الفصل الرابع

الخصوبة

١: معدل الخصوبة الكُلي في سنغافورة
«لماذا نُتعِب أنفسنا بإنجاب الأطفال في حين أنَّ الحياة بلا أطفالٍ أسهل بكثير؟» كان هذا هو ما كتبته مُحرِّرة إحدى المجلات السنغافورية. قبل أن تضيف قائلة: «كل تلك الليالي الساهرة والأصباح القذرة وانتشار البراز والبول في كل مكان … فضلًا عن صعوبة التركيز على حياتك المهنية.»1 ثمة شبح يُطارد العالم المتقدم، بالإضافة إلى بعض أجزاء العالم النامي. لكنه ليس القلق من كثرة الوفيات، بل من قلة المواليد. فالخوف هنا أن يصبح الجنس البشري عُرضة للانقراض التام في نهاية المطاف. وهكذا فبعد عقود من القلق المستمر إزاء الزيادة السكانية، بدأ البشر الآن يقلقون من العكس.2
صحيح أنَّ قلة الأطفال أحيانًا ما تكون غير إرادية؛ لأنَّ بعض الأفراد قد لا يستطيعون الإنجاب رغمًا عنهم. إذ يبدو أنَّ عدد الحيوانات المنوية قد انخفض في البلدان المتقدمة بنسبة تتراوح بين ٥٠ و٦٠ في المائة منذ منتصف السبعينيات.3 لكنَّ ٨٤ في المائة من رجال المملكة المتحدة سيُحبِّلون نساءهم في غضون عام واحد إذا مارسوا الجنس بانتظامٍ من دون وسائل منع الحمل،4 مع أنَّ ذلك غالبًا ما سيكون بعد فترة طويلة من ذروة الخصوبة لدى المرأة. أي إنَّ قلة الأطفال، في كثيرٍ من الحالات، تعكس الموقف المتعمَّد الذي يُعبِّر عنه الاقتباس الوارد في مُستهل هذا الفصل. وسنغافورة بحد ذاتها تُعد حالةً متطرفة؛ لأنَّ كل امرأة هناك تنجب طفلًا واحدًا فقط في المتوسط.
وفي الحقيقة، فإنَّ القيمة الدقيقة لمعدل الخصوبة الكلي في سنغافورة (أي العدد الإجمالي للأطفال مقابل كل امرأة) ليست واضحة تمامًا. فالحكومة السنغافورية تعلن أنه ١٫١، بينما تشير مصادر أخرى إلى أنه ٠٫٨٣.5 لذا فتقريبه إلى الواحد يُعد تقريبًا معقولًا. يجب هنا أن أؤكد مرة أخرى أنَّ دارسي الديموغرافيا حين يتحدثون عن الخصوبة، فإنهم يُشيرون إلى عدد المواليد الفعلي، وليس قدرة النساء على الإنجاب. فالنساء في سنغافورة ببساطة لا ينجبن الكثير من الأطفال، وبصرف النظر عمَّا إذا كان ذلك بسبب مشكلات في الخصوبة البيولوجية أو مجموعة من العوامل الأخرى، يشير علماء الديموغرافيا إلى النتيجة بأنها «خصوبة مُنخفضة». وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ معدَّل الخصوبة الذي يُساوي واحدًا يعني أنَّ عدد أفراد كل جيل في سنغافورة يكون نصف عدد الجيل الذي سبقه.

وصحيح أننا بدأنا نعتبر الخصوبة المنخفضة سِمة متأصِّلة لدى مجتمعات شرق آسيا منذ القِدَم، لكنها ظاهرة حديثة نسبيًّا؛ إذ أتى حينٌ من الدهر كان الغرب فيه يرى آسيا على أنها قارة تتَّسم بكثرة الإنجاب والأسر الكبيرة. ففي أوائل القرن العشرين، كان الأوروبيون يتحدَّثون بخوفٍ عن «الخطر الأصفر» الذي كان مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعدد السكان الآسيويين. صحيح أنَّ الصين كانت عاجزة في مواجهة التوغُّلات الأوروبية داخل أراضيها، وأنَّ آسيا ككل كانت واقعة تحت الهيمنة الأوروبية، لكنَّ الأوروبيِّين شعروا بالتهديد من الميزة الوحيدة التي ظلَّت باقية لدى آسيا: أي أعدادها الهائلة. وقد تفاقم هذا الشعور بعد انتصار اليابان على روسيا في الحرب اليابانية الروسية بين عامَي ١٩٠٤ و١٩٠٥. وهكذا استمر الانطباع بأنَّ آسيا قارة سريعة النمو تعج بملايين البشر حتى منتصف القرن، لكنه لم يعُد يوصَف بكلماتٍ عنصرية فجَّة.

