عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
وانحدر إيليا من أمام دير العذراء نحو المزرعة، وهو يتفكر بثلاثة أمور: الأول: حصر العرب مدينة القدس، والثاني: سجن أستير في الدير، والثالث: ما وجده من رقة البطريرك وعقله خلافًا لما كان يعتقده.
ولا ريب أن إيليا كان شديد الاهتمام بحصر العرب مدينة القدس، ولكنه كان قد ألف انكسارات قومه أمام جيوشهم، وكعارف للداء الذي كان يودي بالمملكة لم يكن يدهش منه كثيرًا فضلًا عن أن تعدد حروب الفرس قبل ذلك عوَّد الناس اعتبار الحرب أمرًا مألوفًا فيوم معهم ويوم عليهم، ولذلك كان كل اشتغال إيليا بحبيبته أستير المسجونة التي جاءته وهو في ضجر من الحياة لتلقي في نفسه شيئًا من شعاع الأمل والسرور.
ولما وصل إيليا إلى المزرعة هرعت إليه كلابها تهز أذنابها، وكانت المزرعة منبسطة في سفح الجبل بين آكام وسهول على مسافة عدة أميال، وكان فيها الكرمة والتين والزيتون والحبوب والبقول المختلفة، ويظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القاحلة الجافة في النواحي أن صاحب المزرعة قد أتى ضروب المعجزات؛ ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة.
وكان أهل المزرعة في ذلك اليوم في زينة وابتهاج؛ لأنه يوم عيد الميلاد كما تقدم، فحيَّا إيليا الذين وجدهم في طريقه منهم، وعايدهم، ثم دخل.
ولما وقع نظر الشيخ سليمان على وجه إيليا من بعيد صاح به: أهلًا وسهلًا بمعلمنا حاج بيت لحم. إنني أرى في وجهك شيئًا جديدًا.
فأجاب إيليا: نعم يا أبت، فقد وصل العرب إلى المدينة.
فعبس الشيخ سليمان، وقال: كنت أنتظر هذا الأمر بعد فتح دمشق فليكن الله معنا، وإلا ذهبت مملكتنا بسوء تدبير رجالنا، ثم ابتسم الشيخ قليلًا متناسيًا ذلك الحديث المزعج، وقال: إلا أنني لا أظن هذا سبب خفة حركاتك، وبرق عينيك في هذا الصباح، فإنك ذهبت كسولًا فاترًا ضعيفًا حسب عادتك في المدة الأخيرة وعدت نشيطًا فائرًا قويًّا، فأخبرني ماذا جرى لك.
فابتسم إيليا ابتسامة معناها أنت مصيب في ظنك، ثم أخذ يد الشيخ ودخل به إلى منزله، وجلس يقص عليه كل ما جرى له.
وكان الشيخ سليمان في سن الستين تقريبًا بلحية بيضاء منتشرة على صدره الواسع، وجسمه الكبير الظاهر عليه لوائح القوة والصحة يحمل رأسًا كبيرًا فيه عينان كبيرتان كسرت السنون حدتهما، وكان لون وجهه الأسمر الذي لفحه حر الشمس والقوة التي تبدو منه مع شيخوخته في كل حركة من حركاته يدلان على أن هذا الرجل قد عارك الدهر في حياته عراكًا شديدًا.
ولما كان الشيخ يسمع قصة إيليا من حين قبض عليه العامة في بيت لحم إلى مفارقته تيوفانا أمام الدير كان تارة يضحك وطورًا يعبس وآونة يقوم ويقعد، ولما استوفى إيليا قصته بهت الشيخ وبقي مبهوتًا، وكان إيليا يقرأ حينئذ في هيئته وعينيه دلائل التأثر الشديد، ويرى في نظره بروقًا ورعودًا، وبعد برهة وثب الشيخ سليمان، وصار يتمشى بغضب في الغرقة. ثم صاح على حين بغتة: يا ولدي إيليا، لقد أخطأت خطأً عظيمًا.
فدهش إيليا وأجاب: وما ذنبي، فإنني بذلت جهدي لإقناع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة فرفض ذلك؛ لأن الشعب كان يطلب تعميدها.
