الفصل الأول

وفيات الرضع

١٠: معدل وفيات الرضع بين كل ألف شخص في بيرو1

يقع حي كارابايُّو التُّرابي بين العاصمة البيروفية ليما وجبال الأنديز. وقد كان جزءًا من إمبراطورية الإنكا حتى دمَّره الغزاة الإسبانيون في ثلاثينيات القرن السادس عشر، ثم استوطنه الإسبانيون لاحقًا وأجبروا السكان المحليِّين على العمل في عِزَبهم. ومع أنه يقع على أطراف العاصمة، فإنه مختلف تمامًا عن التصور السائد لدى الغربيين عن الأحياء الفقيرة المكتظَّة بالأكواخ المصنوعة من الصفيح في العالم الثالث. فبلدته القديمة المبنية بالطوب اللبن تتَّسم بشيء من سِحر التراث الشعبي، كما أن سكان بعض مناطقه ارتقوا بمُستواهم الاجتماعي حتى صار قريبًا من الطبقة الوسطى البيروفية. لكن معظمه مزيجٌ قَذِر من مساكن عشوائية وحقول مفتوحة بين البلدة والريف، وبذلك فهو ليس ريفيًّا بالكامل ولا حضريًّا بالكامل. فتارةً يجد المرء فيه مساكن مؤقتةً مستندة على جوانب التلال، وتارة أخرى تقع عينه على بناية عصرية مؤلفة من مكاتب ذات حجم مُتواضع لكنها تشير إلى وجود وظائف مكتبية.

ولا يختلف حي كارابايُّو عن العديد من الأحياء السكنية في العالم النامي. فأغلب سكان هذه المجتمعات المحلية ما زالوا في مرحلة الارتقاء من الفقر القروي المدقع إلى المستوى المعيشي الذي صار مُعتادًا لدينا في الغرب منذ فترة طويلة. ومن التحولات المهمة في هذه الرحلة الانتقالُ من ارتفاع معدَّلات وَفَيات الرضَّع إلى انخفاضها؛ إذ يتحوَّل موت الطفل الرضيع من حدث شائع إلى نادر.

في عام ١٩٩٦، افتُتحت عيادة في كارابايُّو لتدريب العاملين في مجال الصحة المجتمعية على كيفية توعية النساء الحوامل المحليات بمسائل مُعينة كالتغذية والنظافة الشخصية. ثم نَقلت الأمهاتُ اللائي شاركن في تلك الورش المعلوماتِ التوعوية إلى النساء اللائي لم تحضرن إلى العيادة، وهو ما ساعد في انتشار هذا الوعي الفارق في إنقاذ الحيوات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفراد فريق التوعية كانوا أصلًا من سكان المجتمعات المحلية التي قدَّموا لها التوعية، وبفضل درايتهم بالعادات والممارسات المحلية حققوا نجاحًا أكبر ممَّا لو كانوا دخلاء. وقد أحدثت هذه النوعية من المبادرات الصغيرة النطاق فرقًا حقيقيًّا في انخفاض وفيات الرضع.2

وفي بعض الأحيان، يُمكن أن يتأثر السلوك بحوافز مالية بسيطة. ففي أوائل القرن الحادي والعشرين، قدمت بيرو حصصًا توعوية للنساء الحوامل قبل الولادة مع منحهنَّ نقودًا لحضور هذه الحصص وتطعيم أطفالهن. بل وأتاحَت في العديد من الحالات أفرادًا من العاملين في الرعاية الصحية يمكنهم التحدث باللغة المحلية. وهذا، إلى جانب المبادرات الميدانية كعيادة كارابايُّو، قد أحدث تحوُّلًا فارقًا في حياة العائلات البيروفية بتقليل معدلات وفيات الرضع، مع الارتقاء بالحالة الصحية والعمر المتوقَّع للبيروفيين من جميع الأعمار وفي مناطق عديدة.

صحيح أن بيانات البنك الدولي3 تُخبرنا أنَّ عشرة أطفال من بين كل ألف طفل حديث الولادة في بيرو ما زالوا يموتون قبل إتمام عامهم الأول. لكن الشيء المؤكد، وإنْ تفاوتَت الأرقام الواردة في المصادر الأخرى قليلًا، أن ذلك المعدَّل يتناقص بسرعة. ففي أوائل السبعينيات، كان معدَّل وفيات الرضَّع أكثر من مائة لكل ألف في بيرو؛ أي أعلى من مستواه الحالي عشرَ مرات تقريبًا. وصحيح أن تقليص وفَيات الرضع إلى هذا الحد الكبير في بضعة أجيال فقط يعد إنجازًا غير عادي، لكن بيرو ليست مشهورةً بهذا الإنجاز بالأخص، وهذا يوضح كم هو شائع في العديد من البلدان الأخرى التي تمر بنفس المرحلة التي تمر بها بيرو في مسار التنمية. فوتيرة الانخفاض في مُعدل وفيات الرضع في أمريكا الجنوبية كلها في النصف الأخير من القرن الماضي تكاد تضاهي وتيرة انخفاضه في بيرو، في حين أنَّ العديد من البلدان الآسيوية أيضًا، بما فيها الصين، لديها سجل إنجازات مشابه.
كذلك فإنَّ تعليم النساء في بيرو أسهم إسهامًا حاسمًا في الانخفاض الهائل في وفيات الرضع، وهذا ليس فقط لأنه يُؤدي إلى تحسين الدراية بالحمل والولادة ورعاية الطفل. بل لأنَّ القدرة على القراءة والكتابة تجعل الأمهات أقدر على التحكم في حالة أسرهن الصحية والنفسية. فحتى عام ١٩٧٠، كانت نسبة البيروفيين المسجلين في المدارس الثانوية أقل من الثلث؛ أمَّا اليوم، فكل الفتيات والأولاد تقريبًا مُسجَّلون في المدارس الثانوية.4 وينبغي القول هنا إن المجتمع الذي يحظى جميع أفراده بإمكانية الحصول على التعليم الأساسي يكون مختلفًا تمامًا عن المجتمع الذي يكون فيه الالتحاق بالمدارس مقصورًا على قلة محظوظة، خصوصًا فيما يتعلَّق بحالة الطفل الصحية والنفسية. فالتعليم يجعل النساء أكثر سعيًا إلى تلقي النصائح الطبية واتباعها في أثناء الحمل وبعده، وأقدرَ على تلبية احتياجات أطفالهن.
قد نتساءل هنا هل التعليم هو السبب في انخفاض وفَيات الرضع أم إنَّ العلاقة ارتباطية وليست سببية؛ فربما يكون تحسن الظروف المادية أصلًا هو ما يُفسر كلًّا من انخفاض الوفيات وزيادة نسبة التعليم. لكن التحليل الإحصائي يثبت بما لا يَدَع مجالًا للشك أن التعليم له تأثير مباشر في وفيات الرضع.5 فالمعرفة هي مفتاح إطالة العمر، مثلَما حدث حينما فهمنا كيف يُمكن أن تَقينا الناموسيَّة من الملاريا أو كيف يُمكن أن تساعدنا محاليل الملح والسكر للتعافي من الإسهال. وكذلك فالتعليم مرتبط بتحسُّن الصحة وانخفاض الوفيات في بلدان متقدمة أيضًا.6
كما أن انخفاض وفيات الرضع دائمًا ما يكون مصحوبًا بتحسُّن صحة الأم. فمِن عام ٢٠٠٣ إلى ٢٠١٣ فقط، انخفضَت معدلات وفاة النساء في أثناء الولادة في بيرو أكثر من النصف.7

وهكذا فإنَّ وفاة الرضَّع في بيرو صارت نادرة بفضل تحسُّن الأدوية وإتاحتها بأسعار أرخص، والارتقاء بمعايير الغذاء وتوفير مياه أنظف، بالإضافة إلى تسهيل الحصول على التعليم. وبسبب السرعة الفائقة التي طرأت بها هذه التحسينات، انخفضت وفيات الرضَّع هناك بوتيرة أسرع مرتين من وتيرة انخفاضها في دول أوروبية. فبريطانيا مثلًا انتظرت طوال الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين لتحقُّق الانخفاض الذي حقَّقته بيرو في غضون خمس وعشرين سنة فقط. ومع أن بيرو ما زالت فقيرة، فإن معدَّل وفَيات الرضَّع فيها يساوي نظيره في المملكة المتحدة في أواخر السبعينيات أو روسيا في بداية القرن الحادي والعشرين. بعبارة أخرى، فإنَّ احتمالية وفاة الطفل الحديث الولادة في بيرو قبل إتمام عامه الأول حاليًّا أقل من نصف احتمالية وفاتي قبل عامي الأول حين وُلدت في لندن إبان الستينيات.

