الفصل العاشر

الغذاء

٣٧٥: النسبة المئوية للزيادة في إنتاج الحبوب في إثيوبيا في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية1
تخيل أن كل النساء منذ بداية عصر التقويم الميلادي قد وصلنَ إلى عمر الإنجاب، ونجَون من هذه المرحلة بسلام، وأن كل واحدة منهنَّ أنجبَت أربعة أطفال في المتوسط. وتخيل أيضًا أن متوسِّط عمر المرأة عند الإنجاب كان ٢٥ عامًا. ربما تبدو هذه الأرقام المفترَضة مُتواضعة إلى حدٍّ ما؛ وذلك لأنَّ المرأة السليمة التي تمارس الجنس بانتظامٍ طوال سنوات خصوبتها من المتوقَّع أن تحبل أكثر من أربع مرات، وبذلك لا يبدو أنَّ أربعة أطفال عدد كبير، كما أنَّ متوسط سن الإنجاب في مرحلة ما قبل الحداثة عادةً ما يكون أصغر من خمسة وعشرين عامًا. لكن هذه الافتراضات التي تبدو متحفظةً كانت ستجعل عدد أفراد كل جيل ضِعف الجيل السابق، وبذلك كانت ستجعل عدد سكان العالم يتضاعَف أربعة مرات في كل قرن.2

وإذا طبَّقنا هذه الافتراضات بدءًا من العام الأول بعد الميلاد، عندما كان عدد سكان العالم نحو ربع مليار نسمة، لزاد عدد السكان إلى أكثر من ٢٥٠ ألف مليار نسمة بحلول عام ٥٠٠ بعد الميلاد، أي أكثر من عددهم الحالي ٣٠ ألف مرة. ولأصبح عدد السكان الآن، في أوائل القرن الحادي والعشرين، مكوَّنًا من ٣٣ رقمًا بدلًا من عشرة أرقام فقط. وهذه النوعية من الأرقام الهائلة عادةً ما يتعامل معها علماء الكونيات أو علماء الرياضيات، لا دارسو الديموغرافيا أو علماء علم الاجتماع. وكما قال أحد علماء الديموغرافيا ذات مرة، لو كان من المفترض أن يزداد عدد البشر بمعدل أسرع من سرعة الضوء؛ لأصبح عدد البشر في الكون أكبر من عدد الذرات في نهاية المطاف.

غير أنَّ فكرة ازدياد السكان بهذا القدر في حد ذاتها غير منطقية؛ فلو ازداد السكان بسرعة الضوء، لوجدوا أنفسهم في وضعٍ لا يسمح لهم بالتكاثُر أصلًا، ولأنَّ كل واحد منَّا يحوي داخله العديد من الذرات، فلا يمكن أن يفوق عددنا الإجمالي عددها. لكنَّ أقصى حدٍّ يمكن أن يصل إليه عدد البشر ليس واضحًا بصورة مباشرة. فإنجاب العديد من الأطفال وبقاء أربعة منهم على قيد الحياة ليس بالشيء الصعب، كما رأينا بالفعل، وظاهرةُ تضاعُف أعداد البشر من جيل إلى آخر تكررت كثيرًا على مر التاريخ. لكن الفكرة أنَّ هذا الوضع لم يستمر عدة قرون.

فالزيادة في عدد السكان عبر التاريخ لم تتسارع بهذا المعدل الهائل، وإنما تباطأت بسبب الحروب والأوبئة. لكن العائق الأكبر على الإطلاق كان نقص الغذاء؛ إذ كان يستحيل أن يُوفر كوكب الأرض احتياجات مثل هذا العدد الهائل من البشر على الإطلاق. فلو افترضنا أن عددهم قد ازداد بهذا المعدَّل بالفعل، ما كانوا سيجدون طعامًا يأكلونه حتى قبل أن ينفد الحيز المكاني المتاح لهم. لذا فكما أوضح توماس مالتوس، الذي يُعرَف بأنه أبو الديموغرافيا الحديثة، فإما أن تؤدي مجاعة أو حرب أو كارثةٌ فظيعة إلى عرقلة هذه الطفرة البشرية العظيمة، وإما سنحتاج إلى الامتناع عن ممارسة الجنس وقتل الأطفال الرضَّع لكبح جماحها.

ومع أنَّ الأرقام الافتراضية المذكورة أعلاه بشأن تكاثرنا ربما بدت مُتواضعة، فإن البشر عجزوا باستمرارٍ عن الوصول إليها أو حتى الاقتراب منها. فكلَّما ازداد عددهم، تراجع مجددًا بسبب تعرضهم لكوارث شديدة أو معاناة طاحنة، كالجوع والمجاعات والمذابح. ومن ثَم احتاجوا إلى إنجاب عدد هائل من المواليد لمجرَّد الحفاظ على ثبات أعدادهم. ويتجلى ذلك في كلام إحدى شخصيات رواية «الأرض الطيبة»، التي كتبها بيرل باك، وتدور أحداثها في الصين، حين قال لابنه بحسرة: «وا أسفاه، لا أصدِّق أنَّ كل الأطفال الذين أنجبتُهم أنا وأمك، واحدًا تلو الآخر — حتى وصَل عددهم إلى عشرة، على ما أتذكر — قد ماتوا، وأنك أنت الوحيد الذي بقيت حيًّا! أتفهم الآن لماذا يجب أن تُنجب المرأة مزيدًا ومزيدًا من الأطفال.»3

ولكن في القرنَين الماضيين اللذين مرَّا بعد عهد مالتوس، قُلِبَت افتراضاته الأساسية رأسًا على عقب. فقد كُبحت النزعة البشرية إلى التكاثر، كما رأينا بالفعل. وفي الوقت نفسه، لم تتحسَّن قدرتنا على إنتاج الغذاء بوتيرة تدريجية كما توقَّع مالتوس، وإنما تحسَّنت بمعدلٍ هائل. ولمَّا كان إنتاج الغذاء هو العائق الديموغرافي الأكبر، فإن إزالة هذا العائق كانت أحد العوامل الأساسية وراء التغير الديموغرافي الحديث.

إثيوبيا تنجو من الفخ المالتوسي

في مستشفى إثيوبي على بُعد مائة ميل جنوب أديس أبابا، يبتسِم أحد أفراد الأطقم الطبية وهو يَزن رضيعًا يبدو بصحة جيدة، فيما يقول لأمه وهي تنظُر بكل فخرٍ إن جسد طفلها يحصل على التغذية الكافية، وينمو كما ينبغي. وصحيح أنَّ هذا المشهد شائع الآن في معظم دول العالم المتقدم، لكنه ظل نادرًا جدًّا على مرِّ فترة طويلة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.4
ففي منتصَف الثمانينيات، شهدت إثيوبيا مجاعة. وكما هو الحال في أغلب مثل هذه الكوارث، كان ذلك نتيجة لمزيجٍ من أسباب طبيعية (وقد كان الجفاف هو السبب الطبيعي)، وفشل حكومي (تمثَّل في اتِّباع سياسات زراعية مستوحاة من الماركسية السوفييتية)، وإيذاء حكومي مُتعمَّد (تمثَّل في محاولة إلحاق الضرر بجماعات عِرقية مُتمردة). ونتيجة لذلك، تُوفي نحو مليون شخص، وانخفض متوسِّط العمر المتوقع عند الولادة انخفاضًا صادمًا ليصل إلى ستِّ سنوات فقط.5 وقد انتبه الغرب إلى تلك الكارثة آنذاك؛ فالذين يذكرون تلك الفترة ما زالوا يتذكَّرون صور الأطفال الهزيلين المصابين بسوء التغذية والإرهاق الشديد الذي أعجزَهم حتى عن إبعاد الذباب عن وجوههم. ونتيجة لذلك، أصبح جيل كامل من الأوروبيِّين ومواطني أمريكا الشمالية ينظر إلى إثيوبيا على أنها المثال الأبرز للفشل الاقتصادي والعوز الإنساني.
أمَّا اليوم، فقد شهدت إثيوبيا تحولًا جذريًّا. والأطفال الرضَّع هم المستفيدون من ذلك التحول. فمنذ عام ١٩٨٤، ومع ازدياد عدد سكان البلاد إلى أكثر من الضِّعف، انخفضت نسبة الأطفال الذين يموتون قبل إتمام عامهم الأول إلى أقل من ٥ في المائة، أي ما يقرب من نصف الرقم الذي كانت عليه في بداية القرن الحادي والعشرين، وربع الرقم الذي كانت عليه في وقت المجاعة. فيما ارتفع متوسِّط السعرات الحرارية اليومية التي يحصل عليها الفرد الإثيوبي بين عامَي ١٩٨٤ و٢٠١١ من ١٥٠٠ سُعر إلى ٢١٠٠ سعر، وهذا بالطبع أفضل بكثيرٍ للصحة.6 هذا وقد ازداد متوسط العمر المتوقع زيادة مذهلة؛ إذ ارتفع من ٤٤ عامًا إلى ٦٤ عامًا منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بينما انخفضت وفيات الأمهات بنسبة الثُّلثين خلال الفترة نفسها. وعلاوةً على ذلك، تضاعفت نسبة مَن يعرفون القراءة والكتابة بين الأفراد البالغين منذ منتصف التسعينيات؛ إذ ارتفعت من نحو ربع السكان إلى قُرابة نصف السكان.7

