خاتمة

البشر في المستقبل

بدأت ملامح مستقبل البشر تظهر أمام أعيننا. فأعدادهم الإجمالية سوف تشهد زيادة هائلة في ظل إطالة العمر المتوقع وتأخُّر الوفاة، خصوصًا بين الصغار، لكن وتيرة الزيادة سوف تتباطأ لأنهم سيكتفون بعددٍ أقل من الأطفال. وكذلك فإنهم سوف يصبحون أكثر تحضرًا وستتزايد نسبة كبار السن بينهم، ويصيرون أفضل تعليمًا وتغذية.

ولكن كما رأينا، فالوضع ليس موحدًا على الإطلاق، لأنَّ بعض أجزاء العالم ما زالت تمر بمرحلة الانتقال إلى الحداثة الديموغرافية. ففي حين أنَّ العديد من الدول في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قد شهدت بالفعل انخفاض معدلات الوفيات بين الرضع وازدياد متوسط العمر المتوقع، يمكننا أن نجزِم بأنَّ تلك المعدلات ستُواصل الانخفاض إلى مستويات أدنى، وبأنَّ هذا المتوسط سيواصل الارتفاع إلى مستويات أعلى. وفي الوقت نفسه، سيستمر انخفاض معدلات الخصوبة في جميع أنحاء أفريقيا.

وهكذا فإنَّ المستقبل الديموغرافي في أفريقيا، وبعض الدول الأخرى خارجها مثل أفغانستان وتيمور الشرقية، يتمحور حول اللحاق بركبِ بقية العالم، في ظل ازدياد عدد سكانها وارتفاع نسبة كبار السن بينهم. ومن المتوقَّع أنَّ البشر الذين يقبعون حاليًّا في الدرجة الأدنى من السُّلم العالمي سيُصبحون أفضل تعليمًا وتغذية. صحيح أنَّ مثل هذه المناطق الأقل ازدهارًا ستبقى بعيدة عن الوصول إلى النموذج الدنماركي الذي يتسم بالاستقرار والازدهار والنضج الديموغرافي، لكنها تتقدم نحوه بمنتهى السرعة. ومن المرجَّح جدًّا أن يستمر هذا التقدم، لكنه قد يصطدم بأربعة أنواع من الكوارث: الكوارث البيئية والحروب والأوبئة والانهيارات الاقتصادية. لنلقِ الآن نظرة سريعة على كل نوعٍ من هذه الأنواع.