وكما أن كارابايُّو تُعد مثالًا معبِّرًا عن كثير من مناطق من العالم النامي، فإنَّ إنجازات بيرو خلال العقود القليلة الماضية تُعبِّر عن العديد من الدول الأخرى. فقد انخفضَت معدلات وفيات الرضع على مستوى العالم كله إلى نصف مقدارها بين أوائل الخمسينيات وأوائل الثمانينيات، ثم انخفضَت إلى نصف مقدارها مرة أخرى منذ ذلك الحين. وهكذا فالتقدم الذي شهده هذا الجانب في العقود القليلة الماضية أكبر مما شهده على مر التاريخ البشري السابق كله.

وفيات الرضَّع: ما هي وبِمَ تتأثر؟

ثمة دلالة مهمة تكمن في أننا أصبحنا نقيس وفيات الرضع بنسبتها من كل ألف. إذ كانت تُقاس سابقًا بنسبتها من كل مائة، لأن مُعظم المجتمعات قبل الحداثة كانت تشهد وفاة طفل من بين كل ثلاثة تقريبًا قبل إتمام عامه الأول. لكن التغيير الكبير الذي طرأ في أنماط الحياة ومستويات المعيشة خلال القرنين الماضيين في بعض أجزاء العالم، وخلال العقود القليلة الماضية في أجزاء أخرى، أحدث تحسُّنًا هائلًا في فرص نجاة الأطفال من الموت المبكر؛ فبعض الدول الأنجح في هذا الصدد، كاليابان مثلًا، استطاعت النزول بمعدَّل وفَيات الرضَّع فيها حاليًّا إلى نحو اثنين فقط من كل ألف.

وفي حين أننا في الوقت الحاضر نربط الوفاة بكبار السن، كان الأطفال الصغار في مجتمعات ما قبل الحداثة هم الأكثر عرضة للموت. فالمسيحيون المؤمنون بأن التعميد شرط ضروري لدخول الجنة كانوا يَحرصون كل الحرص على إخضاع أطفالهم لهذا الطقس الديني في أبكر وقتٍ مُمكن. ففي مدينة بادوا الإيطالية في عام ١٨١٦، حينما كان نحو ١٥ في المائة من الرضع يموتون في الأيام الستة الأولى من حياتهم، عُمِّد ثلاثة أرباع الأطفال قبل أن يبلغوا من العمر يومين حتى. وبحلول عام ١٨٧٠، انخفضت احتمالات حدوث مثل هذه الوفاة المبكرة إلى النصف، وكذلك قلَّت عمليات التعميد المبكِّرة.8 وأحد التفسيرات المحتمَلة لهذا أن الآباء صاروا يعرفون أن لديهم متسعًا من الوقت ليُعمِّدوا أبناءهم، ويضمنون بذلك أنهم لن يَبقُوا عالقين بين الجنة والنار، فأصبحوا أكثر تمهلًا.
يُواجه الأطفال الرضع صعوبةً بالغة للنجاة من الموت في عامهم الأول حينما تكون أمهاتهم أميات ويعشن على طعام ضئيل جدًّا في ظروف غير صحية. وقد كان هذا هو حال الجميع تقريبًا في الماضي. فالملك هنري الثامن تزوَّج ست زوجات لكنَّ من نجا من أطفالهن كلهنَّ كان ثلاثة أطفال فقط، مع أنهن كُن يحظين بكل ما أمكن أن تشتريَه الأموال من راحة ورفاهية وعناية في القرن السادس عشر.9 ولم يُنجب هؤلاء الأطفال الثلاثة في المجمل أي ورثة. وما زاد الطين بلة أنَّ اثنتين من زوجات هنري أُعدِمتا، عِلمًا بأنَّ إحداهما كانت تبلغ من العمر آنذاك تسعة عشر عامًا فقط، أي إنها كانت ستحظى بسنوات عديدة كان من الممكن أن تنجب فيها، لكن الأربعة الأخريات تُوفِّين لأسباب طبيعية. وكلنا في المملكة المتحدة نتذكر أن هنري كان لديه ست زوجات، ولكن قلَّما نتذكر أنه لم يُرزَق بأحفاد؛ أو على الأقل أحفاد شرعيِّين. وهذا العدد من الزوجات مع عدم وجود أي أحفاد يعطينا فكرة عن كمِّ السُّلالات التي انقطعت، حتى بين الفئة العليا من صفوة المجتمع.

أحيانًا أطلب من الناس أن يحزروا متى كانت آخر مرة وَرِث فيها الابنُ الأكبر العرشَ الإنجليزي من أبيه ثم ورَّثه بدوره إلى ابنه. الإجابة هي منذ أكثر من ستمائة عام، والملك المقصود هو هنري الخامس. وصحيح أنَّ العرش في بعض الأحيان لم يُورَّث بسلاسةٍ بسبب أحداث سياسية ومُغتصبي السلطة، لكن السبب في الأغلب كان وفاة الوريث في وقتٍ مُبكر. فالأخ الأكبر لهنري الثامن؛ آرثر، تُوفِّي قبل والدهما هنري السابع. وفريدريك، ابن جورج الثاني، تُوفِّي قبل والده، ووُرِّث ابنُه، الذي أصبح جورج الثالث، العرشَ. أمَّا جورج الخامس، فلم يرث العرش إلَّا لأن شقيقه ألبرت فيكتور تُوفِّي في أواخر العشرينيات من عمره، قبل أن يعتلي والدهما العرش أصلًا.

ولعل موت هذا العدد الهائل من الأطفال يُفسِّر لنا سبب بطء النمو السكاني في الماضي، ولماذا لم يكد عدد البشر على كوكب الأرض يبلغ مليار نسمة قبل قرنين من الزمان، في حين أنه وصل حاليًّا إلى سبعة مليارات. ولم يتحسَّن الوضع كثيرًا بين عهد هنري الثامن وعهد الملكة آن بعده بقرن ونصف؛ فقد حبلت سبع عشرة مرة ولكن لم يبقَ لها أي ذُرية على قيد الحياة. إذ حُكِم على نسلها بأن يَنقطع حينما تُوفِّي ابنها ويليام، دوق جلوستر، بعدما ظل مريضًا طوال الأحد عشر عامًا التي عاشها. وبذلك انقطعت سلالتها من الدنيا، مثلها مثل أختها الملكة ماري الثانية. ومع هلاك كل أفراد آل تيودور وستيوارت، على الأقل البروتستانت منهم، جُلِب أحد أقربائهم البعيدين من هانوفر لسد الفجوة في عام ١٧١٤. وصحيح أنَّ العائلات الملكية تُعَد أمثلة مفيدة لأننا نعرف الكثير عنهم، لكن ما ينطبق عليهم ينطبق أيضًا على الأشخاص العاديِّين في المجتمع. فمن المؤكد أنَّ أشجار العائلات في الماضي مليئة بفروع ميتة كفروع هنري الثامن وزوجاته، أيْ: أشخاص لم يتركوا أي أحفاد على قيد الحياة. لذا فالشيء المشترك بيننا جميعًا، سواءٌ أكنا من أفراد العائلة المالكة أو من عامة الناس، أن كل واحد من أسلافنا قد تكاثر بنجاح.

غالبًا ما يكون احتمال الوفاة في أي سنة من سنوات العمر منخفضًا منذ الولادة حتى سن المراهقة ثم يرتفع مع اقترابنا من الشيخوخة. وقد أتى على النساء وقتٌ كان يلزم فيه، من أجل تعويض وفاة أولئك اللاتي مِتن قبل أن يُنجبن أي أطفال، أن ينجبن ستة مواليد أو أكثر في المتوسِّط للحفاظ على ثبات عدد السكان. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا المتوسط اللازم لثبات عدد السكان يُعَد الآن ٢٫١ في العموم.