وفي أوائل الستينيات، كانت النساء السنغافوريات ما زلن ينجبن أكثر من خمسة أطفال، على غرار أمهاتهن وجَدَّاتهن. ولكن منذ ذلك الحين فصاعدًا، شهد العدد انخفاضًا حادًّا حتى وصل إلى أقل من طفلَين لكل امرأة في المتوسط بحلول نهاية العقد التالي. ويرجع ذلك إلى أنَّ التغيير الذي أسفر عن انخفاض معدلات الخصوبة ثم بقائها منخفضة في الدول الأخرى قد حدث بوتيرة أسرع وانتشارٍ أوسع في سنغافورة بالذات؛ والمقصود بهذا التغيير هو انتشار التعليم، خصوصًا بين الإناث.

فعمومًا، لا تريد النساء المتعلِّمات إنجاب الكثير من الأطفال، لأنهن يرغبن في متابعة أهدافهن وحياتهن المهنية الخاصة. وعادةً ما تكون لديهن الوسائل والدراية اللازمة للتحكم في خصوبتهنَّ باستخدام موانع الحمل. وعندما يُنجبن أطفالًا، يحرصن على أن يكفلن لهم تعليمًا جيدًا ومساعدتهم على شقِّ طريقهم في الحياة، لذا يُركِّزن مواردهن المحدودة على عددٍ أقل من الأطفال. وهكذا فإنَّ السنغافوريين الحضريين، الذين يصبحون أفضل تعليمًا وأكثر ثراءً باستمرار، قد ظلُّوا على مدار الأعوام الخمسين الماضية يُحقِّقون جميع المتطلبات التي تؤدي إلى إنجاب أطفال أقل.

