مقدمة
البشر في الحاضر
ما زالت الاتجاهات السكانية التاريخية الكبرى التي أوصلتنا إلى وضعنا الحاليِّ تُؤثر فينا حاليًّا، وبذلك فهي تُشكِّل حاضرنا ومستقبلنا بقدر ما شكَّلت ماضينا. فالاستعمار الأوروبي وهيمنته على العالم، التي بدت راسخةً جدًّا في نهاية القرن التاسع عشر، ما كانا ليتحقَّقا لولا الانفجار السكاني الذي حدث في القارة وما ترتب عليه من هجرة جماعية إلى خارج حدودها. وما كانت الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي ليُصبحا قوتين عُظميين في القرن العشرين لو لم يشهد تعداد سكانهما طفرةً هائلةً جعلته أكبر بكثير من سكان الدول الأوروبية المنافسة لهما. وكذلك ما كانت الصين لتستطيع منافسة أمريكا على الهيمنة العالمية بدون تعداد سكانٍ يَبلُغ مئات الملايين. ولا كانت الهند لتُعَد قوةً قادمةً لو لم يكن تعداد سكانها أكبر بكثير من المليار.
وكما شكَّل العامل السكاني ماضينا، فإنه يُشَكل مُستقبلنا أيضًا. صحيح أنَّ العوامل السكانية لا تُقرر المصير، لكنها مؤثرة وسريعة التغير. فأوروبا، التي شهدت في الماضي نزوحًا كبيرًا إلى خارج أراضيها، صارت تشهد الآن هجرة جماعية إليها. وحيثُ كان مُعظم السكان في الماضي شبابًا، صاروا الآن شائخين. وبعض البلدان كإيطاليا مثلًا، التي كانت مشهورة في السابق بكثرة الإنجاب، صار عدد الأطفال فيها أقل بكثير. أمَّا بعض البلدان الأخرى، التي كان ثلث الأطفال فيها لا يعيشون حتى عامهم الأول، فصارت مُعدلات وفيات الرضع فيها لا تتجاوز حالتَين في كل ألف. وحيثُ كان الناس في الماضي لا يحظَون إلا بقدرٍ ضئيل من التعليم الرسمي، إن وُجِد أصلًا، تضاءلت نسبة الأمية، وحيث كان الناس في الماضي يُعانون المجاعات، أصبحوا مصابين بالسمنة. وهكذا فإنَّ البشر اليوم مختلفون جذريًّا عن البشر في الأمس، والبشر في الغد سيكونون مختلفين عنَّا أيضًا.
ويرى مُعظمنا أنَّ تأثير العوامل السكانية على مستقبلنا ليس واضحًا إطلاقًا. لكن المسألة تصير أوضح إذا قَسَّمنا التاريخ الديموغرافي إلى ثلاث مراحل: ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة، وفهمنا أنَّ عملية التغير الديموغرافي متشابهة في كل مكان، مع أنَّ نقطة بداية التغيير ووتيرته قد تختلفان من مكان إلى آخر. فالمجتمعات المحلية والبلدان وحتى القارات تمرُّ بمراحل مختلفة في رحلتها وتتقدم بسرعات مختلفة، لكنها كلها تمضي على المسار نفسه.
ما قبل الحداثة
على مدار أغلب التاريخ، كنا تحت رحمة الطبيعة فيما يخص الحياة والموت. فالرغبة الجنسية الغريزية حتَّمت حدوث جماع جنسي بين الرجال والنساء؛ وبالرغم من عدم وجود وسائل موثوقة لمنع الحمل آنذاك، جُرِّبت محاولات منذ العصور القديمة لفصل ممارسة الجنس عن الحمل، وبعضها كان أكثر فاعلية من غيره. ففي بعض الأماكن، كان قتل الرُّضَّع شائعًا. وكانوا أحيانًا يتخلصون من الأطفال غير المرغوب فيهم بهجرهم أو تقليص عددهم بإخضاعهم لاختبارات قاسية كما في إسبرطة القديمة. ومن الوسائل الأخرى أنَّ بعض الأمهات كُنَّ يُطِلن فترة إرضاع الطفل الأصغر وبذلك يُعزِّزن فرص تأخير الطفل التالي، فيما كان البعض يضبط توقيت ممارسة الجنس ليتزامن مع أوقات الدورة الشهرية، وهذا أيضًا كان له تأثيرٌ ما. وفي بعض الثقافات، كأوروبا الكاثوليكية في العصور الوسطى، خرجت أعداد كبيرة من الناس من المجموعة الإنجابية، على الأقل من حيث المبدأ، وذلك بفعلِ تأسيس ثقافة التبتُّل الكهنوتي، وأديرة الرهبان والراهبات.