ظلال الموت

تُطاردنا حتمية الموت منذ أول لحظة صِرنا واعين فيها. فتخيُّل صور الأنهار القاتمة تحت الأرض ونيران الجحيم المتوهِّجة كان يُرعِب أسلافنا، وما زال يُرعِب الكثيرين منَّا. وقد شكَّل الموت دياناتنا وأساطيرنا وفنوننا. وفوق ذلك، تُضَخ مواردُ هائلة في الطب والرعاية الصحية لتأخيره. فما الذي تفعله الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا وقطاع الرعاية الصحية الأمريكية سوى بَذل جهد جماعي دءوب لتأجيل الموت؟ والغريب أنَّنا نعيش دائمًا ونحن نُدرك أن أفراد عائلاتنا وأصدقائنا سيختفون يومًا ما إلى الأبد، وأنَّ مصيرنا نحن أيضًا سيكون هكذا. ويَعتبر دارسو الديموغرافيا الموتَ، أو «معدل الوفاة» الذي يُمثل الاحتمالية الإحصائية للموت، واحدًا من المعطيات الأساسية في هذا التخصص.10
يُمكن أن تتخيَّل هنا أنَّ البقاء على قيد الحياة سِباقٌ وأن كل سنة من العمر بمثابة حاجزٍ يتخطَّاه المرء في هذا السباق.11 كانت الحواجز الأولى في الماضي مُرتفعة جدًّا، وكان الكثيرون يسقطون قبل تخطي الحواجز القليلة الأولى. ومن المنظور الديموغرافي، يُمكن القول إن الجنس البشري كان يعيش آنذاك في ظروف طبيعية تكاد تكون بدائية، والطبيعة البدائية معروفة بإهدار كمٍّ هائل من الحيوات. فمن بين حبات التِّين القليلة جدًّا التي تبقَّى حية أصلًا، لن تنمو من البذور العديدة سوى واحدة فقط لتُصبح شجرةً وتُثمر تينًا. هذا ويموت نحو رُبع قِرَدة البابون التي تولد في البرية قبل أن تبلغ عامها الأول، علمًا بأن ذلك شائع جدًّا بين الرئيسيات.12 وقد كانت مُعدلات وفيات الرضع بين البشر في المجتمعات الزراعية قبل الحداثة مقاربة لنظيراتها لدى القردة العليا، بل وأعلى في بعض الأحيان. ولم يكن حال أسلافنا، الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار، أفضل؛ فرُبعهم لم يكن يبلغ عامه الأول، ورُبعهم لم يكن يعيش زمنًا كافيًا للتكاثر في أي مكان تقريبًا حتى القرن التاسع عشر. ولولا ذلك لكان النمو الهائل الأخير في عدد البشر قد حدث في وقتٍ أبكر.

أمَّا اليوم، فالحواجز التي نُواجهها في سباقنا، وخاصةً الأولى، أقل ارتفاعًا بكثير، وبذلك يتخطاها كل مواليد العالم المتقدم باستثناء نسبة ضئيلة جدًّا. وكذلك فالغالبية العظمى من الناس يتخطون حواجز كافية ليتكاثروا. وصحيح أنَّ كل وفاة مبكرة تمثل مأساةً للطفل المُتوفَّى وعائلته، لكن نُدرة حدوث تلك الوفيات في الكثير من أنحاء العالم حاليًّا إنجاز جدير بالاحتفال.

فضلًا عن أنَّ زمننا الحاضر يشهد حدوث العديد من حالات الولادة بعيدًا عن المدن والإجراءات الديوانية الحكومية وبذلك لا تُوثَّق، كما هو الحال في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وبعض المناطق النائية من آسيا. فمثلًا لم يَحصُل المواطن «جو»، من شيانج راي في شمال تايلاند، على جنسيته وبطاقة هويته حتى أواخر المراهقة؛ لأنَّ والدَيه لم يكونا على دراية بكيفية تسجيل ولادته ولم يكونا مُستعدَّين لذلك. وهذا يسبب صداعًا لدارسي الديموغرافيا، الذين يعتمدون على إحصاءات دقيقة، والأهم من ذلك أنه قد يُسبِّب عناءً لمواليد المناطق النائية الذين يريدون الاندماج في الحياة العصرية؛ إذ قال جو لصحفي بريطاني: «لم أكن أستطيع الذهاب إلى أماكن كنت أريد الذهاب إليها. فالشرطة كانت تمنعني دائمًا من مغادرة قريتي، لأنني لم أكن أملك أي شيء يثبت أنني تايلاندي.»13 ولذا ففي أغلب الحالات التي لا تشهد تسجيل الولادات والوفيات، تكون مُعدَّلات وفيات الرضَّع قائمة على تقديرات وليس حقائق مؤكدة.

لكن البيانات نفسها أيضًا يمكن أن تكون مختلة لأنَّ الباحثين قد يكتفون بالأرقام المُستمَدَّة من الأماكن التي يسهُل فيها أخذ عينات موثوقة، علمًا بأنَّ معدل وفيات الرضع في تلك الأماكن يكون عند أدنى مستوياته على الأرجح، لأنها تتَّسم بتوافر المرافق اللازمة لمنع وفاة الرضع ولأنَّ سكانها هم الأفضل تعليمًا على الأرجح. وفي حين أنَّ عمليات ضبط البيانات تُعبِّر بدقة عن الواقع الفِعلي يمكن أن تأخذ في حسبانها أن البيئات الحضرية تتيح أفضل مستوًى من الرعاية الصحية وتضم أفضل الأماكن القادرة على الإحصاء الدقيق، فإنها يمكن أن تكون مجرد تقديرات تقريبية في البلدان التي يعيش فيها مُعظم الناس بعيدًا عن مُتناول الأطباء، فضلًا عن دارسي الديموغرافيا.

ومن أوجُهِ القصور الأخرى التي تشوب دقة البيانات أنَّ بعض التغيُّرات الاجتماعية تحدُث بوتيرة سريعة جدًّا لدرجة أن الواقع يكون مختلفًا بحلول الوقت الذي تُحَلَّل فيه البيانات، علمًا بأنَّ معدَّل وفيات الرضع يُعَد واحدًا من أسرع المقاييس السكانية تغيُّرًا. ففي الأوقات العصيبة، يمكن أن تقضي جائحة أو مجاعة على جيل كامل. وعادةً ما يكون أصغر السكان بالأخص، بالإضافة إلى أكبرهم، هُم الأكثر عرضة لموجات الأمراض؛ وفي الآونة الأخيرة، يُمكن أن يؤدي ظهور ابتكار حديث، كأحد برامج التطعيم أو التوعية الأساسية للأمهات، إلى انخفاض معدلات الوفيات بين الصغار بالأخص، ولكن بين السكان ككلٍّ أيضًا. فعلى سبيل المثال، أسفرت إضافة الكلور إلى إمدادات المياه في الولايات المتحدة عن تقليل الوفيات الناجمة عن التيفويد إلى أقل من النصف في غضون عشر سنوات فقط، ثم جعلتها شبه منعدمة تمامًا في النهاية.14

ومع أنه ربما يشوب البيانات بعض الخلل أو عدم اليقين، فإن انخفاض معدَّل وفَيات الرضع يُعَد واحدًا من أكثر الاتجاهات الديموغرافية إيجابية، وأقواها، في العالم المعاصر. ولكن رغم أن الوضع جيد أو يتحسَّن بسرعة في كل مكان تقريبًا، فإنه مُتفاوت بشدة.

متقدمون ومتخلفون

كان العالم النامي هو صاحب أسرع تقدم في خفض معدلات وفيات الرضع في السنوات الخمسين الماضية. صحيح أنَّ معدلات وفيات الأطفال في المجمل تنخفض مع زيادة ثروة البلد وتحسُّن مُستوى التعليم فيه، لكن صحة الأطفال تحظى بالأولوية من حكومات البلدان الأفقر ووكالات المعونة الدولية، كما أنَّ معظم الآباء يرون أن حالة أطفالهم الصحية والنفسية أولوية قصوى. ولذا فإن البلدان الفقيرة نسبيًّا تُضيِّق الفجوة بوتيرة أسرع مما كان مُتوقعًا، كما رأينا بالفعل في بيرو.

تُعَدُّ الولايات المتحدة من بين الدول الغنية المتقدمة التي لديها معدَّل وفيات منخفض نسبيًّا؛ إذ يزيد قليلًا عن ٥٫٥ لكلِّ ألف، علمًا بأنه يُواصل الانخفاض.15 وصحيح أن هذا الرقم أقل بكثير من نظيره في دول نامية مثل بيرو، لكنه يظلُّ مرتفعًا إلى حدٍّ مخيِّب للآمال، خصوصًا وأن الولايات المتحدة ليسَت دولة فاحشة الثراء فحسب، بل لأنها أيضًا صاحبة دور محوَري في التقدم المُحرَز في الأبحاث الطبية العالمية. وهذا الأداء الضعيف نسبيًّا لأغنى دولة في العالم في تحسين ذلك المعدَّل يعكس الرعاية الصحية المحدودة المتاحة للفقراء. ولكن حتى في الولايات المتحدة، انخفضت معدلات وفَيات الرضَّع إلى النصف منذ أوائل الثمانينيات. ولا شك في أنه من الصعب إحراز تقدم عندما يكون المستوى مُنخفضًا بالفعل، لكن دولًا أخرى حقَّقت ذلك. فقبل أربعين عامًا، كانت مستويات وفيات الرضع في أوروبا الغربية والولايات المتحدة شبه مُتطابقة؛ أمَّا اليوم، فصار المعدل في فرنسا وألمانيا وجيرانهما نصف نظيره في الولايات المتحدة. وفي أوروبا الشرقية، حيث كان معدل وفيات الرضَّع أكثر من ضعف نظيره في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات، صار الآن مماثلًا له.

يمنحنا التعمُّق في بيانات السكان رؤًى مفيدة، لذا يجدر أن نُلقِي نظرةً أعمق على السبب الذي جعل الولايات المتحدة تتخلَّف مؤخرًا عن نظيراتها من الدول المتقدمة في هذا الشأن.