ثم سكت الشيخ. فقال إيليا بعد أن تأمل قليلًا: ولكن ماذا كنت تريد أن يصنع البطريرك يا أبت؟ فهنا لطم الشيخ الجدار بقبضته لطمة شديدة وصاح: كنت أريد أن يكون رئيس الشعب لا مرءوسه. قائده لا تابعه. فإننا نريد رؤساء يواجهون الشر والفساد وجهًا لوجه بلا خوف ولا رياء، ويضربونه ضربة قاتلة بدل ستره وإخفائه جبنًا وضعفًا. إننا نريد رؤساء يربون الشعب تربية جديدة أساسها العدل والحق والصدق ومكافأة أصحاب الكفاءة الشخصية؛ لكي يتقدم القادرون العادلون الصادقون النافعون، وينزوي العاجزون والمتزلفون، ولا تقل: إن الشعب يسخط ويغضب من الضغط عليه، فإن هذا ليس بضغط؛ بل هو تدريب وتربية، وإذا كان الطفل يغضب من أبويه لتأديبهما إياه في صغره فإنه متى كبر وصار رجلًا عاقلًا يجثو باحترام أمام أبويه شكرًا لهما؛ لأنهما درَّباه على الرجولية ولم يتركاه طفلًا جاهلًا. فلو كنتُ مكان البطريرك لقاومت العامة وفحصت أمر الشيخ والفتاة. فإذا وجدته جاسوسًا عاقبته وأطلقت فتاته، وإذا وجدته بريئًا أطلقتهما معًا انتصارًا للعدالة والحق ولو قامت عليَّ الدنيا كلها؛ إذ بدون هذا لا يتم إصلاح في الأمة.
وكان الشيخ سليمان قد تحمس عند هذا الكلام تحمسًا شديدًا. فسكت هنيهة. ثم صاح ثانية: وهل تظن يا إيليا أنك غير مشترك في الذنب الذي حصل. ألا تعلم أن شاهد الشر شريك فيه إذا لم يبذل جهده لإزالته. فهل صنعت حتى الآن شيئًا لإخراج الفتاة من سجنها حيث تتعذب عذابًا شديدًا. يا أيها الشاب، إن ضميرًا بشريًّا يتألم الآن في دير العذراء؛ لأنهم يضغطون عليه. إن نفسًا بشرية تطلب الآن الموت ولا تجده فرارًا من تغيير معتقدها المجبول بلحمها وعظامها. إن صوتًا يستغيث الآن بالله ولا مغيث له، وأنت من أسباب هذا كله. فضع نفسك يا إيليا مكان هذه النفس؛ افترض أن اليهود سجنوك في هيكل لهم ليجبروك على جحود دينك ومسيحك، ويعلموك أن مبادئ المشنا والتلمود والتوراة أسمى من مبادئ الإنجيل؛ لأنها مصدره، ويُكرهوك على ترك المبدأ السامي الذي تتمسك وتحيا به نفسك. فماذا كنت تصنع؟ أما كنت تقتل نفسك أو تقتل سجانك إذا لم تجد في وجهك غير هذا الوجه؟ وإذا سمعت أن أحدًا هجم على الهيكل لإنقاذك ألا تراه عادلًا ذا حق بذلك، بل من واجباته ذلك؛ لأنه يرفع الاضطهاد عن ضمير بشري.
وكان الشيخ يتكلم وإيليا ينتفض من التأثر. فلما أتى الشيخ على كلامه ضاق الشاب ذرعًا، وكاد يخنقه غيظه وانفعاله، فوثب وخرج من الغرفة كالسهم المارق. ثم اتجه نحو باب المزرعة، وخرج منه عائدًا إلى جبل الزيتون، وهو شارد الفكر لا يعي على شيء، ويظهر أن ضميره انتبه بعد كلام الشيخ انتباهًا شديدًا، ولذلك كان يعض أصابعه وهو سائر في طريقه ندمًا على أنه لم يأخذ على البطريرك عهدًا أن يوصي الراهبات بأن لا يتعرضن لمعتقد الفتاة.
وهكذا بقي إيليا في ذلك النهار يتيه في جبل الزيتون من مكان إلى مكان حائمًا حول الدير ومستنقطًا نوافذه وجدرانه طالبًا أرميا؛ ليسأله ماذا صنع؟ متسائلًا ماذا يصنع؟ ولما خيم الظلام اشتد وخز ضميره وجزعه لعناء حبيبته وخيل له أنه يسمع بكاءها وصوتها يستغيث على ما ذكرته له تيوفانا. فجلس الشاب في الظلام والبرد الشديد على أكمة تجاه الدير، ولبث هناك شاخصًا في نوافذه المشرفة على الحديقة، ولكنه قبيل منتصف الليل بعد التفكير طويلًا نهض على حين بغتة، وتسلل نحو الدير، فتسلق جدار الحديقة، وهبط إلى الداخل، ونفسه في أشد حالات الاضطراب والانفعال.