الفصل الثاني

النمو السكاني

٤ مليارات: عدد سكان أفريقيا بحلول عام ٢١٠٠1
لدى مالنجاي آدم عشرة أطفال من زوجته قطومة، التي تزوجها عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. وفي حوارٍ أجراه معه صحفي من صحيفة «فايننشال تايمز»، اعترف بأنه كان سيجد لنفسه زوجة ثانية لو لم تتمتَّع زوجته بما يكفي من الخصوبة. يعيش مالنجاي مع أسرته في منطقة قروية نائية متخلفة في جنوب تشاد، وهم مُعرَّضون طوال الوقت للجفاف ومداهمات الإرهابيين الإسلاميِّين، لكن هذا الأب ليس نادمًا على إنجاب أبنائه الكثيرين؛ إذ قال: «مِن مفاخر المرء أن يُنجب ذرية كُثُر. فالأطفال الكثيرون يساعدون أباهم. لم يكن ذلك اختياري. الرب هو مَن وهبني إياهم.» وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ قدرة الناس على تشكيل حياتهم بأنفسهم في بعض الدول مثل تشاد تكون مُقيَّدة بهياكل أسرية تقليدية وقناعات متوارَثة؛ لذا فأغلب الأهالي يُنجبون أطفالًا كثيرين سواءٌ كانوا يُريدونهم بالفعل أم لا.2

ولعلَّ قصص مالنجاي وأمثاله تُفسر سبب ازدياد عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء بسرعة. فوفقًا لأفضل تقديرات الأمم المتحدة، سيبلغ عدد سكان القارة نحو أربعة مليارات نسمة بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. ويعدُّ التوسُّع السكاني الكبير في أفريقيا واحدًا من أهم الاتجاهات على الكوكب حاليًّا؛ بل إنه يُمكن أن يُحدِث تغييرًا جذريًّا في سياساتنا العالمية وعلاقاتنا الدولية واقتصادنا وثقافتنا وبيئتنا. وككل التوسُّعات السكانية الكبيرة الأخرى التي حدثت في القرنَين الماضيَين، فإنه مدفوع بمزيج من العاملَين اللذين ناقشناهما في الفصل الأخير؛ وهما استمرار الخصوبة العالية وانخفاض معدل الوفيات، خصوصًا بين الصغار.

في الماضي، كانت محطة الحياة تشهد تدفقَ فيضٍ لا ينتهي من أناس جدد، لكن قطار الموت كان يحملهم بعيدًا بنفسِ السرعة التي كانوا يصلون بها تقريبًا. أما الآن، فما زال الناس يتوافَدُون إلى محطة الحياة بأعدادٍ ضخمة، لكنَّ رحيلهم منها تضاءل بشدة؛ لذا صارت أرصفة المحطة مكتظة. وقد بدأ هذا الاتجاه في بريطانيا في القرن التاسع عشر. ثم انتشر إلى مختلف أنحاء العالم في القرن العشرين، ويحدُث الآن في أفريقيا، التي تعدُّ الحد الأخير للتحول الديموغرافي.

فلنُقارن هنا بين مالنجاي آدم وهنري الثامن، الذي ذُكر في الفصل السابق أنه لم ينجَح في التناسُل كما ينبغي. سنفاجأ عندئذٍ بأن الأول، الذي يعيش في قاع الهرم الاجتماعي العالمي، نجح نجاحًا كبيرًا في التناسُل وإنشاء أسرة، في حين أن الثاني، الذي كان يعتلي قمة الهرم بالطبع، عجز عن إنجاب الوريث الذي كان يتوق إليه. وصحيح أن التاريخ يعج منذ بدايته بفقراء حالَفَهم الحظ في التناسل، وأثرياء من نخبة الهرم الاجتماعي لم يُحالفهم الحظ في التناسُل، لكنَّ الاختلاف بين العصر الذي عاش فيه مالنجاي آدم، وذاك الذي عاش فيه هنري الثامن، هو العامل الأساسي الذي يُفسر الفارق في الحظ الإنجابي بين كلٍّ منهما. فلو كان مالنجاي آدم يعيش في عصر ما قبل الحداثة، لكان من المُستبعَد أن يبقى أبناؤه العشرة كلهم أحياء حتى البلوغ؛ ولكان حدوث ذلك مجرد حظٍّ سعيد. أمَّا اليوم، فحتى في بلدٍ فقيرٍ مثل تشاد، لا يُعَد بقاء جميع أطفاله على قيد الحياة بعد الرضاعة حدثًا استثنائيًّا، وإن كان يحمل شيئًا من الحظ السعيد. يُذكر أنَّ في عام ١٩٥٠، كان يموت طفلٌ واحدٌ تقريبًا من كل خمسة أطفال في تشاد قبل بلوغ العام الأول. أمَّا اليوم، فصار معدَّل وفيات الرضع هناك أقل من واحد من عشرة، وصحيح أنه أسوأ خمسين مرة من نظيره في اليابان، لكنه يمضي في الاتجاه الصحيح.

هذا وتتَّسم تشاد بكل الخصائص التي تُشجع على ارتفاع معدَّلات الخصوبة. فالنساء الأقل تعليمًا يُنجبن أطفالًا أكثر من النساء الأفضل تعليمًا؛ ونظرًا إلى أن فتاةً واحدةً فقط من كل خمس فتيات تشاديات هي مَن تستطيع القراءة، وأنَّ ١٢ في المائة فقط منهن يَلتحِقن بالمدرسة الثانوية، فلا عجب في أن معدلات الخصوبة ما زالت عالية.3 وهكذا فإن البلد يمرُّ بأولى بوادر التحول الديموغرافي؛ إذ تحسَّنت الأوضاع بما يكفي لخفض مُعدلات الوفيات، لكن معدلات الخصوبة لم تتغيَّر حتى الآن. وكما هو متوقع، فإنَّ معظم سكان تشاد صغار جدًّا في السن؛ فالعمر الوسيط هناك يبلغ ستة عشر عامًا فقط، وهو بذلك أصغر بنصف عقدٍ مما كان عليه الوضع في مُنتصَف القرن العشرين، وهذا ببساطة لأن معدَّل بقاء صغارها على قيد الحياة قد ازداد.
غير أنَّ ظروف المعيشة ما زالت صعبة على معظم سكان تشاد، ومن السذاجة أن نتوهَّم عدم وجود عوامل يمكن أن تقلِّل من عددهم. فكثيرون منهم يعيشون على حافة الخطر في ظل عدم توفُّر كمية كافية من الغذاء لينعموا بنموٍّ صحي. وتُشير تقديرات إلى أن نحو ثلاثة ملايين شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي بسبب تكثيف زراعة المحاصيل وإزالة الأشجار والرعي الجائر في حوض بحيرة تشاد.4 وكان البعض يظنُّ في وقتٍ ما أن الاحتباس الحراري يسبب تقلُّص بحيرة تشاد، مع أن البحيرة توسَّعت بوتيرة سريعة في العقود الأخيرة، وأصبح التغيُّر المناخي يُتَّهم الآن بأنه هو السبب في الأمطار الزائدة في ذلك الجزء من أفريقيا.5 وسواءٌ ما إذا كانت كمية المياه المتوفرة أكثر أو أقل من اللازم، يستمر عدد سكان المنطقة في التزايد بمعدل أُسِّي.
وتُعَد النيجر، جارة تشاد، دولة شاسعة أخرى بها عدد قليل من السكان لكنهم يتزايدون بسرعة. إذ تغطي النيجر مساحة أكبر خمس مرات من مساحة المملكة المتحدة، لكنَّ عدد سكانها لا يزيد كثيرًا على ثُلث سكان المملكة المتحدة.6 يعالج المستشفى الوطني في النيجر العديد من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد. إذ تقول أمينة شيبو بأسف: «لديَّ ستة أطفال واثنان منهم مُصابان بسوء تغذية حاد. والسبب أنني لا أدرُّ حليبًا كافيًا لأنني لا أتناول طعامًا كافيًا.»7 غير أن هذا الوضع المؤسِف الذي تعيشه تلك الأم الشابة ينبغي ألَّا يحجب عنَّا أن الأشخاص الذين يُدخَلون المستشفى هم الأكثر حظًّا. فكثيرون غيرهم يُعانون بعيدًا عن الأنظار، وعن موارد المدينة الكبيرة. ولكنه أيضًا ينبغي ألَّا يحجب عنَّا أن مثل هذه الحالات المشابهة لحالة أمينة شيبو بدأت تُصبح نادرة في أفريقيا بعدما كانت سائدة. وإلَّا لَمَا تضاعَف عدد سكان النيجر في العقدَين الأوَّلين من القرن الحالي، ولَمَا تقلَّص معدَّل وفيات الرُّضع إلى النصف. فطيلة مُعظم تاريخ البشرية، كانت ندرة الموارد تكبح النمو السكاني الذي كان سيشهد انفجارًا لولا ذلك السبب. وهذه باختصارٍ كانت حجة توماس مالتوس مؤسس الديموغرافيا الحديثة. والآن بعدما لم يعُد توفُّر الموارد مشكلة مُلِحة للكثيرين، يمكن للنمو السكاني أن يمضي في طريقه.

