الفصل الثالث

التحضر

١٢١: عدد المدن الصينية التي يتخطى سكانها مليون نسمة1
قُبيل الحرب العالمية الأولى، كان عدد المدن التي يزيد سكانها على مليون نسمة لا يكاد يتجاوَز بضع مدن في العالم كله.2 إذ كانت تلك المدن قد شهدت نموًّا هائلًا مع ازدياد أعداد سكان أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان منذ بداية القرن التاسع عشر. ومن المؤكد أنَّ أي شخص متعلِّم في عام ١٩١٤ قد سمع آنذاك عن أكثر المدن اكتظاظًا بالسكان في العالم، وكان على دراية بأماكنها وخصائصها الرئيسية. بل وما زالت أسماؤها معروفة في جميع أنحاء العالم، علمًا بأن المدن المقصودة هنا هي نيويورك وطوكيو ولندن وباريس.
والآن بعد مرور أكثر بقليلٍ من قرنٍ، صار عدد المدن المليونية في الصين وحدها ١٢١ مدينة. وعند مرحلةٍ ما في عشرينيات القرن الحالي، ستنضم إليها مائة مدينة صينية أخرى،3 لكن معظمها ربما لا يكون معروفًا حتى لأوسع الأشخاص اطلاعًا، ويُمكن أن نلتمس لهم العذر في ذلك. بل ربما ينبغي تعديل تعريف المدن الكبرى المليونية ذاته في ظل ازدياد أعدادها وتوسُّع أحجام أكبرها بقدرٍ هائل.
ويُذكَر هنا أن معظم أكبر المدن في العالم قد نشأ من تجمُّعات حضرية مُتواضعة إلى حدٍّ ما، لكن بعضها تأسَّس من الصفر. فالعاصمة البرازيلية، برازيليا، تأسَّست في عام ١٩٦٠، والآن بلغ عدد سكانها نحو مليونَين ونصف. وكذلك فالعاصمة النيجيرية أبوجا لم تكن موجودة تقريبًا قبل عام ١٩٨٠ ولديها الآن عددٌ مماثل من السكان بالفعل. فيما تضمُّ الهند قرابة أربعين مدينة مليونية معظمها غير معروف للعالم الخارجي.4 وهكذا فإنَّ المدن الكبرى المليونية، التي كانت استثناءات نادرة مشهورة فيما مضى، صارت الآن شائعة.
وفي العموم، لا يوجد تعريفٌ دقيق يُميِّز ماهية المدينة ولا آلية مضبوطة لقياس عدد سكانها بدقة. فأولًا قد لا تكون حدود المدينة واضحة تمامًا. فإذا أردنا أن نُحصي سكان لندن مثلًا، هل ينبغي أن نعتبر أنهم أولئك الذين يعيشون داخل حدود طريق إم ٢٥ أم داخل المناطق الإدارية في لندن الكبرى أم الذين يعيشون على مقربة من منطقة ويست إند أو حي المال والأعمال في لندن ويذهبون إليهما يوميًّا للعمل؟ وثانيًا، ليس واضحًا ما يميز القرية عن البلدة أو البلدة عن المدينة. وثالثًا، عادةً ما تتفاوت دقة البيانات المتعلقة بسكان التجمُّعات الحضرية باختلاف المنطقة. وكذلك فالعديد من المدن تضمُّ عددًا صغيرًا نسبيًّا من السكان، لكنها تستقبل كثيرًا من العمال والموظفين الذين يذهبون إليها يوميًّا للعمل. فعدد سكان مدينة لوكسمبورج — مثلًا — يبلغ نحو ١٢٥ ألف نسمة، لكنها تستقبل أشخاصًا أكثر بكثير يتوافدون إليها كل يوم من بلجيكا وفرنسا وألمانيا، فضلًا عن أولئك الذين يُسافرون إليها من مناطق أخرى داخل الدوقية الكبرى نفسها.5
وصحيح أنَّ فِير جوردون تشايلد، الخبير الذي وضع نظريات عن الحياة الحضرية، أكَّد أن المدن كانت تتَّسم بعشر خصائص مميزة عندما ظهرت أول مرة؛ ألا وهي سكانٌ بأعدادٍ كبيرة وكثافة عالية، والتخصص في حرفٍ وصنعات يدوية، واستخدام كمية كبيرة من رأس المال، ومبانٍ كبيرة، وطبقة اقتصادية اجتماعية مُعفاة من العمل اليدوي، وحفظ السجلات وخلق ضروب جديدة من المعرفة، ووجود الكتابة والفن والتجارة، وتوفير الأمان على أساس محلِّ الإقامة وليس صلة القرابة.6 لكن هذا ليس مفيدًا في الوقت الحاضر؛ لأننا نجد الآن دولًا بأكملها تتَّسم بكثيرٍ من هذه المميزات إن لم يكن كلها. ولذا فلعلَّ أفضل ما يُمكننا قوله عن تعريف المدينة هو أننا نعرفها حينما نراها.

مدن صينية كبرى مجهولة

تقع مدينة نانتشانج في جنوب شرق الصين، وتحدُّها جبال جيولينج من ناحية ومن الناحية الأخرى بحيرة بويانج، أكبر مسطح مائي عذب في الصين. وقد اضطلعت المدينة بدورٍ بارزٍ في صعود الشيوعية، إذ نَظَّمَت تمردًا مهمًّا في عام ١٩٢٧،7 نالت بسببِه لقب «مدينة الأبطال». وبالإضافة إلى أنها تحتل مكانةً خاصة في قلوب قادة النظام الشيوعي الصيني، فهي أيضًا معقل مُهم للطاويين.
ومن ثَم يتضح جليًّا أنَّ نانتشانج ليست مثل برازيليا أو أبوجا، اللتين ظهرتا مؤخَّرًا بعدما لم يكن لهما وجود تقريبًا؛ فهي صاحبة مكانة طويلة ومرموقة في التاريخ الصيني. لكنها لم تصل إلى حجمها الحالي، ولم تقترب منه من قبل إلا في السنوات الأخيرة؛ إذ تضم الآن نحو خمسة ملايين نسمة يعيشون في منطقتها الحضرية الأوسع. فحتى عام ١٩٧٠ تقريبًا، كان عدد سكان المدينة أقل بكثيرٍ من مليون نسمة، غير أنَّ الآونة الأخيرة شهدت نشوء مدينة جديدة على الضفة الغربية من نهر جان طَغَت تمامًا على المدينة القديمة الواقعة على الضفة الشرقية. وهذا شبيه بعض الشيء بما حدث حينما توسَّعت لندن خارج حدود حي السيتي التاريخي؛ إذ تمددت أولًا نحو مدينة وستمنستر وابتلعتها ثم التهمت مقاطعة ميدلسِكس المحيطة بها قبل أن تعبر نهر التايمز لتتمدَّد جنوبًا. ولكن في حالة نانتشانج، استغرق ذلك عقودًا قليلة، ومن دون دراية أو اهتمام من معظم العالم الآخر.8 وربما يتهمُني البعض بالانحياز إلى أوروبا لأنني أعتبر نانتشانج مدينة مجهولة لمجرَّد أن معظم الأوروبيين لا يعرفونها، ولكن مع اقتراب عدد المدن المليونية الصينية من ٢٠٠ مدينة، فمن المتوقع أن يظل العديد منها مجهولًا حتى لأولئك الذين يعيشون داخل حدود الصين.
وعلى غِرار العديد من المدن الصينية الأخرى، فإنَّ نانتشانج الحديثة نشأت نِتاجًا للهجرة الجماعية من الريف إلى المدينة، لكن هذه الظاهرة لم تكن حكرًا على الصين فقط. ففي عام ١٨٠٠، كان ٦ في المائة فقط من سكان العالم يعيشون في المدن. وبحلول عام ٢٠٠٧، أصبح نصف البشر يعيشون في المدن، وتشير التقديرات إلى أن تلك النسبة ستبلغ الثلثَين تقريبًا بحلول عام ٢٠٥٠.9 بالعودة إلى الصين، نجد أنَّ الريف الصيني شهد طفرة سكانية كبيرة في مُنتصف القرن العشرين، ومع أن معدل الخصوبة انخفض منذ عام ١٩٧٠ — وبالأخص بعد تطبيق سياسة الطفل الواحد بدءًا من عام ١٩٧٩ — ظلَّت أعداد فئة الشباب كبيرة على مر فترة طويلة قبل أن تَتناقص. وحتى عندما لم يعُد الريف يشهد نموًّا، استمر سكان القرى في الانتقال إلى المدن بحثًا عن فرص.
وإذا أردنا أن نضرب مثالًا بمدينة أخرى أكبر من نانتشانج، وتكاد تكون مجهولة مثلها في الغرب، فيُمكن أن نذكر مدينة تشونجتشينج. يبلغ عدد سكانها قرابة ستة عشر مليون نسمة، أي نحو ضِعف سكان لندن الكبرى أو منطقة نيويورك الكبرى.10 وصحيح أن المدينة موجودة منذ فجر الحضارة الصينية، لكن عدد سكانها حتى عام ١٩٩٠ كان ربع عددهم الحالي. وعلى غرار مدن صينية أخرى، شهدت تشونجتشينج نموًّا بسبب الزيادة العامة في عدد السكان وهجرة سكان الريف إلى المدن. وكذلك استفاد نموها من الجهود التي سلَّطتها الدولة على إعادة توجيه مسار النمو الاقتصادي بعيدًا عن المناطق الساحلية المزدهرة بالفعل وتركيزه على المناطق الداخلية. وبذلك استطاعت تشونجتشينج اجتذاب مشروعات محلية، بل وشركات أجنبية مثل فورد ومايكروسوفت، ما أتاح وظائف برواتب تجذب الفلاحين وصغار المزارعين إلى المدينة.

