم تنبت هذه البذور في حياتي فلا بد أن يأتي بعدي من يعتني بها ويفتقدها، وكن على ثقة من أنه ليس تحت قبة السماء قوة قادرة على منعي من بذرها. لا تقل الاضطهاد والفقر والطعن والشتم والتهمة، فإنني أبارك هذه الأمور وأضحك منها؛ لأنها تزيدني قوة، وتضاعف صبري وشوقي إلى العمل. فهي كالحطب تُلقى على النار المتقدة في باطني فتزيدها اضطرامًا، ولست أخاف إلا من شيء وهو إجبارهم إياي على الخروج عن الحدود التي أريد التزامها.
يا بني، ومنذ تلك الليلة شعرت بقوة جديدة، وكان اليوم التالى يوم أحد، وكثيرون من أهل القرى قدموا إلى كنيسة الدير للصلاة فيها. فصعدت إلى كرسي الوعظ ووعظت عظة موضوعها: «أحبوا أعداءكم باركوا مبغضيكم» ولكن لم ينقض ذلك اليوم حتى صار الدير كله مع ما حوله من القرى في اضطراب شديد بسبب هذه العظة، وتتالت الرسل من الدير وإليه بشأنها.
ولماذا كل هذه الضوضاء يا بني، هل علمت سببها؟ سببها تهمة وفرية أخرى وهي أن الراهب ميخائيل جحد في الكنيسة لاهوت المسيح.
فهذا القول وحده كان كافيًا يا بني لاتهامي بجحود سيدي. فيا لظلم البشر! يا لرغبتهم في اتخاذ المعتقدات الدينية تروسًا يتسترون وراءها لمحاربة من يريدون محاربته! يقولون لاهوت المسيح ويخالفون أشرف ما في اللاهوت وهو فضيلة المحبة. يقولون لاهوت المسيح ويراءون ويفترون. لاهوت المسيح ويبغضون ويشرهون. لاهوت المسيح ويظلمون ويعتدون. لاهوت المسيح ويسبون ويشتمون. فيا أيتها السماء الأورشليمية الصافية التي ظللت «الكلمة» أزمانًا هل يوجد اللاهوت ليتستر وراءه كل صغار الأرض الذين لا يقدرون على الارتفاع إليك بنفوسهم الإلهية، أو الذين يرومون التسلط على الضمائر والعقول بحجة نفعها والغرض نفعهم الخصوصي، وا أسفاه يا بني هذه علتنا الكبرى وآفتنا الهائلة. نحن نتمسك بالألفاظ ونترك المعنى. نطلب القشور ولا نسأل عن اللباب. نقول لاهوت المسيح ولكن لا نعمل بوصايا المسيح التي هي أول شروط لاهوته، وهكذا لا يكون عندنا من المسيحية — وا أسفاه — إلا ظواهرها، ويكون عملنا هذا مشجعًا لكل ذي فكر جامد يكتفي من الدين بالاعتقاد بهذه المادة بشفتيه وقلبه بعيد عنه وعنها بعدًا شديدًا.
يا بني، لقد وصلت بك إلى منتهى عملي. فإن تلك التهمة أجهزت وا أسفاه على قواي؛ لأن أعدائي اغتنموا هذه الفرصة، وطردوني من سلك الرهبانية. فرحت يا بني في الدنيا هائمًا على وجهي أبكي وأنوح؛ لإساءة الناس الظن بي، وإهانتهم لي، وقطعهم رزقي، ومما كان يفتت كبدي فرار أحبائي وأبنائي القدماء مني. فكأنني أصبحت وحشًا ضاريًا لا يقربني أحد، وكان الفقراء والضعفاء الذين كنت أساعدهم من قبل إذا شهدوني قادمًا حادوا عن طريقي واختبئوا مني. يا ولدي وصغيري، إن من لم يقع في زمانه في حالة كحالتي لا يعرف مبلغ الشقاء الذي عانيته، وإن فرائصي كلها لترتعد الآن لمجرد ذكره. ماذا؟ هو ذا رجل باع نفسه من بني جنسه فتنازل عن راحته ووقته وقواه ووقفها كلها عليهم، وصار يخدمهم بعينيه وكل نفسه مشاركًا لهم في السراء والضراء مدبرًا لأقويائهم مساعدًا لضعفائهم مرشدًا لأولادهم معزيًا لمرضاهم، ومع كل ذلك يكون هذا جزاؤه من الله والناس. يا بني، لا أكتمك أن عقلي وايماني قد اضطربا في ذلك الزمن الهائل، فصرت أخشى من النظر إلى السماء لئلا تبدر مني عاطفة أو كلمة تورثني الندم في باقي حياتي. أما البشر فإذا وقع نظري على أحدهم اتفاقًا فإنني كنت أراه وحشًا أسود ضاريًا، ولولا بقية من روح سيدي في نفسي لهجمت عليه وعضضت عنقه لأمتص دماءه انتقامًا من الإنسانية. أواه يا بني صفحًا عن هذه الأفكار الوحشية التي كانت تتردد يومئذ في ذهني، فإنني أؤكد لك أنها لم تصحبني أكثر من أسبوع واحد، فإن الله لم يتخل عني؛ لأنه كما قلت لك يكون دائمًا مع المظلومين المضطهَدين في هذه الحياة، ولذلك أرسل إلي رجلًا أنساني كل مصائبي.