وهكذا فإنَّ عملية الإنجاب إمَّا كانت تُترك بلا ضوابطَ تنظيمية، أو تُكبَح بطرق بدائية لا يُعتَمَد عليها أو في بعض الأحيان باتِّباع ممارسات اجتماعية معيَّنة كتأخير الزواج مثلًا، بينما كان الموت يرتع بمنتهى الحرية بين السكان، خصوصًا بين أصغرهم. فاحتمال بلوغ السنة الحادية والثمانين بعد الوصول إلى عمر الثمانين كان آنَذاك أكبر من احتمال وصول طفل حديث الولادة إلى عمر سنة. هكذا، تقريبًا، كان حال البشر في التاريخ الديموغرافي ما قبل الحديث.
الحداثة
ولكن لم يُحدِث أيٌّ من هذه التغييرات تأثيرًا جذريًّا في نظام السكان القائم منذ ما قبل العصر الحديث. وفوق ذلك، كان تداوُل المعادن الثمينة هو ما يُحدد صاحب القوة الشرائية، فيما أحدثت المحاصيل الجديدة، وخاصةً البطاطس، تحوُّلًا تدريجيًّا في الحياة في أجزاء معيَّنة من أوروبا، وذلك بإتاحة مصدر رخيص للكربوهيدرات. لكنَّ التغيير الفارق في السكان بدأ بعدئذٍ بثلاثمائة سنة في ركنٍ صغير من أوروبا.
فبعد هذه البداية البريطانية، حَذَت بلدان أخرى الحذو نفسه، داخل أوروبا أولًا ثم خارجها. وتزامنًا مع بدء المرحلة الأولى من ذلك التحوُّل في أماكن أخرى، بدأت المرحلة التالية منه في بريطانيا. إذ تراجعت معدَّلات المواليد إيذانًا بنهاية عصر التوسُّع السكاني. ففي القرن العشرين، كان بعض السكان يختارون الاكتفاء بأطفال أقل، وأقصد هنا السكان الأفضل تعليمًا الذين كان معدَّل وفيات الأطفال لديهم أقل ويستطيعون الحصول على وسائل مُتطوِّرة لمنع الحمل بأسعار معقولة؛ وهكذا، فإبَّان الفترة التي توسطت الحربَين العالميتَين، أصبحت الأُسَر التي تتألف من طفلين فقط هي الأكثر شيوعًا في مُعظم أوروبا وأمريكا الشمالية. وبذلك بدا أنَّ التحول الديموغرافي قد اكتمل؛ إذ كان تحولًا من خصوبة عالية ووفيات كثيرة في عدد قليل من السكان إلى خصوبة مُنخفضة ووفيات قليلة في عدد كبير من السكان. ثم حدثت طفرة غير مُتوقَّعة في عدد المواليد بعد الحرب العالمية الثانية في أمريكا الشمالية وأجزاء من أوروبا، ولكن بحلول أواخر الستينيات، كانت تلك الطفرة تقترب من نهايتها مع تراجُع معدلات الخصوبة إلى مستوى «الإحلال»، الذي بلغ أكثر بقليل من طفلين لكل امرأة، ثم انخفاضها عنه بعدئذٍ.