وصحيح أنَّ الفرص الاقتصادية دائمًا ما تجذب الناس من الريف إلى المدينة، لكن هذا الاجتذاب كان معزَّزًا بدَفعةٍ ديموغرافية. فمع انخفاض معدلات وفيات الرضَّع وزيادة السكان الريفيين، يُصبح الاستمرار في تقسيم الأراضي إلى قطعٍ أصغر مستحيلًا. فيعجز الريف عن استيعاب سكانه، ويبدأ النزوح الكبير نحو المناطق الحضرية.

ففي مُنتصف السبعينيات، كان ٨٠ في المائة من سكان الصين يعيشون في الريف؛ أما الآن، فصار أكثر من ٦٠ في المائة منهم يعيشون في مناطق حضرية.11 وربما يكون هذا التحوُّل قد حدث في الصين بوتيرة أسرع وعلى نطاق أوسع ممَّا حدث به في غيرها، لكن تأثيراته متشابهة في كل أنحاء العالم، والبشر الحضريُّون مختلفون بالطبع عن البشر الريفيِّين.

صعود الإنسان الحضري

حينما يتحوَّل أغلب أفراد المجتمع من ريفيِّين إلى حضريِّين، فإن التحوُّل لا يقتصر على تغيير مكان معيشتهم، بل يتضمَّن تغييرًا في عقلياتهم وأرواحهم ذاتها.

فقبل بضع سنوات، كنتُ مديرًا لمدرسة ابتدائية في منطقة في لندن تضمُّ جالية بنجلاديشية كبيرة. واشتكى لي أحد المعلِّمين من أنَّ المدرسة حينما نظمت رحلة إلى الريف، فوجئ بأن العديد من الآباء البنجلاديشيِّين غيَّبوا أطفالهم عن المدرسة في ذلك اليوم. فناقشتُ المسألة مع عدة آباء، وجاءني انطباع بأنهم، لما كانوا وافدين أصلًا من مقاطعة فقيرة ونائية نسبيًّا في بنجلاديش، لم يجدوا أي مبرر لزيارة منطقة ريفية؛ فقد كانوا يفتخرون بأنهم هجروا الريف.

تذكرتُ هذا عندما كنت أعمل في صربيا بعد ذلك ببضع سنوات، ووجدت زميلًا بريطانيًّا يسأل مديرًا محليًّا في شركة الاتصالات الوطنية عما إذا كان قد فكر من قبل في مُغادرة بلجراد والعودة إلى جذوره الريفية. كان زميلي، مثلي، قد عاش طفولته في بيئة حضرية، أمَّا صديقنا الصربي، الذي كان يحظى بمنصبٍ مرموقٍ نسبيًّا في مقر الشركة الرئيسي ومنزل في ضاحية للطبقة المتوسطة، فإن الجيل السابق مباشرة من عائلته كانوا من سكان قرية نائية وربما يكون قد عاش جزءًا من طفولته هناك. نظر إلى زميلي كما لو كان مجنونًا؛ فالعودة إلى جذوره الريفية كانت آخر شيء يطمح إليه. وعلى المنوال نفسه، حدَّثني أحد أصدقائي عن والد زوجته، الذي كان عازمًا على التقاعُد في جامايكا التي جاء منها إلى المملكة المتحدة قبل عقود. فحينما اقترح عليه أحد أبنائه أن يشتري مزرعة صغيرة ويربي فيها الدجاج، وهذه هواية شائعة في الضواحي تمارسها عائلتان أعرفهما في شمال لندن، صُدم. وقال: «لا أريد العودة إلى المكان الذي أتيتُ منه.»

أمَّا أولئك الذين نشَئُوا في المدينة، وكان آباؤهم وأجدادهم حضريِّين مثلهم، فيعتبرون الريف مكانًا يهربون «إليه» وليس «منه». وأولئك منا الذين نشَئُوا في مجتمعاتٍ ذات طابع حضري سائد منذ فترة طويلة قد نسوا أن الهروب إلى الريف يُعَد رفاهية ثمينة جدًّا من رفاهيات العالم الأول. فنحن نرى الحياة الريفية دعةً رومانسية شاعرية وليست كدًّا شاقًّا طاحنًا في كل الأحوال الجوية لاستخراج أبسط لوازم القوت الأساسي من الأرض. لكن أيامنا الحاضرة شهدت تلاشي الحدود الفاصلة بين المدينة والريف على عكس العصور السابقة. ففي المملكة المتحدة، مثلًا، غالبًا ما تجد الأشخاص الذين يعيشون في الريف قريبين من مدينةٍ ما، وأي مسافة، مهما طالت، تكون تافهةً ما دمتَ تملك سيارة. وعلاوةً على ذلك، صارت أغلب المناطق الريفية في المملكة المتحدة تحظى بنفس الخدمات التعليمية والمرافق والرعاية الصحية المتاحة في المدن.

فقديمًا قبل الراديو والسكك الحديدية والسيارات والطرق الممهدة، كان مَن يعيشون حتى في قلب جنوب شرق إنجلترا منعزلين عن الكثير مما تُتيحه الحياة العصرية. وحتى في الأربعينيات، حينما أُجلِيَت أمي من لندن في أثناء قصف المدينة لتعيش في بيدفوردشير، التي صارت الآن بوسائل المواصلات على مقربة من لندن، لم تكن الكهرباء متوفرة في منزلها، وكان معظم القرويين يُضطرون إلى ضخِّ مياههم من بئرٍ في ساحة القرية العمومية. ولعدم وجود نظام صرف صحي هناك آنذاك، كان جدي يضطر إلى دفن فضلات الأسرة في الحديقة. وصحيح أن هذا الوضع برمته كان على وشك التغيُّر آنذاك، لكن نحو ثلثَي المنازل البريطانية ظلَّ بلا هواتف حتى عام ١٩٧٠.12

غير أنَّ المزايا التي كانت حكرًا على المدن في الماضي صارت الآن متاحة في المناطق الريفية، خصوصًا مع وصول الإنترنت. فالمجلات والمدونات الصوتية المنشورة عبر الإنترنت أصبحت متاحة — بالقدر نفسه — لمن يعيشون خارج المدن، اعتمادًا على عرض النطاق التردُّدي المحلي؛ وما دام الإنترنت يعمل، لا تكون تجربة الحياة الريفية مختلفة كثيرًا عن الحياة الحضرية من حيث توفُّر عوامل الترفيه أو التحفيز. فجهاز القارئ الرقمي يعوض المرء عن عدم وجود مكتبة محلية في منطقته، ومنصة «نتفليكس» تُعوضه عن عدم وجود دار عرض قريبة منه.