ففي ذلك العام يا بني هاجم إمبراطورنا مملكة الفرس؛ لاستخلاص الصليب المقدس منها، وسحق قوتها لكي لا تعود إلى مهاجمتنا مرة أخرى. فوصل الجيش الإمبراطوري إلى بلادنا الكلدانية ومر بها. ففي ذات يوم وأنا أبكي من ظلم الناس تحت شجرة في الحرش حيث كنت أنام مع حيوانات البر وآكل من البلوط لسد جوعي، وإذا بفارس طلع عليَّ ومعه شرذمة من الجند. فخيل لي أنه قادم بأمر من الحكومة للتفتيش عليَّ. فلما رأيته ثار دمي كله غضبًا على البشر الذين يطاردونني حتى في وسط الأحراش فهجمت عليه كالذئب الكاسر وأنا بحالة الجنون أصيح وأزمجر بلا وعي. فأمر الفارس رجاله بالاحتيال للقبض علي من غير أذيتي؛ لأنه ظنني مجنونًا آوي إلى الأحراش، فتكاثروا عليَّ وقيدوني وأنا أكاد أقتلهم وأقتل نفسي، ولكن بعد برهة أخذ الفارس يلاطفني ويجاملني، وسألني عن خبري؛ فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وأنا أبكي. فما سمع شيئًا منها حتى هجم عليَّ فقطع وثاقي وصافحني وأقبل عليَّ يسألني التتمة، ومنذ هذه الساعة بدأت أصعد من الهاوية التي ألقاني البشر فيها. فإن هذا الفارس كان قائد مائة وهو من هذه المدينة، وقد تطوع في الجيش لمقاتلة الفرس انتقامًا منهم؛ لأنهم حين استيلائهم على القدس وطنه قتلوا ابنه. فأخذني هذا الفارس وقدمني للإمبراطور وقص عليه قصتي، فهز الإمبراطور رأسه وقال: هذا شأن السوريين فإنهم متى حكموا في أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل؛ لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء.
فصحبت يا بني جيشنا في فتوحاته في بلاد الفرس جيراننا، ولم أكن راضيًا عن هذه الحرب، وإن كنا فيها مدافعين لا مهاجمين؛ لأنني أكره الحرب أيًّا كان سببها حتى مع المجوس، ذلك لأن الدم الذي يسيل فيها يا بني هو دم بشري مقدس سواء كان صاحبه مسيحيًّا أو وثنيًّا أبيض أو أسود يونانيًّا أو سوريًّا أو فارسيًّا، فإننا كلنا أخوة في الأرض، ومن الفظاعة أن يقتل الأخ أخاه، إلا أنني لا أكتمك أنني كنت رغمًا عني مسرورًا؛ لفرار كسرى أبرويز من وجه إمبراطورنا من مدينة إلى مدينة حتى من عاصمته فرار العصفور من وجه النسر * ذلك لأنني كنت أعلمه معتديًا؛ لأنه هو الذي كان البادئ بمهاجمتنا، ومهما كان الإنسان ميالًا للسلم والصفح والحلم فإنه يطرب عندما يرى المعتدي مغلوبًا مخذولًا على شرط أن لا يتجاوز الغالب حدود الدفاع، ويجعل نفسه عاديًا ظالمًا.