ولنستهلَّ كلامنا بالحديث عن ظاهرة الاحترار العالمي؛ صحيح أن هذا ليس كتابًا عنها، لكن ظلالها تُخيم حتمًا على أي حديث عن المستقبل. فارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة وارتفاع درجات الحرارة وارتفاع مستويات سطح البحر قد يؤدي إلى تلف المحاصيل وفيضان من اللاجئين الذين سيهجرون أوطانهم بسبب تغير المناخ، وهذا سيقلب الافتراضات المطروحة في هذا الكتاب رأسًا على عقب. وحتى لو لم تحدث مثل هذه السيناريوهات المُنذرة بنهاية العالم، فقد نشهد زيادة التلوث وتضاؤل الحياة البرية ودمار الحياة في معظم مناطق كوكبنا. لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بأن هذه الأشياء ستحدُث بالفعل، بل إنَّ بعض العلماء يرون أن وضعنا ليس سيئًا كما يتصوَّر المتشائمون.1 فالكثير من ممارساتنا الحياتية صارت تستلزم انبعاثات أقل من ذي قبل: فالمرء أصبح في إمكانه التواصُل مع أحبائه أو زملائه بمكالمة صوتية أو مكالمة بالصوت والصورة، وبذلك يمكنه أن يستغني عن الذهاب إليهم خصوصًا ويستهلك طاقة أقل؛ وفي الوقت نفسه، تستهلك مصابيح (إل إي دي) الحديثة قدرًا ضئيلًا من الطاقة مقارنةً بالمصابيح القديمة. وهكذا فإن التنمية يُمكن في نهاية المطاف أن تكون متوافقة مع جهود حماية البيئة، بل ومُكمِّلة لها.
ومع ازدياد عدد سكان العالم وارتفاع نسبة المتعلِّمين بينهم، يجري الآن ابتكار اختراعات متنوعة ستنفع الكوكب. فتقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح واستخلاص الكربون يمكن أن تحل مشكلة الانبعاثات، وفوق ذلك فالطرق الجديدة لإنتاج الغذاء قد تُخلصنا من المشكلات الزراعية الناجمة عن تغيُّر المناخ. خلاصة القول أنَّ الاحترار العالمي يستحيل أن يؤدي إلى انقراض البشر الجماعي الذي يحذِّر منه بعض الناشطين. بل إنَّ عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الكوارث الطبيعية ينخفض باستمرارٍ منذ عقود، علمًا بأن المعدل الحالي لهذه الوفيات لا يكاد يتجاوَز حالة من كل ألف.2 وبعيدًا عن أي شيء آخر، فكلما ازداد ثراء البشر، يُصبحون أقدر على حماية أنفسهم من الكوارث. وصحيح أنَّ النمو السكاني سيواصل تشكيل عبء على البيئة، لكن هذا النمو يتباطأ كل عام، بالإضافة إلى أننا بدأنا نستعيد طبيعة البيئة من الأضرار التي ألحقناها بها من قبل.
وعلى غرار الكوارث البيئية، يبدو من المستبعَد أن تُحدِث الحرب تأثيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا في المستقبل. صحيح أن الحرب العالمية الثالثة يمكن أن تندلع في أي لحظة وتقضي على أعدادٍ مهولة من البشر، لكن الأرقام الواردة في السجلات واضحة بما لا يدع مجالًا للشك. فنسبة الأشخاص الذين يموتون في المعارك تنخفض عمومًا، وهي الآن تساوي جزءًا ضئيلًا ممَّا كانت عليه في أواخر الستينيات.3 صحيح أن مقتل ٣٥٠ ألف شخص على الأقل خلال الحرب السورية التي استمرت عقدًا كاملًا كان مأساةً بالطبع، لكن هذا العدد لا يكاد يساوي حجم الزيادة السكانية التي كانت البلاد تشهدها في العام الواحد قبل اندلاع الحرب.4 والشيء الأهم على الصعيد الديموغرافي هو أنَّ عشرة أمثال هذا العدد قد غادروا البلاد؛5 وهذا يُمثِّل خسارة لسوريا، لكن الملايين من المواطنين السوريين يعيشون الآن في الأردن وتركيا ولبنان أو في مناطق أبعد. وعلاوةً على ذلك، فعدد الوفيات التي شهدتها سوريا على مدار عقدٍ كاملٍ من الزمن ما زال ضئيلًا جدًّا مقارنة بأولئك الذين لقوا حتفهم خلال ثلاث سنوات فقط من الحرب في كوريا، على سبيل المثال.6 وأخيرًا، فمع ازدياد نسبة كبار السن بين سكان العالم، من المتوقع أن تُصبح الحروب أقل شيوعًا.