عادةً ما كانت الاختلافات في المواقف السياسية والدينية تميز المدن عن الريف في الماضي؛ لأن سكان الأرياف كانوا أشد تقيُّدًا بالتقاليد. وكما يقول المثل الألماني القديم، «هواء المدينة يُحرِّر المرء». وصحيح أن سكان الريف ربما كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم «أحرار» على الرغم من مواقفهم التي كانت أكثر ارتباطًا بالتقاليد المحافظة، لكنَّ جزءًا كبيرًا من الريف الأوروبي كان خاضعًا للإقطاع في الماضي، وهذا تجلى بوضوحٍ في إجلال أشخاص مُعينين ورفض التغيير. وحتى المنظور الذي ننظر منه إلى العالم اليوم، ونراه على أنه يضمُّ أنماطًا مميزة يُمكن فهمها بقوانين فيزيائية ونماذج رياضية بدلًا من تأويلها بتدخُّل الآلهة والشياطين، كان من صُنع المدن الحديثة المبكِّرة.13 على الأقل كان سكان المدن أدرى بالقراءة والكتابة ممَّن يعيشون خارجها. فعلى سبيل المثال، حينما كان كل سكان برلين — تقريبًا — يستطيعون القراءة في ستينيات القرن التاسع عشر، كان ثلث سكان بروسيا الغربية أميِّين.14

وصحيح أن الفجوة بين الحياة الحضرية والحياة الريفية تتضاءل في العالم المتقدِّم، لكن هذا لا ينطبق بالقدر نفسه على أماكن أخرى. فما زال بعض سكان العالم النامي اليوم يُمنُّون أنفسهم بالهجرة من الريف إلى المدينة، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، ويرونها فرصة واعدة، مثلما كان يراها سكان أوروبا يومًا ما. فالانتقال إلى المدينة يعزز من فرص الحصول على عملٍ مدفوع الأجر، ما يُتيح معيشةً أفضل مما تتيحها زراعة الكفاف. ويعزز أيضًا من فرص أطفالك في الحصول على تعليمٍ جيدٍ يُتيح لهم العثور على وظيفة تتطلَّب عقلًا وليس قوة بدنية. وأذكر هنا أنَّ أحد سائقي سيارات الأجرة في جاكرتا قال لي ذات مرة: «أبي وجَدِّي قضيا حياتهما مقرفصَين بظهرَين محنيَّين في حقول الأرز. لكني أرى أن قيادة سيارة الأجرة أفضل بكثير من ذلك، والآن يعمل ابني في مكتب مكيَّف.» ربما يستغرب بعضنا ذلك، ويتساءل ما المُتعة في الجلوس على مكتبٍ في جوٍّ مُغلق ذي درجة حرارة مضبوطة، أو حتى خلف عجلة القيادة؛ هذا لأنهم لم يقضوا سنوات في الكد المُضني تحت شمس جاوة الحارقة.

وقد عبَّر عن هذا الرأي أحدُ الأشخاص المساكين الذين وقعوا في براثن ثورة ماو الثقافية القاتلة في الستينيات والسبعينيات، وأُجبِروا على خوض الرحلة بالعكس؛ أي الانتقال من حياة مُتواضعة ولكن مريحة نسبيًّا في بكين إلى حياة زراعة الكفاف الفلاحية في منغوليا الداخلية، إذ قال:

لم نكن نجد شيئًا نستظلُّ به من الشمس الحارقة … كنا نستيقظ في نحو الرابعة صباحًا … وكانت أسراب البعوض تنقضُّ علينا بلا هوادة. لم يكن لدينا مفرٌّ من هجماتها في القيظ الشديد. وبينما لم نكن نستطيع إطعام أنفسنا بالزراعة، كنا بأجسادنا طعامًا لحشرات صحراء جوبي.15

ربما يرى بعض المعاصرين تعاليًا في تصريحات كارل ماركس الازدرائية عن «البلاهة الريفية»، لكن الحقيقة أن الفلاحين كانوا أكثر أمية وأقل تعليمًا من سكان المدن، بل وكانوا أقل نزعةً إلى القيام بالثورات وأضعف قدرة عليها. فحينما هبَّ الفلاحون، قاموا ﺑ «انتفاضات»، في حين أن سكان المدن هم من قاموا ﺑ «الثورات». ويُذكر هنا أن الانتفاضات — غالبًا — ما كانت محلية وسيئة التنظيم، ودائمًا ما كانت الحكومة تقمعها. ومن أمثلة ذلك انتفاضة الفلاحين التي قادَها وات تايلر في إنجلترا عام ١٣٨١، وتمرُّد إيميليان بوجاتشيف في روسيا عام ١٧٨١. إذ انتهى المطاف بتايلر إلى تعليق رأسه على خازوق على جسر لندن، بينما قُطِع رأس بوجاتشيف وجُرَّ جسده على الأرض، وقُطع إلى أربعة أرباع في ميدان عام في موسكو. فانتفاضاتهم قامت تنفيسًا عن الغضب وليس لأغراضٍ سياسية، وسرعان ما سحقتها السلطات.

لذا فلا عجب في أنَّ ماركس رأى أنَّ المستقبل الثوري لا يكمن في أيدي الذين اعتبرهم فلاحين رجعيِّين جهلة، بل في يد طبقة جديدة: البروليتاريا. فهذه الطبقة الجديدة من العمال الصناعيين الحضريين كانت تضمُّ أفرادًا لديهم القدر الأساسي من التعليم. وهذا، وفقًا لماركس، كان يعني أنهم سيكونون أوعى بمصالح طبقتهم وأقدر على التصرف بناءً عليها. لذا كان أفراد البروليتاريا الحضرية في وضعٍ يُمكِّنهم من تنظيم أنفسهم جماعيًّا والسيطرة على المدن المهمة جدًّا.

وصحيح أنه اتضح لاحقًا أنَّ أفراد الطبقة العاملة الصناعية لم يُصبحوا رواد الثورات كما كان متوقعًا، لكن الثورات الكبرى كلها حدثت في المدن، وأشهرها في باريس وسانت بطرسبرج وطهران. وحينما اندلعت ثورات مضادة، كما حدث في فرنسا عام ١٨٤٨، عادةً ما كانت تأتي من الريف، في صورة جيش من الجنود الفلاحين بقيادة أرستقراطيين إقطاعيين.

ومع أنَّ أغلب المدن مرتبطٌ بالمستقبل وأغلب الريف مرتبطٌ بالماضي، تجدر الإشارة إلى أنَّ المدن هي مواطن حفظ الماضي أيضًا، سواءٌ في شكل أنصاب تذكارية أو مكتبات أو متاحف، وهذا تحديدًا لأنها مُستودعات الحضارة.