ولما انتهت الحرب أتى بي ذلك الفارس الكريم إلى هذه المدينة، ووضع بين يديَّ مالًا طائلًا، وابتاع مزرعة وراء هذا الجبل، وقال لي: اصنع فيها ما صنعته في مزارعك القديمة؛ فأعدت في هذه المزرعة يا بني ما كنت أصنعه هناك تحت حماية هذا الشهم، فجمعنا فيها نحو مائة عائلة كبارًا وصغارًا، وصرنا نعيش على زراعة الأرض بأمن وسلام، ولم يكن ينغص عيشي شيء سوى تذكري الشقاء الذي حل بين أحبائي في بلادي بعد سقوطي ورحيلي عنها، ولذلك كنت أرحل في كل سنتين مرة إليها وجيوبي مملوءة لمساعدة أبناء وطني، وأنا الآن أقيم تارة في المزرعة هنا، وطورًا في بلادي مسرورًا بأن الله أوجد لي في آخر عمري عشًّا آوي إليه، وأقدر على صنع الخير فيه بمساعدة إنسان فاضل يستحق أن يسمى إنسانًا، ولقد سكنت نفسي وهدأت بعد ذلك الاضطراب؛ فندمت على أنني أبغضت البشر يومًا وعاديت أعدائي. يا بني، إن القلوب الطيبة يجب أن لا تعرف العداء وأن تتركه للقلوب الرديئة، وعلى القلوب الطيبة أن تصلي دائمًا إلى الله من أجل القلوب الرديئة؛ ليرحمها وينبذ الرداءة منها.
والحق أقول لك يا بني، إنني بعد أن شبتُ وأدبتني المصائب وعاشرت البشر زمنًا طويلًا، علمني الاختبار أن الخير الذي كنت أطلبه متشعب الطرق صعب من عدة وجوه، ولذلك ندمت على إطلاقي لنفسي العنان في مقاومة رؤسائي ورفاقي دون تروٍّ ولا إمعان. نعم، يجب علينا محاربة كل شيء في الأرض لصنع الخير وقتل الشر، ولكن يجب أن لا نتعامى عن المصاعب والعثرات التي في طريق من نحاربهم، وأول هذه المصاعب شراهة نفوسهم التي تطلب كل شيء لها تحت ستار الغيرية. نعم، إن هذا ليس بعذر مقبول، ولكن ما الحيلة بالنفس الصغيرة المقيدة بأهوائها ولا تستطيع الانطلاق منها؟ لا حيلة في إطلاقها يا بني غير الصلاة إلى الله من أجلها ليغسلها وينقبها ويطلقها، وثاني هذه المصاعب: رسوخ بعض المبادئ والآراء والأوهام في نفوس العوام، ولذلك يضطر الرؤساء رغمًا عنهم إلى مداراتها، وإذا لم يداروها لم يعدموا من قومهم ومرءوسيهم من يقوم وينادي بكفرهم لخروجهم في زعمهم عن الشريعة الدينية؛ لأن كل متعصب لرأيه لا يعدم أن يجد في من تحته أو فوقه من هو أكثر تعصبًا منه، لا سيما وأن المصالح والأهواء تتخذ في أكثر الاحيان هذه الأمور ذرائع تدعم نفسها بها. إذن فلنغض الطرف قليلًا يا بني عن تلك المداراة؛ لأن أصحابها قد يكونون معذورين فيها، وإذا لمناهم فليكن لومنا لهم ببشاشة واعتدال وحلم؛ لأن تدبير النفوس وظيفة صعبة لا يعرفها إلا من عاناها، ولو كان بعضهم يسمعني الآن معك لاستصفحت منهم عن الحدة التي ظهرت رغمًا عني في بدء كلامي؛ لأنني كنت متحمسًا لذكري مصائبي الماضية.