كتبتُ جزءًا كبيرًا من هذا الكتاب في أثناء أوقات الإغلاق والعزلة التي فرضتها جائحة فيروس كورونا. إذ أسفر مرض كوفيد-١٩ عن خللٍ كبيرٍ في الاقتصاد، وقد يؤدي إلى تسريع رحيل السكان عن المدن في دول العالم المتقدم. وفي وقت كتابة هذا الكتاب، أشارت تقديرات إلى أنَّ عدد الوفيات الزائدة بسبب الجائحة تجاوز ١٦ مليون شخص.7 هذا وقد تُوفي نحو ٤٠ مليون شخص بسبب الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الزمان، في وقتٍ كان فيه عدد سكان العالم أقل من ثُلثِ عددهم الحالي.8 وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حصيلة الوفيات العالمية السنوية الحالية الناجمة عن جميع الأسباب تبلغ أكثر من ٥٠ مليونًا؛ ونظرًا إلى أنَّ فيروس كورونا يحصد أرواح كبار السن بنسبة أكبر بكثير، فلن تؤثر جائحة كوفيد-١٩ سوى تأثير محدود في متوسط العمر المتوقع. وإذا انتشر وباء بنفس التأثير الحالي لكوفيد-١٩ مرةً واحدةً كل قرن، فإنَّ التأثير الإجمالي في عدد سكان كوكبنا سيكون ضئيلًا. وعلى غرار الكوارث الأخرى التي تناولناها، فإن تأثير هذا الوباء قد يتفاقم ويصبح أسوأ بكثيرٍ في نهاية المطاف، وربما يظهر وباء مشابه له قبل مرور مائة عام أخرى. ولكن من واقع الخبرة والتجارب السابقة، فلا داعيَ إلى الخوف من أن يؤدي أي مرض إلى إحداث تأثير كبير في عدد سكان العالم.
ويُذكر هنا أن تأثير كوفيد-١٩ في عدد المواليد يُمكن أن يكون أكبر من تأثيره في عدد الوفيات. فالأزواج كانوا عالقين في المنازل في أثناء أوقات الإغلاق، ولمَّا لم يكن لدى الكثير منهم خيارات عديدة لتسلية أنفسهم آنذاك، فربما ازدادت مرات الجماع الجنسي بينهم. وفوق ذلك، فقد أدَّى تعطيل الحياة الطبيعية إلى الحد من إمكانية الحصول على وسائل منع الحمل، لذا تتخوَّف الأمم المتحدة من أنَّ ذلك سيؤدي إلى طفرة في حالات الحمل غير المقصودة.9 ولكن على الجانب الآخر، ستؤدي عدة عوامل إلى خفض معدل المواليد؛ كالامتناع عن الذهاب إلى المستشفيات أو حضور مواعيد الأطباء، وتأجيل حفلات الزفاف، وقلة الفرص للقاءات جنسية جديدة، فضلًا عن التخوفات من قتامة الأوضاع الاقتصادية المقبلة. لذا من المرجح أن يختار البعض تأجيل إنجاب الأطفال إلى أن يتمكَّنوا من التعامل مع هذا الوباء وتبعاته. وبوجه عام، يُعتقد حاليًّا أن الوباء سيُخَفِّض معدلات الخصوبة في العالم المتقدم، في حين أن قلة الحصول على وسائل منع الحمل في البلدان الأقل تقدمًا ستؤدي إلى زيادة المواليد.10 وسواءٌ أدَّى الوباء إلى تعزيز معدل المواليد أو تخفيضه، فمن المرجَّح أن يكون هذا تأثيرًا قصير المدى، مع أنه سيجعل المدارس والجامعات تواجه «تفاوتًا استثنائيًّا» في أعداد الطلاب عند قبولهم في المستقبل.