يؤثر العِرق تأثيرًا فارقًا في معدَّل وفَيات الرضع في الولايات المتحدة مثلَما يُؤثر في العديد من الجوانب الأخرى هناك. فمعدَّل وفَيات الرضَّع لدى الأمريكيِّين ذوي الأصول الأفريقية أعلى من ضِعف مُعدِّلها في المجتمع كاملًا، لكن معدَّلها لدى الأمريكيين ذوي الأصول الإسبانية، الذين ما زالوا فقراء نسبيًّا، أقل بقليل من المتوسِّط. أمَّا أصحاب المعدل الأفضل، فهُم الأمريكيون ذوو الأصول الآسيوية، وخصوصًا المهاجرون الجدد منهم أو أطفالهم؛ إذ يتراوح معدَّل وفَيات الرضَّع لديهم بين ثلاثة وأربعة لكل ألف، وهو بذلك ليس بعيدًا عن أفضل المعدلات في العالم.16 ويُعَد المعدَّل لدى الأمريكيين البيض أفضل قليلًا مِن نظيره لدى الأمريكيين ذوي الأصول الإسبانية في المجمل، لكنه أسوأ بكثير من نظيره لدى الأمريكيين الوافدين من كوبا وأمريكا الوسطى والجنوبية، وأسوأ بكثير جدًّا من نظيره لدى الأمريكيِّين ذوي الأصول الآسيوية.17
غير أنَّ قصة معدَّل وفيات الرضع الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية تحمل خبرًا سارًّا. فقد انخفَضَ معدَّل وفيات الرضَّع ذوي البشرة السوداء بنسبة ٢٤ في المائة خلال سنة واحدة في سينسيناتي بفضل تمكين النساء المحليات وتعليمهن. وشمل ذلك زيادة في عدد العاملين في مجال الصحة المجتمعية والجلسات التوعوية للنساء الحوامل قبل الولادة.18

تحدُث أغلب وفَيات الرضع بين أطفال الأمهات الأصغر سنًّا والأكبر سنًّا (أي اللاتي لم يَبلُغن العشرين ومَن تجاوزن الأربعين). وعادةً ما يرجع السبب في الحالة الأولى إلى أنَّ هؤلاء الأمهات يَعِشن في حرمانٍ نِسبي؛ فغالبًا ما تكون ظروفهن صعبة ولا يحظين إلا بتعليم ضئيل. أمَّا في الحالة الثانية، فالسبب بيولوجي في المقام الأول؛ لأنَّ النساء كلما تقدَّمن في العمر وكان لديهنَّ أطفال بالفعل، تضاءلت احتمالية الحمل والولادة من جديد. وصحيح أن هذا يعطينا فكرة عن مَكمن أسوأ المشكلات، والمناطق الجديرة بجهود أي إدارة أمريكية، ولكن لا مفرَّ من الاعتراف بأنَّ أداء الولايات المتحدة السيئ في المجمل يتعلق بعدم إتاحة رعاية صحية بأسعار معقولة.

فبتقسيم المسألة جغرافيًّا، نجد أنَّ المعدَّل في الولايات الفقيرة في جنوب شرق أمريكا هو الأسوأ، علمًا بأن هذه هي الولايات التي تضمُّ أعلى نسبة من الأمريكيِّين ذوي الأصول الأفريقية. ولكن يتضح أيضًا أنه في ولاية فرجينيا الغربية، التي تعاني حرمانًا ماديًّا وتعجُّ بذوي البشرة البيضاء بأغلبية ساحقة وتشتهر بأنها موطن ثقافة الهيلبيلي، والتي تضرَّرت بشدة من مرحلة ما بعد الصناعة، مقاربٌ لنظيره في ألاباما أو جورجيا.19

وفي اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والنرويج، يبلغ معدَّل وفيات الرضع اثنين فقط من كل ألف. وهو المعدل نفسه الذي حققته إستونيا، التي تُعد واحدة من أكثر المناطق تقدُّمًا فيما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفييتي، علمًا بأنها لم تخرج من عباءة الشيوعية إلا مؤخرًا. وفي أماكن كثيرة من العالم المتقدم، يبلغ معدل وفيات الرضَّع ثلاثة من كل ألف؛ ومن المرجح أن تستمر الدول الأنجح على هذا المنوال، وبذلك قد نجد عمَّا قريب أنَّ معدل وفيات الرضع لا يُقاس بنسبته من كل ألف، بل من كل عشرة آلاف أو حتى كل مائة ألف، مثل معدَّل وفيات الأمهات في أثناء الولادة.

أمَّا إذا ألقينا نظرة على الدول التي حقَّقت أعلى نِسَب انخفاض في معدَّل وَفَيات الرضع، فسنجد أنَّها حتى أكثر إبهارًا من بيرو نفسها. ففي جزر المالديف، وبفضل التقدم الاقتصادي السريع المدفوع بازدهار قطاع السياحة، انخفض معدَّل وفيات الرضع بنسبة مُذهلة بلغت ٨٥ في المائة منذ أوائل التسعينيات. والجدير بالذكر هنا أنَّه في الستينيات كان ربع أطفال المالديف تقريبًا يموتون قبل إتمام عامِهم الأول. ومنذ ذلك الحين انخفض المعدَّل إلى سبعة في الألف، أي أقل من واحد في المائة. ولعلَّ مدى تقدير حياة الرضَّع هناك يتجلى في أنَّ حرس السواحل الهنود هُرعوا، في أوائل عام ٢٠١٩، إلى نقل طفل مريض بشدة بمروحيةٍ خاصة إلى مُستشفى في العاصمة ماليه.20 وهذا الجهد الهائل لإنقاذ حياة واحدة كان مُستحيلًا في الأجيال السابقة، في ظل عدم توافُر الموارد اللازمة لتقدير الحياة حق قدرها. وهكذا فإن معدَّل نجاة الأطفال الرضع في المالديف، التي ما زالت دولة نامية، يكاد يُضاهي نظيره في بعض دول العالم المتقدِّم التي يُعد أداؤها في هذا الشأن مُتخلفًا، كالولايات المتحدة مثلًا، ويكافئ نظيره في أفقر دول الاتحاد الأوروبي مثل رومانيا.

لا مجال للرضا عن الذات

ومع أنَّ معدل وفَيات الرضع في المملكة المتحدة مُنخفِض بحد ذاته؛ إذ يقلُّ عن سُبع المتوسِّط العالمي، فثمة علامات مُقلقة. صحيح أنه تحسَّن على المدى الطويل — إذ صار أقل من نصف ما كان عليه في أواخر الثمانينيات، وخُمس ما كان عليه في منتصف الستينيات — ولكن يبدو أن التحسُّن يقترب من نهايته؛ بل حتى إنه شهِد انتكاسة طفيفة قصيرة الأمد. فقد ارتفع من ٣٫٦ في الألف في عام ٢٠١٤ إلى ٣٫٩ في الألف في عام ٢٠١٧، وبينما قد يبدو هذا مجرَّد تغير إحصائي عابر، فإنَّ حدوث أي ارتفاع أصلًا يتعارض مع قناعتنا التي أصبحنا نؤمن فيها بأنَّ الانخفاض عملية مستمرة لا رجعة فيها.21 وكما هو متوقَّع، فالمناطق الأفقر في إنجلترا كانت هي صاحبة المعدَّلات الأسوأ آنذاك.22 وصحيح أنَّ معدَّل وفَيات الرضع في المملكة المتحدة ما زال نحو ثلثي نظيره في الولايات المتحدة، لكنه يكاد يبلغ ضعف نظيره في الدول الأنجح، كفنلندا مثلًا. وتُبشِّر بعض البيانات الأحدث، كأرقام عام ٢٠٢٠ التي اقترب فيها من ٣٫٥، بعودته إلى الانخفاض مجددًا.23
غير أنَّ أسباب هذه الانتكاسة في المملكة المتحدة، أو على الأقل جمود الوضع هناك، ليسَت واضحة تمامًا. صحيح أن ساسة المعارضة سيُلقون باللوم على «التقشُّف» الذي فرضته الحكومة طوال العقد الماضي، لكن الإنفاق المخصَّص للرعاية الصحية أكبر مما كان في أي وقت مضى. وأيضًا فالعوامل التي نربطها بانخفاض وفَيات الرضَّع، كتعليم الإناث مثلًا، ظلَّت تتحسَّن؛ فكل جيل من الأمهات قد تلقى تعليمًا أساسيًّا وجامعيًّا أفضل من الجيل الذي سبقه. ولكن على الجانب الآخر، فإن مجموعة النساء اللواتي في عمر الإنجاب في المملكة المتحدة حاليًّا تبدو مختلفة تمامًا عما كانت عليه قبل عقد أو عقدَين. فنحو ٣٠ في المائة من الأطفال الرضع في المملكة المتحدة حاليًّا يُولدون من أرحام أمهاتٍ مولودات في الخارج، وهذا الرقم أعلى بكثير من ضِعف ما كان عليه في أوائل التسعينيات. صحيح أن العديد من هؤلاء الأمهات يأتين من بلدان تشتهر بأن معدَّلات وفيات الرضع فيها أقل من المملكة المتحدة، مثل بولندا التي ترجعُ إليها أصولُ معظم الأمهات المولودات في الخارج، لكن الكثيرات منهن أيضًا يأتين من باكستان، حيث معدل وفيات الرضع أعلى بكثير. وبرغم الجهود الحثيثة التي تبذلها هيئة الخدمات الصحية الوطنية، فلا عجب في أن الفجوة بين مستوى وفيات الرضَّع في باكستان ونظيره في المملكة المتحدة لم تُغطَّ بالكامل في غضون جيل واحد فقط. وما يزيد الطين بلَّة انتشار الإصابة بالسمنة والسُّكري بين السكان في المُجمل وتأثيرهما في صحة الأم في أثناء الحمل. ومن العوامل الأخرى المحتملة ارتفاع عدد الأمهات الأكبر سنًّا اللاتي يُواجهن صعوبة بيولوجية أكبر في عملية الولادة. ففي العقد المنتهي بعام ٢٠١٨، ارتفع عدد الأطفال المولودين من أرحام نساء تجاوَزْن الخمسة والأربعين في إنجلترا بنسبة ٤٦ في المائة.24