يا بني، لا تدع عقلك يضل كما ضل كثيرون من أبناء هذا العصر * لسآمتهم الخلافات الدينية، فإن فوق هذه الخلافات كلها حقيقة يجب أن تكون أساس كل هيئة اجتماعية، وهي أن الحقائق الدينية راسخة في الأرض إلى الأبد؛ لأنها عبارة عن نزوع الإنسان إلى المنزل الأول ومصدره الأعلى، وأي شيء غير الدين يضع أسمى آيات الفلسفة والعلم والأدب في أفواه وقلوب السذج والمساكين. أنت وأنا مثلًا لا نسأل عن أديان البشر؛ لأن في باطننا الديانة المطلقة النقية التي هي ديانة القلب ومحبة الله والناس والتسليم إليه تعالى في كل شيء، ولكن هل يفهم العوام هذه الأمور؟ هذا أمر بعيد، ولكن مع ذلك علينا أن نحذر من جعل هذا الأمر يولِّد داء قاتلًا؛ فإن الظواهر الدينية التي يُزيَّن الدين الحقيقي بها ليصير مفهومًا من العوام لا يجب أن تكون مخنقًا له، والجاني على الدين والإنسانية في الأرض إنما هو ذلك الذي يوجد التضامن والتكافل بين تلك الظواهر، وما تحتها من البواطن الصحيحة، وحينئذ لا يجب أن يلوم أحدًا غير نفسه؛ لأن العقل إذا احترم الحقيقة فهيهات أن يحترم لباسها. خصوصًا إذا كان هذا اللباس مما يمنع وصول نور الحقيقة إلى الناس، ويكون عثرة في سبيل خير الإنسانية واتفاقها وتقدمها.
لقد فرغت الآن يا بني، وآن أن أريحك وأستريح من هذا الكلام الطويل، ولكنني إذا أعدت في ذهني كل ما قلته لك أرى أن كلامي لا يزال ناقصًا أمرًا مهمًّا لا يحسن أن يختتم بدونه، وبعبارة أخرى أقول: إنه ناقص التاج الذي يجب أن يتوج به. أجل يا بني، إن أول وآخر دعامة من دعائم الفلسفة والدين والفضيلة والأدب والحكمة هي هذا التاج البديع وهو «الرفق والمحبة والصفح» للجميع. فديانة الرفق والمحبة: هذه هي الديانة التي سيجتمع عليها البشر في مستقبل الزمان. الرفق والمحبة لجميع مخلوقات الله حتى الحيوانات. الرفق والمحبة لجميع البشر حتى الوثنيين والأردياء والأشرار واللصوص في السجون؛ لأنه إذا كان يجب علينا احتقار ضلالهم وشرورهم فيجب علينا أيضًا محبة الإنسانية فيهم والشفقة عليهم. يا بني، أذكر أن سيدنا غسل ليلة تسليمه للصلب قدمي يهوذا الذي أسلمه مع معرفته أنه عدوه ومسلمه وجاحده. أذكر أنه قال للذين جاءوا إليه بالخاطئة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وبعد هذه الذكرى أخبرني إذا كنت تجد في العالم أحدًا يسمح لك قلبك بإخراجه من ناموس الرفق والمحبة.
فيا ولدي العزيز، ضع هذا الناموس نصب عينيك. احيَ فيه ومن أجله. اجعله القاعدة الكبرى لأعمالك وأفكارك. اعتبر كل تعاليم تخالفه تعاليم باطلة أيًّا كان مصدرها، واعلم أنه ليس في الهيئة الاجتماعية كلها شيء أرقى وأعظم منه، وإذا سلكت طريقه في حياتك كلها أمكنك أن تموت في آخر العمر موتًا هنيئًا هادئًا؛ لأنك تكون قد قمت بواجباتك للإنسانية في هذه الحياة، وعشت إنسانًا كريمًا محبًّا ومحبوبًا.
يا صديقي وأخي الصغير، هذا ما أردت إطلاعك عليه من تاريخ حياتي لعلك تجد فيه فائدة لنفسك. فاختر الآن ما يحلو لك، واعلم أن أبواب مزرعتنا مفتوحة لشاب عامل نشيط مثلك إذا كنت تشرفنا بالانضمام إلينا.