وربما يكون عدد السكان على شفا مواجهة كارثة عالمية وتناقص حاد، ما يثبت صحة كلام مالتوس أخيرًا بعد مرور مائتَي عام عليه. ومن المؤكد أننا بعد جائحة كوفيد-١٩ أصبحنا أدرى بالضرر الهائل الذي يمكنه أن تُحدِثه الأوبئة. ولكن في الوقت الحالي، يستمر عدد سكان تشاد والدول المجاورة لها في الازدياد. وكما هزَّت الصين أسس الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة، فإن أفريقيا ستُحدِث — على الأرجح — تغييرًا جذريًّا في التركيبة الديموغرافية العالمية. لقد حدث التحوُّل الاقتصادي الكبير في الشرق، وسيحدث التحوُّل الديموغرافي الكبير في الجنوب.

أفريقيا: انفجار سكاني

تُعَد تشاد واحدة من أكبر الدول الأفريقية من حيث المساحة، فهي أكبر من مساحة المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا مجتمعةً، لكنها أيضًا واحدة من أفقر دول العالم. ويتضاعَف عدد سكانها كلَّ عقدين تقريبًا؛ فبعدما كان ثمانية ملايين قبل مطلع القرن الحادي والعشرين أصبح ستة عشر مليونًا في عقدَيه الأوَّلَين؛ وذلك بسبب زيادة المواليد على الوفيات وليس بسبب الهجرة. هذا وتتألَّف منطقة أفريقيا جنوب الصحراء من نحو خمسين دولة تحمل — فيما بينها — تفاوتات كبيرة في جغرافيتها ومناخها وعرقيتها وتاريخها ودينها ومواردها. فزامبيا مثلًا بعيدة جدًّا عن جنوب السودان، بقدرِ بُعد رواندا عن غينيا. والعاصمة التشادية إنجامينا أقرب إلى باريس منها إلى كيب تاون. وتبلُغ المسافة من العاصمة السنغالية داكار إلى العاصمة الصومالية مقديشو أكثر من ضعف المسافة من داكار إلى مدريد. ولكن يُمكن إطلاق بعض التعميمات بشأن الديموغرافيا الأفريقية، مثلما يمكن إطلاقها فيما يخص أوروبا أو أمريكا اللاتينية.

كانت أفريقيا، على مدار قرون عديدة، أحد مصادر العبيد، أولًا لتجار الرقيق المسلمين، ثم للأوروبيِّين الذين كانوا يُصدِّرون البشر إلى الأمريكتين. ويُعتقَد أن التجار العرب قد أخذوا منها ما يصل إلى أربعة عشر مليون شخص، وأن الأوروبيين أخذوا نحو اثنَي عشر مليونًا.8 وبسبب استمرار هذه الإغارات الجشعة للاستيلاء على العبيد طيلة عدة قرون مع الحالة الديموغرافية في أفريقيا قبل الحداثة، كانت القارة — حتى وقتٍ قريب — تضم عددًا قليلًا جدًّا من السكان بالنسبة إلى حجمها. فأفريقيا أكبر عدة مرات من أوروبا، لكنها في عام ١٩٥٠ كانت تضم أقلَّ من مائتَي مليون نسمة، أي أقل من نصف سكان أوروبا آنَذاك. وعلى مدار عدة عقود، ظلَّ معدَّل الخصوبة المُرتفع ومعدل الوفيات المرتفع يُلاشي أحدهما تأثير الآخر، ما أدى إلى ثبات عدد السكان. أمَّا الآن، ومع زيادة معدلات البقاء على قيد الحياة، بدأت أفريقيا تظهر بقوة على الساحة الديموغرافية العالمية.
ولعلَّ درجة الانقلاب الذي شهدته الأوضاع الديموغرافية تتَّضح في مذكرات الكابتن جيمس فريدريك إلتون، وهو بريطاني كان يرتحل في المنطقة الساحلية من شرق أفريقيا إبان سبعينيات القرن التاسع عشر. ففي ذلك الوقت، كانت بريطانيا تستخدم فائض سكانها للاستيطان في مُستعمراتها، وكان إلتون مُكلفًا بتقييم إمكانية استيطان تلك المنطقة. وقد دوَّن في مذكراته أنه يأمل ألَّا يختفي السكان الأفارقة الأصليون تمامًا، رغم قِلَّتهم الواضحة، «مع توغل الرجل الأبيض في أراضيهم»، واصفًا ذلك بأنه حادثة «لطَّخت — مع الأسف — صفحات كثيرة من تاريخ استعمارنا.». ففي القرن التاسع عشر، كان الأوروبيون يتوسَّعون في كل مكان مع انحسار السكان غير الأوروبيين،9 ويُذكر هنا أن تأسُّف إلتون على اختفاء الأجناس غير الأوروبية أمام أسيادهم القاهرين كان موقفًا شاذًّا. فتوغُّل «الرجل الأبيض» في تلك الأراضي، وحلوله محل «السكان الأصليين» بدا شيئًا حتميًّا لا مفرَّ منه، لكن البعض كان لا يزال يراه حدثًا مؤسفًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مثل هذه المواقف تجاه الشعوب الأصلية لم تكن مُقتصرة على سكان أفريقيا. ففي القرن التاسع عشر، وصَفت صحيفة أسترالية موقفًا شائعًا جدًّا آنذاك حينما أعلنت أنَّ «الهمج حين يصطدمون بالحضارة، لا بد أن يُهزَموا؛ لأن هذا قَدَر عِرْقِهم. وبقدر ما نأسف لحتمية مثل هذا الوضع، فإنه ضروري في تلك الحالة، حتى لا تتوقف مسيرة الحضارة بسبب عداء السكان الأصليين.»10 وكذلك توقع تشارلز داروين، في كتابه «نشأة الإنسان» الذي نُشِرَت أول طبعة منه في عام ١٨٧١، أنَّه «يومًا ما في المستقبل … يكاد يكون من المؤكد أنَّ الأجناس البشرية المتحضِّرة ستُبيد الأجناس الهمجية، وتحل محلها في جميع أنحاء العالم.»11 وفي مُنتصف القرن التاسع عشر، عندما استولت الولايات المتحدة على المنطقة التي كانت تُمثِّل النصف الشمالي من المكسيك آنَذاك، والتي أصبحت الغرب الأمريكي الآن، توقَّع أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أن المكسيكيِّين سوف «يَهلَكون جرَّاء تأثيرات الحضارة، إذا لم يتراجعوا ويفسحوا الطريق لها … قَدَرهم يُحتم عليهم … أن يحلَّ محلهم عرقٌ أقوى.»12 غير أنَّ المواقف العنصرية التي يمكن تصويرها الآن على أنها «داروينية» كانت — أصلًا — شائعة قبل أن يخط داروين بالقلم بعدة عقود. ربما كان، وما زال، يُساء استغلال الداروينية لإيهام الناس بأن العنصرية لها أساس علمي، لكنها ليست هي التي أوجدتها.

لكنَّ ما بدا في عصر داروين وإلتون سمةً دائمةً للحاضر والمستقبل، اتضح أنه ليس كذلك. فوفقًا لدراساتٍ حديثة أجرتها الأمم المتحدة، سيكون عدد سكان أفريقيا بحلول عام ٢١٠٠ أكبر ٢٠ مرة ممَّا كان عليه في عام ١٩٥٠. إذ سيبلغ عددهم أربعة مليارات، وبذلك سيكون أكبر من عدد سكان أوروبا بنسبة ستة إلى واحد. وفي عام ١٩٥٠، كان شخص واحد فقط من كل أربعة عشر من سكان العالم يعيش في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ أمَّا بحلول عام ٢١٠٠، فستكون النسبة واحدًا من كل ثلاثة. وعلى الصعيد العالمي، سيكون هذا أسرع تحوُّل في النِّسَب التي تُمثلها المجموعات العرقية المختلفة من إجمالي سكان العالم منذ أن أدى الاستيلاء على الأمريكتين في القرن السادس عشر إلى انهيار عدد سكانهما الأصليين.

وسيَشهد بقية القرن الحادي والعشرين ارتفاعًا مطردًا في متوسط العمر المتوقع في أفريقيا، وانخفاضًا مقابلًا في معدلات الوفيات، خصوصًا بين الأطفال والأمهات الجديدات. ومن المتوقَّع أيضًا أن تحدث هجرة بأعدادٍ كبيرة، سواء داخل أفريقيا أو إلى أوروبا، لكن هذا سيكون مرهونًا — في الأساس — بوتيرة التنمية الاقتصادية والسياسية في أفريقيا والموقف من الهجرة في أوروبا. لا شكَّ في أن التقدم في أفريقيا، وقدرتها على استيعاب نمو سكانها، سيكونان حتمًا متفاوتَين بين مناطقها، ولكن أيًّا كان ما ستئول إليه الأوضاع، فمن المرجح أن تكون القارة موطن البشر في المستقبل. وبذلك فإذا كانت فرضية «خروج الإنسان من أفريقيا» صحيحة، وأنَّ البشرية قد بدأت في أفريقيا أصلًا، فإننا نعود إلى جذورنا.