أمَّا الانهيارات الاقتصادية الحادة، سواء أكانت ناجمة عن كوارث أخرى أم لا، فقد تُوَجِّه ضربة قاصمة إلى البلدان الأفقر التي ما زالت تُكمل تحوُّلها الديموغرافي. ففي الأزمة الاقتصادية التي حدثت بين عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، كانت معظم الاقتصادات الأكثر تضررًا هي الاقتصادات الأفقر. ولكن رغم الأضرار الاقتصادية التي لحقت بمعظم بلدان العالم النامي في أعقاب تلك الأزمة الاقتصادية، استمرت معدَّلات وفيات الرضع في الانخفاض، واستمر متوسط العمر المتوقع في الارتفاع. ولن ينعكس مسار هذه التغيرات الصامدة إلَّا إذا وقع انهيار اقتصادي أقوى بكثير.

البشر في المستقبل البعيد

ركزنا حتى الآن على أشياء واقعية ملموسة بالفعل، ولم نورد في هذه الصفحات أي تكهُّنات مستقبلية سوى احتمالية زراعة اللحوم في المختبرات. فاتجاهات الخصوبة والوفيات والهجرة والتغيرات العرقية التي ستُشكِّل المستقبل واضحة لأنها موجودة الآن بالفعل. ولكن حان الوقت لننظر إلى بعض الاحتمالات التي قد تحدث في المستقبل الأبعد.