وكما بدأت المراحل الأولى من التحوُّل في أوروبا وأمريكا الشمالية أولًا قبل أن تنتقل إلى بقية أنحاء العالم، تكرَّر ذلك في المراحل اللاحقة. وقد كانت اليابان أول دولة ذات سكان غير أوروبيِّين تنتقل من مرحلة التحول الصناعي والتحضر إلى مرحلة انخفاض معدلات الوفيات، والنمو السكاني، وانخفاض معدلات المواليد، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، وبعدها أصبح التحوُّل الديموغرافي ظاهرةً عالميةً بالفعل.
وقد أُدينت هذه العملية ووُصِفَت بأنها محاولةٌ أوروبيةُ التوجهِ لفرض تفضيلات معيَّنة على بقية العالم، كتحديد النسل والتدخُّل الطبي في الولادة وإطالة العمر بأحدث الوسائل التكنولوجية. ولكن إذا افترضنا أن الغرب هو مَن فرض أنظمة الحداثة، فإنَّ مستقبليها قد تقبلوها بكل سرور. فأنا شخصيًّا سعيد بأننا، أنا وزوجتي، قد حظينا بحُرية في تحديد عدد أطفالنا وأننا يُمكن أن نعيش حتى نبلغ سن الثمانين أو نتجاوَزه، وسعيد لأنَّ الآخرين أيضًا يحظون بمثل هذه الحرية والأعمار الطويلة. ولكن، حتى لو تحسرتُ على فقدان النظام الديموغرافي الذي كان موجودًا قبل الحداثة، فإن قافلة العالم ستُواصل سيرها على أي حال بصرف النظر عن تفضيلاتي.
وما زالت بعض الدول لم تكد تبدأ رحلة التحديث الديموغرافي بعد. فمُعظم مناطق أفريقيا لم تشهد انخفاضًا كبيرًا في معدلات وفياتها إلا في العقود الأخيرة، في حين أن مُعدَّلات الخصوبة في العديد من الدول الأفريقية ما زالت تبلغ نحو ستة أطفال لكل امرأة؛ أي إنها تُقارب المعدلات التي كنا سنجدها في عصر ما قبل الحداثة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الوضع الديموغرافي قبل الحداثة كان «حالةً» من التكاثر الهائل والموت السريع، أمَّا الحداثة الديموغرافية، فهي «عملية» مُستمرة، أو رحلة نحو تحديد النسل وإطالة العمر. وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقدُّم الاقتصادي والتقني والتعليمي، ونهضة الصناعة، وتطور منظومة النقل، وانتشار القراءة والكتابة والتعليم. وما زال مُعظم العالم يمر بهذه المراحل، ولكن يبقى السؤال في الأماكن التي انتهت فيها تلك العملية: ماذا بعد؟
بعد الحداثة
ولكن إذا ألقيت نظرة مُتعمقة قليلًا، ستجد شيئًا مُستترًا وليس حتميًّا بالضرورة. فليس الجميع يُقرِّر إنجاب عدد أقل من الأطفال، بل يختار البعض إنجاب مزيد من الأطفال. وليست كل الأماكن ترحب باستقبال مُهاجرين من ثقافات مختلفة؛ فبعض الدول تُحاول فرض قيود على دخولهم حدودها، في حين أنَّ بعض الدول الأخرى لم تتقبَّل مُطلقًا الفكرة من الأصل. وكذلك فمُتوسط العمر المتوقع بدأ يتوقَّف عن الزيادة أخيرًا في بعض الأماكن، بل وبدأ ينخفض أيضًا. وقد شهدت بعض المدن الكبرى تدفق سكانها إلى خارجها، وربما يستمرُّ ذلك بوتيرة متسارعة في أعقاب جائحة كوفيد-١٩.