فالمدن ليسَت فحسب مرتبطة بالتغيير السياسي والاقتصادي. بل إنها أيضًا، ومنذ أقدم العصور، مُرتبطة بالحضارة؛ حتى إنَّ كلمة civilization نفسها، التي تعني «الحضارة»، مشتقة من كلمة civitas اللاتينية التي تعني «المدينة». فالناس يكُونون أفضل إبداعًا وابتكارًا حينما يكونون قادرين على الالتقاء والتحدُّث وتبادل الأفكار، كما هي الحال في المدن. أمَّا في الريف، فإذا أراد المرء التعامل مع أناس خارج المنطقة المحيطة مباشرةً، يضطرُّ إلى استخدام موارده الشحيحة أصلًا. وبذلك يُمكن القول إنَّ نواة المستقبل قد ابتُكِرت في مقاهي لندن في أواخر القرن السابع عشر ومقاهي فيينا في أوائل القرن العشرين بقدر ما ابتُكِرت في مختبرات الجامعات. وكذلك فمَفاصل الدولة، كالتدوين وتحصيل الضرائب، إلى جانب الفنون والعلوم، كلها نشأت أصلًا في المدينة. وكان سكان المدن أقدر على الدفاع عن أنفسهم من سكان القرى أو النجوع أو المزارع. فالمدينة تُتيح أمانًا أعلى وأرخص بفضل الحجم، ما يعني أن احتمالية الحفاظ على رأس المال في المدينة في أوقات الانفلات الأمني تكون أعلى من احتمالية الحفاظ عليه في الريف. وتستفيد المدينة أيضًا من وفورات الحجم في المرافق مثل المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم.
ومن ثَم فإن مدى ازدهار المدن يُعَد مقياسًا لتطور الحضارة. فكل مدينة تحتاج إلى استيراد كميات هائلة من مواد البناء والطعام والماء. أمَّا حين تكون الحضارة في تدهور، فلا تتطلَّب وجود مدن كبيرة ولا تملك الوسائل اللازمة للحفاظ عليها. ولعلَّ أبرز مثال على ذلك في الغرب كان تدهور المدن إبان سقوط الإمبراطورية الرومانية. وقد كانت روما بالذات مثالًا بارزًا، مع أنَّ العديد من المدن الأخرى في الإمبراطورية قد شاركتها المصير نفسه. فبعدما كان عدد سكانها في القرن الأول الميلادي يتجاوَز مليونًا على الأرجح، لم يكد يبلغ ثلاثين ألف نسمة بعد ذلك بثلاثة قرون.16 ويُرجح أن لندن فقدَت ثلثَي سكانها في العقود التي أعقبت وصول عددهم إلى ذروته في تاريخها الروماني في سنة ١٥٠ ميلادية تقريبًا.17 ولعلَّ أوضح مؤشِّر على تدهور الإمبراطورية الرومانية هو انخفاض عدد سكانها. وكذلك فبحلول عام ١٢٠٠، كان عدد سكان باريس، أكبر مدينة في الغرب المسيحي آنَذاك، أكثر بقليلٍ من مائة ألف نسمة فقط، أي لا يكاد يبلغ عُشر عدد سكان روما في ذروته. وذلك لأنَّ مستوى التقدم التكنولوجي في غرب أوروبا آنذاك لم يكن يَسَع تحمُّل أي عدد أكبر من ذلك.
تُعَد الأغلبية الساحقة من البشر المعاصرين نِتاجَ الثقافة الحضرية إلى درجة أننا نكاد نرى ذلك شيئًا عاديًّا. إذ ننسى أنَّ المدينة، وإن كان عمرها آلاف السنين، لم تكن تُئوي سوى نسبة ضئيلة من السكان حتى وقت قريب. فنسبة السكان الحضريين في أوروبا كانت تبلغ ١٫٦ في المائة فقط في عام ١٦٠٠، وأعلى بقليلٍ من ٢ في المائة في عام ١٨٠٠. ولكن بحلول عام ١٨٠١، كان ١٠ في المائة من سكان إنجلترا وويلز حضريِّين، وظلَّت النسبة تترفَّع حتى صار أغلب سكانهما يعيشون في المدن قبل فترة طويلة من حلول عام ١٩٠٠.18 ويُذكَر هنا أن الجزر البريطانية كانت صاحبة السبق في التحضر؛19 مثلما كانت في بقية مراحل التحوُّل الديموغرافي؛ إذ نجد أنَّ التحضر لم يُصبح سائدًا في باقي أنحاء العالم إلا في السنوات الأولى من هذا القرن الحالي.20

التحضر والبيئة

كما رأينا، يظنُّ السكان الحضريون السذج أن الريف عالمٌ وردي دائمًا، ويتوهمون أنه ملاذٌ للترفيه عن النفس وليس مكانًا للعمل الشاق في الحقول. وكذلك فَهُم غالبًا ما يرون الحياة الريفية «طبيعية» لسببٍ ما، وأن الحياة في المدن تضرُّ بالبيئة. غير أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.

صحيح أنَّ نسبة إسهام الفرد في الانبعاثات الكربونية كانت مُنخفِضة في مجتمعات ما قبل الحداثة. وذلك لأن أفرادها غالبًا ما كانوا يتنقلون سيرًا على الأقدام أو بالدراجات، ولم تتوفَّر لهم الكهرباء قطُّ، وما كانوا ليعرفوا كيفية استخدام الغسالة لو رأوها أمامهم، وبذلك كانوا يستهلكون قليلًا من موارد الكوكب. ولكن عند وصول الحداثة، نجد أن سكان المدن يتمتعون بمزاياها بصورٍ أكفأ وأفضل استدامة بكثير.

فعلى سبيل المثال، سنجد أن متوسط الأميال التي تقطعها الأسر الأمريكية الحضرية بالسيارة أقل ممَّا تقطعه نظيراتها في الريف، بل ومن المرجَّح أيضًا أن يكون عدد سياراتها أقل، وذلك لأنَّ سكان الريف قد يحتاجُون إلى استقلال السيارة كلَّما أرادوا الذهاب لشراء رغيف خبز أو لتر من الحليب مثلًا. وكذلك فسكان المدن أكثر إقبالًا على استخدام وسائل النقل العام في مُعظَم تنقُّلاتهم اليومية الضرورية. وغالبًا ما يكون ذهابهم إلى المدرسة أو إلى العمل أقصر مسافةً وأقل اعتمادًا على المركبات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي. فنسبة اللندنيين الذين يذهبون إلى العمل بالسيارة مثلًا أقل بكثير من النصف مقارنةً بسكان كلِّ منطقة أخرى في المملكة المتحدة.21 وفوق ذلك، فإتاحة خدمات المياه الجارية وأنظمة الصرف الصحي وتوفير الكهرباء وخدمات البريد لسكان المدن يُمكن أن تتمَّ بكفاءةٍ أفضل، وتستلزم كميةً أقل من الأنابيب أو الكابلات أو الطرق المسفلَتة.
وغالبًا ما يعيش سكان المدن في منازل أصغر وأفضل عزلًا من منازل الريف، لذا يستهلكون الوقود بكفاءة أكبر وتكون انبعاثاتهم الكلية أقل. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أُجرِيَت في عام ٢٠٠٤ أنَّ الانبعاثات الكربونية الصادرة من سكان لندن بلغت نحو نصف متوسِّط الانبعاثات في المملكة المتحدة ككل،22 بينما تُقدَّر نسبة انبعاثات سكان نيويورك الكربونية بأنها أقل من متوسِّط الانبعاثات الأمريكي كله بنحو ٣٠ في المائة.23 ويُذكَر هنا أن إسهام الفرد في الانبعاثات في ولاية نيويورك المتحضِّرة جدًّا هو الأقل بين كل الولايات الأمريكية الأخرى.24 وكما قال بيتر كالثورب خبير التصميم والتخطيط الحضريين: «المدينة هي أقل أشكال المستوطنات البشرية إضرارًا بالبيئة. فكل ساكن في المدينة يستهلك حيزًا أصغر من الأرض، وكمية أقل من الطاقة والماء، ويُصدِر قدرًا أقل من التلوث من نظيره في المستوطنات الأقل كثافة من الناحية السكانية.»25 وهكذا فإنَّ النزعة إلى العيش في البلدات والمدن تجعل نصف البشر كلهم يعيشون على أقل من ٣ في المائة من سطح الأرض.26
صحيح أنَّ المدن العصرية ما زالت تستهلك كميات كبيرة من الطاقة؛27 ولكن حالما يبدأ الناس عيشَ حياة عصرية، فإن سكان المدن يعيشونها باستهلاك الطاقة على نحوٍ أكفأ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مُستهلكي أكبر كمياتٍ من البنزين ليسوا الفلاحين الريفيين الذين يعيشون في البلدان الفقيرة بل سكان الريف في العالم المتقدم، الذين غالبًا ما يقودون سياراتهم مسافات طويلة للحصول على ضروريات الحياة وملذَّاتها لأنهم يعيشون في منازل أكثر تباعدًا ومعزولة جدًّا.

وكذلك يُتيح التحضُّر منافع تعود على الطبيعة مباشرةً؛ فإخلاء الريف يمنح الأرض هدنةً لالتقاط الأنفاس. على سبيل المثال، توجد في البرانس الشرقية في جنوب فرنسا، بالقرب من الحدود الإسبانية، أفدنةٌ من سفوحِ تلالٍ برية لم يعُد فيها أي علامات على النشاط الزراعي المكثَّف السابق سوى الأراضي المتدرجة التي كانت رُقعًا زراعية صغيرة في الماضي. وما زال السكان الأكبر سنًّا في المنطقة يتذكَّرون الأوقات التي كانت تحظى فيها هذه التلال بالعناية والرعاية، علمًا بأنها مهجورة منذ فترة طويلة. وصحيح أن ظاهرة إخلاء الريف لا تشمل كل القرى في هذه المنطقة، لكن سكانها يتركون الزراعة، وكثيرون منهم قد حزموا مُتعلقاتهم وتركوا الوادي متجهين إلى أقرب بلدة كبيرة أو أبعد من ذلك.