خارج أفريقيا

«من غير المقبول أن تعجَّ بعض أجزاء ميلانو في بعض الأحيان بهذا الكم الكبير من غير الإيطاليين إلى درجة أن يشعر المرء بأنه في مدينة أفريقية وليس إيطالية أو أوروبية … البعض يريد مجتمعًا مُتعدِّد الألوان والأعراق. لكننا لا نشاركهم هذا الرأي.» لم تكن هذه آراء مواطن عشوائي في الشارع، ولا شخص مُتعاطف مع اليمين المتطرف في شمال إيطاليا، بل كانت آراء رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني في عام ٢٠٠٩.13

سنتطرَّق لاحقًا إلى التأثير الذي تحدثه الهجرة بأعدادٍ كبيرة في العالم المتقدم، لكن لننظر أولًا إلى الانفجار السكاني الذي يحدث في بعض مناطق العالم النامي ويُغذي تلك الهجرة. في آسيا وأمريكا اللاتينية، يتباطَأ النمو السكاني؛ إذ يرتفع العمر الوسيط في مُعظم بلدانهما، وتتضاءل إمكانية حدوث هجرة جماعية منها. ولهذا لم يعُد صافي حركة الهجرة بين المكسيك والولايات المتحدة يصب في الولايات المتحدة، بل انعكس في السنوات الأخيرة. غير أن أفريقيا ستشهد طفرة كبيرة في نمو سكانها في المستقبل. وصحيح أن الكثير من سكانها سيهاجرون «داخليًّا»، من الريف إلى المدن، ومن الدول الأقل نجاحًا إلى الدول الأنجح، لكنَّ كثيرين منهم أيضًا سيتَّجهون نحو أوروبا، التي تُعَد أسهل جزء يُمكن الوصول إليه في العالم المتقدم. وكذلك فهي القارة التي يعرفها الأفارقة أكثر من غيرها بسبب تاريخهم الاستعماري ودرايتهم باللغات، خصوصًا الإنجليزية والفرنسية. فالخرِّيجون الجدد في السنغال، الذين يواجه معظمهم إحباطًا بسبب نقص الوظائف في بلدهم، يعرفون باريس أكثر مما يعرفون بكين؛ ونظراؤهم في لاجوس يعرفون عن لندن أكثر مما يعرفون عن طوكيو.

ويُذكَر هنا أنَّ العديد من الأفارقة الذين يتمكَّنون من عبور البحر الأبيض المتوسط ينتهي بهم المطاف في خيامٍ في شوارع إيطاليا أو أماكن أخرى في أوروبا. لكن على الجانب الآخر، يفشل عددٌ أكبر بكثيرٍ في عبور البحر الأبيض المتوسط، أو لا يتمكَّن من الوصول إلى هذا الحد أصلًا. ففاطمة التي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، من فريتاون في سيراليون، وقعت في أيدي مجموعة من تجار العبيد الذين عذَّبوها في أثناء محاولتها عبور الصحراء الكبرى. ثم تمكَّنت في النهاية من الهرب، ولكن قُبِض عليها مرة أخرى وسُجنت في الجزائر. فهربت مرةً ثانيةً، ولمَّا يئست من الوصول إلى أوروبا، توسَّلت إلى مُنظمة غير حكومية أن تساعدها في العودة إلى وطنها. وبعد سنتين من بداية رحلتها، وجدت نفسها قد عادت إلى المكان الذي بدأت منه، وكانت مُرتاحة لذلك. لكن أسرتها تبرَّأت منها لأنها فشلت في الوصول إلى الأرض الموعودة التي كانت سترسل إليهم منها الحوالات المالية. قالت بحسرة: «كنتُ سعيدة جدًّا بالعودة، ولكن يا ليتني لم أعُد.» إذ قال لها أخوها: «كان عليكِ ألَّا تعُودي إلى الديار أصلًا. كان عليكِ أن تموتي حيث ذهبتِ، لأنك لم تُحضري معكِ أي شيء في عودتكِ.»14

وهكذا، فإنَّ عائلات الذين لا ينجون من الرحلة أو يُعادون إلى ديارهم دائمًا ما تشعر بخيبة أمل لأنها بذلك لن تتلقَّى الحوالات المالية التي كانت في أمسِّ الحاجة إليها. وفي كثير من الحالات، ستكون بذلك قد خسرت المال الذي أنفقته على مساعدة أحد أفراد العائلة للوصول إلى العالم الذي يبدو لها سحريًّا ومليئًا بالترف والفرص، لعله يُرسل إليها نقودًا من هناك، ويرعى أفرادًا آخرين من العائلة. ذات مرة أخبرتني صديقة نيجيرية تعيش في لندن منذ فترة طويلة بأنها كلما تحدثت إلى عائلتها في الوطن، يحاولون أن يفرضوا عليها التكفُّل بأحد أبناء عمها أو أقربائها البعيدين الآخرين الذين يتوقون إلى بدء حياة جديدة في بريطانيا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الضغط القوي الذي يُؤدي إلى هذه الهجرة من أفريقيا له شِقٌّ اقتصادي وآخر ديموغرافي. فالقارة تشهد نموًّا سكانيًّا سريعًا، ومع ازدياد ثرائها، ازداد عدد القادِرين على جمع ما يكفي من المال ليُحاولوا إرسال أحد أفراد عائلتهم إلى أوروبا. وعادةً ما يكون سكان المناطق الحضرية أكثر اتصالًا بالعالم الخارجي وأقدر على تصوُّر الحياة في قارة أخرى، ولكن حتى في المناطق الريفية النائية، يتزايد عدد أولئك القادرين على التطلُّع إلى حياة مختلفة. فبفضل الاتصال بالإنترنت عبر الهواتف المحمولة، ومع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» وبرامج الاتصال مثل «زوم» و«سكايب»، يرى ملايين الأفارقة مُستوًى مختلفًا تمامًا من الترف، ويبدو لهم بلوغه ممكنًا.15 فالرؤية تُؤدي إلى الطموح، الذي يؤدي بدوره إلى السعي.
وبالإضافة إلى الضغط الديموغرافي والإغراء الاقتصادي والطموح المُحفَّز بالوسائل التكنولوجية، فإنَّ العامل الآخر الذي يدفع الناس إلى الهجرة من أفريقيا هو الهجرة نفسها. فإذا كان لدى الشخص أقرباء نجحوا في الهجرة بالفعل، عادةً ما يحثهم أو يتملَّقهم ليساعدوه في الانضمام إليهم في موطنهم الجديد. وحالما يبلغُ أفراد الجالية المهاجرة عددًا مُعينًا في البلد المُستقبِل، يُمكن أن يُسهِّلوا الطريق أمام آخرين للحاق بهم. وذلك بإيجاد سُبُلٍ لإدخالهم إلى البلاد، سواء شرعية أو غير شرعية، ومساعدتهم للاتصال بأشخاصٍ ينفعونهم، وإتاحة مأوى لهم ومنحهم معلومات عند الوصول، وهذه كلها ضروريات لازمة لاستقرار المهاجرين الجدد.16 فالعمَّة مثلًا قد تمنح ابن أخيها بعض الأموال اللازمة للسفر. وابن العم قد يَستضيف ابن عمِّه ليبيت عنده في أيامه الأولى. والصديق القديم قد يُساعد صديقه المهاجر الجديد في الحصول على وظيفة. وحينما يجد المهاجر الجديد مجموعةً مألوفةً من المتاجر والمطاعم والصحف والسِّلَع والخدمات الأخرى، يشعر بالارتياح والدفء في تلك القوقعة الاجتماعية والثقافية التي تُذكِّره ببلده القديم، ما يُسهِّل الانتقال ويشجِّع مزيدًا من الهجرة. وما ينطبق على الأفارقة الذين يُهاجرون إلى أوروبا اليوم انطبق على اليهود أو الصقليِّين الذين هاجروا إلى نيويورك في أوائل القرن العشرين.
يعتمد مِقدَار الهجرة الأفريقية إلى أوروبا على سياسات الهجرة الأوروبية أيضًا. ففي الفترة بين أغسطس ٢٠١٧ و٢٠١٨، وصَل إلى إيطاليا ما مجموعه ١٨٣ ألف مهاجر.17 وصحيح أنَّ العديد من الأفارقة الذين يصلُون إلى إيطاليا يرغبون في المضي قُدُمًا إلى بلدانٍ أخرى، ولكن بقِيَ منهم مليون أو أكثر هناك. ويُذكر في هذا الشأن أنَّ الأحزاب الشعبوية الإيطالية كانت في صعودٍ طيلة عقود، لكن هذا الانفجار في أعداد المهاجرين كان بمنزلة الدفعة التي احتاجت إليها تلك الأحزاب للوصول إلى السلطة في ٢٠١٨. وهكذا فمع أن البعض ينزعج من الاعتراف بأن النمو السكاني في أفريقيا يغيِّر الخريطة العِرقية والسياسية في أوروبا، فإنَّ هذا واقع فعليٌّ.