نحو بشر المستقبل
أهدف في هذا الكتاب إلى تفسير حالة البشر الحالية بناء على التغيرات السكانية، مع تسليط الضوء أيضًا على حالة حياة البشر في المستقبل. وسأعرض عشرة أرقام يسرد كلٌّ منها قصة مهمة عن موضوع أكبر مُتعلق بأحد الاتجاهات السكانية السائدة في مختلف أنحاء العالم: وهي انخفاض معدلات وفيات الرضع، والنمو السكاني، والتحضر، وانخفاض معدلات الخصوبة، وارتفاع متوسط أعمار السكان، وزيادة عدد المسنين، وانخفاض عدد السكان، والتغير العرقي، وارتفاع مستويات التعليم وزيادة توافر الغذاء. وهذه الاتجاهات ليست ظواهر مُنفصلة، بل مُترابطة معًا ضمن سلسلة سببية. فانخفاض وفيات الرضع يُؤدي إلى زيادة في النمو السكاني، الذي يسفر بدوره عن التحضر. ويتبنَّى سكان الحَضَر فكرة إنجاب أطفال أقل، فترتفع نسبة المسنين بين السكان وينخفض عددهم الإجمالي في النهاية، ما يستدعي الهجرة ويُسبب حدوث تغيرات عرقية. وفي أثناء تلك التغيُّرات، تسري المنظومة كلها بسلاسة بفضل تعزيز فرص التعليم وزيادة توافر الغذاء.
وعند النظر إلى هذه التغيرات معًا، تبرز فكرة رئيسية واحدة عن البقية: وهي أنَّ الانتقال مما قبل الحداثة إلى ما بعد الحداثة يُمثِّل، في إطار السياق السكاني، خطوةً نحو التمتُّع بمزيد من الحرية والتحكم في أهم عناصر حياتنا؛ كالأماكن التي نعيش فيها وظروف حياتنا وموتنا نحن وعائلاتنا. ومع أن القصص والبيانات الواردة في هذا الكتاب تشير إلى كيفية تغير الأوضاع، فإن المستقبل سيتشكل في النهاية بالقرارات التي يتخذها مليارات الأفراد بخصوص أهم الأشياء وأكثرها خصوصية في حياتهم.
في كتابي الأخير، «المد البشري»، اقترحتُ أن المستقبل سيكتسي بثلاثة ألوان؛ حيث قلت إنه سيصير أكثر اخضرارًا (في ظل إمكانية التعافي البيئي مع تباطؤ النمو السكاني)، وأكثر رمادية (لزيادة نسبة الشيخوخة) وأقل ابيضاضًا (بسبب تأثير التغيُّر العرقي). وهذه التحولات جزء من الانتقال إلى ديموغرافيا ما بعد الحداثة. فتقلُّص أعداد السكان وإمكانية الحصول على الغذاء بطرق أكفأ وموارد أقل يعني أن المستقبل سيكون «أكثر اخضرارًا»؛ والارتفاع العام لمتوسِّط الأعمار بين السكان واحتمالية وصول نسبة الشيخوخة إلى مُستويات قصوى في معظم أنحاء العالم يعني أنه سيكون «أكثر رمادية»؛ في حين أنَّ الطفرة الهائلة في عدد السكان الأفارقة مع انخفاض عدد السكان ذوي الأصل الأوروبي تعني أنه سيكون «أقل ابيضاضًا».