وهكذا عادت النباتات والحيوانات الطبيعية لتحلَّ محل المحاصيل الزراعية، ورُصِدَت ذئابٌ ودِببة في المنطقة لأول مرة منذ عقود. ويُذكَر هنا أنَّ السلطات أعادت إدخال الدببة إلى البرانس على سبيل التجربة، بينما يبدو أن الذئاب قد شَقَّت طريقها بنفسها من شمال إيطاليا، مستغلة المساحات الفارغة المتزايدة في جميع أنحاء جنوب فرنسا.28 وكذلك تَكثُر الخنازير البرية أيضًا، ولا يكبح زيادتها سوى ولع السكان المحليين بالصيد. ومن ثَم يتضح أنَّ الطبيعة تتعافى عندما يترك البشر الريف ويتجهون إلى المدينة. فثلث الأراضي التي كانت تُزرَع في الاتحاد السوفييتي سابقًا تُركت الآن للطبيعة؛ ونيو إنجلاند، التي جرَّدها أوائل المستوطنين الأوروبيين من الأشجار، شهدت ارتفاع مساحة الرقعة الشجرية مرة أخرى في القرن العشرين؛ إذ زادت من ٣٠ في المائة إلى ٨٠ في المائة من إجمالي مساحة الأرض.29

أيمكن أن ينعكس الاتجاه؟

من الممكن أن ينعكس اتجاه مسيرة التحضُّر. وذلك لسببين. أولهما أننا قد نشهد انهيارًا حضاريًّا ما، سواء بسبب وباء أو انهيار مالي أو إحدى الكوارث التي يُمكن أن تصيب البشرية في أي وقت. ففي مثل هذه الأحداث، من المرجح أن تنهار حضارتنا التي تتَّسم بتعقيدٍ استثنائي. إذ ستنفد إمدادات الغذاء والماء وكل لوازم الحياة الحضرية، وسيجد الناجون أنفسهم يحاولون العيش على موارد الريف الطبيعية. ولنضرب هنا مثلًا بأزمة كوفيد-١٩، فصحيح أنها لم تُؤثِّر في أعداد البشر إلا بنسبة معتدلة، لكنها أدَّت إلى الرحيل المؤقت عن بعض المناطق المركزية في المدن.

وما زال من السابق لأوانه أن نعرف ما إذا كانت جائحة كوفيد-١٩ ستؤدي إلى تدهور حضري على المدى البعيد أم لا، لكنَّ مثل هذه التدهورات قد حدثت من قبل في أوقات الأزمات. وبخلاف انهيار الإمبراطورية الرومانية، يمكن أن نضرب مثالًا آخر بفوضى الثورة والحرب الأهلية التي عصفت بروسيا في أوائل القرن العشرين. فحينها عاد الفلاحون الذين كانوا حديثي عَهدٍ بالبروليتاريا إلى قُراهم، ولم تُستأنف عملية التحضُّر إلا مع التحول الصناعي في عصر ستالين.

وإذا تفشَّت جائحة عالمية على نطاقٍ أوسع من تلك التي بدأت في عام ٢٠٢٠، فقد تؤدي إلى فرار السكان من المدن إلى الريف. وعندئذٍ ستكون هذه نسخة حديثة من هجرة بعض سكان لندن، ممَّن استطاعوا تحمُّل تكاليف الهجرة، إلى هامبستيد في زمن الطاعون منذ أكثر من ستمائة عام. وإذا حدث نزوح جماعي من المناطق الحضرية هكذا، فربما نجد، حالما ينتهي الوباء وينخفض عدد السكان، أنَّ المدن صارت أماكن عنيفة وغير جذابة؛ بينما يصبح الريف أنسب للحياة. وصحيح أنَّ هذه الأفكار ربما تكون مُستمَدة من وحي القصص الخيالية التي تدور حول «النجاة» و«الاستعداد» في حالة انهيار الإمدادات والقانون والنظام، لكن هذا لا يعني أن حدوثها مستحيل.

ومع أنَّ حدوث كارثة عالمية كهذه ربما يبدو مستبعَدًا، فإن التاريخ يضم سوابق شهدت مثل هذا الانهيار الحضاري المصحوب بانهيارٍ حضري. بل إنَّ المدن التي كانت مُزدهرةً يومًا ما لكنها هُجِرَت منذ فترة طويلة أصبحت هي الركيزة الأساسية لعلم الآثار والسياحة الثقافية، بدءًا من معابد سيم ريب في كمبوديا إلى أطلال حضارة المايا في شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك. ويُذكَر هنا أنَّ انهيار هذه المراكز الحضرية وما شابهها جاء نتيجة لعوامل بيئية أو مشكلات سياسية. وقد اقتصرت هذه الأحداث على نطاقٍ محلي لأنَّ سكان كلِّ جزءٍ من العالم آنذاك كانوا في وادٍ وسكان الأجزاء الأخرى في وادٍ آخر. ولكن في ظل الترابط الذي يسود العالم اليوم، فإن تأثير الكوارث البيئية والسياسية المصاحبة لمثل هذه الانهيارات سينتشِر على نطاقٍ عالمي. صحيح أنَّ العولمة تتيح لنا فوائد عظيمة، كإجراء معاملات مالية شبه فورية عبر آلاف الأميال وسفر ملايين البشر جوًّا كل يوم، لكنَّها قد تؤدي أيضًا إلى انتشار المشكلات، سواء أكانت بيولوجية أو اقتصادية، بوتيرة أسرع وعلى نطاقٍ أوسع. وقد أصبحنا أدرى بذلك منذ ظهور جائحة كوفيد-١٩.

أمَّا السبب الثاني لانتكاسة التحضر، فقد ينشأ من تعزيز التقدُّم وليس حدوث تخلُّفٍ. فالتقدم التكنولوجي قد يُسهِّل على الناس التنقل جيئةً وذهابًا إلى مسافات أطول، أو يجعلهم يستغنون عن ذلك أصلًا. فمع إمكان عقد المؤتمرات عن بُعدٍ، وباستخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات الحديثة، تتزايد قدرة الناس على العمل معًا دون الحاجة إلى الوجود في المكان نفسه، وبفضل ابتكار تقنية الهولوجرام، صار ذلك أكثر قابلية للتحقق بالفعل. وبذلك قد يختار الناس العيش في مكان أبعد عن أماكن عملهم، إمَّا بسبب تفضيلهم للحياة الريفية لأن أماكن الإقامة هناك ميسورة التكلفة، أو لتجنُّب التنقلات اليومية المتعِبة والمكلِّفة. وقد سرَّعت أزمة كوفيد-١٩ من وتيرة هذا التغيير.

ومع ذلك، قد يختار بعض السكان مُواصلة العيش في المدن أو بالقرب منها حتى حينما يُصبح ذلك غير ضروري. فالوسائل التقنية، التي تتيح العمل عن بُعد، متقدمة جدًّا بالفعل، لكنَّ العمال والموظفين ما زالوا يتنقَّلون جيئة وذهابًا بالملايين كل يوم من الضواحي إلى مراكز المدن للاستفادة من التفاعل المباشر مع الزملاء والعملاء والموردين. إذ ربما لا يمكن الاستغناء عن هذه الفوائد بالابتكارات التقنية. وكذلك ما زال بعض رجال الأعمال يسافرون بالطائرات إلى اجتماعاتٍ في مدنٍ بعيدة يُمكن عقدها عبر المؤتمرات الهاتفية. أي إنَّ القُرب الجسدي ما زال ضروريًّا لبناء العلاقات الشخصية والحفاظ عليها في عالم الأعمال، فضلًا عن العالم الاجتماعي. ومع ذلك، نجد أن البعض قد تخلَّى عن العيش في المدن والذهاب إلى مقرات العمل يوميًّا حتى قبل جائحة فيروس كورونا. إذ حدث انخفاض ملحوظ في الإقبال على استخدام مترو أنفاق لندن، فتضررت موارده المالية.30

ربما يبدو التوق إلى التنعُّم بحياةٍ بسيطة هادئة، والعيش في حيِّزٍ أوسع، والاستمتاع بمزيدٍ من الهواء الطلق، تَرَفًا مقصورًا على الأغنياء، ولكن يبدو أنَّ الشعور بالسأم من حياة المدن شائعٌ لدى الكثيرين. ولنضرب هنا مثلًا بهذه الخاطرة التي ألَّفها شخصٌ غادر لندن إلى الحدود الويلزية عن الحياة الريفية:

مزَّقت المدينة أعصابي، وأعدتُ مفاتيح شقتي الصغيرة القريبة من ريجنتس بارك إلى صاحبها، ووجدتُ مسكنًا للإيجار خارج قرية كوميوي مباشرةً، علمًا بأنه كان مخزنًا للحبوب في الأصل. يقع المسكن على قمة مسارٍ شديد الانحدار في مُنتصَف الطريق نحو أعلى الجبل، ويعطي ارتفاعه شعورًا بأنك على مقدمة سفينة في بحرٍ مُتماوج مُتلألئ. وفي صباح معظم الأيام، كنتُ أتمشَّى خمسة أميال قبل أن أشرع في الكتابة. كنتُ في البداية أفعل ذلك بتركيزٍ شديدٍ وأنا أرتدي سماعات الرأس، كأنني أذهب إلى صالة الألعاب الرياضية وأتمرَّن بحكم الضرورة، مُعتبرًا إياه شيئًا روتينيًّا يجب إتمامه. لكنَّ شيئًا ما تغير. وسرعان ما أصبح المشي حياتي. تخلَّصت من سماعات الرأس … وكلما طالت فترة بقائي هنا، تضاءلت قدرتي على تخيل الحياة في أي مكان آخر. قال لي أحد الأصدقاء عبر الهاتف: «يبدو كأنَّ السُّبُل قد تقطعت بك في الجنة». وكان محقًّا في ذلك من عدة جوانب.31
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ انخفاض عدد سكان المدن الكبرى لن يكون ظاهرةً جديدة، ولسنا في حاجة إلى الرجوع بالزمن إلى الوراء حتى عصر سقوط الإمبراطورية الرومانية أو الطاعون لنجد أمثلةً سابقة. فبين عامَي ١٩٣٩ و١٩٩١، انخفض عدد سكان لندن من ثمانية ونصف مليون إلى ستة ونصف مليون، قبل أن ينقلب الوضع وترتفع الأرقام مرةً أخرى.32 وفي حالة لندن، كانت هذه العودة إلى ازدياد السكان ناجمةً عن استقبال موجةٍ من المهاجرين الوافدين من الخارج، وبحلول تسعينيات القرن الماضي، كانت أعداد الوافدين قد عوَّضت أعداد البريطانيين الذي خرجوا وزيادة. وقد شهدت أمستردام اتجاهًا مشابهًا؛ إذ ظلَّ سكان المدينة بعد الحرب ينزحون بأعدادٍ كبيرة إلى مساكن أفضل خارج حدود المدينة حتى الثمانينيات، ثم وفدت موجةُ مهاجرين من شمال أفريقيا وتركيا، وأعقبتها منذ أواخر التسعينيات موجةٌ أخرى من الشباب الطامحين إلى إيجاد فرص عمل.
وفي الوقت الحاضر، يُسفر تدفق السكان إلى المدن عن ارتفاع أسعار العقارات، ما يُشجع مزيدًا من الناس على الرحيل. فالعديد من الشباب الذين توافدوا إلى المدن قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة بحثًا عن فرص عمل يختارون الانتقال حالما تُصبح لديهم أسر؛ وذلك بحثًا عن سكنٍ أوسع وأرخص في المناطق الملائمة لحياة الأسر. ومع أنَّ المدن تستقبل بعدهم دُفعةً جديدة من الشباب الباحثين عن عمل والمجذوبين إلى إثارة الحياة الحضرية، فإنَّ الدفعة اللاحقة غالبًا ما تكون أقل عددًا من الدفعة السابقة، نظرًا إلى الانخفاض العام السائد مؤخرًا في معدلات المواليد في معظم الدول المتقدمة.33 وهذه الاتجاهات التي تعاكس اتجاه الزيادات السكانية في المدن وتُلاشي تأثيرها قد تُسفر عن تقلص حجم المدن في دول مثل هولندا والمملكة المتحدة، مع أنَّ السكان حينما ينتقلون من مدنٍ مثل أمستردام أو لندن، غالبًا ما يستقرون بالقرب من أماكن إقامتهم القديمة.
ومهما ازداد حجم المدن في العالم المتقدم أو تقلَّص، سيستمر التحضُّر والإقبال على المدن في معظم مناطق العالم النامي. وفي الواقع، فإنَّ هذا الإقبال يحدث بقدرٍ أكبر بكثيرٍ من أي رحيلٍ محتمَل من المدن الأوروبية والأمريكية الشمالية. فمقابل كل كاتب طموح يُغادر لندن إلى الحدود الويلزية، يوجد مئات النيجيريِّين الذين يتطلعون إلى الذهاب إلى لاجوس؛ وإلى لندن. لذا فعلى الصعيد العالمي، ستتزايد نسبة سكان المدن، ومن المحتمل أن تصل إلى ٧٥ في المائة من إجمالي سكان العالم بحلول منتصف القرن الحالي.34 وإذا شهد المستقبل المنظور أيَّ انعكاس كبير في هذا الاتجاه، ورحلت أعداد كبيرة من المدن إلى الريف، فسيكون ذلك مقتصرًا على الأشخاص الأغنى والأوفر حظًّا في العالم.
ففي أفريقيا جنوب الصحراء مثلًا، ما زال ٦٠ في المائة من السكان تقريبًا يعيشون في الريف، وبذلك انخفضت النسبة كثيرًا بعدما كانت ٨٥ في المائة في عام ١٩٦٠، وما زالت تمضي قُدُمًا في اتجاه واحد.35 ويُذكَر هنا أنَّ مدنًا مليونية كبرى مثل لاجوس قد شهدت نموًّا هائلًا في العقود الأخيرة، وصارت تضمُّ سكانًا أكثر بكثيرٍ ممَّا شهدته أي مدينة أوروبية من قبل. إذ يُقدَّر عدد سكان لاجوس بخمسة عشر أو عشرين مليون نسمة، اعتمادًا على مواضع رسم حدودها.36

مدن المستقبل

ربما تتزايَد نسبة سكان البلدات في المستقبل، لكنَّ البلدات التي يعيشون فيها لن تبقى كما هي. بادئ ذي بدء، من المرجح أن تُصبح مدن العالم النامي أشبه بمدن أوروبا وأمريكا الشمالية والمناطق الآسيوية الأغنى. فمع زيادة دَخل سكان المناطق الحضرية في الأماكن الأفقر من العالم، سترتفع معدلات استهلاكهم وطلبهم على الخدمات العامة. وكما أزيلت الأحياء العشوائية الفقيرة في المدن الأوروبية والأمريكية الشمالية، من المتوقع أن يحدث الشيء نفسه في كينشاسا وجاكرتا. وهذا لا يعني أنَّ المدن لن يكون فيها فقراء، لكنَّ الظروف الأساسية ستكون أفضل. إذ ستُصبح إتاحة المياه الجارية ولوازم السباكة الكافية ومرافق المراحيض داخل المباني شيئًا شائعًا وليس استثناءً نادرًا. وكذلك ستتوسَّع أنظمة النقل العام، ما سيُخفِّف من السخط والتلوث الناتجين من الازدحام المروري. وسترتفع المعايير المتعلِّقة بانبعاثات المحركات، وبذلك سيقل التلوث أكثر وأكثر. وسيطالب سكان المدن بهذه التحسينات، وستتزايد قدرة مجالسهم البلدية وحكوماتهم على إتاحتها بالفعل.

أمَّا في الدول الأغنى، فإن توفير الرعاية الصحية والتعليم ووسائل النقل يجعل الريف أشبه بالمدن، بينما تُصبح البلدات أشبه بالريف. فحينما وُسِّعت شبكة مترو الأنفاق في لندن في أوائل القرن العشرين، استطاع الأشخاص الذين يعيشون ويعملون في المناطق الداخلية أن ينتقلوا إلى الضواحي. وهناك، أمكنهم الاستمتاع بحدائق خاصة بهم وعيش «حياة الريف في المدينة»؛ علمًا بأنَّ أصل هذا المصطلح يعود إلى العصور الرومانية. وخلال فترة الإغلاق، بسبب فيروس كورونا في لندن عام ٢٠٢٠، كنت ممتنًّا لهذا التطور، كما كان الملايين من مواطنيِّ اللندنيين، لأنَّني كنت أعيش آنذاك في منزل بُني قبل الحرب العالمية الأولى وله حديقة مساحتها ٦٠ قدمًا.