طلوع الشمس
وهنا سكت الراهب الشيخ بعد كلامه الطويل، وكان قد طلع الصباح وفرَّ جيش الظلام، ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكوت الراهب. فوثب الراهب وقال: هلم هلم نشهد طلوع الشمس. تبارك الخالق تبارك الخالق. فنهض الفتى إيليا لنهوض الشيخ وهو مبهوت مذهول، ولكن إيليا بعد نهوضه لا ينظر إلى الشمس بل إلى الفضاء وهو مبهوت جامد النظر كمن لا ينظر إلى شيء، وفي الواقع أنه كان ينظر إلى داخله لا إلى خارجه؛ ذلك لأنه كان ينظر إلى الشمس الأدبية الجديدة التي أطلعها الراهب الشيخ بخطبته هذه في داخل نفسه، وكان يخيل له بعد كل ما سمعه أنه في حلم لا في يقظة، فإن عالمًا جديدًا انفتح أمام عينيه، واتسعت دائرة فكره اتساعًا لا حد له، وفي هذه البرهة بلغ التأثر من الراهب مبلغه لدى منظر قرص الشمس البارز للخليقة يحييها بنوره وحرارته المنعشة. فجثا على الأرض جارًّا الفتى معه أيضًا، وبعد أن سجد وقبل الثرى رفع يديه إلى السماء صائحًا من أعماق قلبه: اللهم شكرًا للنور بعد الظلام. اللهم شكرًا للحرارة بعد البرد. اللهم شكرًا لعنايتك الكاملة الكريمة التي ترسل نعمها وخيراتها إلى الصالحين والأشرار معًا لتعلِّم الإنسان الاقتداء بها. أما الفتى إيليا فقد رفع يديه إلى السماء كما رفعهما الشيخ، واشترك في هذه الصلاة، ولكنه لم يكن حينئذ يصلي شكرًا للشمس الطبيعية التي كان قرصها الجميل أمامه؛ بل كان يصلي شكرًا للشمس التي طلعت في باطنه، وهكذا كان ذلك المنظر في غاية البهاء والجلال. فإنه كان على قمة جبل الزيتون في صبيحة ذلك اليوم شيخ هادئ مطمئن في آخر العمر يشكر الله؛ لأنه يدفئ شيخوخته الباردة بوافر نعمه، وفتى في أول عمره قلقًا مضطربًا يشكر الله؛ لأنه أنار نفسه، وأراه طريقه في أول حياته.
فيا أيها الفكر الحر المطلق الذي يقوده العلم، وتسنده الفضيلة، إنك كالطبيعة العظيمة تخلق نورًا وتُطلع شموسًا.
المزرعة
وكأن المصائب التي وقع فيها الراهب ميخائيل في كهولته قصرت أجله مع قوة بنيته، فبعد بضعة أعوام رزح وعجز عن العمل والمشي، فلما رأى صاحب المزرعة ذلك هز رأسه وقال: قد دنا أجل أخينا ميخائيل. ثم أردف ذلك بقوله: إن هذا الرجل قديس فإنه لم يمت حتى جاءنا بشخص نافع مثله يقوم مقامه. – ثم قصد الرجل إيليا وقال له قارعًا ظهره بيده: تأهب يا بني لخلافة أخينا ميخائيل فإنك ستكون كاهننا دينًا وعلمًا أي مرشد معاولنا ونفوسنا معًا.
وفي الواقع توفي الراهب ميخائيل بعد خمسة أيام فحزنت عليه المزرعة كلها، وكان إيليا تلميذه أشدهم حزنًا وبكاء، وقد اجتمع رأيهم على دفنه في وسط المزرعة بين الحقول والأشجار فأقاموا له هناك قبرًا بسيطًا، وكان إيليا في كل صباح يأتي بشيء من الزهر الطيب الرائحة وينثره عليه باحترام وخشوع، ويُقبل بلاط القبر بدموع، وقد نقش إيليا على قبره أستاذه الراهب الشيخ هذه الكلمات: «السلام على رسول الرفق والخير، وحبيب الله والناس».
وقد فاتنا أن نقول: إن أم إيليا توفيت في ذات العام الذي دخل فيه ابنها إلى المزرعة فدفنت في مقبرتها، ولكن حزن إيليا على الراهب مرشده لم يكن بأخفَّ من حزنه على أمه الحنون.