داخل أفريقيا

أمَّا الآن، فإن حجم حركة الهجرة داخل حدود أفريقيا أكبر بكثير من الهجرة إلى خارجها. وتلك الهجرة داخل حدود القارة ليست بظاهرة جديدة. ففي واقع الأمر، يُعَد أغلب الحدود الوطنية في القارة حديثًا، ولا يتماشى مع أي سِمات بشرية أو جغرافية وإنما مع قراراتٍ تعسفية اتخذها الأوروبيون قبل قرن ونصف. ولمَّا صارت وسائل النقل أرخص ومُتاحة بسهولة أكبر، أصبح عدد الأشخاص الذين يتنقَّلون بين الدول الأفريقية أكبر من أي وقتٍ مضى، في ظل وجود مدن كبرى تجذب الناس من داخل الحدود الوطنية وخارجها. ففي عام ١٩٨٣، رحَّلت السلطات النيجيرية مليونَي مهاجرٍ غير مُسجَّل من الوافدين إليها من غرب أفريقيا في أعقاب ضغوط اقتصادية ناجمة عن انخفاض أسعار النفط.18 ولكن في عام ٢٠١٨، أشارت أفضل التقديرات إلى وجود نصف مليون غاني في نيجيريا.19 فيما تضمُّ جنوب أفريقيا قُرابة ثلاثة ملايين مهاجر. ويُذكَر هنا أنَّ أكبر الجاليات الأجنبية في جنوب أفريقيا تضمُّ مهاجرين وفدوا إليها من أماكن أخرى في أفريقيا.20

وصحيح أن وصول حركة الهجرة إلى هذا الحجم لم يكن ممكنًا لولا الانفجار السكاني الكبير الذي تشهده أفريقيا، لكنَّ الأسباب المباشرة للهجرة تتفاوت من منطقة إلى أخرى. ففي غرب أفريقيا وجنوبها، عادة ما تكون الهجرة مدفوعة بالبحث عن فرصٍ اقتصادية، لكن الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك. فربما يوجد أكثر من مليون مهاجر من بوركينا فاسو في كوت ديفوار لأنها أغنى، لكنَّ بوركينا فاسو أيضًا فيها نحو نصف مليون إيفواري.

وفي شرق أفريقيا، غالبًا ما تكون الهجرة ناجمة عن الحرب؛ فحتى عام ٢٠١٧، فرَّ قرابة ٩٠٠ ألف شخص من جنوب السودان المنكوب إلى أوغندا، ونحو ٣٠٠ ألف إلى السودان.21 وأدَّت الحرب الأهلية الطويلة وعدم الاستقرار في الصومال إلى تدفُّق عددٍ كبيرٍ من السكان إلى دول مجاورة.
وفي الوقت الحالي، يعيش أغلب المهاجرين الأفارقة في دولٍ داخل القارة وليس خارجها. وحتى أولئك الذين يفكرون في الهجرة، من المرجح أن يُفضِّلوا دولة في نفس منطقتهم في أفريقيا على الذهاب إلى أوروبا أو أمريكا.22 ومن المؤكد أن هذا يرتبط ارتباطًا كبيرًا بالسهولة النسبية للتنقل فيما بين مناطقها، كالسفر من أوغندا إلى كينيا مثلًا؛ فهو أبسط وآمَن وأرخص من عبور البحر الأبيض المتوسِّط أو الحصول على التأشيرات والأموال اللازمة لرحلة جوية طويلة.

خصوبة أفريقيا في المستقبل: المجهول الأبرز

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدا للبعض أننا مع نهاية الحرب الباردة قد وصلنا إلى «نهاية التاريخ»؛ إذ كان واضحًا أنَّ النموذج الديمقراطي الليبرالي ذا النظام الاقتصادي المختلَط هو أفضل نموذج ناجح، وأنَّ العالم كله سينتهج هذا النهج نفسه في نهاية المطاف. وكان أشهر مؤيد لهذا الرأي هو خبير العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما، الذي تحدَّث عن «الوصول إلى الدنمارك»،23 قاصدًا بذلك أن البشر كلهم سيسعون في النهاية إلى استنساخ ما حقَّقه الدنماركيون من رخاء وليبرالية واستقرار سياسي ومُراعاة لحقوق الإنسان. غير أنَّ صحة الشِّق السياسي من هذا الكلام محل جدل؛ إذ يشكك البعض في أنَّ العالم كله يتجه نحو النموذج الدنماركي الليبرالي المعتدل الذي يتَّسم بانخفاض مستويات الجريمة وكفاءة الاقتصاد وحالة الرفاهية السخية ومؤسسات ديمقراطية مستقرة. ولكن من ناحية الشِّق الديموغرافي، فثمة حجة أقوى تؤكد صحة هذا الكلام. فإذا نظرنا إلى الوضع السكاني، نجد أنَّ العالم يتَّجه بالفعل نحو النموذج الدنماركي الذي يتَّسم بانخفاض معدلات وفيات الرضع وزيادة متوسط العمر المتوقَّع وارتفاع العمر الوسيط وتحديد النسل. بل إن بعض البلدان تجاوزت الدنمارك في هذه المقاييس؛ فمتوسط العمر المتوقَّع لدى اليابانيين أطول بثلاث سنوات من نظيره لدى الدنماركيين، ومتوسط عدد الأطفال الذين يُنجبهم اليونانيون أقل بنصفٍ من متوسطِ ما ينجبه الدنماركيون.
غير أنَّ الاستثناء الوحيد الذي يشذُّ عن هذه القاعدة هو معدل الخصوبة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. صحيح أننا يمكن أن نفترض أنه سيتجه نحو الحالة الدنماركية في نهاية المطاف، لكنَّ وتيرة تحوُّل معدل الخصوبة الأفريقي إلى المستويات المنخفضة الشائعة في كل الأماكن الأخرى ومقدار هذا الانخفاض ما زالا هما المجهول الديموغرافي الأبرز. ويُذكَر هنا أنَّ جوانب عديدة من مستقبل سكان العالم مرهونة بذلك، من بينها ما إذا كان عددهم سيبلغ أكثر من خمسة عشر مليارًا أم أكثر بقليلٍ من سبعة مليارات. أشارت دراسة نُشرت عام ٢٠١٤ في مجلة «ذا لانسيت» إلى أنَّ إجمالي عدد سكان العالم سيصل إلى ذروته التي تبلغ أقل بقليل من عشرة مليارات في عام ٢٠٦٤ ثم ينخفض إلى أن يُصبح أقل من تسعة مليارات بحلول عام ٢١٠٠،24 بينما تُقدِّر الأمم المتحدة أن عدد سكان العالم سيبلغ نحو أحد عشر مليار نسمة بحلول نهاية القرن الحالي، وسيكون مستمرًّا في التزايد حينئذٍ لكن بوتيرة بطيئة.

ومع أننا يمكن أن نؤكِّد — بيقين كبير — أنَّ متوسِّط العمر المتوقع سيزداد في أفريقيا، فإن مستقبل معدلات الخصوبة فيها ليس مؤكَّدًا بالقدر نفسه. فما زالت كل امرأة في أفريقيا تنجب خمسة أطفال في المتوسط، علمًا بأنَّ هذا الرقم لم يتغير كثيرًا عمَّا كان عليه قبل سبعين عامًا، ولا يشبه متوسط الإنجاب في أيِّ مكان آخر في العالم تقريبًا. ووفقًا لتوقعات الأمم المتحدة «الوسطية» (أي التي تقع بين أعلى التوقعات وأقلِّها)، فإن متوسط إنجاب الأطفال في أفريقيا بحلول عام ٢١٠٠ سيتقلَّص إلى مستوى الإحلال؛ أي نحو ٢٫٢ طفل. ولكن إذا كان ذلك الرقم أعلى من ٢٫٥، فسيكون عدد سكان أفريقيا خمسة مليارات ونصفًا. وتتوقَّع دراسة أجريت في عام ٢٠٢٠ أنَّ معدلات الخصوبة في أفريقيا ستنخفِض إلى أقل من طفلين لكل امرأة بحلول عام ٢١٠٠، وأنَّ عدد سكان أفريقيا سيكون نحو ثلاثة مليارات بحلول ذلك الوقت.