ولأنَّ الأشخاص الأفضل تعليمًا عادةً ما يكونون أول مَن يتبنَّى خيار تحديد النسل، غالبًا ما تنتشر مخاوف من أن يتكاثر «النوع السيئ» بأعدادٍ أكثر ممَّا ينبغي، ويصبح «النوع الجيد» أقل ممَّا ينبغي، ما يُهدِّد «جودة» الأمة ككل. وقد رُصدت هذه المخاوف في المملكة المتحدة وألمانيا في بداية القرن العشرين، وفي سنغافورة عند نهايته.6 لكن ما جعل سنغافورة استثنائية هو أن قيادتها كانت مستعدة لاتخاذ الإجراء اللازم. فمع أنَّ الخبراء البريطانيين والألمان كانوا قَلِقين بشأن جودة سكان الأمة عند مرحلة مماثلة في أثناء تحوُّلهم الديموغرافي، لم تكن حكوماتهم مُستعدة لاتخاذ إجراءات مناسبة تُفضِّل إنجاب المواليد في فئة معينة على إنجابهم في فئة أخرى. لكنَّ سنغافورة في أواخر القرن العشرين كان لديها حكومة أحرص على التدخل.
ففي عام ١٩٩٠، كان متوسِّط الأطفال الذين تنجبهم النساء السنغافوريات اللواتي لم يُنهينَ دراستهنَّ الثانوية أكثر بطفلٍ واحد من نظيراتهنَّ خريجات الجامعات. وبعد عقد من الزمان، تقلَّصت الفجوة إلى نصف طفل، لأنَّ النساء الأقل تعليمًا بدأن يَلحَقن بنظيراتهنَّ الأفضل تعليمًا.7 ويتضح من ذلك أنَّ تحديد النسل عادةٌ اجتماعية تتبنَّاها الطبقات الراقية أولًا ثم تنتشِر في بقية فئات المجتمع. لذا فالخوف هنا ليس من أن يكون الجيل القادم أقل جودةً مما ينبغي، بل من أن يكون أقل عددًا مما ينبغي. غير أنَّ السياسة السكانية لطالما كانت مهمَّة لدى حزب العمل الشعبي الحاكم في سنغافورة؛ ففي البداية، شجَّع الحزب تحديد النسل باتِّباع سياسات مُتحاملة على الأسر كثيرة العدد فيما يخصُّ فرص الإسكان والتعليم.8 وحينما ظهرت بوادر انخفاض الخصوبة لدى الأشخاص الأفضل تعليمًا أول مرة في أوائل الثمانينيات، شجَّعت حكومة لي كوان يو، مؤسِّس دولة سنغافورة الحديثة، تعزيز معدل الخصوبة بين أولئك الذين اعتبرتهم صفوة المجتمع. إذ صرَّح قائلًا في عام ١٩٨٣:
علينا أن نُواصل تعديل سياساتنا، ونحاول إعادة تشكيل تركيبتنا السكانية حتى يتسنَّى لنسائنا الأفضل تعليمًا أن يُنجبن مزيدًا من الأطفال لضمان استمرار تمثيل هذه النوعية بنسبةٍ كافية في المجتمع. علينا أن نضمن بأي طريقة ألَّا يكون الجيل القادم مُفتقرًا إلى الموهوبين. لقد أسهمت سياسات الحكومة في تحسين دور التنشئة في هذا المسعى. لكن لا يمكن لسياسات الحكومة تحسين الدور الذي تُؤديه الطبيعة في هذا المسعى. فهذا شيءٌ يقع على عاتق شباننا وشاباتنا فقط. وكل ما يُمكن أن تفعله الحكومة هنا هو مُساعدتهم وتخفيف مسئولياتهم بطرقٍ متنوعة.9

وقد حَكَت لي صديقة سنغافورية أنها، بعدما عادَت إلى الوطن في مُنتصَف الثمانينيات عقب التحاقها بالجامعة في المملكة المتحدة وحصلت على وظيفة في الخدمة المدنية، تلقَّت تشجيعات لَحُوحة لحضور ما يُعرَف ﺑ «تجمُّعات الحب» لعلَّها تلتقي برجلٍ سنغافوري بنفس ذكائها ويُنجبان أطفالًا كثيرين يحملون المادة الوراثية التي تراها الدولة ملائمة. وذلك في الوقت الذي كانت فيه النساء الأقل تعليمًا يتلقَّين عروضًا بحوافز مالية إذا خضعن للتعقيم.

ومع انتشار الإقبال على تحديد النسل عبر بقية الطبقات بمختلف المستويات التعليمية، لم تعُد الحكومة تركز على تحسين النسل، وباتت تُسلط تركيزها على رفع معدل الخصوبة في كل فئات المجتمع. ففي ستينيات القرن الماضي، أوصت الحكومة المواطنين بأن «اكتفوا بالطفل الثاني»، ولكن بحلول عام ١٩٨٧ صارت تنصحهم بأن «أنجبوا ثلاثة أو أكثر (ما دمتم تستطيعون تحمُّل نفقات ذلك)»، وأصدرت حوافز وإعفاءاتٍ ضريبية لتشجيع الإنجاب. ثم جاءت سلسلة أخرى من المبادرات في عام ٢٠٠١، من بينها نظام «مكافأة الطفل» الذي كان يدفع إلى الأسر مبلغًا نقديًّا سنويًّا عن الطفل الثاني والثالث. غير أنَّ النتائج في كلتا الحالتَين كانت قصيرة الأجل وهزيلة.