ويرجع الفضل الرئيسي في ذلك إلى اجتثاث التأثير الخبيث للعقيدة الماركسية اللينينية من سياسات تنظيم الزراعة. وفوق ذلك، كان دعم المجتمع الدولي مهمًّا أيضًا؛ فالمستشفى الذي وُزِن فيه الطفل الرضيع الذي ذكرته آنفًا مموَّل بمساعدات كندية. غير أنَّ التقنيات والتكنولوجيات التي تعلَّمها الإثيوبيون أنفسهم كانت مهمة بالقدر نفسه، وكذلك الطرق التي كيَّفوا بها تلك التقنيات مع الظروف المحلية. ويتجلَّى التأثير الأبرز في الزراعة وتحسُّن الإنتاجية كما ذكرنا أعلاه.

وصحيح أنَّ حياة الكثيرين في إثيوبيا ما زالت محفوفة بمخاطر هائلة — بل وصارت أصعب بسبب اندلاع الحرب الأهلية من جديد مؤخرًا — لكن البلاد شهدت تحسُّنًا هائلًا في الرفاهية البشرية على مدار العقود الثلاثة الماضية. وما كان أيٌّ من ذلك ليتحقَّق لولا تحسُّن الإنتاج الزراعي. وهذا عكس ما توقَّعه مالتوس؛ إذ خفضت إثيوبيا معدل نمو سكانها بدرجة كبيرة بينما حققت في الوقت نفسه زيادة هائلة في معدل إنتاج الغذاء. ففي بعض الأماكن هناك، ازدادت كمية المحاصيل إلى أكثر من الضعف خلال ثلاث سنوات فقط. غير أنَّ إجمالي إنتاج القمح في الهكتار الواحد هناك ما زال أقل من ثلث نظيره في أمريكا،8 وما زال ملايين السكان عرضة للتضرُّر من تلف المحاصيل، وأيضًا ما زال بعض الإثيوبيين مصابين بسوء التغذية. وفوق ذلك، انخفضت نسبة الأطفال الذين يُعانون تأخُّر النمو؛ إذ وصلت إلى ٣٨ في المائة في عام ٢٠١٦ بعدما كانت ٥٨ في المائة قبل ذلك بستة عشر عامًا فقط.9 وعلى الرغم من الزيادة السكانية الكبيرة في إثيوبيا، فقد انخفَضَت نسبة الأفراد الذين يعانون نقص التغذية منذ بداية القرن من أكثر من ٥٠ في المائة إلى نحو ٢٠ في المائة فقط.10
وإذا افترضنا أنَّ إنتاج الغذاء قد ازداد أربعة أمثال خلال جيل واحد لكن عدد السكان ازداد إلى الضعف فقط، فإن نصيب الفرد من الغذاء سيتضاعف مع كل جيل. وفي حين أنَّه من الواضح أنَّ هذا المستوى من الزيادة في إنتاج الغذاء غير مستدامٍ على المدى الطويل، فإنَّ بعض الدول الأخرى حقَّقت زيادات كهذه في العقود الأخيرة. ففي ولاية بنجاب الهندية، ازداد معدَّل إنتاج القمح والبذور الزيتية بنحو ٥ في المائة سنويًّا على مدار الأعوام الخمسة والأربعين حتى عام ٢٠٠٥؛ أي أصبح تسعة أمثال ما كان عليه.11 وعلى المستوى العالمي، ازداد إنتاج الحبوب بمقدار ثلاثة أمثال في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم ارتفع مرة أخرى بنسبة ٥٠ في المائة تقريبًا في السنوات الثماني عشرة الأولى من القرن الحالي.12
وأحد العوائق التي تحُول دون زيادة إنتاج الغذاء هو بالطبع الظروف البيئية. وغالبًا ما يقع الضرر البيئي الأكبر في الدول الفقيرة التي تشهد نموًّا سكانيًّا سريعًا. فبعدما كانت إثيوبيا مليئة بالغابات فيما مضى، انخفَضَت نسبة الغطاء الشجري فيها بحلول أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى ٣ في المائة من مساحة أراضيها.13 وقد زعمت الحكومة في عام ٢٠١٩ أنها زرعت ٣٥٠ مليون شجرة في يوم واحد؛ صحيح أنَّ البعض يُشكك فيما إذا كان ذلك قد تحقق بالفعل،14 ولكن من الواضح أنَّ البلاد تشهد عملية إعادة تشجير كبيرة، وأنَّها بدأت في إصلاح بعض الأضرار البيئية التي لحقَت بها.
ومن المؤكد أنَّ تحسين البيئة في إثيوبيا سيكون صعبًا مع استمرار ازدياد سكانها، ولكنْ ثمة عاملان سيساعدان البلاد. أولهما أنَّ البلاد بدأت تتخلى عن استخدام الخشب كوقود، وصارت تعتمد على مصادر الطاقة البديلة، بما في ذلك الطاقة الكهرومائية المستمدة من النيل الأزرق. والعامل الثاني هو تباطؤ وتيرة النمو السكاني. فبعدما بلغت ذروتها في أوائل تسعينيات القرن الماضي بوصولها إلى ٣٫٧ في المائة سنويًّا، صارت لا تكاد تتجاوز ٢٫٥ في المائة، ومن المتوقَّع أن تنخفِض إلى أقل من ٢ في المائة في وقتٍ ما في ثلاثينيات القرن الحالي. صحيح أنَّ ذلك يعني أنَّ البلاد ستظلُّ مُلزَمة بإطعام مزيدٍ من الأفواه، لكن نهاية النمو السكاني المتسارع صارت تلوح في الأفق على الأقل. إذ تُشير تقديرات الأمم المتحدة المتوسطة إلى أن عدد سكان إثيوبيا سيثبُت عند نحو ربع مليار نسمة بحلول نهاية القرن الحالي؛ وهو رقم أعلى بكثير من العدد الحالي الذي يتجاوز ١٠٠ مليون نسمة. وقد انخفض معدل الخصوبة في البلاد بالفعل إلى أقل من ٤٫٥، بعد أن كان نحو٥٫٧ في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وفي أديس أبابا، بدا أن معدل الخصوبة قد انخفض إلى ما دون مستوى الإحلال منذ عام ١٩٩٤.15
في أجزاء كثيرة من العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تتَّسم بالجفاف والزيادة السكانية، يشكِّل نقص المياه عائقًا أمام الزراعة. ولكن حتى في هذه المناطق توجد حلول تقنية. فعلى سبيل المثال، انخفضَت تكلفة تحلية مياه البحر انخفاضًا كبيرًا في العقود الأخيرة، علمًا بأنَّ هذه التقنية تُوفر نصف احتياجات المملكة العربية السعودية من مياه الشرب بالفعل.16 وصحيح أنها تُسبب مشكلات بيئية، كأي حلول أخرى، لكن الحكومات تتعامل مع هذه المشكلات أيضًا.17