ويُذكَر هنا أنَّ المنطقة الجنوبية من أفريقيا تُعد استثناءً. ففي دولة جنوب أفريقيا نفسها، لا يزيد معدل الخصوبة كثيرًا على مستوى الإحلال، وهو بذلك يساوي نصف ما كان عليه في أواخر السبعينيات. فقد أصبح تنظيم الأسرة جزءًا من سياسة الحكومة إبان فترة الفصل العنصري هناك. وقد اتُّهم برنامج تحديد النسل الذي فرضه النظام الحاكم آنذاك بأنه محاولة من الحكومة البيضاء لكبح زيادة السكان السود؛25 ولكن بصرف النظر عن دوافعه، كان البرنامج ناجحًا، وبدأ معدل الخصوبة في جنوب أفريقيا يأخذ منحًى مختلفًا عن بقية دول القارة. ومنذ ذلك الحين، استمر توفُّر خدمات تنظيم الأسرة والاستعانة بها، واستمر معدَّل الخصوبة في الانخفاض. ولذا فإنَّ جنوب أفريقيا، وإن كانت تعاني مشكلات عديدة، فإنها لا تشهد الانفجار السكاني الذي كان سيسود هناك لولا تلك العوامل.
ومع أنَّ جنوب أفريقيا كانت صاحبة السبق، فقد امتد التأثير إلى جيرانها. ففي إسواتيني (التي كانت تُعرَف سابقًا بسوازيلاند) وليسوتو وناميبيا، تقترب معدلات الخصوبة من ثلاثة أطفال لكل امرأة، بل وتنخفِض عن هذا المستوى في بوتسوانا. ويُذكَر هنا أنَّ هذه الدولة بالأخص تُعَد حالة جديرة بالملاحظة؛ فهي تفتقر إلى موارد جنوب أفريقيا، لكنها ليست متأخِّرة كثيرًا عنها في مساعي تشجيع استخدام وسائل منع الحمل. ومن العوامل المساعدة هنا أنَّ السلطات الصحية في بوتسوانا لديها خبرة ممتدة على مدار نحو خمسين عامًا في العمل على الصعيد الشعبي. وكدأبِ كل الأماكن التي انخفضت فيها معدلات الخصوبة، كان التركيز مُسَلَّطًا على تعليم النساء، لكنه تحوَّل في الآونة الأخيرة إلى ضرورة إشراك الرجال في تحمُّل المسئولية. ولنضرب هنا مثلًا بما قاله تريفور أوهايلي، الذي يستضيف برنامجًا إذاعيًّا موجهًا إلى الصبية عن الصحة الجنسية والإنجابية. إذ شدَّد قائلًا: «يجب توعية الصِّبْيَة بالدورة الشهرية في نفس السن الذي تُوَعَّى فيه البنات بها.»26 وهكذا يظلُّ التعليم أنجع طريقة لمساعدة الرجال والنساء في التحكم في أجسادهم وبالتبعية مصائرهم.
وبصرف النظر عن حجم ما «تبذله» الحكومات والمنظَّمات غير الحكومية والناشطون، يجب ألا يُغفلوا «رغبة» الناس. صحيح أن الحكومات يمكن أن تفرض قيودًا صارمة على غرار سياسة الطفل الواحد في الصين. ولكن في معظم مناطق أفريقيا، التي تتسم بضآلة الموارد الحكومية وضعف السيطرة الحكومية وقوة الثقافة الموالية لكثرة الإنجاب، فإن فرض مثل هذا النظام سيكون شديد القسوة إلى حدٍّ لا يُمكن تخيله. فالخيارات التي يتخذها الناس بمحض إرادتهم، حالما تتوفَّر لهم وسائل تحديد النسل، من دون إكراه على الطريقة الصينية، هي التي تكتسي بأهمية. ففي جنوب أفريقيا، يرغب السكان في إنجاب عدد قليل من الأطفال، لكن الحال ليس كذلك في أماكن أخرى في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. فمتوسِّط عدد الأطفال الذي بلغ نحو خمسة أطفال ونصف لكل امرأة في غرب أفريقيا ووسطها في عام ٢٠١٥ كان أقل في الحقيقة من العدد المرغوب فيه بنحو نصف طفل.27
وينبغي ألَّا نبالغ فيما نستشفَّه من استطلاعات الرأي المتعلقة بعدد الأطفال الذين يريد الناس إنجابهم، لأنَّ الردود غالبًا ما تكون متأثرة بعوامل ثقافية مستترة، لكنها ربما تشير إلى التحول الكبير التالي الذي سيطرأ على معدلات الخصوبة الأفريقية في ظل انتشار انخفاض الخصوبة من جنوب القارة إلى شرقها. ففي شرق أفريقيا، نجد أن متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم النساء أقل بواحدٍ تقريبًا منه في غرب أفريقيا، وأقل بأكثر من واحدٍ مما تنجبه نساء وسط أفريقيا. صحيح أنَّ نساء أوغندا والصومال ما زلن يُنجبن عددًا يُقارب ما تنجبه النساء في دول مثل نيجيريا والنيجر وتشاد، التي تتَّسم بأعلى معدلات خصوبة في العالم، لكنَّ معدل خصوبة نساء الدول الرئيسية في المنطقة، مثل كينيا وإثيوبيا، يشهد هبوطًا مطردًا. ويُذكَر هنا أنَّ كينيا تشهد محاولاتٍ للتغلب على عوائق المحظورات المجتمعية بابتكار نُهُجٍ حديثة، مثل تطبيقٍ يجيب عن الأسئلة المتعلِّقة بوسائل منع الحمل، ما يتيح مشورة أدق وأكثر موثوقية مما كان متاحًا في المعتاد. وعن ذلك قالت إحدى الشابات لمراسل صحفي ذات مرة: «كنت أكتفي [سابقًا] بالبحث في جوجل. فثمة أسئلة أصعب من أن يُمكن طرحها على بعض الناس.»28

أمَّا في نيجيريا، فوتيرة انخفاض معدلات الخصوبة بطيئة بطئًا مؤلمًا. ففي إيران والصين مثلًا، لم يستغرق انخفاض معدَّل الخصوبة من ستة أطفال إلى ثلاثة سوى عقدٍ واحدٍ تقريبًا. في حين أنَّه استغرق عقدَين كاملَين في نيجيريا ليتزحزح بالكاد من ستة إلى خمسة في الوقت الحاضر. ويرجع ذلك إلى مزيجٍ من النزعة إلى كثرة الإنجاب (أي رغبة السكان في إنجاب وتكوين أسر كبيرة العدد، حتى مع توفُّر الوسائل التي تُساعدهم في تحديد النسل)، وسوء تقديم الخدمات الحكومية وعدم الاستقرار السياسي الذي تشهده بعض أجزاء من البلاد ويُخِلُّ بتوفُّر الخدمات فيها.

يبدو هنا أنَّ النمو السكاني في القارة لن يتوقَّف قريبًا إذا كان الأفارقة يتبنون ثقافة مُؤيدة لكثرة الإنجاب بالفعل، لكن ما أسباب ذلك يا تُرى؟ ينبغي أن نضع في حسباننا أنَّ عدد سكان القارة ظلَّ أقل من المنطقي فترة طويلة. وقد كان حتمًا على أفراد أي ثقافة أو مجتمع في مثل هذه البيئة، التي تتَّسم بوفرة الأراضي ونقص الناس ومعدلات الوفيات العالية، أن يتبنوا مبدأ مؤيدًا بشدة لكثرة الإنجاب، وإلَّا انقرضوا تمامًا. وهذا على عكس أماكن أخرى كالصين، التي أدَّى نقص الأراضي فيها إلى نشوء ثقافةٍ جعلت السكان يُقدِمون بكل شغفٍ على خيار تحديد النسل حالَما أصبح متاحًا. وربما يكون كل ما في الأمر أنَّ الأفارقة، أو بعضهم على الأقل، أشد ميلًا في الحقيقة إلى كثرة الإنجاب من الآسيويين أو الأوروبيين، ولكن لا يوجد سبب يجعل هذا الوضع دائمًا. فالثقافات تتغيَّر، مثلها مثل كل شيء آخر، وتتكيَّف مع تعاقُب الأجيال.

ينبغي هنا أن نذكُر نقطتين ردًّا على أولئك اليائسين من بطء وتيرة انخفاض معدل الخصوبة في أفريقيا. أولاهما أنَّ الانخفاض، وإن كان أبطأ مما شهدته الصين في السبعينيات والثمانينيات وإيران في الثمانينيات والتسعينيات، فإنَّ وتيرته في بعض البلدان على الأقل أسرع من وتيرته في بلدان أخرى، من بينها المملكة المتحدة التي استغرق انخفاضُه فيها من ستة أطفال لكل امرأة إلى ثلاثة نحو ستِّين عامًا كاملة. صحيح أننا، ما دمنا نتوقَّع أنَّ كل منطقة تدخل التحول الديموغرافي يُفترض أن تكون أسرع من سابقتها، سنجدُ أفريقيا مُخيبة لآمالنا، لكنَّ الكثير من مناطق القارة ما زالت تتحوَّل بوتيرة أسرع من تلك التي تحوَّلت بها أماكن أخرى. النقطة الثانية أننا، رغم التقدم الكبير الذي أحرزته أفريقيا، لا يسعنا أن نتوقع سوى انخفاض محدود في معدلات الخصوبة في بلد كنيجيريا مثلًا، خصوصًا وأنَّ حتى معدلات معرفة القراءة والكتابة بين الإناث هناك تتضاءل.29

الإيدز: مأساة وانتصار

ما زال شبح الإيدز يطارد أفريقيا مع أنَّ علاجه صار متاحًا بوفرة أكبر وتكلفة أقل. لكن اتَّضح أن كلَّ من توهَّم أن هذا الفيروس سيكبح المد البشري الهائل كان مخطئًا.