يتضح هنا من دراسة الحالة السنغافورية أنَّ الحكومات، وإن كانت تستطيع إحراز نجاحٍ كبيرٍ في خفض معدلات المواليد، تجد رفعها أصعب بكثير. فرغم كل ما فعلته الحكومة، ما كانت النساء السنغافوريات ليُنجبن خمسة أطفال في ثمانينيات القرن الماضي مثلما كان الحال قبل ذلك بعشرين عامًا؛ وذلك نظرًا إلى سرعة وتيرة التنمية الاقتصادية والبشرية في سنغافورة آنذاك. الفرق هنا أنَّ الحكومة السنغافورية حينما كانت تسعى إلى خفض الخصوبة بين مُنتصَف ستينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، كانت مساعيها متماشية مع اتجاه سريان التاريخ، ولكن حين أصبحت تُحاول رفع الخصوبة، كانت مساعيها أشبه بدفعِ الماء إلى أعلى.

وبحلول عام ٢٠١٧، كانت نسبة العزوبية بين النساء السنغافوريات اللاتي تتراوح أعمارهن بين منتصف العشرينيات وأواخرها قد ارتفعت إلى ٧٠ في المائة، علمًا بأنها كانت أعلى بقليلٍ من ٦٠ في المائة قبل ذلك بعقد واحد فقط. فيما وصلَت النسبة بين رجال هذه الفئة العمرية إلى أعلى من ٨٠ في المائة.10 وهذا له تأثير كبير في معدَّل الخصوبة في سنغافورة، خصوصًا وأنَّ نسبة المواليد الذين يأتون من علاقاتٍ خارج إطار الزواج هناك تتراوَح بين ٢ و٣ في المائة فقط، أي أقل بكثيرٍ من عُشر النسبة المناظِرة في المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة.11 ومن ثَم، فإذا كانت النساء السنغافوريات لا يتزوَّجن ولا يُنجبن أطفالًا خارج إطار الزواج، فلن يكون لديهن الكثير من الأطفال.
وصحيح أن معدلات الخصوبة في سنغافورة قد انخفضت بوتيرة أسرع ومقدارٍ أكبر مقارنةً بالولايات المتحدة وكندا ومُعظَم الدول الأوروبية، لكنها اتَّبعت المسار نفسه. فبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كانت النساء في العديد من أنحاء أوروبا يُنجبن طفلَين فقط في المتوسط. وبعد الحرب العالمية الثانية، ارتفعت معدلات الخصوبة مع طفرة المواليد الشهيرة، لكنها كانت تتراجع مرة أخرى بحلول الستينيات مع ظهور حبوب منع الحمل وحدوث تغيُّرات في العقليات الاجتماعية. إذ يبدو أنَّ النساء في الغرب، مثلهن مثل المحررة السنغافورية التي أشَرنا إليها سلفًا، أصبحن يَنفرن من كثرة الإنجاب بسبب ما يُصاحبها من تعبٍ شديدٍ يتعارض مع مواصلة تعليمهن وتحقيق طموحاتهن المتزايدة. وهنا أيضًا كانت الحفاضات القذرة من أبرز العوامل التي نفَّرت النساء المتعلِّمات والطَّموحات من الإنجاب؛ إذ قالت إحداهن: «سنوات من كشط البراز عن الحفاضات بسكين المطبخ، والبحث عن أماكن يكون فيها رطل الفاصوليا الخضراء أرخص ولو بسِنتَين.»12

الهلال العقيم: رحلة عبر بلاد نُدرة المواليد

لو كان معدل الخصوبة المنخفِض في سنغافورة مجرد حالة استثنائية، لما استدعت المسألة قلقًا كبيرًا. فسنغافورة مجرد بلدٍ صغيرٍ في جميع الأحوال. كما أنها وجهة جذابة لسكان الدول المجاورة الأقل تطورًا وتنظيمًا، وبذلك يُمكنها تجنُّب انخفاض السكان بتعزيز معدَّل الهجرة إليها. بل وتستطيع حتى انتقاء المهاجرين الذين يُشبهون تركيبتها العرقية ذات الأغلبية الصينية، إمَّا من ماليزيا المجاورة، بما تضمُّه من أقليةٍ صينية عديدة الأفراد، أو من الصين نفسها. وكذلك تُعد إندونيسيا من الدول التي يُمكن لسنغافورة أن تنتقي منها مهاجرين ذوي أصولٍ عرقية معيَّنة. ويجدر القول هنا إنَّ سنغافورة تُعَد حالةً فريدةً نسبيًّا في هذا الصدد. فالمملكة المتحدة والولايات المتحدة مثلًا يُمكن أن تجتذبا مهاجرين بسهولة كبيرة، لكنَّ الهجرة الجماعية إليهما ستُؤدي حتمًا إلى تغييرٍ عرقي فيهما.