إطعام العالم: الابتكارات العظيمة

رغم المخاوف المنتشرة بشأن البيئة واستنزاف الموارد وتغيُّر المناخ، ينبغي لنا أن نتأمَّل الكيفية التي يستوعب بها الكوكب هذا الكم الهائل من البشر ويظلُّ قادرًا على إطعامهم كلهم، حتى ولو نظريًّا إن لم يكن عمليًّا.18 صحيح أنَّ البعض ربما يتحسَّر على وجود مثل هذا العدد الكبير من البشر، ولكن سواء أكان النمو السكاني موضع ترحيب أم لا، فإن الانخفاض السكاني قد بدأ بالفعل في بعض المناطق، بل وينتشر أيضًا. ولمَّا قد بدأت وطأة الضغوط السكانية تخفُّ، فقد حان الوقت لنُقدِّر قيمة الابتكارات التي أتاحت وجود البشر بأعدادٍ هائلة لم يكن يتصوَّرها أحد.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت ثمة دلائل قوية تشير إلى أنَّ مجاعة جماعية تنتظرنا، تمامًا كما تنبَّأ توماس مالتوس في بداية القرن. صحيح أن وسائل الإنتاج الزراعي الحديثة كانت قد وصلَت آنذاك إلى الأمريكتَين، وابتُكِرت وسائل لنقل هذه المنتجات. وبذلك ارتفعت الإنتاجية، وزادت صادرات لحوم البقر ولحم الخنزير من الولايات المتحدة بمقدار أربع عشرة مرة بين أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر وأواخر تسعينياته.19 وفي الوقت نفسه ازدادت صادرات القمح الأمريكية بوتيرة سريعة منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، بينما انخفَضَ سعر الخبز في بريطانيا إلى النصف بين عامَي ١٨٤٠ و١٨٨٠.20 وعلاوةً على ذلك، فقد صار عدد سكان بريطانيا أكثر من ثلاثة أمثاله منذ أن نشر مالتوس كتابه «مقالة عن مبدأ السكان» قبل ذلك بقرن من الزمان تقريبًا، واستقر ملايين البريطانيين في الخارج أيضًا. كما انتقَلَت التقنيات الزراعية المتطورة والمنتجات الغذائية المُحسَّنة من خارج القارة إلى جميع أنحائها، وبذلك بدأ عدد سكان الدول الأخرى أيضًا يزداد، وليس فقط سكان بريطانيا.21
ولكن مع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته وبزوغ فجر القرن العشرين، بدا أن عدد السكان في أوروبا قد ارتفع إلى الحد الأقصى الذي تكفيه حدود الإنتاج الجديدة. إذ كانت بريطانيا تستورد الغذاء بكميات كبيرة، من خارج أوروبا بالأخص. فبين عامَي ١٨٥٠ و١٩٠٩، تحوَّلت بريطانيا من الاكتفاء الذاتي في تلبية معظم احتياجاتها من القمح إلى استيراد ٨٠ في المائة من القمح المستخدَم في صنع الخبز.22 وبدا كأنَّ الزيادات التي يُمكن تحقيقها في إنتاج الغذاء قد انتهت، في ظل عدم وجود المزيد من «الفدادين الخارجية» التي يُمكن استخدامها في الإنتاج. وظلَّت النظرية المالتوسية منطبقة، حتى مع كثرة الغذاء المتوفر؛ وذلك لأن عدد السكان كان كبيرًا. إذ لم يعد من الممكن اكتشاف أمريكتين جديدتَين، ولم يَعُد يوجد سهول كبرى جديدة يمكن استيطانها؛ لأنَّ هذه الإنجازات وثمارها كانت قد حُصدت بالفعل. وكذلك لم يكن من الممكن زيادة الإنتاج باستخدام الأسمدة الطبيعية إلَّا بقدرٍ محدود. بل إنَّ رواسب الملح الصخري كانت تُقدَّر بثمنٍ غالٍ جدًّا في أمريكا اللاتينية، إلى درجة أن التنافُس للسيطرة عليها أشعل حروبًا دامية بين تشيلي وبيرو وبوليفيا بين عامَي ١٨٧٩ و١٨٨٣، أسفرت عن وقوع أكثر من ٥٥ ألف رجل بين قتيل وجريح.23 وأيًّا كان من استطاع السيطرة على ذلك السماد الطبيعي والاستفادة منه، فقد قُدِّرت مخزوناته آنذاك بأنها لن تكفي سوى ثلاثين عامًا تقريبًا على أي حال.

وقد كان هذا هو السياق الذي أعرب فيه ويليام كروكس، رئيس الجمعية البريطانية لتقدم العلوم، عن آماله في أن يتوصَّل العلم إلى طريقة للتغلُّب على هذه القيود. وبالفعل تحقَّق مثل هذا الإنجاز الفارق على الجانب الآخر من بحر الشمال، وتحديدًا في ألمانيا.

ففي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ابتكر الكيميائي الألماني فريتز هابر عملية لتحويل النيتروجين إلى نشادر، ثم أتى كارل بوش وطوَّرها لتلائم الاستخدام الصناعي. وهذا أتاح إنتاج الأسمدة الصناعية، ومن ثَم إنهاء الاعتماد على الملح الصخري وغيره من الرواسب الطبيعية. وعلى حد قول أحد الذين شاركوا في تأبينه بعد وفاته في عام ١٩٣٤، «سيُدوَّن هابر في التاريخ على أنه … الرجل الذي ظفر بالخبز من الهواء، وحقق إنجازًا يخدم وطنه والبشرية بأسرها.»24 فيما قال آخر في تعليق لاحق: «لم يكن عدد سكان العالم ليزداد من ١٫٦ مليار في عام ١٩٠٠ إلى ستة مليارات حاليًّا لولا عملية هابر-بوش»، ووصفها بأنها «مفجرة الانفجار السكاني».25 ووفقًا للتقديرات الحالية، يحصل ٤٠ في المائة من سكان العالم على غذائهم بفضل هابر وبوش.26 ومع أنَّ الانفجارات السكانية التي شهدتها آسيا وأفريقيا في العقود الأخيرة حدثت بفضل هذين الرجلَين، فإن مُعظمنا لا يعرف اسمَيهما حتى.
هذا وقد لجأ النازيون إلى تبنِّي نهج هابر في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى إطعام سكانهم آنذاك، مع أنَّ فكرة حل نقص الغذاء باستخدام الابتكارات بدلًا من الاستيلاء على أراضي الآخرين كانت تُخالِف جوهر أجندتهم.27 لكنهم في الأساس كانوا يُفضِّلون استخدام نهج طبيعي في الزراعة،28 إلى جانب أنهم كانوا يشكُّون في هابر بسبب أصوله اليهودية والآثار المُترتبة على إنجازاته. لذا فبعدَ صُعودهم إلى السلطة، هرَب هابر أولًا إلى بريطانيا، حيث آواه البريطانيون عندهم مع أنَّ الغاز السام الذي اخترعه قد ساعد ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ثم تُوفي وفاة طبيعية في عام ١٩٣٤ وهو في طريقه إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك.

وصحيح أنَّ إنجاز هابر كان أساسيًّا لإطعام سكان العالم الذين بلغ عددهم سبعة مليارات شخص، لكنه لم يكن الابتكار الوحيد الذي سمح بزيادة الإنتاج الزراعي. إذ أحرز علماء آخرون تقدُّمات كبيرة أخرى في مكافحة الحشائش والحشرات والفطريات، مما أسهم في زيادة الغلَّة. ومن أبرز هذه التطورات الفارقة ما يُسمَّى بالثورة الخضراء التي حدثت بين ثلاثينيات القرن العشرين وستينياته وتضمَّنت تكييف محاصيل معينة مثل القمح القزم وصنف الأرز المعروف باسم «آي آر ٨»، مما أتاح مضاعفة إنتاج بعض المحاصيل في غضون عقدَين من الزمن. ولعلَّ الاسم الأكثر ارتباطًا بالثورة الخضراء هو اسم المهندس الزراعي الأمريكي نورمان بورلوج، الذي ابتكر سلالات محاصيل جديدة مُقاوِمة للأمراض.