وبعد وفاة الراهب ميخائيل رفض الشيخ سليمان قطعيًّا إدخال أحد من رجال الدين إلى المزرعة؛ لأنه لم يجد راهبًا فاضلًا كالأخ ميخائيل ليسلمه المزرعة ونفوس أهلها. إلا أن أكثر أهل المزرعة استاءوا من ذلك وخصوصًا النساء، فكان الشيخ سليمان يقول لهم: لكي يكون الكاهن فاضلًا، ويستطيع القيام بواجباته يجب أمران؛ الأول: ضمانة رزقه وحسن معيشته، والثاني: حسن أخلاقه وكمال استعداده النفسي؛ ليتخذ وظيفته سبيلًا لنفع غيره لا نفع نفسه، ولا يفسد السلك الإكليريكي في بلاد إلا بفساد هذين الشرطين. فنحن نقدر على ضمانة الأول ولكن من يضمن لنا الثاني. فلديكم يا أولادي التوراة والإنجيل، ولكم عقول خلقها الله لتعقل فاقرءوا كتبكم في اجتماعاتكم، وطهروا قلوبكم، وأحسنوا صنعكم فالله يقبل منكم هذه العبادة؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يكون كاهن نفسه طبقًا لدعوة الإنجيل، ولكن أهل المزرعة كانوا يسكتونه بهذا الجواب: وما الحيلة بالعماد والإكليل والوفاة.
وفي ذات اليوم ألحوا عليه في ذلك بالتماس ورجاء، فقال الشيخ سليمان في نفسه: لماذا لا نسيم لهم إيليا كاهنًا؛ فإنه جامع للشرطين المتقدمين.
وكان إيليا لا يزال مشتغلًا بخدمة المزرعة بعقله ويده إلا أن همته كانت قد ضعفت كثيرًا. ففي ذات يوم قصده الشيخ سليمان في حرش من الصنوبر في المزرعة، وأخبره بإلحاح أهل المزرعة في شأن الكاهن، وأنه يود لو يقبل هذه الوظيفة. فدهش إيليا أولًا. ثم أجاب بما خلاصته: كانت لي في صباي هذه الأحلام الجميلة. أما الآن فقد تغير فكري. نعم، إنني لا «أطفئ شمعة من الشموع الموقدة، ولا أرفع إكليلًا من الأكاليل» كما علمني أستاذي الراهب ميخائيل، إلا أن نفسي صارت تطلب شيئًا فوق هذا، وهي إذا جثت مع جمهور الجاثين على تراب الخضوع للمواثيق البشرية والعادات الأرضية فإن روحها ترفرف فوق الجموع الجاثية – في أعالي لا تصل هذه الجموع إليها.
فترك الشيخ سليمان إيليا بعد هذا الجواب، ولم يعد يخاطبه بهذا الشأن، ولا بحث فيه مع أنه كان في نزاع دائم مع بعض الكهنة الذين كانوا يرومون الدخول إلى المزرعة رغمًا عنه، وفي جملتهم أخو سكرتير البطريرك الراهب متى.
ولكن ما هذه الأعالي التي ذكرها إيليا في جوابه، وكانت سببًا في رفضه أن يكون كاهنًا للمزرعة؟ هي السم الجديد الذي دخل إلى نفسه بعد خطبة أستاذه الراهب ميخائيل على الجبل، واطلاعه على كتب أرسطو وأفلاطون وبلينيوس، هو الإنسانية الجديدة التي تكونت في باطنه بعد أن رُفع الغطاء عن عينيه في هذه المطالعات المختلفة، وهذا هو السبب في الضعف الذي حدث في نفسه بعد بضعة أعوام من دخوله إلى المزرعة، وانكبابه على هذه المطالعة. فإنه صار أميل إلى الانفراد منه إلى الاجتماع، ولم يعد يلذ له مرافقة الفلاحين في حقولهم ومساعدتهم على حرثها؛ بل كان يلذ له بالأكثر الاستلقاء بكسل على ظهره تحت شجرة والتأمل في الفضاء الذي أمامه، وقلما كان يُرى ضاحكًا في هذا الطور بعد أن كان عصفور المزرعة وابتسامتها. أما صحته فتبعت أفكاره أيضًا. فإنه صار نحيلًا أصفر الوجه قليل الكلام كثير الضجر، فكأن النار التي كانت تتقد في نفسه لمصارعته مع مبدأ الكمال الخيالي والحقيقة المحجبة قد جففت ما كان فيها من ماء القوة والعافية، وهكذا تغير إيليا في بضع سنوات تغيرًا كليًّا.