ولكن في سياق معدلات الخصوبة المنخفضة، سنجد أنَّ سنغافورة ليست وحدها، وإنما ترافقها مجموعة كبيرة من الدول في مختلف أنحاء العالم.

يتَّضح أنَّ «هلالًا عقيمًا» يمتد من إسبانيا إلى سنغافورة. فإذا افترضنا أنك قرَّرت المشي من مضيق جبل طارق إلى مضيق جوهور الواقع في الطرف المقابل من البرِّ الأوراسي، لن تطأ قدماك تقريبًا أي بلد يتجاوز معدَّل الخصوبة فيه مستوى الإحلال الذي يبلغ نحو ٢٫٢ طفل لكل امرأة.

يبدأ الطريق من إسبانيا، التي يبلغ معدل الخصوبة الكلي فيها ١٫٣. ويُذكر هنا أنَّ النساء الإسبانيات كُن يُنجبن أقل من طفلين منذ أوائل الثمانينيات، وبحلول أواخر التسعينيات كان معدل الخصوبة لا يكاد يزيد على واحدٍ فقط. حتى في ظل نظام فرانكو الكاثوليكي المؤيِّد لكثرة الإنجاب، لم تكن معدلات الخصوبة أعلى من المعتاد. صحيح أنها شهدت زيادةً طفيفةً مؤخرًا، وصارت أعلى بقليلٍ من ١٫٣، لكن ربما يرجع ذلك، ولو جزئيًّا على الأقل، إلى ما يُعرَف بتأثير التوقيت. فخلال الفترة التي تؤجل فيها النساء قرار الإنجاب إلى سنٍّ متأخرة مقارنةً بالأجيال السابقة، تكون معدلات الخصوبة مكبوحة اصطناعيًّا. وحينما تتباطأ هذه الظاهرة أو تنتهي ويتوقَّف متوسط سن الإنجاب عن الزيادة — أو على الأقل لا يزداد بالوتيرة نفسها — عادةً ما يرتد معدل الخصوبة قليلًا إلى طبيعته، فيُصحِّح الانحراف السابق الذي حدث عند انخفاضه.13

وحين نَعبُر جبال البرانس إلى فرنسا، نجد معدلات الخصوبة ١٫٨، وهي بذلك حميدة نسبيًّا لكنها ما زالت أقل من مستوى الإحلال. وصحيح أن فرنسا في القرن التاسع عشر لم تشهد الانفجار السكاني نفسه الذي شهدته بريطانيا وألمانيا وروسيا من بعدهما. ولكن حين انخفضت معدلات الخصوبة في الدول الأوروبية الأخرى، لم تنخفض في فرنسا، لذا تَحسَّن وضعها النسبي. ويُذكَر هنا أنَّ معدَّل الخصوبة الحالي في فرنسا ليس مشابهًا للمعدلات المنخفضة للغاية في جنوب أوروبا وشرقها، وإنما يُعَد أقرب إلى المستويات الأعلى في جزر بريطانيا ودول البينيلوكس والدول الاسكندنافية. وأحد الأسباب التي تجعل معدَّلات الخصوبة أعلى في هذه المجتمعات أنَّ نساءهن كُنَّ أنجح في الجمع بين رعاية الأسرة والعمل، ولأنَّ الإنجاب دون زواجٍ يلقَى قبولًا أكبر هناك. وكذلك فاستقبال الهجرة من دولٍ ذات معدلات خصوبة أعلى أدَّى إلى الحفاظ على ثبات معدل الخصوبة في دولٍ مثل فرنسا، مع أنَّ معدَّلات المواليد لدى المهاجرين غالبًا ما تُصبح مقاربة لمعدلات الدول المضيفة لهم بوتيرة سريعة.