وقد فاز بورلوج بجائزة نوبل مثل هابر، لكن فوزه كان اعترافًا بإسهامه في تحقيق السلام؛ فقد أثبت ابتكاره أن التعاون والإبداع البشريَّين يُمكنهما التغلب على العقبات التي تعوق الإنتاجية، وأن التاريخ لا يُشترط بالضرورة أن يكون صراعًا أبديًّا بين الأفراد أو الأجناس أو الطبقات. ويُذكَر هنا أنَّ بورلوج الذي كان سليل مهاجرَين نرويجيَّين إلى الولايات المتحدة قد أجرى معظم أبحاثه في المكسيك، لكن الهند هي التي نالت التأثير الأكبر من أبحاثه. ومن وجهة نظر الأمريكيين، فإنَّ إيجاد حل علمي لمشكلة الجوع في العالم، وخصوصًا أنه حل ابتُكِر في أمريكا أو على الأقل ابتكره مواطن أمريكي، قد أحدث تأثيرًا سياسيًّا مفيدًا، لأنه خفَّف من وطأة الجوع والفقر الجماعي بين فلاحي العالم الثالث الذين ربما كانوا سيُشعلون ثورات غاضبة لولا ذلك.

وصحيح أنَّ البعض يقول إنَّ ابتكارات بورلوج قلَّلت من التنوع الجيني، وأدَّت إلى تآكل التربة، بل إنه هو نفسه كان على دراية بعيوب ابتكاره.29 لكن حتى منتقدوه لا يستطيعون إنكار أنَّ أفكاره أسهمت في إنقاذ مليارات الأرواح، تمامًا كأفكار هابر من قبله.30 وقد قال بورلوج عن ذلك إنَّ منتقديه ربما لم «يجربوا الإحساس الجسدي بالجوع قَط. فهُم يمارسون الضغط من مكاتبهم المريحة في واشنطن أو بروكسل. أمَّا لو عاشوا شهرًا واحدًا فقط وسط بؤس العالم النامي، كما عِشت أنا طوال خمسين عامًا، لصرخوا طلبًا للجرارات والأسمدة وقنوات الري، ولاستشاطوا غضبًا من أنَّ النخب العصرية في الدول الغنية تحاول حرمانهم من هذه الأشياء.»31

هل الوضع مختلف هذه المرة؟

شهد إنتاج الغذاء زيادات هائلة في المائتَي عام الماضية. ومع ذلك حدثَت عدة مجاعات في أوروبا في القرن التاسع عشر، بل وظلَّ حدوثها شائعًا في معظم أنحاء العالم حتى بعد فترة من بداية القرن العشرين، وبالأخصِّ في اليمن والسودان والصومال على سبيل المثال. وقد شهدت الهند أيضًا مجاعات فتاكة منذ فترة قريبة، وتحديدًا في أربعينيات القرن الماضي؛ إذ أسفرت مجاعة البنغال في عام ١٩٤٣ عن وفاة أكثر من ثلاثة ملايين شخص.32
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مُعظم المجاعات لم تَعُد تحدث بسبب نقص في الغذاء، وإنما نتيجة للحرب أو عدم الكفاءة السياسية أو سياسات مُتعمَّدة. فوفاة ملايين السكان من الجوع في أوكرانيا في أوائل الثلاثينيات لم تكن ناتجة من نقصٍ في الإنتاج الزراعي؛ لذا فإمَّا أنَّ الحكومة تعمَّدت القضاء على مُعظم الفلاحين، وإما أنَّ المجاعة كانت نتيجة حتمية للتزمُّت في تصميم سياسات تأميم الأراضي الزراعية وتطبيقها.33 وكذلك فالسبب الأكبر في المجاعة الإثيوبية التي وقعت في الثمانينيات كان محاكاة النموذج السوفييتي والصراع العرقي،34 وهو ما يُذكِّرني بنكتةٍ انتشرت آنذاك وكانت مستوحاة من اسم المجلة الشيوعية «الماركسية اليوم» التي توقفت عن الصدور؛ إذ قيل فيها «الماركسية اليوم تؤدي إلى المجاعة غدًا.»
وعلى كل حال، أصبحت حالات الموت من الجوع أقل شيوعًا منذ ستينيات القرن الماضي. إذ يُشير أحد التقديرات إلى أن المعدل السنوي لمثل هذه الوفيات بين كل ١٠٠ ألف شخص في سبعينيات القرن الماضي كان أقل من خُمس مقداره في ستينياته؛ أمَّا في الأعوام من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٦، فكان المعدل السنوي للوفيات الناجمة عن الجوع يبلغ ١ في المائة فقط من مقداره في ستينيات القرن الماضي. وعند المقارنة بفتراتٍ تاريخية أقدَم، سنجد أن المعدل الحالي لا يكاد يبلغ الثُّلث من ١ في المائة ممَّا كان عليه في سبعينيات القرن التاسع عشر مثلًا. وحتى لو تجاهلنا هذه المعدلات النسبية، التي تأخذ في حسبانها تزايُد سكان العالم، ونظرنا إلى الأعداد المطلقة للوفيات، فسنجد أن أكثر من ٢٠ مليون شخص قد ماتوا من الجوع في سبعينيات القرن التاسع عشر، وأنَّ أكثر من ١٨ مليونًا قد هَلَكوا جوعًا في أربعينيات القرن العشرين؛ في حين أنَّ عدد وفيات المجاعات في الفترة من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٦ لا يكاد يبلُغ ربع مليون.35
ولكن في كل مرحلة من مراحل نمو السكان العالمي، كان المؤمنون بنظرية مالتوس يُعربون عن تخوفاتهم من أننا على وشك الاصطدام بحاجزٍ جديدٍ سيُؤدي بنا إلى المجاعة الجماعية. بل إنَّ هذه المخاوف كانت موجودة منذ القرن الثاني، عندما حذَّر المؤلف اللاهوتي ترتليان قائلًا: «الدليل القاطع على خصوبة البشر هو أننا تكاثَرنا حتى أصبحنا عِبئًا ثقيلًا على الكوكب؛ فالموارد صارت تكفينا بالكاد، بينما تفاقمَت احتياجاتنا، وانتشرت شكاوانا؛ لأنَّ الطبيعة لم تعُد توفر لنا القوت الكافي. في الحقيقة، يجب أن ننظر إلى الأوبئة والمجاعات والحروب على أنها حلٌّ ممكن للأمم؛ إذ تُعَد وسيلة للتخلص من البشر الزائدين عن الحاجة.»36
وكما رأينا، فقد أعرب البعض عن مخاوف مماثلة في أوائل القرن العشرين، قبل الإنجاز الفارق الذي حقَّقه هابر، ومرة أخرى في ستينيات القرن العشرين، وقت ذروة النمو السكاني العالمي. ويُذكَر هنا أنَّ بول إرليتش استهلَّ كتابه الشهير «القنبلة السكانية» في عام ١٩٦٨ بجملة لافتة قائلًا: «لقد انتهت معركة توفير الغذاء للبشر بالهزيمة. ومن ثَم سيعاني العالم مجاعات في سبعينيات القرن العشرين؛ وسيموت مئات الملايين من الناس جوعًا.»37 ويُمكن الدفاع عن إرليتش بالقول إن تحذيراته ومخاوفه حفَّزت إطلاق المبادرات التي خفَّضت معدلات النمو السكاني، لكنه ظل مُصرًّا على موقفه حتى بعدما اتضح أنه كان مستهينًا بقدرة البشر على الابتكار وإنتاج المزيد من الغذاء. ففي لقاء صحفي أُجرِيَ معه في عام ٢٠١٨ بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لكتابه الشهير، أكَّد أنَّ «النمو السكاني، إلى جانب ارتفاع استهلاك الفرد عن الحد المسموح به، يدفع الحضارة إلى حافة الهاوية.»38

وصحيح أنَّ الوضع ربما يكون مختلفًا هذه المرة، لكن البعض يُشبِّهه بالنكتة التي تحكي عن رجلٍ قفز من الطابق العاشر في أحد المباني، وفي أثناء مروره بالطابق الثاني قال: «لم يمسَسنى أذًى حتى الآن.» وهذه الحجة لها شِقَّان. أولهما يتعلق بالقضايا البيئية كالاحترار العالمي وغيره، بينما يركز الثاني على ما إذا كان في وسعنا الاستمرار في زيادة إنتاج الغذاء بالمعدل المطلوب لإطعام سكان العالم، حتى إن كنا قد تمكنَّا من ذلك في الماضي. سأعود إلى السؤال الأول من هذَين السؤالَين في الخاتمة التي تلي هذا الفصل، لكني الآن أريد أن أسأل عمَّا إذا كانت أفكار توفير الغذاء لسكان العالم قد بدأت تنفد منَّا بينما يتَّجه عددنا إلى ١٠ أو ١١ مليار نسمة.