وبفضل وصول السيارات إلى الولايات المتحدة وأوروبا، أُتيح إنشاء ضواحٍ خارجية يُمكن لعمال المدن الانتقال منها وإليها يوميًّا بسهولة، بل وتضمُّ مزيدًا من المساحات المفتوحة ومرافق ترفيهية أفضل. وصحيح أن هذه الضواحي ربما تتعرَّض لانتقادات لأنها سببت «الزحف الحضري»، لكنها تتيح مستوًى معيشيًّا عاليًا للملايين. ومع ازدياد ثراء المدن، تُخَصَّص مساحاتٌ لإنشاء حدائق عامة حضرية وتدشين حياة برية حضرية بل وزراعة حضرية أيضًا.37

لطالما كان شكل مدن المستقبل موضوعًا للكثير من التكهُّنات، لأن المدن بطبيعتها شيء مستقبلي. ومن شبه المؤكد في هذا الصدد أنها ستكون أكثر عددًا وأكبر حجمًا. فمهما حدث لمعدلات الخصوبة في العقود القادمة، من المؤكد أنَّ عدد سكان العالم سيواصل الازدياد حتى النصف الثاني من القرن الحالي على الأقل، ما لم تحدث كارثة عالمية. وسينتهي المطاف بمعظم هؤلاء السكان الجدد إلى العيش في المدن، وكذلك الكثيرين ممَّن يعيشون حاليًّا في الريف. وربما يتعزَّز نمو المدن الموجودة بالفعل؛ فبعض المدن، مثل مانشستر وتولوز، ازدهرت في مرحلة ما بعد الصناعة، بينما كابدت بعض المدن الأخرى، مثل ديترويت وميدلزبره، صعوبات شديدة.

وغالبًا ما يؤدي نمو المدن إلى تآكُل الأراضي الزراعية المحيطة بها، ومن المؤكَّد أنَّ هذا التغيير سيواجه معارضةً متزايدةً إذا صار الغذاء شحيحًا. لكن ذلك ما زال بعيدًا حسبما يتَّضح من الارتفاع الهائل في قِيَم الأراضي حين يُعاد تخصيص الحقول للاستخدام الحضري. فعلى سبيل المثال، ارتفعت قيمة بعض الحقول في المملكة المتحدة ١٥٠ مرة تقريبًا حالما أصبحت تُعَد صالحة للأغراض السكنية.38

وبوجهٍ عام، دائمًا ما تعتمد المدن أساسًا على استيراد مواد الغذاء والطاقة بدلًا من إنتاجها بنفسها، وبذلك تستعين بموارد الأراضي النائية في بلدانها وتلتهمها. وصحيح أنَّ الاتجاه الذي ظهر مؤخرًا نحو إنتاج الغذاء في المناطق الحضرية قد يبدو مجرَّد بدعة مؤقتة قصيرة الأجل، ولكنْ ثمة أسباب توحي بأنه ليس كذلك. إذ تستخدم المدن مخازن قديمة مجهزة بأضواء صناعية لزراعة الغذاء على طبقات متعدِّدة من دون مبيدات الأعشاب والمبيدات الحشرية اللازمة في الزراعة التقليدية، وبُطرقٍ تُرشد استهلاك الماء والمواد المغذية أيضًا. ومن المزايا العظيمة الأخرى لإنتاج الغذاء في المناطق الحضرية أنَّ المحاصيل الناتجة يمكن بيعها من دون تكبُّد التكاليف المالية والبيئية المصاحِبة للتوزيع على مسافاتٍ طويلة. وبالمثل قد يستغني العالم قريبًا عن نقل الغاز إلى المدن عبر الأنابيب أو تحويله إلى كهرباء ونقله، مثلما صار نقل الفحم بالصنادل من نيوكاسل إلى لندن شيئًا من الماضي. إذ أصبحنا نرى ألواحًا شمسية مُركبة بالفعل على الأسطح، وقد تُضاف إلى الجدران أيضًا يومًا ما. وهذا الابتكار، إلى جانب طواحين الهواء الصغيرة التي يُمكن أن يُركِّبها بعض الأفراد كل على حدة، قد يتيح للمدينة إنتاج الكثير من احتياجاتها من الطاقة بنفسها.

وإذا شاع استخدام السيارات الكهربائية، ستكون المدن أقل تلوُّثًا بكثير. ويُذكَر هنا أنَّ هذا الاتجاه جارٍ بالفعل منذ فترة طويلة في بلدان متقدمة؛ وذلك بفضل الاستغناء عن حرق الفحم والاستعانة بدلًا منه بوسائلِ تدفئة أقل إضرارًا بالبيئة. ومن الوسائل الممكنة الأخرى التي يمكن استخدامها للنقل الحضري السياراتُ الطائرة؛ صحيح أنها تبدو احتمالًا خياليًّا، لكنها لو طُبقِّت بالفعل، فستقلل حتمًا من الازدحام على الأرض. وإذا أردنا مثالًا حاليًّا، فتجدر الإشارة إلى أنَّ النقل الحضري يشهد تحولًا بالفعل من خلال خدمات مشاركة السيارات وسيارات الأجرة التي صارت متاحة بفضل ثورة الهواتف المحمولة والإنترنت.

وقد يصبح امتلاك السيارات أقل شيوعًا. ومن المؤكد أنَّ السيارات الذاتية القيادة ستؤدي إلى مزيدٍ من التقليص في عدد السيارات على الطرق وتُفرِّغ مساحات حضرية ثمينة مخصصة حاليًّا لمواقف السيارات. فالعديد من المدن تشهد ظهور مساراتٍ مخصَّصة للدرَّاجات، إلى جانب توفُّر درَّاجات متاحة للإيجار وظهور الترام (أو عودة ظهوره في الأماكن التي كان موجودًا فيها بالفعل)، وهذه كلها عوامل تقلل من الحاجة إلى امتلاك سيارة، وتقلل أيضًا من تلوث الهواء. وحين أتمشى عند منازل الضواحي وأرى أمامها رُقَع الأراضي التي غُطيت بالخرسانة والأسفلت لاحتواء أكبر عدد ممكن من السيارات، أجد نفسي أتساءل كيف سيُصبح شكلها بعد ثلاثين عامًا. هل ستعود إلى ما كان يُعرف سابقًا ﺑ «الحدائق الأمامية»؟ فهذا سيعزِّز البيئة الطبيعية في المدن، ويُسهم في خفض حرارتها، علمًا بأن ذلك سيكون مهمًّا جدًّا خصوصًا إذا استمر ارتفاع حرارة الكوكب.

من المهمِّ هنا أن نتعلَّم من أخطاء الماضي. فالمدن المستقبلية يجب ألَّا تكون فوضوية وبلا تخطيط مثل لندن التي صوَّرها ديكنز في كتاباته أو جاكرتا أو لاجوس في العصر الحديث، لكنها أيضًا يجب ألَّا تكون عديمة الروح ومنعزلة اجتماعيًّا كمشروعات الوحدات السكنية التي صاحبت إزالة الأحياء الفقيرة بعد الحرب في أوروبا. ومن ثَم، سيتوجَّب أن تتفتَّق مخيلاتنا عن حلولٍ أكثر إبداعًا تُوازِن بين العفوية والتخطيط، وسيكون التعايش بين البشر والطبيعة جزءًا مهمًّا من هذا التوازن.

غالبًا ما تحدد المدن الناجحة هوية دولها الأم بينما تجد صعوبات في الاندماج ضمن إطارها. فلندن مثلًا تُهيمن على المملكة المتحدة على الرغم من اتِّساع الفجوة الاقتصادية والسياسية بينها وبين المناطق النائية في البلاد، ويُمكن قول الشيء نفسه عن باريس. وكذلك نجد أنَّ سطوة لاجوس على نيجيريا أكبر بكثيرٍ ممَّا يتناسَب مع حجمها، تمامًا كسطوة مدينة مكسيكو سيتي على المكسيك. صحيح أنَّ التجمعات الحضرية الكبرى عادةً ما تضمُّ سكانًا شبابًا متنوعي الأعراق، وبذلك تجتذب ألمع سكان البلاد وأفضلهم من أماكن أبعد. لكن سكان الأماكن الأخرى غالبًا ما ينظرون إليها بنظرات ارتياب بلْ واستياء.

fig5
المصدر: شُعبة السكان بالأمم المتحدة.

منذ اكتشاف الزراعة، كان مُعظم البشر يعيشون في الريف، وكانت المدن تضمُّ نسبة صغيرة من إجمالي السكان. ولكن بحلول مُنتصَف القرن العشرين، كان ثلث سكان العالم يعيشون في المناطق الحضرية، وظلَّت النسبة تتزايد حتى تجاوزت النصف مُؤخرًا. وستُواصل الزيادة حتى تبلغ قرابة ٧٠ في المائة بحلول منتصف القرن الحالي.

fig6
المصدر: تقرير مدن العالم الصادر عن الأمم المتحدة.