ومن فرنسا نَنتقِل إلى ألمانيا والنمسا، حيث لم تتجاوز معدلات الخصوبة في كلٍّ منهما ١٫٥ طفل لكل امرأة منذ عدة عقود. ولولا الهجرة الجماعية إلى أراضيهما، لشهدتا انخفاضًا في أعداد سكانهما. ثم تليهما كرواتيا وصربيا ورومانيا وأوكرانيا؛ إذ نجد معدلات الخصوبة في كل هذه الدول أقل من ١٫٧٥ طفل لكل امرأة، بل إنه كذلك في جميع أنحاء جنوب أوروبا وشرقها. وهذا ينطبق على دول بينها اختلافات كبيرة مثل المجر، التي كانت معدلات خصوبتها أقل من مستوى الإحلال منذ أوائل الستينيات، وألبانيا، التي كانت نساؤها يُنجبن أكثر من ثلاثة أطفال في المتوسِّط حتى أواخر الثمانينيات. ويُذكَر هنا أن القاسم المشترك بين العديد من الدول الأوروبية ذات معدلات الخصوبة المنخفضة هو وجود مزيج قاتل من توفُّر فرص تعليمية محمودة للنساء والقيم التقليدية. فإذا شجَّعت النساء على التعلُّم لكنَّك أبديت استياء من اللواتي يجمعن بين الحياة المهنية ورعاية الأسرة، فغالبًا ما سيُفضِّلن اختيار وظيفة شائقة على التنعُّم بمتع الأمومة.

ومن السِّمات الأخرى للمجتمعات ذات الخصوبة المنخفضة قلة أعداد المواليد الذين يُنجَبون دون زواج. واللافت هنا أنه عندما تتلاشى المحظورات التقليدية، وتَرتفِع معدلات المواليد المُنجَبين من أمهات غير متزوجات، تبدأ معدلات الخصوبة في العودة إلى طبيعتها. ففي المجر مثلًا، مع أنَّ معدل الخصوبة شهد زيادةً مُتواضعةً، نجد أن المواليد الذين يُنجَبون دون زواج يُمثِّلون نصف إجمالي هذه الزيادة تقريبًا. ويبدو هنا أنَّ انهيار الأعراف الأخلاقية التقليدية، وليست السياسات الحكومية، هو الذي أدَّى إلى زيادة معدلات الخصوبة؛ فالحوافز التي أعلنتها الحكومة المجرية ركَّزت على تشجيع النساء على إنجاب طفل ثالث، لكنَّ الارتفاع المُتواضع في معدل الخصوبة يرجع إلى أنَّ معظم الأشخاص يكتفون بطفلٍ واحدٍ أو اثنين.14
وإذا انتقلنا إلى روسيا، سنجد أنها كانت تتَّسم بمعدلات خصوبة عالية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى درجة أن عدد سكانها ازداد رغم الثورة والحرب الأهلية والحرب العالمية وحملات التطهير والمجاعة. غير أنَّ ذلك الوضع كان آخذًا في التغيُّر بحلول منتصف القرن العشرين، وكانت قلة الإنجاب في روسيا سببًا أساسيًّا في التدهور العسكري والاقتصادي السوفييتي.15 وصحيح أن معدَّل الخصوبة الروسي تحسَّن منذ بداية القرن الحالي، وارتفع من قرابة ١٫٢ طفل لكل امرأة إلى نحو ١٫٧٥، ولكن نظرًا إلى أنه كان مُنخفضًا على مر عقود طويلة، تقلَّص عدد الشابات اللواتي ينجبن، وواجهت روسيا صعوباتٍ كبيرة لتجنُّب انخفاض أعداد سكانها. ويُذكَر هنا أنَّ الوضع كان مختلفًا تمامًا في عام ١٩١٤؛ إذ بدا من المرجَّح آنذاك أن عدد السكان الروس سيظل يتزايد بلا توقف، وقد كان هذا أحد العوامل التي دفعت ألمانيا إلى المخاطرة بشنِّ الحرب قبل أن يخرج الوضع عن السيطرة.16 أمَّا اليوم، فعلى الرغم من تحسُّن معدل الخصوبة في روسيا (أي عدد الأطفال المولودين مقابل كل امرأة في سن الإنجاب)، لم يتحسَّن معدل المواليد (أي عدد الأطفال المولودين بالنسبة إلى السكان ككل).