وهنا أجد أسبابًا تبعث على القلق. ففي عام ٢٠٠٨، أشار تقرير التنمية العالمية الصادر عن البنك الدولي إلى أن الزيادات في محاصيل القمح والذرة والأرز في العالم النامي تتباطأ منذ ثمانينيات القرن الماضي. وكما حذَّر عالِم البيئة الأمريكي ليستر براون في عام ٢٠٠٥، فإن «العائدات بدأت تتناقص على كل الأصعدة.»39 غير أنَّ قياس إنتاجية الغذاء العالمي بدقة يُعَد مهمَّة صعبة للغاية؛ وقد أشارت أبحاثٌ أحدث إلى أنَّ الارتفاع في مقدار «الإنتاجية الكلية لعوامل» الزراعة — أي النسبة بين حجم الإنتاج الذي نحصل عليه، والمدخلات التي نستعين بها في عملية الإنتاج كالأرض والعمالة والأسمدة — يتسارع في واقع الأمر. ويشير أحد التقديرات إلى أن معدل زيادة الإنتاجية الكلية للعوامل قد تضاعف في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وما زال يرتفع.40 ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن عدد الأفراد اللازم لإنتاج غذائنا يتناقَص باستمرار. ففي الصين مثلًا، انخفضت نسبة القوى العاملة التي تعمل في القطاع الزراعي من أكثر من النصف إلى أقل من الخُمس في العقود الثلاثة الماضية.41
هذا وتُعَد البيانات المتعلِّقة بإجمالي الإنتاج مؤكدة بدرجة أكبر من البيانات المتعلقة بالإنتاجية أو الغلات أو العوائد؛ وذلك لأنَّ حسابها لا يتطلَّب سوى بيانات مخرجات عملية الإنتاج وليس النسبة بين المخرجات والمدخلات. وهنا أيضًا نجد الأرقام مُطمئنة؛ فقد تسارع نمو الإنتاج قليلًا في القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت نفسه، علينا أن نذكِّر أنفسنا بأن النمو السكاني يتباطأ، وهو ما يفسر انخفاض أعداد الذين يعانون سوء التغذية والمجاعة. وصحيح أن نمو الإنتاج قد شهد بعض التباطؤ في الدول الصناعية حيث يتوفر الغذاء بكثرة على أي حال، ولكن يُعوِّضه تسارع نمو الإنتاج في المناطق الأخرى التي هي في أمسِّ الحاجة إليه.42 ويبدو أن إمدادات الغذاء العالمية لا تتزايد فحسب، بل إنَّ العالم النامي كذلك أصبح أقل اعتمادًا على فوائض الدول المتقدمة؛ وفوق ذلك، تتزايد الفرص المتاحة أمام الدول الفقيرة لتصدير منتجاتها الغذائية، إذا سمحت الاتفاقيات التجارية بذلك. ومع زيادة الاستثمار في النقل والتبريد، من المفترض أن تقلَّ الكميات المُهدَرة من الإنتاج الزراعي، ما سيُوفِّر المزيد من الغذاء للمُستهلكين.
ومع أنَّ التغيُّر المناخي قد يُقلل من إنتاجية بعض المناطق، فإنه يُمكن أن يعزز إنتاجية مناطق أخرى، وذلك في ظل ابتكار تقنياتٍ حديثة تجعل المحاصيل أكثر مقاومة للحرارة.43

ومن الأسباب الأخرى الباعثة على التفاؤل هو استمرار وجود فجوة كبيرة بين الدول الرائدة في الإنتاج الزراعي ونظيرتها المتأخِّرة. فغلَّة محاصيل الحبوب الهندية أقل بكثيرٍ من نصف كمية هذه المحاصيل في الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك فكميتها في الأردن أقل من نصف كميتها في إسرائيل. وفي كوبا، نجد أن كميتها لا تكاد تتجاوز نصف الكمية في البرازيل. صحيح أن كل منطقة تواجه عراقيل خاصة تعوقها عن الوصول إلى مستوى الإنتاجية الزراعية في المناطق الشهيرة بكثرة الإنتاج، مثل ولايات حزام الذُّرة في الولايات المتحدة، أو منطقة شرق أنجليا في إنجلترا، أو حوض باريس، ولكن من المؤكد أنَّ ثمة إمكانية لتضييق هذه الفجوة إلى حدٍّ ما.

الكيفية التي نعيش بها الآن: إطعام المليارات الثمانية

الأرز عنصر أساسي في غذاء نصف سكان العالم تقريبًا.44 وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ نحو ٩٠ في المائة من كل الأرز يُزرع في آسيا، حيث تحتلُّ الصين المرتبة الأولى في كمية الإنتاج، بينما تُعَد الهند صاحبة أكبر مساحة مخصصة لزراعة الأرز. وقد سمحت الثورة الخضراء، التي أتاحت مزيجًا من سلالات المحاصيل الجديدة وتعزيز خصوبة التربة، بمضاعفة كمية محاصيل الأرز في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين. وبالنظر إلى أنَّ التطورات الحديثة التي حدثت في عام ١٩٦٠ كانت نتاج آلاف السنين من المعرفة والخبرة المتراكمة، فإن هذا التضاعُف يُعَد إثباتًا لفضل العلوم الحديثة.45
ومثلما لم تكن عملية هابر-بوش هي مُنتهى التحسينات الممكنة في الإنتاجية، فقد اتَّضح أن الثورة الخضراء أيضًا ليست كذلك. فبين عامَي ٢٠٠٠ و٢٠١٩، ازدادت إنتاجية حقول الأرز العالمية بأكثر من الربع،46 بينما تباطأ معدَّل نمو السكان الآسيوي ليصل إلى نحو ١ في المائة سنويًّا خلال الفترة نفسها. ولا عجب في أنَّ نسبة الصينيين الذين يقل وزنهم عن المستوى الطبيعي قد انخفضت منذ بداية القرن الحالي من نحو ١٦ في المائة إلى نحو ٨ في المائة، أمَّا في شرق آسيا ككل، فانخفضت من ١٥ في المائة إلى ٥ في المائة.47 وهذا ليس تقدمًا سيئًا، لا سيما أنَّ معظم سكان تلك المنطقة ظلوا يعانون نقص التغذية على مدار التاريخ منذ وقت ظهور الزراعة.

أشرنا في الفصل السابق إلى التحسُّن النوعي الذي طرأ على البشر مع الارتقاء بتعليمهم. ولكن إذا كان من المُمكن اعتبار التعليم بمنزلة تحديثٍ لبرنامج ما، فإنَّ حصول الجسم على تغذية كافية يُعَد تحسينًا للجهاز الذي يحمل ذلك البرنامج. وعلى غِرار معظم هذه النوعية من التحسينات، فإنها تُعزز بعضها بعضًا في إطار حلقةٍ من التأثيرات الإيجابية المتبادَلة. فدماغ الطفل الذي يتغذى جيدًا سينمو نموًّا أفضل من دماغ الطفل الذي لا يحظى بغذاءٍ كافٍ، والطفل الذي يُشبع جوعه باستمرار يكون أفضل تركيزًا في المدرسة. وكذلك فالمزارع الأفضل تعليمًا من المرجح أن يكون أكثر إنتاجية وأقدر على إطعام أسرته، كما سنرى.