وثمة سبب محتمَل لوجود ارتباط بين ازدياد عدد الأمهات المولودات في الخارج وثبات معدَّل وفَيات الرضع أو حتى ارتفاعه. فالأمهات المولودات في بلدان كباكستان مثلًا ربما يجدن صعوبة في معرفة كيفية الاستفادة ممَّا تُقدمه هيئة الخدمات الصحية الوطنية والوصول إلى الخدمات الاجتماعية الأخرى، بسبب العوائق الثقافية واللغوية المحتمَلة. وفوق ذلك، فصحَّة الطفل عادة ما تكون مرهونة، إلى حدٍّ ما، بتعليم الأم وصحتها وتاريخها الغذائي. وأغلب النساء اللاتي يأتين إلى المملكة المتحدة من بلدان فقيرة يَكُنَّ أقل تعليمًا بالإضافة إلى أن الظروف التي قد مرَرن بها في طفولتهنَّ ومراهقتهنَّ تكون أسوأ، وهذا سيكون له تأثيرٌ غير مباشر عندما يصلن إلى مرحلة الأمومة. وبصرف النظر عن حجم الجهد المبذول لمواجهة هذه التأثيرات، فإن الآثار الطفيفة المتبقية منها حتى ستَرفع معدل وفيات الرضَّع قليلًا.

وبالرغم من البيانات المحبِطة الواردة من المملكة المتحدة، فقد شهدنا انخفاضات كبيرة في معدل وفيات الرضَّع حتى في بعض البلدان التي كان منخفضًا فيها بالفعل؛ وقد صار إجمالي المعدل العالمي يتراوح بين خُمس ورُبع ما كان عليه في منتصف القرن العشرين. غير أن هذا التحسُّن لا يعني أن نَقنَع بما أنجزناه؛ فما زال لدينا طفلٌ يموت كل خمس ثوانٍ في مكان ما في العالم، وما زالت المعدلات الأسوأ أعلى ٤٠ مرة من المعدلات الأفضل. ويُذكر هنا أنَّ العدد السنوي العالمي لوفيات الأطفال دون سنِّ الخامسة عشرة بلغ أكثر من ستة ملايين في عام ٢٠١٨، علمًا بأنَّ أكثر من خمسة ملايين من هؤلاء الأطفال كانوا تحت سنِّ الخامسة.25 ومن المتوقَّع أن ينخفِض هذا الرقم مع استمرار تحسين التعليم والظروف المعيشية والتكنولوجيا الطبية. وكما قالت أم أمريكية وهي تحكي كيف نجا أحد أطفالها من الموت بأعجوبة: «التقدُّم البشري أنقذ طفلي، وسينقذ الكثير من الأطفال الآخرين.»26
تجدر الإشارة هنا إلى أن أكثر من نصف وفيات الرضَّع في العالم تحدث في أفريقيا.27 ففي سيراليون مثلًا، ما زال معدل وفيات الرضع يبلغ نحو ثمانين وفاةً من كل ألف طفل. فالإصابة بالملاريا والالتهاب الرئوي والإسهال شائعة هناك، فضلًا عن كونها صاحبة أعلى معدَّل انتشار لوفَيات الأمهات في أثناء الولادة في العالم. ولكن حتى هناك، أُحرِزَ تقدمٌ كبير وانخفض معدل وفيات الرضع إلى نصف ما كان عليه في منتصَف التسعينيات.
ومع أنَّ الوضع في أفريقيا جنوب الصحراء هو الأسوأ على الإطلاق، فالعالم يعجُّ ببلدان أخرى ذات أداء ضعيف أيضًا. فلا سبب طبيعي مُتأصِّل يجعل معدل وفَيات الرضع في باكستان أعلى مرتين من نظيره في الهند؛ خصوصًا وأنَّه كان شبه مُتساوٍ خلال السبعينيات في هاتين الدولتين الغريمتَين في جنوب آسيا. ولكن بينما انخفض المعدل الهندي بمقدار ثلاثة أرباع قيمته منذ ذلك الحين، انخفض نظيره الباكستاني بمقدار النصف فقط. ولعلَّ ما عرقل انخفاضه في باكستان بعض العوامل كانتشار الإيمان بنظريات المؤامرة الذي قلَّل من نسبة حصول الأطفال على التطعيمات؛ إذ قال أحد الآباء المُمتنعين عن تطعيم أبنائهم لأحد أفراد الطواقم الطبية ذات مرة: «الهندوس يُضيفون دم الخنازير إلى اللقاحات ليُدخِلونا النار.»28 وفي عام ٢٠١٩، اضطُرَّت السلطات إلى تعليق تطعيم ضد شلل الأطفال بسبب مقتَل فرد من الطواقم الطبية واثنين من حُرَّاس الشرطة رميًا بالرصاص بعد انتشار ذُعر على شبكات التواصل الاجتماعي من أنه يُهدِّد الصحة.29 ما زال الجهل يحصد أرواحًا.

التفاوت والحلقات الإيجابية ونهاية القطوف الدانية

شهدت العقود الأخيرة نموًّا اقتصاديًّا سريعًا في العالم النامي بينَما ظل متوسِّط الأجور في العالم المتقدم ثابتًا على حاله. وصحيح أنَّ ذلك أدَّى إلى تقارب المستويات الاقتصادية بين الدول؛ لأنَّ الدول الأفقر تُقَلِّص الفجوة شيئًا فشيئًا، لكن التفاوت الاقتصادي داخل الدول نفسها تفاقَم. ففي الدول الأفقر مثلًا، ازداد حجم الطبقة الوسطى واتَّسعت الفجوة بينها وبين الفقراء المحليين، فيما شهدت الاقتصادات الأوروبية والأمريكية الشمالية والآسيوية الأغنى ظهور نُخبة فاحشة الثراء. وقد رُصِدَت الأنماط نفسها في معدَّل وفيات الرضَّع. فالدول صاحبة المعدلات الأسوأ هي التي حقَّقت أسرع تَقَدُّم، ولذلك فالفجوة آخذة في التقلص على المستوى الدولي. فعلى سبيل المثال، كان معدَّل وفَيات الرضَّع في مالاوي في عام ١٩٥٠ أكبر من نظيره في الولايات المتحدة بنحو ١٥٠ حالة في الألف؛ أما اليوم، فصار أكبر منه بنحو ٣٥ حالة فقط في الألف. ولكن على الجانب الآخر، تتَّسع الفوارق «داخل» مالاوي نفسها، حيث وتيرة التقدم متفاوتة. فأفضل النتائج تتحقَّق في المناطق الحضرية، حيث يسهُل إتاحة المرافق والتعليم، بينما تتعرَّض المناطق الريفية للتجاهل مقارنةً بنظيراتها الحضرية. وفوق ذلك فالفساد الذي يتجلَّى في محاباة مناطق معينة وفي استحداث طبقة وسطى يُفاقِم من اتساع الفجوة داخل حدود البلد. ففي مالاوي مثلًا، كان معدَّل وفيات الرضَّع في مناطق حضرية غنية أقل من نصف قيمته في مناطق ريفية فقيرة، وفقًا لمسحٍ أُجرِيَ في عام ٢٠١٤.30
كلما قَلَّت المخاطر، تضاءل عدد المهتمِّين بمنعها، وهذا لا ينطبق على الديموغرافيا فقط. فعلى سبيل المثال، انخفضَت وفيات الحرائق في إنجلترا إلى النصف تقريبًا منذ أوائل الثمانينيات. وهذا يعود إلى تضاؤل الحرائق المنزلية الجامحة، وزيادة الأثاث المقاوم للحرائق وتدابير أخرى. لكنها حينما تحدث، تُسبِّب صدمة أشد؛ فحريق برج جرينفيل، الذي وقع في يونيو ٢٠١٧، وأسفر عن وفاة اثنين وسبعين شخصًا، صدَم الأمة كلها. وكلما كانت الكارثة التي تقع استثنائية، كان تأثيرها في الوعي الوطني أقوى. ولكن كلما كان تأثيرها أقوى، كانت التدابير المضادة أكثر، لذا يستمر مستوى الوفيات في الانخفاض نتيجةً لذلك.31
ويبدو التشابه بين ذلك ومعدل وفيات الرضع واضحًا. فذات مرة أخبرني أحد عمال الإغاثة الذي كان يعيش في إحدى أفقر الدول الأفريقية أن وفاة الرضع كانت شائعة جدًّا هناك قبل نحو خمسة عشر عامًا إلى درجة أن مُوظفيه أحيانًا كانوا لا يأخذون إجازة ولو يومًا واحدًا إذا وقعت لديهم وفاة كهذه؛ فقد كانوا يتقبَّلونها على أنها جزء من أقدار الحياة، ولذا لم يكن أحد يبذُل جهدًا كبيرًا لمنعها.32