وكان كثيرًا ما يقول في نفسه وهو سائر بين الحقول وأشجار المزرعة: ما هذه الحياة الباردة والوجود المضجر؟ لماذا خُلق الإنسان في الأرض؟ وما هي الحكمة من خلقه جاهلًا قاصرًا محدود العقل كما هو الآن؟ إنني لما جئت من الناصرة إلى المدينة لأدخل في الخدمة الدينية كنت أسعد مني الآن؛ لأنني كنت قادمًا وأنا معتقد أنني سأقبض بيدي على الحقيقة والراحة والسعادة، ولكن الخطبة على الجبل غيرت فكري. فطلبت بعدها الحقيقة والراحة في العمل والكتب، وها قد مر عليَّ بضع سنوات، وكلما تقدمتُ ازدادت الحقيقة بعدًا عني وازددتُ بعدًا عنها، ولقد صرت أرى كل شيء في الحياة أسود ثقيلًا باردًا. فالبشر بأجسادهم الضخمة الغليظة وعقولهم الجامدة وقلوبهم القاسية وأفواههم وأجوافهم المملوءة أقذارًا مختلفة لا يختلفون كثيرًا عن وحوش البرية، وكل ما في الأرض من مناظر طبيعية وألوان مختلفة وأشكال منتظمة لا يساوي جماله جمال حلم واحد من الأحلام الوهمية. نعم، لا أنكر جمال صنع الخير كما وصفه أستاذي الراهب، ولكن ماذا يقدر شاب ضعيف مثلي في وسط أوقيانوس العالم المضطرب. هو ذا أننا نصنع الخير الآن في هذه المزرعة وكل أهلها آمنون على رزقهم وراحتهم، ولكن ألا يوجد بشر أشقياء تعساء خارج المزرعة؟ لا ريب في ذلك؛ لأن الأرض كلها خارج هذه الدائرة في شقاء وعذاب ونزاع وخصام. فماذا تنفع حياتنا إذا كانت عاجزة عن إبطال كل ذلك، وما قيمة المعيشة التي يتنعم فيها عشرة ويشقى ألوف. حقًّا إن الحياة لا تسوى ما فيها من الهم والعناء والتعب، والسعداء أنفسهم لا يجدون فيها ما يروي غليلهم ويشفي نفوسهم. فالموت خير منها؛ لأنه راحة الراحات.
وهكذا تدرَّج إيليا في دركات الملل واليأس في مدة قصيرة، وصار يرى الخدمة الروحية والعملية عبثًا ولغوًا؛ لأن الفائدة التي تخرج منهما لا تساوي القوة التي تبذل فيهما، ولو كان غيره في مكانه لأفضى به هذا الأمر إلى تنبيه أنانيته، وأدى به إلى الاقتصار بعد ذلك على خدمة مصلحته الخصوصية ما دام لا شيء في الحياة يستحق أن يضحى له شيء من الذات، ولكن من احتقر الحياة والدنيا بنفس كنفس إيليا فإنه يبدأ باحتقار المصلحة الخصوصية قبل المصلحة العمومية.
ولذلك كان الشيخ سليمان كلما شاهد إيليا بحالة التأمل والانقباض بعد نشاطه السابق يقول مع باقي أهل المزرعة: ماذا أصاب صديقنا إيليا.
وا أسفاه إن إيليا كان مريضًا مرضًا روحيًّا. إن إيليا كان ينقصه الزحام والعراك في الحياة؛ لتتنبه همته بالمقاومة، وتشتغل بتنازع البقاء والحركة إلى العلاء بدل الاشتغال في نفسها بنفسها. إن إيليا كان ينقصه الغذاء القلبي الذي يريه محاسن الحياة ويزينها له. كان ينقصه ابتسامات كابتسامات الفتاة اليهودية التي رآها على طريق يافا منذ سنوات، وكانت صورتها تتردد عليه في أحلامه المضطربة.
•••
هذا هو تاريخ حياة إيليا قبل أن عرفناه، وهكذا كانت حالة نفسه لما لقيناه في بيت لحم ليلة أمس. فلنعد الآن إليه بعد مفارقته أرميا وتيوفانا أمام دير العذراء.