ولكن كما هي الحال دائمًا، لا تخلو القصص السعيدة من استثناءات محبطة. وأول هذه الاستثناءات أنَّ توفُّر الغذاء لم يتحسَّن في كل الأماكن بنفس الوتيرة السريعة التي شهدتها مناطق شرق آسيا، بل إنَّ الوضع تدهور في بعض الأماكن. فعلى سبيل المثال، شهدت زيمبابوي، في ظل إدارتها الكارثية، ارتفاع نسبة السكان الذين يُعانون نقص التغذية من ٤٠ في المائة إلى ٥٠ في المائة منذ عام ٢٠٠٠، وهو ما يُعَد فضيحة شائنة نظرًا إلى أنَّ الدولة تتَّسم بظروف زراعية ممتازة وإمكانات كبيرة. وفي اليمن التي مزَّقتها ويلات الحرب، شهدت نسبة السكان الذين يعانون نقص التغذية ارتفاعًا حادًّا. وتشير اتجاهات حديثة إلى أن العدد الإجمالي للجياع في العالم بدأ يرتفع، ومن المحتمل أن تُؤدي الأزمة الاقتصادية وانتشار الفقر بسبب جائحة كوفيد-١٩ إلى تفاقُم الوضع لبعض الوقت.48 فمع ازدياد عدد السكان، يُمكن أن يرتفع عدد الجياع، حتى وإن انخفضت نسبتهم بين السكان.
وعادة ما يقع الضرر الأكبر على الفقراء عند ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وهذا قد يُسفر عن اضطرابات مثل «أعمال شغب الخبز» التي شهدتها المكسيك عام ٢٠٠٧، وأزمة البصل التي حدثت في الهند عام ٢٠١٣، والمظاهرات التي اندلعت ردًّا على قرارات الحكومة المصرية بتخفيض دعم الخبز في عام ٢٠١٧. ومن حسن حظ المستهلكين أنَّ مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء قد شهد انخفاضًا حادًّا منذ عام ٢٠١٤، ما يشير إلى أنَّ تكاليف الغذاء أصبحت ميسورة عمومًا. غير أنَّ أسعار المواد الغذائية، بالقيمة الحقيقية، تكاد تكون ثابتة عند المستوى الذي كانت عليه في أوائل الستينيات، عندما كان عدد الأفواه التي يتعيَّن إطعامها في العالم أقل من نصف عددها الحالي.49
أمَّا الجانب الآخر المُحبِط، فيتعلِّق بالإفراط في تناول الطعام. فبحلول عام ٢٠٠٧، كان عدد الأفراد المصابين بزيادة الوزن في العالم يفوق عدد الجياع.50 وفي بعض مناطق العالم، يُعَد الإفراط في تناول الطعام وباءً له أضرار خطرة على الصحة وطول العمر. فأجساد البشر جُبِلَت في أثناء التطور على تحمُّل ندرة الطعام حينما يكون شحيحًا، والتهامه حتى التُّخمة عندما يكون وفيرًا؛ لذا يجد الكثيرون صعوبة في التحكُّم في شهيتهم، والولايات المتحدة بالأخص مشهورة بمُشكلات متعلِّقة بهذه النقطة. فأكثر من ثلث سكانها البالغين مُصابون بالسِّمنة، وهو ما يُسهم في ثبات متوسِّط العمر المتوقع، كما رأينا سابقًا. وكذلك تبلغ نسبة المصابين بالسِّمنة في المملكة العربية السعودية مقدارًا مشابهًا، كما أن كلتا الدولتَين تضمُّ أعدادًا كبيرة من المصابين بزيادة الوزن فقط. وفي الضفة الغربية وغزة في فلسطين، يوجد أكثر من أربعة أطفال مُصابين بزيادة الوزن أو السمنة مقابل كل طفل يعاني نقص الوزن. وفي حين أن عدد الأفراد المصابين بزيادة الوزن يفوق عدد الذين يُعانون نقص الوزن في كلا الجنسين، فإنَّ عدد الأولاد المصابين بالسِّمنة المفرطة أكبر من عدد الفتيات المصابات بها، بينما نجد أنَّ عدد الفتيات المصابات بنقص الوزن يبلغ أكثر من الضِّعف مقارنة بالأولاد. وهذا يُبيِّن الأولوية التي يحظى بها الذكور عند توزيع الموارد في العديد من المجتمعات.51

وأحيانًا ما يكون تحضُّر السكان مصحوبًا بتحسُّن نظامهم الغذائي. ففي المدن الحديثة، غالبًا ما تكون معايير سلامة الغذاء أعلى منها في الريف؛ وذلك بفضل توفر جودة أفضل في التغليف والتخزين والتبريد. لكنَّ السكان الحضريِّين أيضًا يأكلون كميات أكبر من الأطعمة المعالَجة، ما يعني تناولهم المزيد من السكر والملح، وهذا يُؤدي إلى الإصابة بالسمنة وداء السكري وارتفاع ضغط الدم.

هذا وقد كانت العولمة عاملًا رئيسيًّا في ازدياد الإنتاج الزراعي في العالم. فالولايات المتحدة تُعَد من أكثر الدول تصديرًا للحبوب منذ القرن التاسع عشر، وما زالت فوائضها تُغذي جزءًا كبيرًا من العالم، لكنَّ تجارة الغذاء العالمية لا تقتصر على صادرات الولايات المتحدة فقط. فالبرازيل مثلًا تُصدِّر ثلاثة أرباع محصولها من فول الصويا إلى الصين، حيث يُستخدم لإطعام الحيوانات، وبذلك كان ركيزة أساسية للزيادة الهائلة في تناول اللحوم في الصين في العقود الأخيرة. غير أنَّ العولمة تُقلِّل الاعتماد على الذات. وصحيح أنَّ البعض يرى في ذلك ضررًا، ولكن إذا نظرنا إلى كوريا الشمالية التي تتبنَّى الاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء وفي كل شيء آخر، فسنجد أنها ليست مثالًا إيجابيًّا لرفض العولمة؛ فالأطفال في سنِّ ما قبل المدرسة هناك أقصر بثلاثة عشر سنتيمترًا من نظرائهم في كوريا الجنوبية، وأقل وزنًا منهم بسبعة كيلوجرامات.52