لقد شهدنا بوادر تُوحي بأن متوسط العمر المتوقع يتجه إلى الانخفاض في بعض دول العالم الأكثر تقدمًا. صحيح أن أي انتكاسات تحدث في ارتفاع متوسط العمر المتوقع تكون مؤقتة ليس إلَّا، لكنه بدأ يتباطأ بالفعل، حتى في بعض الدول التي تتسم بأعلى متوسطات العمر المتوقع. ففي اليابان مثلًا، أصبح متوسط العمر المتوقَّع يرتفع بمقدار عام ونصف أو عامين فقط كل عقد، بعدما كان يرتفع بمقدار خمسة أو ستة أعوام كل عقد في ستينيات القرن العشرين. ربما يكون السبب في ذلك أنَّ متوسط العمر البشري المتوقع قد بدأ يصل إلى أقصى حدٍّ طبيعي ممكن. وفوق ذلك، فربما تنتشر أمراض اليأس والسِّمنة الجماعية في جميع أنحاء العالم، علمًا بأنَّ كليهما منتشر بالفعل في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية بالأخص.11 وكذلك فإن روسيا مثلًا تعاني انتشار إدمان الكحول والانتحار والسمنة منذ فترة طويلة.12
ومع ذلك، فمن المُمكن أيضًا أن يشهد المستقبل تقدمًا علميًّا فارقًا يؤثر في فهمنا للشيخوخة، ويخلق آفاقًا جديدة تمامًا. ليس بالضرورة هنا أن نتصور أننا سنحيا حياة أبدية؛ ولكن إذا افترضنا أنَّ متوسِّط العمر المتوقع سيصل إلى مائتي عام «فقط»، فهذا سيُحدِث تغييرًا جذريًّا في كل ما يتعلَّق بشكل المجتمع. فتوقيت الدراسة وكيفيتها وأنماط عملنا وعلاقاتنا العائلية ستكون مختلفة تمامًا عن شكلها الحالي، حتى وإن كنا لا نعرف كيف سيكون شكلها بالضبط حينئذٍ. وهكذا فإنَّ نمط الحياة الحالي الذي يراه الكثيرون منا طبيعيًّا تمامًا الآن قد يُنظَر إليه في المستقبل على أنه عتيق إذا تسنَّى للبشر أن يعيشوا ضِعف عدد السنوات الحالي.13
أمَّا بخصوص خصوبتنا، فإن الحمل قد أصبح بالفعل أقل ارتباطًا بممارسة الجنس. ومع تحسُّن وسائل منع الحمل، لم يعد الحمل مرهونًا بالصُّدفة والحظ وإنما صار اختيارًا نتخذه بمحض إرادتنا. وصحيح أنَّ الجماع الجنسي لم يكن يؤدي بالضرورة إلى حدوث حمل في كل الحالات من قبل، لكن حدوث الحمل دائمًا ما كان ينشأ من الجماع الجنسي، على الأقل حتى ابتكار تقنيات التلقيح الاصطناعي. أمَّا في المستقبل، فيُمكن قطع الصلة بين ممارسة الجنس والحمل تمامًا. حتى إننا ربما سنجدُ أطفالًا ليسوا أبناء لأبوين اثنين فقط؛ فبعض الأفراد قد يختارون استكمال مادتهم الوراثية بمادة وراثية من شخص آخر، بل ومن عدة أشخاص آخرين أيضًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ بعض الحالات بالفعل قد شهدت ولادة أطفال يحملون المادة الوراثية لأكثر من شخصين.14 وصحيح أنَّ فكرة أنَّ الناس في المستقبل يمكن أن يتسموا كلهم بالذكاء والجمال ويُصبحوا خالين من الأمراض الوراثية؛ تثير تساؤلات أخلاقية كبرى، لكن العالم سيشهد ضغوطًا هائلة للسماح باختيار الجينات حسب الرغبة، حالما تتوفر التقنيات التي تتيح تنفيذ ذلك. بل إنَّ بعض الأجنة يُجهضون الآن بالفعل عندما تُرصَد لديهم أمراض معينة، وهذا يعطينا فكرة عمَّا سيحدث في المستقبل.
وهكذا فمع احتمالية إنجاب أطفال لديهم أكثر من أبوين اثنين، سيبدأ انهيار الفئات الأساسية للتقسيمات الديموغرافية. إذ سيُصبح من الصعب أن ننسب كل مولود إلى أم واحدة وأب واحد، تمامًا كما تلاشت الحدود الديموغرافية التي كانت واضحة في الماضي، وصارت ضبابية مع ظهور «ميوعة الأنواع الجنسية». صحيح أنَّ الأفراد المتحوِّلين جنسيًّا يُشكِّلون نسبةً صغيرةً من سكان العالم في الوقت الحالي؛ إذ تبلغ نسبة الذين يُعرِّفون أنفسهم على أنهم مُتحولون جنسيًّا ٠٫٧ في المائة على أكثر تقدير.15 وصحيح أنَّ هذه الظاهرة يمكن أن تظلَّ مقتصرة على أقلية صغيرة، ولكنها يمكن أيضًا أن تنتشر إلى حدِّ أن نجد معظم الناس يختارون نوعهم الجنسي من بين خيارات متعددة ويغيرونه باستمرار. وعندئذٍ ستصبح دراسة بعض العوامل الديموغرافية بلا معنى، كمعدل الخصوبة الإجمالي لكل امرأة أو الفرق بين متوسط العمر المتوقع للذكور والإناث مثلًا.
وفي نهاية المطاف، قد يمكن تخزين الوعي ونقله إلى أجساد جديدة تمامًا، أو ربما نختار العيش في عالمٍ من الواقع الافتراضي. وقد تستعبدُ تقنيات الذكاء العام الاصطناعي حياة البشر أو تُحرِّرها أو تدمجها معها، وقد ننشئ مستوطنات خارج كوكب الأرض. ربما يبدو كل هذا من وحي الخيال العلمي، لكن الكثير مما نعُدُّه طبيعيًّا تمامًا اليوم كان يُرى محضَ خيالٍ علمي أو سحرٍ مستحيلٍ قبل بضع مئاتٍ من السنين. غير أنَّ الحديث عن مثل هذه الاحتمالات ليس ضمن موضوع هذا الكتاب.16 ولكن قبل أن نقترب حتى من وصول العمر المتوقع إلى مائتَي عام، أو إنجاب أطفال مصمَّمين حسب الرغبة، أو انتشار التحول الجنسي، أو تحميل الوعي ونقله فيما بين الأجساد، لدينا عدة أشياء أقرب إلى الواقع الملموس فيما يخص مستقبل البشر.