ولكن مع انخفاض معدَّلات وفيات الرضَّع، صارت كل حالةٍ منها تُحدِث صدمةً أقوى وتجعل المجتمع أشد عزمًا على بذل المزيد لمكافحتها، وهذا بدوره يجعل معدَّلات الوفيات أكثر انخفاضًا. فالارتفاع الطفيف الأخير في المملكة المتحدة يؤدِّي إلى إجراء تحقيقاتٍ من المرجَّح أن تُؤثر في السياسات والممارسات المتبعة، وبذلك ستَعكس الاتجاه السلبي وتجعله إيجابيًّا بمرور الوقت.

وعلى الجانب الآخر، ثمَّة مخاوف من أن تكون المكاسب الأسهل في تخفيض وفيات الرضع قد جُنِيَت بالفعل؛ ومن ثَم فبعد قطف القطوف الدانية، سيكون من الأصعب تحقيق مكاسب مستقبلية. والمقصود بمصطلح «المكاسب الأسهل» هنا هو ما يتحقق في منع الوفاة خلال الأحد عشر شهرًا الأخيرة من السنة الأولى في حياة الطفل، حينما يُمكن تقديم مبادرات معيَّنة كبرامج التطعيم مثلًا. أمَّا إحراز نجاح في الشهر الأول، الذي يكون فيه الطفل أكثر عُرضة للموت، فيُعَد أصعب بكثير لأنه يعتمد على التدخل قبل الولادة وفي أثنائها، بالإضافة إلى مسائل أكثر تعقيدًا كتغذية الأم وصحتها. وفي بعض الحالات، أدَّت الوفيات في الشهر الأول، الذي يكون فيه الطفل أكثر عُرضَةً للموت، إلى ارتفاع كبير في معدَّل وفاة الرضَّع لدرجة أن بعض الأهالي ابتكروا طقوسًا ومراسم للتعامل مع ذلك. إذ قال لي أحد عمال الإغاثة ذات مرة: «عندما كنت أعمل في أوغندا، صادفتُ حفلًا أقيم للاحتفال بإتمام أحد الأطفال شهره الأول. وكأنَّ الطفل لم يكن يُعَد إنسانًا بالفعل حتى بلوغ تلك اللحظة، وكانت وفاته قبلها أشبه بالإجهاض أو ولادة جنين ميت.»33

الأمهات مهمات

أتى على النساء حينٌ من الدهر كانت فيه الولادة تُشَكِّل خطرًا شديدًا على حياتهن. فإلى جانب وفيات الرضع، كانت وفيات الأمهات هي العائق الرئيسي أمام النمو السكاني في عصر ما قبل الحداثة. فأغلب الفتيات آنذاك، كُنَّ إذا نَجوَن من الموت في عامهنَّ الأول ثم وصلنَ إلى سن الإنجاب، يُتوفَّين في أثناء حملهن الأول أو الثاني أو في أثناء الولادة. ومن ثَم كان دور زوجة الأب حينئذٍ في الحياة اليومية أهم بكثير من دورها اليوم. فالكثيرون من الرجال كانوا يَجدُون أنفسهم وحدهم مع أطفال مُلزَمين بتربيتهم من دون زوجة، ولذا كانوا بحاجة إلى العثور على بديل.

ومن الأخطار المحتملة التي تتعرَّض لها الحوامل أن ارتفاع ضغط الدم يشيع في أثناء الحمل وأنهنَّ غالبًا ما يُصَبن بنزيف وعدوى في أثناء الولادة. وفوق ذلك، تحدُث أغلب وفيات الأمهات خلال عمليات الإجهاض، خصوصًا عندما تُجرَى تلك العمليات بلا رقابة ولا ضابط قانوني. والأرجح أن كل هذه الحالات تكون أكثر شيوعًا حينما تكون الأم الحُبلى مُحاطة بفقر مُدقع، ويكون مستواها التعليمي منخفضًا وتكون المرافق الأساسية بعيدة أو غير متاحة.

ومثل وفاة الرضَّع، ما زالت وفاة الأمهات في أثناء الولادة شائعة في أجزاء من العالم، لكن هذه المناطق تتقلَّص فضلًا عن أنَّ معدَّل حدوث تلك الوفيات انخفض بأكثر من ثلث قيمته في الفترة من عام ٢٠٠٠ إلى ٢٠١٧ وحدها.34 وتجدر الإشارة هنا إلى أن انحسار هذه المأساة البشرية يتشابه مع انخفاض وفَيات الرضَّع في كثير من القواسم المشتركة وأن توفير الرعاية المحترفة يُمكِن أن يُحدِث تأثيرًا فارقًا كالذي أحدَثه في وفيات الرضع.
ولعلَّ قصة أرياسيلي جوناويرا، التي تعمل قابلةً في أحد أحياء الطبقة العاملة في العاصمة السريلانكية كولومبو، تجسد مثالًا توضيحيًّا على ذلك. إذ أوضحَت أرياسيلي لأحد الآباء الجدد كيفية صُنع مضخَّة ثدي بسيطة يدويًّا واستخدامها لتساعده في إرضاع طفله حديث الولادة وتخفيف العناء عن ثديَي أمه الصغيرة. وبوجه عام، تتلقَّى أكثر من ٩٠ في المائة من الأمهات السريلانكيات مثل هذه الزيارات في الأيام التي تلي الولادة، وهي غالبًا ما تُسهِم في إنقاذ حياة الأم والطفل. وعن ذلك قالت الجدة الممتنَّة في كلامها لأحد المُراسِلين الصحفيِّين: «لا أحد آخر سيأتي لمساعدتنا. لا أحد سوى القابلات فقط.»35 ومن ثَم فإن مضخَّة الثدي، وإن كانت تكلفة صُنعها زهيدة، يُمكن أن تُنقذ أرواحًا كل يوم إذا أُتيحَت معها تعليمات مُناسبة بشأن استخدامها بطريقة آمِنة وصحية.

ويأتي نجاح النظام السريلانكي نتاجًا لسجلات محفوظة بعناية تتتبَّع تقدُّم النساء الحوامل عبر مراحل الحمل وتُسلط الضوء على اللاتي يُرَى أنهن في خطر. وفوق ذلك، عادةً ما تُكوِّن القابلات السريلانكيات علاقاتٍ وطيدةً مع النساء الحوامل، الأمر الذي يُتيح لهن التحدث بكل صراحة عن مسائل معيَّنة كالجنس والعنف المنزلي. إذ تقول أرياسيلي: «صرتُ واحدةً من العائلة الآن.» وبذلك أصبحت سريلانكا نموذجًا يُحتذَى به في رعاية الأم والطفل، وصارت تتلقَّى وفودًا من جميع أنحاء منطقة جنوب آسيا وخارجها لدراسة الخدمات التي تُقدمها القابلات هناك.