قصة مُزارع

تضاعف إنتاج الحبوب في الهند، وصار خمسة أمثال ما كان عليه خلال ستين عامًا، في حين أنَّ عدد سكانها لم يكد يصل إلى ثلاثة أمثال ما كان عليه خلال الفترة نفسها. ولهذا عندما ذهبتُ إلى الهند في عام ٢٠١٤ للمرة الأولى منذ منتصف الثمانينيات، بدا لي أن الناس هناك أفضل صحة وتغذية. والحقيقة أن العقود الستة الماضية في الهند يمكن تلخيصها في ثلاثة أرقام تضاعفت على مدار تلك الفترة؛ عدد السكان الذي لم يكد يصل إلى ثلاثة أمثال ما كان عليه، ومعدَّل الإنتاج الذي وصل إلى أربعة أمثاله، وحجم الإنتاج الإجمالي الذي وصل إلى خمسة أمثاله. وصحيح أنَّ إنتاجية الأراضي الزراعية الهندية تحسَّنت، وصارت تُوفر الغذاء لعددٍ أكبر بكثيرٍ من السكان، لكنَّ هذا التحسُّن ما زال أقل ممَّا حققته العديد من الدول الأخرى، فضلًا عن أنَّ مَزارع الهند أصغر وإنتاجيتها مُنخفضة نسبيًّا.53 وهذا يعني أنَّ ما زال لديها فرصة لإحراز مزيدٍ من التحسُّن، خصوصًا وأنَّ معدل نموها السكاني ينخفض بوتيرة مطردة. ولذا أتوقع أنني، في المرة القادمة التي سأسافر فيها إلى الهند، سأجد أن نسبة انتشار الجوع صارت أقل وأقل.
وفي حين أنَّ الإحصاءات الإجمالية إيجابية جدًّا، ينبغي أن نفهم كيف تحقَّقت. عندئذٍ سنجد بطبيعة الحال أنَّ هذا يرجع إلى عدة عوامل؛ كتحسين الري، واستخدام سلالات أفضل من المحاصيل، وتحديث المعدات الزراعية، وتسهيل الحصول على الأسمدة. والأهم من ذلك أنَّ التقدم الذي حدث يعني أنَّ تلك العناصر تُستخدم بترشيدٍ وكفاءة، ما يُحقِّق استدامة أطول، ولكن تبيَّن أن التعليم هو أحد أقوى العوامل لتعزيز الإنتاجية الزراعية.54 إذ توصَّلت دراسة أُجريت على مزارعي الأرز الهنود إلى وجود علاقة قوية بين عدد سنوات التعليم وحجم الإنتاجية، بصرف النظر عن استخدام التقنيات الحديثة من عدمه.55
لنضرب مثلًا هنا بمُزارع هندي يُدعى تشاندرانا ورث مزرعةً صغيرةً تبلغ مساحتها ثلاثة أفدنة في كارناتاكا بجنوب الهند. صحيح أنه لم يَدرُس في الجامعة، لكنه تلقَّى بعض التدريب الزراعي بالإضافة إلى تعليمه الأساسي. وهذا جعله يُجرِّب استخدام الديدان لإنتاج سماد غني من المواد العضوية المتحلِّلة، ما قاده إلى تحقيق أعلى إنتاجية من الفول السوداني في المنطقة؛ إذ صار وزن زكائبه أكبر بنسبة ٥٠ في المائة من جيرانه المزارعين الآخَرين. وبفضل ذلك، حقَّق تحسنًا حقيقيًّا في دخله والحياة اليومية لعائلته؛ إذ قال أحد زواره إنَّ «منزله الطيني الذي كان مُتواضعًا يوسَّع الآن بجدران إسمنتية.»56 وقد صار العديد من جيران تشاندرانا يحذون حذوه؛ وهكذا فإنَّ قصته ومثيلاتها من القصص المحلية تُساعد البشر في التخلص من الفقر الذي يلازمهم منذ فجر التاريخ.
وفي بعض الحالات، يمكن للوسائل التكنولوجية أن تُحدِث تحسنًا حقيقيًّا في معيشة الناس، مع أننا صِرنا نعتبرها شيئًا عاديًّا. فعلى سبيل المثال، يُحسِّن الهاتف المحمول من الإنتاجية الزراعية، إذ يتيح للمزارعين أداةً تعليميةً، فضلًا عن أنه يمنحهم معلومات عن السوق ويُسهِّل عليهم الحصول على خدمات التأمين المخصَّصة لمحدودي الدخل. وبحلول عام ٢٠١٦، بدا أنَّ عدد الهواتف المحمولة في أفريقيا يفوق عدد فرش الأسنان هناك.57 ويمكن أن نَضرب هنا مثلًا بمنظمة أمريكية غير ربحية تُعلِّم المزارعين في غرب كينيا عن طريق الرسائل النصية؛ إذ قال مدير عمليات المنظمة لصحفي من صحيفة «فايننشال تايمز»، إن التكنولوجيا تساعد في «إمداد المزارعين بمعلومات وتوصيات مخصَّصة لتُلائم التُّربة وحالة الطقس وظروف السوق في منطقتهم، ما يُضفي تحسينات هائلة على غلاتهم وصافي دخلهم.»58
وصحيح أنَّ عجلة الابتكار مستمرة، لكنَّ البعض قد لا يسارع إلى تبنِّي الابتكارات الحديثة دائمًا. فبعض العوامل كالجهل أو مقاومة التغيير تعوق انتشار التقدم في إنتاج الغذاء بالسرعة المفترضة.59 وفي بعض الأحيان، تكون مساحة المَزارع أصغر من أن يكون الاستثمار فيها مُجديًا، وهذه المشكلة تتفاقَم في الهند بالأخص، حيث تتقلَّص مساحة المَزارع باستمرار.60
ومن الممكن أن تُتيح المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا إنتاج غلَّات أكبر، فضلًا عن أنها تستهلك مساحة أقل من الأراضي، وهذا من شأنه أن يُقلل من انتشار الجوع، ويساعد الحياة البرية في الوقت نفسه. ففي كل عام، يُصاب ما بين ربع مليون ونصف مليون طفل في البلدان الفقيرة بالعمى بسبب نقص فيتامين أ، ويموت نصفهم في غضون اثني عشر شهرًا فقط. لكنَّ الأرز الذهبي، وهو سلالة معدَّلة وراثيًّا ومتاحة للكثيرين بفضل تنازل شركات التكنولوجيا الحيوية عن حقوق براءات الاختراع، يُمكن أن يمنع ذلك.61 وتعتقد مؤسسة جيتس أنَّ تحسُّن الأسمدة واستخدام المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا سيُمكِّن المزارعين الأفارقة من مضاعفة إنتاجهم.62 بل إننا بالفعل بدأنا نرى فرقًا ملحوظًا بفضل استخدام أشكال أخرى من «التقوية الحيوية»، أي هندسة المحاصيل لتحسين قيمتها الغذائية.63
غير أنَّ الإقبال على استخدام المحاصيل المعدلة وراثيًّا ما زال أبطأ ممَّا كان متوقعًا بسبب مخاوف من تأثيرها في الصحة أو خلق الأعشاب المقاوِمة للمبيدات أو السيطرة التي تمنحها للشركات المتعدِّدة الجنسيات. ومع ذلك، ينبغي الموازنة بين هذه المخاوف واحتياجات الناس الغذائية المُلحة، فضلًا عن أنَّ معظم الأبحاث لم تجد أدلة تؤيد هذه المخاوف.64 وهكذا لم يعُد مستحيلًا أن نتوصَّل إلى نهجٍ مستدامٍ وقادر أيضًا على إطعام سكان العالم.65
وصحيح أنَّ زيادة إنتاج الغذاء ضرورية للقضاء على الجوع في العالم، لكنَّ المجاعات، وإن كانت ترتبط بنقص الغذاء في معظم الحالات، لا تنشأ بالضرورة من نقصٍ مطلقٍ في الغذاء المتاح.66 ففي كثير من الأحيان، يكون الإنتاج الغذائي كافيًا لكنه لا يصل إلى الأفواه الأشد احتياجًا، وبذلك يستمر الجوع. ففي أثناء المجاعات التي شهدتها أيرلندا وأوكرانيا والبنغال خلال أربعينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته على الترتيب، كانت الحبوب لا تزال تُصدَّر إلى الخارج. هذا وما زالت المعونات الغذائية مستمرة، رغم المخاوف من أنها تُشوِّه الأسواق وتثبط تحفيز المنتجين المحليين، وأنها لا تهتم بمساعدة المستهلكين في العالم الفقير بقدر ما تركز على مساعدة المزارعين في العالم الغني. وعلى كل حال، فمثل هذه المشكلات تتجاوَز الفكرة المالتوسية التي ترى أنَّ العالم يحتاج فقط إلى إنتاج ما يكفي من الغذاء لجميع أفواه سكانه، أيًّا كانت طريقة توزيعه.

أطعمة المستقبل

وبعيدًا عن النموذج الحالي، فإن بعض التطورات الجارية حاليًّا في مجال إنتاج الغذاء يُمكن أن تُحدِث تغييرات جذرية بمعنى الكلمة. ولنضرب هنا مثلًا بنهج «الزراعة في الماء» الذي يُتيح زراعة محاصيل معينة داخل مبانٍ مخصصة بدلًا من التربة، بشرط وجود ظروف محكومة بعناية ومُدخلات محسوبة بدقةٍ تامة، كمصابيح الصمامات الثنائية الباعثة للضوء (إل إي دي) على سبيل المثال. تقع إحدى المنشآت التي تُطبق هذا النهج، وتصف نفسها بأنها مزرعة، على عمق ٣٣ مترًا أسفل مُنتزه كلافام العام في جنوب لندن، وتزرع ٢٠ ألف كيلوجرام من الخضر سنويًّا. ومن مزايا نقل الإنتاج إلى مكان تحت الأرض أنه يوفر المساحات الموجودة فوق الأرض لأغراض أخرى. وكذلك فجميع منتجاتها تُباع داخل نطاق لندن، ما يُغني عن الحاجة إلى نقل الطعام مسافات طويلة، ويجعله يصل إلى المستهلك طازجًا للغاية. وقد قال ستيفن درينج الذي شارك في تأسيس هذا المشروع لأحد المراسلين الصحفيين: «سنَحصُد الخُضر في الساعة الرابعة بعد الظهر ثم يأكلها الناس في وجبة الغداء التالية مباشرة.»67 فيما قال أحد الطهاة المشاهير متحمسًا: «من الرائع أن نحصل على منتجات طازجة جدًّا كهذه من مصدر إنتاجها مباشرةً في قلب أكبر مدينة في بريطانيا.»68 هذا وينتشر استخدام تلك الطريقة في الزراعة على الأسطح في كل مكان من جوانزو الصينية إلى مونتريال الكندية، حتى إنَّ مجموعة الأدوات اللازمة لها تُباع في متاجر أيكيا.69