ويُذكَر هنا أنَّ التاريخ يعجُّ بالعديد من السوابق المشابهة. فالعقد الثاني من القرن العشرين اتَّسم بواحدٍ من أشد النزاعات فتكًا في التاريخ الأوروبي؛ إذ شهد حربًا ضروسًا بين عدة جيوش على الجبهة الغربية طوال أكثر من أربع سنوات. وعلى الجبهات الأخرى، خصوصًا في البلقان وروسيا، أحدثت الجيوش دمارًا هائلًا مستعينة بأحدث الأسلحة الفتاكة. وما زاد الطين بلة أنَّ جائحة الإنفلونزا الإسبانية قتلَت ملايين آخرين بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الأولى. لكن النمو السكاني الأساسي في أوروبا كان قويًّا جدًّا آنذاك، في ظل انخفاض معدل الوفيات العام وارتفاع معدل الخصوبة، إلى درجة أن عدد سكان القارة في عام ١٩٢٠ كان أكبر ممَّا كان في عام ١٩١٠.30

ولنضرب مثالًا أحدث، وإن كان أصغر نطاقًا، بالحرب الأهلية الدامية التي عَلقَت فيها سوريا خلال العقد الماضي. فحصيلة الوفيات التي بلَغَت نصف مليون فرد تُعد صادمة، لكنها لا تكاد تُضاهي حصيلة عام واحد من النمو السكاني الطبيعي في سوريا. فالنزوح الجماعي هو الذي أسفر عن انخفاض عدد سكان سوريا، وليس الوفاة. وكل هذا بعيد كل البعد عمَّا سبَّبه الموت الأسود في القرن الرابع عشر وحرب الثلاثين عامًا في القرن السابع عشر، حينما تقلَّص عدد سكان بلدان بأكملها بمقدار الثلث أو أكثر، واستغرق عقودًا بل وقرونًا حتى عاد إلى طبيعته. ففي الظروف الحالية التي تتَّسم بتحسُّن الغذاء والماء والرعاية الصحية، نجد أنَّ حتى أسوأ الكوارث تُمثل مجرد وخزات صغيرة في قوة النمو السكاني.

ويُقدَّر أنَّ ٣٥ مليون شخص ماتوا بسبب الإيدز على مستوى العالم، من بينهم نحو ٢٥ مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء.31 فعلى مدار فترة تبلغ نحو أربعين عامًا، ظل ذلك المرض يُسبب أكثر من ٦٠٠ ألف حالة وفاة سنويًّا في أفريقيا. وهذا يمثِّل نحو ٢ في المائة من عدد المواليد السنوي الحالي في المنطقة، ما يُفسِّر لماذا يكاد يكون تأثيره منعدمًا في النمو السكاني الأفريقي.

غير أنَّ المعاناة تتجلى بوضوحٍ في البيانات السكانية لبلدان جنوب القارة التي تُعَد هي الأشد تضررًا من الإيدز. ففي بوتسوانا بين أواخر الثمانينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، انخفض متوسط العمر المتوقع بمقدار عقدٍ زمني كامل، على الرغم من التطورات الإيجابية الأخرى التي شهدتها البلاد آنذاك. وفي إسواتيني، كان تأثير الإيدز أشد بكثير؛ إذ انخفض متوسط العمر المتوقع على مستوى البلاد بأكثر من سبعة عشر عامًا، مؤديًا بذلك إلى انتكاسةٍ قضَت على التقدم الذي أحرزته البلاد على مدار عدة عقود، وأعادتها إلى ما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي.

لكن الخبر الإيجابي هنا أنَّ الجهود العالمية لابتكار العلاجات وإتاحتها بسعرٍ معقول، مع التوعية بالصحة الجنسية، قد قَلَبت الوضع، وجعلت متوسِّط العمر المتوقَّع في جنوب قارة أفريقيا يعود إلى طبيعته بوتيرة أسرع مما انخفض بها. ومن الناحية الديموغرافية، نجد أنَّ ما شهده مُتوسطُ العمر المتوقَّع من انخفاضٍ ثم عودته إلى طبيعته يتعارَض مع ارتفاعه باطِّراد في دول العالم المتقدم. وصحيح أنَّ دراسة المخططات البيانية مفيدة، لكنها يجب ألَّا تنسينا الناس الذين دُمِّرَت حياتهم والذين تُمثِّلهم الانخفاضات التي تظهر في تلك المخططات.

ومما يبعث على التفاؤل أنَّ البشرية نجحت في احتواء ذلك المرض ومنعته من التحوُّل إلى وباء عالمي كالطاعون المذكور في الكتاب المقدس، حتى وإن لم تقضِ عليه تمامًا بعد. ففي إسواتيني، نجد أنَّ ٢٧ في المائة ممَّن تتراوح أعمارهم بين ٢٥ و٤٩ عامًا مُصابون بمرض نقص المناعة البشرية.32 وصحيح أنَّ الفضل في ذلك يرجع إلى الولايات المتحدة لمجهودها الاستثنائي المتمثِّل في خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز، التي تُتيح أدوية مضادة للفيروسات القهقرية لعشرات الآلاف من السكان، والتي حقَّقت انخفاضًا هائلًا في معدل الإصابة بالمرض هناك، لكنَّ هذا لم يكن ليتحقَّق لولا تعاون سلطات البلاد. إذ يقول ميشيل سيديبي المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز: «بدأ التقدم الفارق جدًّا جدًّا يتحقَّق حينما أدرك الملك الحالي أنها مسألة ضرورية لبقاء أمته.»33

وفي جنوب أفريقيا أيضًا حدثت انتكاسة في مسيرة التقدم نحو القضاء على الإيدز؛ وذلك بعد فترة كارثية في بداية القرن الحادي والعشرين أصرَّ فيها الرئيس تابو مبيكي على أنَّ الإيدز وفيروس نقص المناعة البشرية ليسا مُرتبطَين، ما أدَّى إلى تأخير برامج العلاج. وتُظهر البيانات أن مُتوسط العمر المتوقع في جنوب أفريقيا الآن صار أكبر مما كان عليه في أوائل التسعينيات، علمًا بأنَّ تلك كانت ذروته السابقة. وعلى مستوى العالم، انخفَضَت الوفيات الناجمة عن الإيدز إلى نصف عددها في الأعوام الخمسة عشر الماضية تقريبًا.

ويُذكَر هنا أنَّ فيروس الإيبولا كان على وشك التحوُّل إلى وباء آخر على غرار الإيدز، علمًا بأنه أسرع انتشارًا منه بكثير، وبذلك قد يكون أشد فتكًا منه بكثير. إذ رُصد تفشي الفيروس في دولة غينيا في غرب أفريقيا في نهاية عام ٢٠١٣، وبحلول الصيف التالي، كان قد امتدَّ إلى ليبيريا وسيراليون. وظهرت حالاتٌ فردية في بلدان أخرى، من بينها دول في أوروبا وأمريكا الشمالية، لكنَّ السلطات نجحت في احتوائها؛ ولم يبدُ المرض خارجًا عن السيطرة إلَّا في تلك الدول الثلاث الفقيرة في غرب أفريقيا. لذا هبَّ المجتمع الدولي ليتدخل، وصارت الدول الثلاث خالية من الإيبولا بحلول أوائل عام ٢٠١٦. وصحيح أنَّ الفيروس أسفر عن ١١ ألف حالة وفاة في المجمل، وأنَّ كل هذه الحالات كان في الإمكان تجنُّبها، لكن التدخل السريع الفعَّال منع هذا الأمر من أن يeصبح طاعونًا جديدًا.34

يبدو واضحًا هنا أن ظروف الحياة العصرية تسهم في انتشار الأمراض، مع ازدياد شيوع السفر حتى داخل البلدان الفقيرة، وإسهام الرحلات الجوية الدولية في نقل العدوى إلى أماكن بعيدة. ولكن من ناحية أخرى، فإنَّ الظروف العصرية، وخصوصًا الاستجابة السريعة من المجتمع الدولي، تدعم احتواء تلك الأمراض. وصحيح أنَّنا ربما نصطدم فجأة بخطرٍ بيولوجي مرعب لسنا مُستعدين له، لكنَّ سجل البشرية الباهر يُعطينا أسبابًا للتفاؤل في مثل هذه المواقف. فرغم كل المخاوف من جائحة كوفيد-١٩ والاضطراب الذي أحدثته، فإن معدَّل الوفيات التي أسفرت عنها (حتى وقت كتابة هذا الكتاب) بلَغ أقل من واحدٍ في الألف من سكان العالم.