يُذكر أنَّ سريلانكا كانت مُستعمرة نموذجية نوعًا ما ضمن الإمبراطورية البريطانية حتى نالت استقلالها في عام ١٩٤٨، لكن الكثيرون ينسون ذلك لأنَّ حربها الأهلية الدموية ما زالت عالقة في الذاكرة الحديثة. كان لديها مجلس نيابي منذ أواخر القرن التاسع عشر وصار كل مواطنيها البالغون يحظون بحقِّ التصويت في انتخابات الجمعيات التشريعية منذ أوائل الثلاثينيات، وكانت تحظى بتقدُّم دستوري نسبي واستفادَت أيضًا مِن تصدير الشاي، الذي أُدمِج في الاقتصاد العالمي. وقد بدأ تدريب القابلات فيها منذ زمن طويل، وتحديدًا في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن معدَّل وفيات الأمهات في سريلانكا في عام ٢٠٠٠ كان يبلغ ٥٦ بين كل مائة ألف ولادة حية، وصحيح أنه معدَّل استثنائي لافت بين الدول النامية لكنه مع ذلك كان أعلى بكثير من نظيره في العالم المتقدِّم. ولكن بعد ابتكار ممارسات جديدة في رعاية ما بعد الولادة، انخفض معدل وفيات الأمهات في سريلانكا إلى ٣٦ من كل مائة ألف بحلول عام ٢٠١٧.36 صحيح أنَّ الفجوة بينه وبين معدَّل العالم المتقدم ما زالت واسعة، ووجود حالاتٍ مفجعةٍ من وفيات الأمهات التي كان بالإمكان تجنُّبها وتَرك أيتام مهجورين هو حقيقة واقعة، لكن هذه الحالات تضاءلت في العديد من أجزاء العالم بأكثر من نصف عددها في جيل واحد.37 ومعدلات وفاة الأمهات أعلى في المناطق الريفية، حيث تجد القابلات صعوبة أكبر في الوصول إلى الأمهات. ومن المُتعارَف عليه في المعتاد أن المرء يُستحسَن أن يكون في بلدة أو مدينة وقت الحاجة إلى الخدمات والمرافق المهمَّة؛ لأن الوصول إليها هناك يكون أسهل.
وكما هي الحال في وفيات الرضَّع، يُمكن أن تُحدِث التدخلاتُ البسيطة فرقًا كبيرًا في وفيات الأمهات. إذ تُظهِر بعض الدراسات أن تنظيم جلسات بين مجموعات من النساء لمناقشة الحمل والولادة، ومشاركة المعلومات الصحية الأساسية، يُمكن أن يكون وسيلة فعَّالة لتحسين صحتهنَّ وتقليل معدَّلات وفاتهن.38
وفي مكانٍ آخر في جنوب آسيا، كانت أفغانستان أيضًا تُحرز تقدُّمًا في هذا الشأن، على الأقل حتى وقتٍ قريب؛ فمنذ عام ١٩٩٠ تقلص معدَّل وفاة الأمهات إلى أكثر من النصف، لكنه ما زال بعيدًا عن معايير الدول ذات الباع الطويل في تقديم رعاية ممتازة للأم والطفل. لكن البيانات غير مؤكَّدة، كما هي الحال دائمًا في دولة مثل أفغانستان. إذ تشير نتائج حديثة إلى أن التحسُّن أقل ممَّا كان يُظَن سابقًا، وأن القابلات المتاحات، وإن أصبحن أكثر عددًا، يصلن إلى عدد أقل من الأمهات في المناطق الريفية. وفي الواقع، يبدو أن أفغانستان هي الدولة الوحيدة خارج منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، التي يموت فيها أكثر من أمٍّ واحدة من كل مائة أمٍّ أثناء الحمل أو الولادة.39
وبالإضافة إلى أن معدلات وفاة الأمهات مهمة في حد ذاتها، يَكمُن جزءٌ من أهميتها أيضًا فيما تُعبِّر عنه. فارتفاع معدَّل وفاة الأمهات عادةً ما يكون مُصاحِبًا لارتفاع معدل وفاة الرضع؛ لأن كليهما نابع من نقص التعليمِ والنظافةِ الشخصية والمرافقِ الطبية والصحةِ العامة. كما أن انخفاض معدلات وفاة الأمهات يوضح أهمية تعليم الإناث وتقديم الدعم النفسي للأمهات، مثله مثل انخفاض معدلات وفاة الرضع. وعادةً ما تشكل الولادة خطرًا على حياة الأم في المجتمعات الريفية التقليدية بالأخص. وإجمالًا، انخفضت وفيات الأمهات في أثناء الولادة في إنجلترا وويلز من معدل يتراوح بين ٤٠ و٦٠ من كل ألف ولادة في القرن التاسع عشر إلى نحو ٤٢ من كل ألف بحلول عام ١٩٣٠. أمَّا اليوم، فقد صار الرقم نحو سبعة من كل مائة ألف.40
fig1
المصدر: شعبة السكان بالأمم المتحدة.

شهد معدل وفيات الرضع انخفاضًا سريعًا، ويتضح أنه انخفض بأسرع وتيرة في البلدان التي يبلغ فيها أعلى مُستوياته بالفعل؛ ففي سيراليون، انخفضَت نسبة الرضع الذين يموتون في السنة الأولى من حياتهم من نحو الربع في أوائل الخمسينيات إلى أقل بكثير من العُشر حاليًّا. أما في اليابان، فمن الصعب ملاحظة التقدُّم لأن معدَّل وفيات الرضع هناك كان منخفضًا جدًّا منذ فترة طويلة، لكنه لا يتجاوز حالتين لكل ألف طفل، وبذلك فهو من الأفضل في العالم. وإجمالًا، فإن الوضع العالمي يتحسَّن، علمًا بأن انتشار التعليم بين الآباء والأمهات — وخصوصًا الأمهات — وارتفاع الدخل وزيادة الحصول إلى الرعاية الصحية وخدمات الأمومة كلها عوامل أسهمَت في هذا النجاح.

fig2
المصدر: إدارة الضمان الاجتماعي الأمريكية.

إذا أخذنا معدَّلات بقاء النساء على قيد الحياة حسب العمر في الولايات المتحدة في عام ١٩٠٠ وافترضنا أنها تَنطبق على مجموعة حالية من الإناث حديثات الولادة مع تقدمهنَّ في العمر، فمن المتوقع أن ٨٠٠ فقط من بين كل ١٠٠٠ سيبقَين على قيد الحياة حتى سن العاشرة، وأن نحو الثلثَين منهن سيبقَين على قيد الحياة حتى سن الخمسين. أمَّا إذا استخدمنا معدَّلات الوفيات التي كانت سائدة في عام ٢٠٢٠، فسنجد أنَّ أكثر من ٩٩٪ منهن سيبقين على قيد الحياة حتى سن العاشرة، وأن ٩٧٪ منهن سيبقَين على قيد الحياة حتى بلوغ سن الخمسين.

وباستخدام البيانات نفسها، سنجد أن ربع مجموعة عام ١٩٠٠ سيكُنَّ متوفيات بحلول عامهن الثلاثين؛ أمَّا مجموعة ٢٠٢٠، فلن يكون ربعهن مُتوفًّى إلا بحلول عامهنَّ الثمانين. وإذا كررنا العملية نفسها على مجموعات مولودة في أعوام أخرى بين هذين العامين، فستُصبح لدينا سلسلة من المُنحنيات المُزاحة تدريجيًّا نحو الأعلى، لأنَّ نسبة النساء اللاتي سيبقَين على قيد الحياة من كل مجموعة في أي عمر مُعين ستكون أعلى من سابقتها.

وصحيح أن الانخفاض العالمي في معدَّل وفاة الأمهات كان إنجازًا باهرًا في عالم ما بعد الحرب، لكن العالم لم يخلُ من بعض الاستثناءات المؤسِفة. وفي هذا الجانب أيضًا نجد أداء الولايات المتحدة متخلفًا، وللسبب نفسه؛ ألا وهو وجود فجوة نسبية في تقديم الرعاية وتفاوت في توفير الخدمات الصحية لأفقر الفئات في المجتمع. إذ يبلغ معدَّل وفيات النساء الأمريكيات في أثناء الولادة أو بعدها بوقتٍ قصير نحو ١٩ من كل مائة ألف ولادة، وبذلك فهو ليس مُرتفعًا عن معدَّلات الدول المتقدمة الأخرى فحسب، لكنه أيضًا أسوأ مما كان عليه في الجيل السابق، وأعلى مرتَين على الأقل مما كان عليه في أواخر الثمانينيات.41 وتجدر الإشارة إلى أن المعاناة ليست مُقتصرة على الفقراء وحدهم. فبعض النساء الشهيرات أيضًا، مثل سيرينا ويليامز وبيونسيه، تحدثن عن إفلاتهن من الموت بأعجوبة في أثناء الولادة. إذ كتبت ويليامز: «كدتُ أموت بعد ولادة ابنتي أولمبيا. فأولًا انفتح جرحي الناجم عن الولادة القيصرية بسبب السعال الشديد الذي أُصِبتُ به نتيجةً لانسداد أحد أوعيتي الدموية. فخضعتُ لجراحة أخرى، حيث وجد الأطباء ورمًا دمويًّا كبيرًا من الدم المتجلِّط في بطني. ثم عدت إلى غرفة العمليات لإجراء عملية تمنع انتقال الجلطات إلى رئتيَّ.» وبالطبع تشعر ويليامز بالامتنان للرعاية الطبية التي تلقَّتها، ولكن ليست كل النساء محظوظات بهذا القدر.42
لقد كان أداء الولايات المتحدة بطيئًا بطئًا ملحوظًا في تطبيق نظام الإشراف الذي يرعى الأمهات بعد الولادة والذي أحدث فرقًا كبيرًا في بلدانٍ مثل سريلانكا، ونجد هنا أيضًا أن هذا له علاقة بمسألة العِرق. فاحتمال وفاة النساء ذوات البشرة السوداء بسبب مضاعفات الولادة أعلى ثلاث مرات منه لدى ذوات البشرة البيضاء، وأعلى أربع مرات تقريبًا منه لدى النساء ذوات الأصول الإسبانية. ويُذكر هنا أنَّ نائبة الرئيس الحالية كمالا هاريس قد طرحت تلك المسألة على الطاولة السياسية حينما كانت مرشَّحة ديمقراطية للرئاسة، وأصرَّت آنذاك على أنها نِتاج التمييز العنصري في نظام الرعاية الصحية. ولكن إذا كان هذا هو التفسير الأصح، فمن الصعب أن نفهم السبب الذي يجعل معدَّل النساء ذوات الأصول الإسبانية أفضل من نظيره لدى ذوات البشرة البيضاء.43 وكما هي الحال في وفَيات الرضَّع، تتطلب هذه المسائل المتعلقة بالحياة والموت دراسةً دقيقةً وتحليلًا شاملًا ثم وضع سياسات مدروسة بعناية وتطبيقها بمثابرة ودأب.
يتَّضح هنا، مثلما هي الحال في وفيات الرضع، أن الوقت الذي تكون فيه حياة الأم أكثر عُرضةً للخطر هو الوقت الذي يلي الولادة مُباشرةً. فعدد النساء اللاتي يُتَوفَّين في الولايات المتحدة في أثناء الولادة أو في الأسبوع الأول بعدها أكبر بقليل من عدد اللاتي يُتَوفَّين خلال الواحد والخمسين أسبوعًا التالية، علمًا بأن هذا الوضع ليس مُقتصرًا على الولايات المتحدة فقط.44