يتزايد عدد مدن العالم وتصبح أكثر سكانًا. ففي عام ٢٠١٨، كان عدد المدن التي يتراوح سكانها بين خمسة وعشرة ملايين نسمة ٤٨ مدينة، وفي عام ٢٠٦٠ سيُصبح عددها ٦٦. وخلال الفترة نفسها، من المتوقَّع أن يرتفع عدد المدن التي يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين نسمة من ٣٣ إلى ٤٣ مدينة.

ولعلَّ الاستفتاء الذي أجرَته المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦ يُعَد مثالًا جيدًا. فلندن كانت تعارض مقترح «بريكست» بشدة، بينما كانت العديد من المناطق الأخرى في إنجلترا تُؤيده بشدة. وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الاستفتاء آنَذاك بأنه ليس تصويتًا ضد بروكسل فقط، وإنما ضد لندن أيضًا، مع أنَّه يُمثِّل دائرة انتخابية في لندن الكبرى، وكان عمدة لندن في السابق.39 وتجدر الإشارة هنا إلى وجود استياء من أنَّ المدن الكبرى تحمل تصورات مُتعالية، وهو قديمٌ قِدَم المدن ذاتها؛ إذ تُتهم بأنها تمتص الموارد البشرية والمادية من باقي البلاد كالإسفنج، وفي المقابل تَرُدُّ المدن بأنَّ إنتاجيتها ونجاحها الاقتصادي يُمثِّلان نسبةً هائلةً من الميزانية الوطنية، وأنها بذلك تدعم الخدمات التعليمية والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية للأمة بأكملها.

التحضُّر والديموغرافيا

ثمة تأثيرٌ مُتبادَل بين المدن والسكان. فالمدن غالبًا ما تنمو حينما يتوسَّع سكان الريف ويتدفَّقون إليها، ولكن حالما ينتقل السكان إليها، تتغيَّر أنماط حياتهم وأحجام أسرهم، ما يُؤدي إلى حدوث تغير سكاني.

أي إنَّ ازدهار المدن وتدهورها يتشكَّل بفعلِ الاتجاهات الديموغرافية الكبرى، لكنه أيضًا يُشكِّلها. فانتقال سكان الريف المتزايد إلى المدن عادةً ما يحدث في بداية التحول الديموغرافي الأول، حينما ترتفع معدلات الخصوبة وتتراجع معدلات الوفيات بشدة، كما حدث في بريطانيا في أوائل القرن التاسع عشر ونيجيريا في العصر الحديث. ومن ثَم تستوعب المدينة الكثير من السكان المتزايدين الذين لا يمكن استيعابهم في الريف، لكنها بعد ذلك تُغيِّر سلوكيات الأشخاص الذين ينتقلون للعيش فيها.

والعلاقة بين التحضُّر والوفيات أشد تعقيدًا. ففي وقتٍ من الأوقات، كان الهواء غير الصحي ومجاري الصرف المكشوفة في المدن يجعلانها مَرتعًا للأمراض، ويرفعان معدل الوفيات فيها. وبذلك كانت المدن تجتذب الناس وتستهلكهم حرفيًّا، تمامًا كما كانت تفعل مع الموارد الأخرى. وعلى سبيل المثال، كان ذلك ينطبق على لندن في القرن الثامن عشر؛ إذ كانت تتطلَّب تدفقات مستمرة من السكان إليها للحفاظ على حجمها. وفي منتصَف القرن التاسع عشر، كان مُتوسط العمر المتوقَّع ٢٦ عامًا فقط في مانشستر وليفربول و٣٦ عامًا في لندن، لكنه كان ٤١ عامًا في إنجلترا وويلز ككل.40 هذا ويُقدر أنَّ نحو ٨٠ في المائة من سكان موسكو قد ماتوا بسبب الطاعون في عام ١٦٥٤.41 وفي العام التالي، قضت الأمراض على ٢٠ في المائة من سكان لندن، لكنَّ نسبة الذين ماتوا من المرض بين السكان الإنجليز ككل بلغت ١٣ في المائة فقط.42 وحتى مؤخرًا، في العقد الأول من القرن العشرين، كان معدل الوفيات في المدن أعلى بنسبة الثُّلث من نظيره في الريف.43 وهكذا فإنَّ الانتقال إلى المدينة غالبًا ما كان يعني بيئة معيشية أسوأ ونظامًا غذائيًّا أقل فائدة وموتًا أبكر، لكن المدن كانت قادرة على استيعاب أعداد كبيرة، وبذلك صارت أكثر عددًا.

وعلى مدار القرن العشرين، أصبح العكس صحيحًا؛ إذ ازداد متوسِّط الأعمار المتوقَّع في المدن لأنها أصبحت أنظف وأنسب للحفاظ على الصحة. والأماكن التي كانت في الماضي مرتعًا للأمراض والطاعون، صارت مراكز لخدمات الرعاية الطبية وفرص التعليم سهلة المنال التي غالبًا ما تطيل الأعمار.

وفي نهاية المطاف، مع تطور البلدان وتحسُّن مستويات الرعاية الصحية والتعليم في المناطق الريفية كما في المناطق الحضرية، تتقلَّص الفجوة في مُتوسط العمر المتوقع مرة أخرى، بل إنَّ تأثير التلوث وضغوط الحياة في المناطق الحضرية يمكن أن يجعل الحياة في القرية تبدو أنسب للحفاظ على الصحة. وعلى الجانب الآخر، فحيثما يكون سكان المدن أغنى، يُسهِم ذلك في إطالة أعمارهم. فسكان لندن وجنوب شرق إنجلترا يحظَون بأعمارٍ أطول من سكان أي منطقة أخرى في المملكة المتحدة، على الرغم من ضغوط الحياة الحضرية وجودة الهواء السيئة التي يكابدها الكثيرون منهم.44

وفي حين أنَّ تأثير التحضر في الوفيات معقد، فإن تأثيره في الخصوبة ليس غامضًا بالقدر نفسه. فالمزارِع الريفي يحتفي بقدوم مولوده الجديد لأنه يعرف أنه سيُساعده في عمله يومًا ما، أمَّا الآباء الحضريون، فيرَون أنَّ إنجاب طفل جديد يُقلل من الموارد التي يمكن استثمارها في كل فرد من الجيل القادم. وفي معظم أنحاء العالم، تجد أنَّ سكان البلدات أفضل تعليمًا، وتجد أطفالهم أقل عرضة للموت في سنٍّ مبكرة، ولذا يميلون إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال. فالأشخاص الذين لا يتوقَّعون فقدان أحد أطفالهم، ويتيح لهم التعليم فرصًا لحياة أفضل ينجبون أطفالًا أقل. وفوق ذلك فإنَّ تطبيق برامج تنظيم الأسرة في المناطق الحضرية يكون أسهل من تطبيقه في المناطق الريفية النائية حيث يصعب الوصول إلى الناس، وقد يكونون مُتأثرين بالتحفظ المجتمعي والتحكم الذكوري. ولكن نُكرر مرة أخرى أنَّ الدولة حالما تصبح متطورة بالكامل، تتضاءل الاختلافات بين البلدات والريف.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العالم النامي يضمُّ مدنًا تتسم بمعدلات خصوبة منخفضة إلى حدٍّ مفاجئ. ففي مدينة كولكاتا الهندية الكبرى، يبلغ مُتوسِّط خصوبة النساء ١٫٢ طفل فقط، أي قُرابة نصف متوسِّط الخصوبة في الهند كلها.45 والنساء هناك يعبِّرن عن آرائهن في العيوب والمتاعب المصاحِبة لإنجاب طفلٍ ثانٍ، علمًا بأنَّ مثل هذه الآراء لم تكن شائعة حتى وقت قريب إلا في مدنٍ كباريس أو نيويورك مثلًا، ولم تكن تُسمَع في أيٍّ من مدن العالم النامي إلا نادرًا. وكذلك نجد في مدن هندية أخرى، مثل تشيناي ومومباي، أنَّ معدل الخصوبة ليس أعلى بكثير. وصحيح أنَّ وصول معدلات خصوبة النساء في هذه المدن، التي ما زالت فقيرة، وما زال الملايين من سكانها يعيشون في الأحياء العشوائية الفقيرة، إلى مستوياتٍ أقل بكثيرٍ من بعض أغنى البلدان في العالم، شيءٌ غير عادي على الإطلاق. لكن حتى هذه الأماكن لم تصل بعدُ إلى أدنى مُستويات الخصوبة مثل سنغافورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