العائد الديموغرافي: السكان والاقتصاد ومستقبل أفريقيا

في أوائل عام ٢٠١٣، كنتُ أعمل على مشروع في جاكرتا. ومن المعروف عن العاصمة الإندونيسية أنها مدينة مشهورة بالتلوث والازدحام، فكنَّا نُخصِّص نصف ساعة كاملة للذهاب بالسيارة من فندقنا إلى المكتب، لكن في إحدى المرات بدا أن الرحلة تستغرق ضِعف الزمن المعتاد تقريبًا. فاستغربتُ أنا وزميلي وسألنا السائق: «ما الخطب؟» فأجاب: «اليوم عيد الحب. الكل خارجٌ في لقاءات غرامية.» وحينما عُدنا إلى الفندق ونظرنا من الطابق الثلاثين، بدا أن المدينة كلها في حالة توقُّف تام.

إندونيسيا دولة ذات أغلبية ساحقة مسلمة. ومعظم السلطات الإسلامية ترى عيد الحب بدعةً دخيلةً ومشجعةً لإقامة علاقات خارج إطار الزواج — فضلًا عن أنه لا يتسق مع الثقافة الإسلامية ولا الثقافة الجاوية التقليدية — لكنَّ الشباب في هذه العاصمة الكبرى الوليدة كانوا يتبنون الاحتفال به، مع مجموعة من الممارسات الغربية الأخرى. فجميع أنحاء المدينة كانت تعجُّ بفتيات ذوات ثياب فاضحة يتشبَّثن بعشاقهن على ظهور الدراجات النارية وهي تنساب بسلاسة بين السيارات. ومن المؤكد أنَّ هؤلاء الفتيات لن يُنجبن أطفالًا كثرًا مثل جدَّاتهن، بل والأرجح أنهن سيُنجبن أطفالًا أقل أيضًا مما أنجبت أمهاتهن.

fig3
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، التوقعات المتوسطة.

ما زال التحوُّل السكاني في مراحله الأولى في معظم دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ويُتوقع أن يستمر النمو السكاني الانفجاري هناك، ولن يبدأ التباطؤ إلا في نهاية القرن الحادي والعشرين. ففي عام ١٩٥٠ كان عدد سكان المنطقة أقل من ٢٠٠ مليون شخص؛ أمَّا اليوم، فصار أكثر من مليار. وتُقدِّر الأمم المتحدة أنه سيبلغ نحو أربعة مليارات في عام ٢١٠٠، لكن هذا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مدى سرعة انخفاض معدلات الخصوبة.

ويُذكَر هنا أنَّ ارتفاع نسبة سكان أفريقيا من إجمالي سكان العالم كان مُذهلًا، فبعدما كانت نسبتهم واحدًا من كل أربعة عشر في عام ١٩٥٠، وصلت الآن إلى نحو واحد من كل سبعة. وبحلول عام ٢١٠٠، من المرجح أن يكون أكثر من ثلث سكان العالم أفارقة.

fig4
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، التوقعات المتوسطة.

عادةً ما تميل المقاييس الديموغرافية الرئيسية عبر البلدان المختلفة إلى التقارب معًا، فنجد أنَّ أكبر الانخفاضات في معدل الخصوبة وأطول الزيادات في متوسِّط العمر المتوقع تحدث في البلدان التي تشهد إنجاب أكبر عدد من الأطفال وتتَّسم بأقصر الأعمار.

وهكذا تُصبح تركيبة العالم الديموغرافية أقرب إلى ديموغرافيا الدنمارك الغنية المتقدمة. ففي عام ١٩٥٠، كان معدل الخصوبة العالمي ضِعف نظيره في الدنمارك؛ أمَّا اليوم، فأصبح أعلى منه بنسبةٍ أقل من ٥٠ في المائة، وبحلول نهاية القرن الحالي من المتوقَّع أن يكون أعلى منه بنسبة ١٠ في المائة فقط تقريبًا.

والشيء نفسه ينطبق على متوسِّط العمر المتوقع. ففي عام ١٩٥٠، كان المتوسط العالمي ثلثَي نظيره في الدنمارك. أمَّا اليوم، فأصبح أقل منه بنحو ١٠ في المائة فقط، ومن المتوقع أن تضيق الفجوة أكثر وأكثر، ولكن بوتيرة أبطأ على الأرجح.

تجني إندونيسيا الآن ما يُعرف باسم «العائد الديموغرافي»، الذي عادة ما يتحقق عندما تبدأ معدلات الخصوبة في الانخفاض. فنظرًا إلى أن معدلات الخصوبة كانت عالية حتى وقت قريب، نجد أنَّ شبابًا كثيرين في أواخر سن المراهقة والعشرينيات يدخلون سوق العمل الآن. لكنهم، على عكس أهلهم، لا يستعجلون إنجاب عدد كبير من الأطفال. لذا انخفض معدل الخصوبة في إندونيسيا من خمسة أطفال لكل امرأة في سبعينيات القرن الماضي إلى أكثر بقليلٍ من اثنين فقط في الوقت الحاضر. ومع وجود سكان ذوي أغلبية شابة نشطة، ينمو حجم القوى العاملة. وغالبًا ما تكون المدَّخرات طائلة؛ لأنَّ العمال الشباب الذين لا يعولون الكثير من الأفراد يبدءون الادخار لتأمين أنفسهم ماليًّا عند التقاعد. وتنخفض نسبة إعالة السكان العاملين لغير العاملين لأنَّ هؤلاء الشباب العشرينيِّين لا يُنجبون الكثير من الأطفال، بعكس أهلهم. وعندئذٍ تسنح للاقتصاد فرصة حقيقية للازدهار؛ إذ ازداد دخل الفرد في إندونيسيا بأكثر من الضِّعف في الأعوام الخمسة عشر الأولى من القرن الحالي.35

غير أنَّ العائد الديموغرافي يُمثِّل فرصة سانحة وليس شيئًا مضمونًا. إذ نجحت إندونيسيا في اغتنامها، بفتح أبوابها للاقتصاد العالمي وجذب تدفقات من رأس المال إليها. وبفضل تقدُّم مسيرتها نحو الديمقراطية، أعطت المستثمرين ثقةً في استقرارها السياسي. لكنَّ بعض الدول الأخرى التي خفضت معدل خصوبتها تخفيضًا كبيرًا لم تستفِد من ظروف ديموغرافية مواتية كالتي شهدتها إندونيسيا. فسوريا مثلًا، وحتى قبل أن تمزقها الحرب الأهلية، كانت مسيرتها يعرقلها الفساد ورفض الطبقة الحاكمة للتغيير، علمًا بأنَّ هذا ينطبق على العديد من الدول في العالم العربي. وصحيح أنَّ الاضطراب في المنطقة ناجم، إلى حدٍّ ما، عن حالة السخط من الأوضاع الاقتصادية، لكنه أيضًا له جذور ديموغرافية عميقة سنستعرضها في فصلٍ لاحق.

أمَّا معظم دول أفريقيا، فما زال العائد الديموغرافي ينتظرها في المستقبل. ففي الأماكن التي ما زالت تشهد إنجاب عددٍ كبير من الأطفال، يكرس الشباب جُل وقتهم وطاقتهم لأطفالهم فلا يسعهم تبنِّي العادات المؤدية إلى النمو الاقتصادي. فنساء البلدان الفقيرة اللواتي ينجبن عددًا كبيرًا من الأطفال غالبًا ما يفتقرن إلى الأموال اللازمة لشراء غسالة أو ثلاجة، وإذا وُجدت أي ميزانية مخصَّصة للتعليم، تكون غير كافية لكل هذا العدد. ولكن حالما يكون حجم الأسرة أصغر، يتغيَّر هذا الوضع. فحينما يكون الوالدان شابَّين متعلمين، يُقرران الاكتفاء بقليل من الأطفال ليضمنا توفير مستوى أفضل من التعليم والتغذية والرعاية لأبنائهما. على كلٍّ، فحالما تلوح إمكانية جني ثمار العائد الديموغرافي في أفريقيا، سيكون كل شيء مرهونًا بأن تتبنَّى القارة النموذج الإندونيسي وليس السوري. وصحيح أن الفوائد المحتملة لهذا العائد هائلة، ولكن إذا لم يكن ازدهار حجم القوى العاملة متبوعًا بجيلٍ مُعتدلِ العدد في دولٍ كنيجيريا مثلًا، فلن يُحدث فارقًا اقتصاديًّا إيجابيًّا.36

أفريقيا: موطن البشر في المستقبل

وسواءٌ وصل عدد سكان أفريقيا إلى أربعة مليارات أو خمسة مليارات ونصف، فإن هذا سيكون أكبر حَدَثٍ سكاني في عصرنا. صحيح أنَّ بريطانيا هي رائدة الثورة الصناعية، وأول انفجار سكاني حديث في القرن التاسع عشر، لكنَّ الثورة الصناعية والانفجار السكاني الأكبر في تاريخ البشرية هما ذانك اللذان حدثا بعدئذٍ على نطاقٍ هائلٍ في الصين وأفريقيا. فالتحوُّل الصناعي الصيني والنمو السكاني الأفريقي يعيدان تشكيل العالم بشكلٍ يَستعصي على فهمنا، وبحلول عام ٢١٠٠ ستبدو أفريقيا مختلفة تمامًا.