ملحوظة عن المصطلحات والبيانات
من المفيد للقارئ أن يستوعب بعض المصطلحات الأساسية وهو يقرأ هذا الكتاب. يُعرَف «معدل المواليد» بأنه مقياس لعدد المواليد الجدد سنويًّا نسبةً إلى تعداد السكان. فإذا كان إجمالي تعداد السكان ١٠ ملايين نسمة مثلًا ووُلد ٢٠٠ ألف طفل في سنة معيَّنة، فإن معدل المواليد في تلك السنة سيكون اثنين في المائة أو ٢٠ لكل ١٠٠٠. أما «معدل الخصوبة» (الذي يُسمَّى أحيانًا بمعدل الخصوبة الكلي) فهو ينظر إلى عدد الأطفال الذين أنجبتهم كل امرأة خصبة في فترة معيَّنة ويحسب متوسط عدد الأطفال الذين ستُنجبهم المرأة إذا ظل هذا المعدل الإنجابي ثابتًا بقية حياتها. فإذا افترضنا مثلًا أن مليون امرأة تتراوح أعمارهن بين الخامسة عشرة والأربعين أنجبن ١٠٠ ألف طفل في سنة معينة، فإن معدَّل إنجابهن يبلغ عُشر طفل لكل امرأة سنويًّا في المتوسط؛ وإذا افترضنا أن الخصوبة تستمر ٢٥ عامًا، فإن متوسط عدد الأطفال الذين ستنجبهم المرأة الواحدة في تلك الفترة يبلغ طفلين ونصف.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه عندما يتحدَّث دارِسو الديموغرافيا عن الخصوبة، فإنهم يقصدون عدد الأطفال الذين يُنجَبون «بالفعل» وليس الأطفال الذين «يُمكن» إنجابهم. فربما لا تنجب المرأة أطفالًا لوجود خللٍ صحي في خصوبتها هي أو زوجها، أو لأسباب مُتنوِّعة أخرى. فإذا لم يكن لدى المرأة أطفال، فسيقول دارسو الديموغرافية إن معدَّل خصوبتها صفر، حتى لو كانت قادرة على إنجاب عددٍ كبير من الأطفال.
فيما يُمثل «العمر الوسيط» مقياسًا لعمر الناس في مجتمع معين عند وقتٍ مُعين. فإذا رتبت السكان كلهم حسب أعمارهم على خطٍّ ما، واضعًا العمر الأصغر عند أحد طرفَي الخط والعمر الأكبر عند الطرف الآخر، فإن العمر الوسيط سيكون هو عمر الشخص الموجود في الوسط، والواقع بالضبط عند مُنتصَف المسافة بين الشخص الأكبر والأصغر على الخط.
وكما أنَّ بيانات الماضي والحاضر يمكن أن تكون غير واضحة، فإن البيانات المتعلِّقة بالمستقبل أيضًا غير مؤكدة. ولكن بالرغم من عدم وجود كرات بلورية سحرية للاطلاع على المستقبل، يستطيع دارسو الديموغرافيا التنبُّؤ ببعض المسائل بثقة تامة. فما لم تقع كارثة هائلة، نعرف عدد الإيطاليين الذين سيكونون في سنِّ الثلاثين في عام ٢٠٥٠، ويُمكننا أن نؤكد بقدرٍ مقبول من اليقين أن أعمار سكان جنوب أفريقيا بعد ثلاثة عقود لن تكون أقصر مما هي عليه الآن. لكن إحدى الأفكار الرئيسية التي يطرحها هذا الكتاب أن لا شيء حتميٌّ؛ فالأوضاع المستقبلية ستَعتمِد اعتمادًا مُتزايدًا على الاختيارات التي يتخذها الناس. صحيح أننا كنا في الماضي نستطيع أن نتنبأ بالكثير بِناءً على الظروف المادية التي كان يعيش فيها الناس، فيما كان خبراء الاقتصاد يستطيعون التنبُّؤ بالتغيرات التي ستطرأ على تلك الظروف. ولكن في ظل ازدياد تأثُّر التركيبة الديموغرافية بالتفضيلات الثقافية والشخصية بدلًا من العوامل الاقتصادية، سيُصبِح التنبؤ أصعب.
عندما تُشَد الرحال إلى وجهة بعيدة، من الممكن أن تُشَق طريق جديد قبل أن تصل إلى هناك أو ربما تنهار طريق قديمة بفعل زلزال ما. ولكن حتى إن اتَّضح لاحقًا أن بعض أجزاء خريطة رحلتك غير واضحة أو ناقصة أو خاطئة تمامًا، فإن المنطق يُحتم عليك في كل الأحوال أن تحرص على اقتناء أفضل خريطة مُتاحة قبل الانطلاق إلى وجهتك. وهكذا فإنَّ هذا الكتاب، بشرحه لكيفيةِ تأثير السكان على حاضرنا، مع تحديد الاتجاهات الديموغرافية الرئيسية وتداعياتها على السياسة والاقتصاد والمجتمع، يُقدِّم خريطة للمستقبل.