المعضلة الثلاثية فيما بعد الحداثة: ثلاثة خيارات صعبة

في الوقت الذي يتَّجه فيه الوضع الديموغرافي في العالم المتقدم إلى مرحلة ما بعد الحداثة، ينشأ خيار يمكن وصفه ﺑ «المعضلة الثلاثية»؛ لأنه مُفاضلة بين ثلاثة خيارات لا اثنين فقط. وهذه الخيارات الثلاثة هي: الاقتصاد، وأعني به النمو الاقتصادي المزدهر الذي نعتبره «طبيعيًّا»؛ والعِرق، أي استمرار هيمنة مجموعة عِرقية معينة داخل الأرض التي تعتبرها وطنها؛ والأنانية، بمعنى تفضيل الأهداف الشخصية على تكوين الأسرة.

وأنا هنا أستخدم كلمة «الأنانية» اختصارًا لشيءٍ أكثر تعقيدًا. فالسبب الذي يجعل البعض يؤجلون إنجاب الأطفال، وينتهي بهم المطاف إلى إنجاب عدد قليل أو عدم الإنجاب على الإطلاق — باستثناء الحالات التي يكونون فيها عاجزين عن الإنجاب بالطبع — غالبًا ما يكون هو التأثُّر بالضغوط المحيطة بالعمل، والقيود المالية، ومُتطلبات رعاية الوالدَين المسنَّين، وجميع أنواع الضغوط الاجتماعية والرغبات الشخصية.17 إذ إنَّ الخيارات لا تنشأ من فراغ. فالنساء غالبًا ما يتحمَّلن أثقل الأعباء عند محاولة الجمع بين العمل مدفوع الأجر ورعاية أسرهنَّ ومهامهنَّ المنزلية، كما أنهن أيضًا يواجهن ضغوطًا هائلة لتحمُّل مسئولية إنجاب الجيل القادم وتنشئته. وكذلك فالقيود المالية أو غيرها من القيود الأخرى تمنع الناس من إنجاب الأطفال؛ لذا ففي معظم دول العالم المتقدم، يتمنَّى البعض أن ينجبوا أكثر ممَّا لديهم.18 ومن ثَم يُفترض أن يُنظر إلى مصطلح «الأنانية» على أنه يُلخص كل الضغوط والتفضيلات التي تجعل الناس يختارون إنجاب عدد قليل من الأطفال أو عدم الإنجاب على الإطلاق.
ولتوضيح هذه المعضلة الثلاثية بأفضل صورة، يمكن أن نضرب أمثلة بثلاث دول تنازلت عن أحد الخيارات من أجل الحصول على الخيارَين الآخرين. ولنبدأ باليابان التي فضَّلت الحفاظ على الهوية العرقية وإرضاء الأنانية على حساب الاقتصاد. فكما رأينا، لم يرغب اليابانيون في فتح بلادهم أمام أعداد كبيرة من المهاجرين. فمُعظم اليابانيين لا يُرحبون بالتعددية الثقافية،19 لكنهم في الوقت نفسه لا يُفضِّلون الإنجاب. وما يفاقم عزوفهم عن الإنجاب هو ثقافة المجتمع التي تُثبط المرأة عن الجمع بين العمل والأمومة؛ إذ ينتظر المجتمع منها أن تتكفل بأغلب الأعمال المنزلية ومهام الرعاية، ولذا فلا عجب في أنَّ الكثيرين يُفضِّلون الاستقلال في مثل هذه الأوضاع. وفي سبيل ذلك ضحَّى اليابانيون باستمرارية النمو الاقتصادي، بينما تراكم عليهم الدين الحكومي بمعدل غير مسبوق في العالم. فانخفاض عدد السكان الذين هُم في سن العمل، وما تلا ذلك من انخفاض عدد السكان ككل، يُشكِّل عائقًا كبيرًا أمام النمو الاقتصادي، ومن المستبعَد أن ينصلح هذا الحال بأي تدخل اقتصادي.
وثمَّة الكثير من الجدل حول ما إذا كانت الهجرة مفيدة للاقتصاد حقًّا أم لا، سواء على المدى القصير أو عند قياس تأثيرها بدخل الفرد.20 فصحيح أنها ربما لا تعود بنفعٍ على دخل العمالة الموجودة في البلاد بالفعل، ولكن من دون زيادة السكان، سيُواجه الاقتصاد صعوبةً بالغةً في النمو. وربما نجد داخل البلد الواحد أفرادًا مستفيدين من الهجرة وآخرين متضررين منها. فمن المؤكد أن حجم اقتصاد المملكة المتحدة مثلًا قد ازداد في المجمل بفضل سكانها المولودين في الخارج، الذين يبلغ عددهم تسعة ملايين نسمة (أي ما يعادل نحو ١٣٪ من إجمالي السكان)، حتى وإن لم يرتفع نصيب الفرد من الدخل بالضرورة. فانخفاض عدد العمال يعوق النمو الاقتصادي، في حين أن كثرتهم تعززه. ومن دون العمالة الإضافية التي توفرها الهجرة، سيظهر النقصُ عاجلًا أو آجلًا في القوى العاملة لدى البلدان التي تشهد انضمام القليل من الأفراد المولودين فيها إلى قوة العمل، وذلك بعدما ظلَّت معدلات الخصوبة منخفضة على مر سنوات.