وفوق ذلك، فإن العديد من التقنيات الأخرى التي يمكن أن تُضفي تغييرات فارقة على طريقة إنتاجنا للغذاء، والكمية التي يمكن زراعتها، وكفاءة عملية الزراعة، ما زالت في مهدها؛ وهذه التقنيات قد تُتيح لنا استخدام كميات أقل من الأسمدة الاصطناعية والمبيدات الحشرية، وتقليل المياه المُهدَرة في الري وجريانها السطحي، والاكتفاء بمساحة أقل من الأراضي وتعزيز الاستدامة. وهكذا ففي المستقبل، ربما قد ننظر إلى الزراعة بالأساليب الحالية على أنها بائدة وعفا عليها الزمن، ونستغرب كلَّ مَن يزرع على مساحات هائلة من الأراضي، ويستخدم مواد كثيرة بلا أي ضوابط، آملًا أن تنجو محاصيله من تقلبات الطبيعة.

وكذلك ربما نشهد عمَّا قريب أنَّ طريقة الحصول على اللحوم بتربية الحيوانات ورعايتها ثم ذبحها ستُصبح سخيفة. صحيح أنَّ إنتاج اللحوم في المختبر بكميات كبيرة كافية للاستخدام التجاري ما زال بعيد المنال، لكنَّ تكاليفه تنخفض بسرعة.70 فالبرجر الذي كانت تكلفة إنتاجه في المختبر تبلغ ٢٨٠ ألف دولار حتى عام ٢٠١٣ قد يُنتَج مقابل أقل من ١٠ دولارات في السنوات القليلة المقبلة.71 وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الكثيرين يحبون تناول اللحوم، ولكن نظرًا إلى أنَّ إنتاجها يفتقر إلى الكفاءة مقارنةً بالطرق الأخرى للحصول على الغذاء، يرى البعض أن تعميم النظام الغذائي النباتي على الجميع هو الخيار الأفضل بيئيًّا وأخلاقيًّا. ولكن بدلًا من الاضطرار إلى التخلي عن اللحوم تمامًا، فمن المرجح أن نستطيع إنتاج شيءٍ مشابه جدًّا لها مع ضررٍ أقل على الكوكب ومعاناة أخف للحيوانات، وربما تكلفة أقل. ويُذكر هنا أنَّ الفوائد البيئية المحتمَلة بالأخص ستكون هائلة؛ فأنظمة رعي الماشية التي تنتج اللحوم وغيرها من المنتجات الحيوانية تحتل حاليًّا أكثر من ربع مساحة الأراضي الخالية من الجليد في العالم، فضلًا عن أنها تتطلب كميات هائلة من الموارد.72 هذا ومن المرجَّح أيضًا أن يشهد المستقبل إنتاج أسماك في المختبر.
fig19
المصدر: منظمة الأغذية والزراعة، وشعبة السكان في الأمم المتحدة.

في حين أن معدَّل النمو السكاني قد أصبح ثابتًا، فإن معدل النمو في إنتاج الغذاء يُواصل الازدياد بوتيرة سريعة. فحجم إنتاج القمح والأرز أصبح أكثر من ثلاثة أمثال ما كان عليه في أوائل الستينيات، بينما ازداد عدد السكان مرتين ونصفًا فقط. غير أنَّ الزيادة الأكبر في العقود الأخيرة كانت من نصيب الذرة، التي صار حجم إنتاجها أكثر من خمسة أمثال ما كان عليه في أوائل الستينيات. وعادةً ما يُستخدَم مُعظم إنتاج الذرة لإطعام حيوانات المزارع للحصول على اللحوم منها، وهو ما يفسر لماذا أمكن أن يتضاعف معدل استهلاك الفرد خلال العقود الخمسة الماضية.

fig20
المصدر: منظمة الأغذية والزراعة.

للزراعة المكثَّفة سمعة سيئة، لكن إنتاج المزيد من الغذاء من مساحة أقل من الأراضي سيَسمح بإتاحة مُتسع أكبر للطبيعة. فالزيادة الكبيرة التي حدثت مؤخرًا في إنتاجية المحاصيل تعني أننا لم نكن في حاجة إلى تخصيص مساحة أكبر بكثيرٍ للزراعة من أجل إطعام سكان العالم.

ونظرًا إلى أن الزيادات السكانية من المتوقَّع أن تتباطأ ومع اتجاه جزء كبير من العالم إلى تناول كميات أقل من الطعام بدلًا من الإفراط فيه، فإن النمو المستمر في إنتاجية المحاصيل سيتيح فرصة حقيقية لتعافي البيئة.

إذا صح أنَّ عدد سكان العالم سيواصل الازدياد بمعدلٍ أسي بلا توقف، فمن المنطقي تمامًا أن نتخوَّف من عدم قدرة الابتكار البشري على مجاراة تلك الزيادة الهائلة. فلو تضاعف عدد سكان العالم أربع مرات كل قرن، واستمر الوضع هكذا عدة قرون، فمن المؤكد أننا سنصطدم بحدودٍ كالتي تنبَّأ بها مالتوس، مهما كان مستوى الابتكار البشري. ومع ذلك، فنظرًا إلى أننا إذا نجحنا في تقليل الكميات المهدَرة من الإنتاج سنستطيع بالفعل توفير الغذاء لعشرة أو أحد عشر مليار نسمة — وهي الذروة المتوقَّعة لإجمالي سكان العالم — ومع وجود الكثير من الابتكارات القادمة في الطريق، فمن المرجح جدًّا أن يقل عدد البشر الذين يعانون الجوع مع مرور سنوات القرن الحالي. صحيح أنَّ البعض سيعارض استخدام ابتكارات معيَّنة كالمحاصيل المعدلة وراثيًّا، لكن الفقراء لن يحظوا بمثل هذه الرفاهية. وعلى أي حال، فالابتكار في مجال إنتاج الغذاء ليس بجديد؛ فالانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة يتضمَّن شكلًا من أشكال الهندسة الوراثية، وإن كان تدريجيًّا. ويُذكَر هنا أنَّ الخبير الاقتصادي الأمريكي الراديكالي هنري جورج قد صاغ تلك المسألة في القرن التاسع عشر، قائلًا:

ها هو فرقٌ بين الحيوان والإنسان. فالصقر والإنسان كلاهما يأكل الدجاج، ولكن كلما زاد عدد الصقور، قل عدد الدجاج، أمَّا حينما يزداد عدد البشر، يزداد عدد الدجاج. وكذلك فالفقمة والإنسان كلاهما يأكل السلمون، ولكن عندما تأكل الفقمة سمكة من أسماك السلمون، يقل عدد السلمون، وإذا ازداد عدد الفقمات عن حدٍّ معين، سيقلُّ عدد السلمون حتمًا؛ أمَّا الإنسان، فيستطيع وضع بيض السلمون في ظروفٍ مواتية وبذلك يُكثِر عدد السلمون بما يُعوِّض ما يأخذه وزيادة، ولذا فمهما زاد عدد البشر، فإن احتياجاتهم من السلمون يستحيل أن تتجاوز الكميةَ المتوفرة منه.73
وصحيح أنَّ مزارع الدجاج الصناعية ومزارع السلمون لا تخلو من التأثيرات البيئية السلبية، ولكن يُمكن التعامل مع هذه التأثيرات. ويبدو أنَّ ونستون تشرشل كان يستشرف التطورات المستقبلية حينما قال: «سنتجنَّب عبثية الاضطرار إلى زراعة دجاجة كاملة من أجل أكل الصدر أو الجناح؛ وذلك بزراعة هذه الأجزاء، كلٌّ على حدة، في ظروف مناسبة.»74

وهكذا يتَّضح أنَّ الحاجز النهائي الذي سيعوق نمو السكان لن يكون نقص الغذاء أو أي عامل خارجي آخر، وإنما الخيارات التي يتخذها البشر بأنفسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