ويُذكَر هنا أن سَبْق الأوروبيين في التحوُّل الديموغرافي أعطاهم أفضليةً واضحة تُعرَف باسم أفضلية السبَّاقين، لأنَّه منحهم الهِمَّة والنمو السكاني اللازمَين لهيمنتهم اللاحقة على العالم. ففي العديد من البلدان، كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا، استطاع الأوروبيون الناطقون بالإنجليزية أن يحلُّوا محل الشعوب الأصلية وينشئوا مجتمعات جديدة على غرارهم هُم. لكنَّ الأفارقة سيحظون بأفضلية «المتأخرين». فكلما تأخر الشعب في المرور بعملية التحول الديموغرافي، كانت وتيرة انخفاض معدلات وفياته أسرع، وإذا لم يكن ذلك مصحوبًا بانخفاضٍ في معدلات الخصوبة، يكون النمو السكاني سريعًا بوتيرة مدهشة.

يُعد النمو السكاني في أفريقيا أعظم فرصة سانحة لها وأصعب تحدٍّ يواجهها أيضًا. فقُدرة دولها على استيعاب المليارات من السكان الناشئين الجُدد في القوى العاملة المنتِجة ودمجهم في الاقتصاد العالمي سيحدد مصير العالم في العقود القادمة. صحيح أن القارة معرَّضة لخطر الاكتظاظ السكاني ونضوب الموارد والتصحُّر، لكن وجود مليارات جُدد من الأفارقة الأفضل تغذيةً وصحةً وتعليمًا قد يقدم إسهامًا لا يقدَّر بثمنٍ في تقدُّم البشرية.

غير أنَّ هذا النمو سيصطدم بعقباتٍ صعبة، خصوصًا من الناحية الاقتصادية والسياسية. فإذا أُريدَ له أن يكتمل على ما يرام — بمعنى أن يعيش أغلب الأفارقة حياة مديدة في صحة وسلام ورخاء مادي — سيتطلَّب ذلك تحقيق إنجاز خارق في التنمية البشرية. وربما تندلع صراعات عنيفة على الموارد، على غرار النزاعات الأوروبية المماثلة في بداية القرن العشرين.37 ومن ثَم سيستلزم إنجاح النمو ألَّا يكتفي القادة الأفارقة بتعلُّم الدروس التكنولوجية من بقية العالم، بل سيتوجَّب عليهم استقاء الدروس السياسية أيضًا. فالنزاعات الأفريقية التي نشبت في العقود الأخيرة، كذلك الذي اندلع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كانت هي الحروب الأشد فتكًا في العالم. فأوضاع البلدان التي تضم الكثير من الشبان ضمن سكانها غالبًا ما تكون أكثر تقلبًا؛ ونظرًا إلى أنَّ نسبة الشباب بين سكان أفريقيا ستظل كبيرة طوال فترة طويلة مُقبلة، ستكون القارة عرضة لنشوب العنف «داخل» الدول و«فيما بينها». ومن حسن الحظ أنَّ الأيام الحالية تشهد وجود طرق أكثر إنتاجية للوصول إلى الموارد وتوفير الغذاء للسكان المتزايدين.

يُذكر هنا أنَّ عدد سكان اليابان كان أكثر من ضعف سكان نيجيريا في عام ١٩٥٠. أمَّا اليوم، فأصبح عدد سكان نيجيريا أكثر مرة ونصفًا من عدد سكان اليابان، وتتوقَّع الأمم المتحدة أن عدد النيجيريين بحلول عام ٢١٠٠ سيتجاوز عدد اليابانيين بنسبة «تسعة» إلى واحد. ويستحيل تصور أنَّ ذلك لن يُحدث تغييرات جذرية في العالم، من حيث القوة والاقتصاد والثقافة والدين. ولكن يصعُب توقع «ماهية» تلك التغيرات. وبوجه عام، من المؤكد أن أفريقيا ستحظى بتأثيرٍ أكبر في الثقافة العالمية من ذي قبل. فربما نجد نوليوود، أي صناعة الأفلام في نيجيريا، تقارع بوليوود بل وهوليوود نفسها. وربما يهيمن كُتَّابٌ أفارقة عظماء على جائزة نوبل للأدب. وربما تحتلُّ الجامعات الأفريقية والعلماء الأفارقة مكانة بارزة على الساحة العالمية. وستشغل مصالح أفريقيا، التي غالبًا ما كانت مُهمَّشة في القرون الماضية، حيزًا أكبر من اهتمامات العالم. وعندما يُصبح ثلث البشر أفارقة، سيكون من الصعب حرمان دولة أفريقية من الحصول على مقعدٍ دائمٍ في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

ونظرًا إلى أنَّ الصراع بين الإسلام والمسيحية في أفريقيا غالبًا ما يكون حادًّا بل وعنيفًا، ستجتذب هذه التوتُّرات اهتمامًا أكبر مع ازدياد أهمية القارة. وصحيح أنَّ الصراع ربما يظلُّ محصورًا في نطاقٍ محلي جدًّا، ولكن إذا شهدت أفريقيا نزاعًا حضاريًّا داخلها، فقد يكون قائمًا على خلفيات دينية، غير أنَّ هذا ليس حتميًّا على الإطلاق؛ فالمسيحيون والمسلمون غالبًا ما يتعايشون معًا في سلام. وترجع أغلب التوتُّرات التي تنشأ الآن إلى أنَّ كلًّا منهما يمثِّل نسخة مختلفة من الحداثة.

وسواءٌ أكانت العقود المُقبلة ستَّتسم بالسلم أم بالعنف، فإن النمو الديموغرافي في أفريقيا شيء مؤكد. فحتى لو تمكَّنت البلدان الأفريقية من خفض معدلات الخصوبة فيها إلى مستوى الإحلال غدًا، ستمر عقودٌ عديدة قبل أن تتوقف أعداد سكانها عن الازدياد؛ وذلك بفضل الزخم الديموغرافي؛ فحينما يكون معدل نمو السكان مُرتفعًا، تجد بينهم شبابًا كثيرين ينجبون أطفالًا، حتى وإن أنجب كلٌّ منهم عددًا قليلًا. لذا فالسؤال المرهون بمعدلات الخصوبة في أفريقيا ليس ما إذا كان النمو السكاني سيستمر أم لا، بل بأي وتيرة.

ما زالت إجابة هذا السؤال غير واضحة إطلاقًا. فنظرًا إلى أن الوضع في أفريقيا يتَّسم بتنوعٍ شديد، يبقى المستقبل غير مؤكد، لكن الشيء الواضح أنَّ الثقافة المؤيِّدة لكثرة الإنجاب مُترسخة في مُعظم أنحاء القارة. وهذا هو العامل الأبرز، والأقوى حتى من بطء التنمية الاقتصادية في المنطقة، الذي يجعل مقدار انخفاض الخصوبة في أفريقيا جنوب الصحراء أقل من أي مكان آخر في العالم النامي. وفوق ذلك فإن معدلات الخصوبة الأفريقية، حتى وإن واصلت الانخفاض كما هو متوقع، قد تظلُّ فترة طويلة أعلى من مستوى الإحلال. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المستقبل البعيد سيكون من نصيب الثقافات والمجتمعات التي تُحبذ إنجاب الأطفال وتربيتهم. ولما يبدو أن أوروبا وشرق آسيا ومعظم مناطق الأمريكتَين تفشل في هذا الاختبار؛ فإن أمل البشرية الأكبر ربما يكون معلقًا على ما كان الأوروبيون يسمونها يومًا ما «القارة المظلمة».

وقد أسفر النمو السكاني الهائل في أفريقيا عن نتيجةٍ غالبًا ما تُصاحب الانفجارات السكانية؛ ألا وهي ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الحضرية. ومع أن بعض المدن الأفريقية مثل لاجوس شهدت ازدياد عدد سكانها إلى أكثر من عشرة أمثال ما كان عليه في عام ١٩٧٠، فإن القارة ككل ما زالت بعيدة عن مستوى التحضر في الصين؛ وهذا هو الموضوع الذي ننتقل إليه الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