ربما يكون الأفراد أكثر اهتمامًا بدخلهم الشخصي، لكنهم سيشعرون بتأثير نقص العمالة عندما لا يجدون عددًا كافيًا من المعلمين في مدارس أطفالهم، أو لا يجدون ما يكفي من الممرضات أو مقدمي الرعاية للاعتناء بآبائهم وأمهاتهم المسنين. أمَّا الحكومات، فهي أكثر اهتمامًا بالحجم الإجمالي لاقتصاداتها ونمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي والدخل الضريبي، وتوفُّر العمالة اللازمة للحفاظ على سير الاقتصاد بسلاسة وتوفُّر الخدمات باستمرار.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المملكة المتحدة سلكت مسارًا مختلفًا عن مسار اليابان. صحيح أن مواطنيها أيضًا لا يرغبون في الإنجاب؛ فمعدلات الخصوبة في المملكة المتحدة أقل من مستوى الإحلال منذ نحو خمسين عامًا، فضلًا عن المستويات اللازمة لتوفير قوة عاملة ذات أعدادٍ مُتزايدة باستمرارٍ لضمان ازدهار الاقتصاد في ظل ضَعف نمو الإنتاجية. لكنها اختارت فتح أبوابها أمام الهجرة الجماعية لسد الفجوة.

وبذلك احتفظَت بريطانيا ببعض حيويتها الاقتصادية على الأقل، وكانت أقدرَ من اليابان على توفير العمالة اللازمة لمستشفياتها ومدارسها ومكاتبها، غير أنَّ التركيبة العرقية للبلاد قد تغيَّرت. فنسبة البيض ذوي الأصول البريطانية كانت تُشكِّل أكثر من ٩٠٪ من السكان في تسعينيات القرن العشرين، لكنها صارت بحلول عام ٢٠١١ لا تكاد تصل إلى ٨٠٪؛ وستشهد مزيدًا من الانخفاض في العقود القادمة. وربما يعتقد البعض أن التغير العرقي السريع ليس تنازلًا، بل فائدة ينبغي الترحيب بها. ولكن في مُعظم المجتمعات، يعارض البعض فكرة تحول الأغلبية التقليدية إلى أقلية في الأرض التي يعتبرونها موطنهم. وفي حين أنَّ الأقليات قد تندمج وسط مجموعة الأغلبية، فإن معدل خصوبتهم ينخفض بعد ذلك ليصبح كمستوى المجتمع ككل، ما يترك المشكلة الديموغرافية دون حلٍّ على المدى البعيد.

ومن ثَم فلا شيء يضمن بقاء أي أمة أو جماعة عرقية. فمثلما لم يتبقَّ أحد من الميديين أو القوط الغربيين، لا ضمانة تؤكد أنَّ المستقبل سيكون فيه أي إيطاليين أو يابانيين. إذ تتوقع الأمم المتحدة أن كلتا الدولتين ستفقد أكثر من ثلث سكانها في الأعوام الثمانين القادمة فقط.

هذا وتوجد أمثلة أخرى لدولٍ متقدمة كاليابان اختارت التضحية بالنمو الاقتصادي من أجل الحفاظ على تركيبتها العرقية وإرضاء الأنانية المجتمعية التي تشجع عدم الإنجاب. وكذلك توجد أمثلة كثيرة أيضًا لدول مثل المملكة المتحدة تشهد تغيرًا عرقيًّا سريعًا من أجل الحفاظ على النمو الاقتصادي، ولا يُفضِّل سكانها الإنجاب. لكن إسرائيل هي المثال الوحيد في الدول المتقدمة لانتشار الثقافة المؤيدة للإنجاب وارتفاع معدلات الخصوبة حتى صارت المرأة الواحدة تنجب ثلاثة أطفال في المتوسط. بل ولا توجد دولة متقدمة أخرى قريبة من هذا الرقم حتى. صحيح أنَّ إسرائيل قامت أصلًا على هجرة اليهود، لكن معدلات الخصوبة العالية فيها الآن هي التي تضمَن استمرار أغلبيتها اليهودية. فالنساء اليهوديات في إسرائيل حاليًّا لديهن معدل خصوبة أعلى قليلًا من نظيراتهن العربيات هناك.21 (ولكن تجدر الإشارة إلى أنَّ الفلسطينيات في غزة ما زال لديهنَّ معدل خصوبة أعلى إلى حدٍّ ما، مع أنه انخفض بقدرٍ كبير). وهكذا حافظت إسرائيل على استمرارية نموها الاقتصادي وهويتها العرقية، مع التضحية بالنزعة الأنانية التي يُشبِعها عدم الإنجاب.