الفارق الذي يُحدثه معدل وفيات الرضع والأمهات

تشهد المجتمعات تغيُّرات عميقة عند حدوث انخفاض كبير في معدَّل وفياتها من الرضع. ففي البلدان النامية، ينخفض العمر الوسيط للسكان؛ ولنضرب مثلًا هنا بإقليم مايوت الفرنسي الواقع في المحيط الهندي، حيث انخفض العمر الوسيط بمقدار خمسة عشر عامًا في الفترة بين عامي ١٩٥٠ و١٩٨٥ مع انخفاض معدل وفيات الرضع بنسبة نحو ٩٠ في المائة. ولذا اقتضت الحاجة بناء مزيد من المدارس، والاستعانة بمزيد من الأشخاص في المِهَن الموجهة إلى الأطفال كالتدريس مثلًا، وتوجَّب على الاقتصاد أن يستوعب قوةً عاملةً مُتزايدةً تضم مزيدًا من الشباب. وهذه المتطلبات، مثلها مثل التحديات الكامنة في ضرورة توفير الرعاية لعدد مُتزايد باستمرار من كبار السن، تنشأ من التغيرات الديموغرافية الإيجابية المصاحِبة لمقاومة الموت. أمَّا في بعض البلدان المتقدمة، كاليابان مثلًا، فربما يكون خفض معدل وفيات الرضع من اثنين أو ثلاثة في الألف إلى واحد أو أقل هدفًا جديرًا بالسعي، لكن وفيات الرضع هناك مُنخفضة جدًّا بالفعل منذ فترة طويلة لدرجة أن تحقيق مزيد من الانخفاضات فيها لن يُحدِث أي فارق ديموغرافي ملموس.

وحتى في بلد مثل بيرو، فإن القضاء التام على وفيات الرضع لن يُحدِث تأثيرًا كبيرًا في حجم السكان؛ لأنَّ نسبة الرضع الذين يموتون تبلغ نحو ١ في المائة فقط. فقد كان تخفيض معدَّلات وفيات الرضع في الماضي هو المحرِّك الرئيسي للنمو السكاني على مستوى العالم. أمَّا الآن، فصارت معدلات الوفيات «المنخفِضة» بالفعل هي التي تُغذِّي الانفجارات السكانية حيثما تكون مصحوبة بارتفاع مستمر في معدلات الخصوبة.

ويؤدي انخفاض وفيات الرضع إلى انخفاض معدَّلات الخصوبة بمرور الوقت؛ وذلك لسببين: أحدهما أن الآباء الذين يتوقعون فقدان عدد قليل من نسلهم لا يُنجبون أطفالًا كثيرين، والآخر هو العلاقة بين إنجاب عدد قليل من الأطفال وأنماط الحياة المُترفة. ففي البداية يُؤدي ارتفاع معدَّلات البقاء على قيد الحياة إلى خفض العمر الوسيط في المجتمع، ولكن حالما تُقرِّر الأُسر إنجاب أطفال أقل، فإن الأجيال اللاحقة تكون أقل عددًا من الجيل الأكبر عددًا الذي يبقى على قيد الحياة، كما حدث لجيل طفرة المواليد في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.

وربما يقترح بعض الأنانيين أنَّ مَن يخشون نمو السكان ينبغي أن يتجنَّبوا مساعدة البلدان الأقل تقدمًا في تخفيض معدلات وفيات الرضع، لكن مثل هذه الأفكار لها تاريخ طويل وقبيح. وبالإضافة إلى أن مثل هذا النهج يخلو من التعاطُف مع الآخرين، فليس عمليًّا أن نتخيل أننا نستطيع إبقاء ملايين الناس إلى الأبد في ظروف بائسة من عصور ما قبل الحداثة، حتى لو دفعتنا قسوتنا إلى الرغبة في ذلك. لذا فإذا أراد الذين يرغبون في خفض معدَّل نمو السكان على مستوى العالم نهجًا بديلًا إنسانيًّا وعمليًّا لتحقيق ذلك، فأفضل طريقة هي التعجيل بانتقال تلك الأماكن التي ما زالت في المراحل الأولى من التحوُّل الديموغرافي إلى مراحله اللاحقة بأسرع ما يمكن، حتى تصل إلى مرحلة تتَّسم بالرخاء وتحرير المرأة وحرية الاختيار. ولكي يتحقَّق هذا، فإن المجتمعات التي تتَّسم بأسوأ ظروف مادية وتعليمية سيتوجَّب أن تمر بالمرحلة الديموغرافية التي تنخفض فيها الوفيات انخفاضًا حادًّا ولكن تظل فيها الخصوبة عالية قبل أن تصل إلى المرحلة التالية التي تَنخفِض فيها معدلات المواليد.

ورغم التخلف النسبي في أداء أمريكا وباكستان، ينبغي ألا نُغفِل مدى التقدُّم الذي أحرزناه في تقليل وفيات الرضع والأمهات. وكل الشواهد تجعلنا موقنين أنَّ تزايُد الدعم المتاح بعد الولادة في البلدان النامية في السنوات القادمة سيجعل مأساةَ فقدان الطفل الرضيع لأمه حدثًا نادرًا. وما لم تقع كارثة عالمية، فإنَّ مثل هذه الانتكاسات التي حدثت في المملكة المتحدة من المُستبعَد أن تُصبح ذات دلالة إحصائية. إذ ربما تكون تجربة المملكة المتحدة مجرد مثال للصعوبة التي تصطدم بها الدول التي تُبلي بلاءً حسنًا بالفعل حينما تحاول الارتقاء بأدائها من حَسَنٍ إلى أحسن.

وإجمالًا، نَعرِف أن معدَّل وفيات الرضع والأمهات في أثناء الولادة سيكون مُنخفضًا في المستقبل لأنَّ هذا هو الوضع القائم بالفعل في معظَم العالم المتقدم. ويرى البعض أن الموت ربما يُمنَع تمامًا، لكن هذه الفكرة ما زالت تصوُّرًا جامحًا من ضروب الخيال العلمي حتى الآن. سنستعرض هذه النظريات التي تبدو غريبة لاحقًا، ولكن في عالم الواقع الخالي من الأوهام، لن تُمنَع وفيات الرضع والأمهات في أثناء الولادة تمامًا خلال العقود القليلة القادمة، لكن معدلات كليهما ستُواصل الانخفاض بشدة في مختلف أنحاء العالم. ومع أنَّ تخفيض المعدل من اثنين لكل ألف إلى اثنين لكل عشرة آلاف أو حتى اثنَين لكل مائة ألف يعدُّ طموحًا جديرًا بالسعي، فإن معدلات وفيات الرضع والأمهات في أثناء الولادة ستكون منخفضة جدًّا أصلًا إلى حد أن إجراء المزيد من التحسينات فيها لن يُحدِث فرقًا في الأرقام تقريبًا.

ما يزال مُعظم العالم في طور الانتقال إلى ذلك الوضع، وعندما تنخفض وفيات الرضع والأمهات، ينمو عدد السكان في البداية بسرعة هائلة. وهذه هي المرحلة التوسعية من التحول الديموغرافي التي بدأت أوروبا تتركها منذ أكثر من قرن والتي يمر بها بقية العالم حاليًّا. لكنها في أفريقيا ما زالت تستمر عقودًا من الزمن، وستُغير «كل شيء».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