أكرِّر مرة أخرى أنَّ مصطلح «الأنانية» هنا يشمل الضغوط الاجتماعية التي تعوق الإنجاب؛ وفي إسرائيل، لا يقتصر الوضع على استعداد الناس للتضحية من أجل إنجاب الأطفال، لكنهم أيضًا يتجاوبون مع ضغوط اجتماعية تشجعهم بقوة على كثرة الإنجاب، بدءًا من سياسة الحكومة وتوفير الخدمات اللازمة، وصولًا إلى وجود اشمئزاز مجتمعي غير ملموس لكنه واضح تجاه الذين يقررون عدم الإنجاب.

قد تكون إسرائيل حالة خاصة، لأنها محاطة منذ تأسيسها بجيران مُعادين لها، ولأنَّ الكثير من سكانها مُتدينون، ولكن لا سبب يمنع الناس في أيسلندا أو إيطاليا من إنجاب نفس العدد من الأطفال؛ فقرار الإنجاب في الأصل مُرتبط بالثقافة وليس بالوضع الاقتصادي، وبأولويات المرء وليس بحالته البيولوجية. وهذا هو جوهر الوضع الديموغرافي بعد الحداثة. فقد أظهرت إسرائيل أن الدولة الحديثة يمكن أن تتمتَّع بمستويات عالية من التعليم ومتوسط العمر المتوقع مع التمسك في الوقت نفسه بثقافة موجهة نحو الاهتمام بالأطفال ومؤيدة لكثرة الإنجاب.

ربما ترون ما سبق على أنه دعوة إلى الإنجاب. وصحيح أنَّ الأبوة قد غمرتني بإشباعٍ لم أحظ بمثله من أي شيء آخر في حياتي، لكن هدفي هنا ليس الوعظ، وإنما الإشارة إلى الخيارات الديموغرافية التي يواجهها الأفراد والدول، مع العواقب المترتِّبة عليها. لقد أثبتت الحكومات كفاءتها باقتدار في مساعدة الناس لتحديد النسل عندما يكونون في مرحلة مبكرة من التنمية الاقتصادية، ومن ثَم يكونون راغبين على الأرجح في تقليل خصوبتهم. لذا لم تكن عمليات التعقيم القسري الوحشية التي نفَّذتها الهند في سبعينيات القرن العشرين ضرورية، ولا الإكراه الإجباري الذي طبقته الصين، ولكن من الأصعب كثيرًا على الحكومات أن تستطيع زيادة معدل المواليد. صحيح أنَّ الحوافز الضريبية وحوافز الرعاية الاجتماعية قد تساعد إلى حدٍّ ما، وكذلك القوانين وإعانات رعاية الأطفال التي تساعد النساء على الجمع بين العمل والأمومة. لكن الأهم في عالم ما بعد الحداثة هو تفضيلات الأفراد والأسر وأفعالهم.

ربما ينظر بعض اليساريين بازدراء إلى أي نوعٍ من تأييد الإنجاب، وأي ضغط يعوق الناس عن السعي إلى أهدافهم الشخصية. ولكن عليهم أن يسألوا أنفسهم ما إذا كانت مجتمعاتهم العلمانية ذات النزعة الفردية تستطيع الصمود أمام استمرار الخصوبة المنخفِضة. صحيح أنَّ البلدان الغنية يمكنها أن تستقطب المهاجرين لحل هذه المشكلة حاليًّا، لكنهم إما سيحتفظون بقيمهم التقليدية وبذلك سيُقوِّضون القيم العلمانية التقدمية التي يتمسَّك بها الليبراليون، وإما سيندمجون مع المجتمع ويتبنون قلة الإنجاب مثله، وبذلك سيفشلون في تقديم حل طويل المدى للمشكلة الديموغرافية. أمَّا اليمينيون الذين يندبون تراجع سيادة جماعتهم العرقية أو القومية في أوطانهم، فعليهم أن يسألوا أنفسهم عمَّا إن كان يحق لهم الشكوى من «استبدالهم» إذا لم يكونوا مُستعدين للتكاثر وزيادة أعدادهم. وهكذا ففي النهاية، سيكون مصير البشر في المستقبل مرهونًا في الأساس بالخيارات التي يتخذها البشر في الحاضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