وحتى في جارتها الصين، التي تُعَد أكثر بلاد العالم سكانًا، لا يكاد معدَّل الخصوبة يتجاوز ١٫٥. بل إنَّ بعض دارسي الديموغرافيا يقولون إنه أقرب إلى ١٫٢. وإلى الآن لم تظهر أي مؤشرات حقيقية على أنَّ تخفيف سياسة الطفل الواحد إلى سياسة السماح بطفلين في عام ٢٠١٥ — ثم تخفيفها مرة أخرى إلى سياسة السماح بثلاثة أطفال في عام ٢٠٢١ — قد أحدث تأثيرًا كبيرًا. ولا عجب في ذلك، بالنظر إلى ما تشهده الدولة من توسُّع حضري سريع، وارتفاع في مستوى المعيشة، وتحسُّن في تعليم الإناث. ويُذكَر هنا أنَّ الكثير من السكان الذين كانوا في سن الإنجاب في أثناء بداية الثورة الصناعية قد انتقلوا للعمل في المدن آنذاك وتركوا أطفالهم وراءهم، ما أدَّى حتمًا إلى الإخلال بالحياة الأسرية.

وفي هذا الصدد، يتبين أنَّ رفع معدلات الخصوبة بعد انخفاضها في المجتمعات التي صارت مُتقدمة مَسعًى صعب. فهدفُ معظم الأزواج الصينيين لم يَعُد الحصول على مساعدة إضافية في العمل اليدوي في المزارع، وإنما تحسين فرص أطفالهم في عيش حياة أفضل من خلال تكريس مواردهم لطفلٍ واحدٍ أو اثنين فقط. إذ تقول محاسبة صينية عمرها ٢٦ عامًا تقاوم إلحاح حميها وحماتِها على إنجاب طفل آخر مع ابنتها: «أقدِّر قيمة حصول ابنتي على تعليم شامل وتنميتها من كل النواحي، وأهمية قضاء وقتٍ معها. عندما أفكر في الاضطرار إلى العمل والضغوط الاقتصادية، أرى أنَّ إنجاب طفل واحد يكفي.»17 فنموذج الأم الصينية الصارمة المخيفة التي لا تتساهل في تربية أطفالها على التفوق في دراستهم وحياتهم يستحيل أن يَنجح نجاحًا تامًّا إذا كان لديها أكثر من طفل أو اثنين، وهو رأي تتَّفق معه أمهات من مختلف أنحاء العالم. ومن ثَم، فربما ينتهي المطاف بالنساء الصينيات إلى ما وصلت إليه جاراتهن السنغافوريات، علمًا بأن ذلك سيُسفر عن تداعيات عالمية أكبر بدرجة لا تُقارَن.

وسواء في الصين أو غيرها، نجد أن معدلات الخصوبة المنخفِضة تُواصل الانخفاض تلقائيًّا. فالطفل الوحيد سيتحمَّل عبء رعاية والديه المسنِّين بمفرده، ما يُقلِّص من وقته المتاح لإنجاب أطفال وإنشاء أسرة خاصة به. وفوق ذلك، فالأشخاص الذين لا ينشئون وسط عائلات كبيرة أصلًا عادةً ما يطمحون إلى تكوين أسر صغيرة، وغالبًا ما يكتفون بطفلٍ واحدٍ فقط. وأخيرًا فإن انخفاض معدلات الخصوبة يجعل الاقتصاد مُتكيفًا مع تلبية احتياجات الأسر الصغيرة، وبذلك يُصبح خيار إنجاب المزيد من الأطفال مصحوبًا بمتاعب متزايدة باستمرار.

وفي رحلتنا عبر البرِّ الأوراسي، سنجد أعلى معدل خصوبة في ميانمار حيث يقترب من مستوى الإحلال؛ وذلك عند وقت كتابة هذه السطور. صحيح أنَّ نساء بورما كُنَّ ينجبن أكثر من خمسة أطفال في المتوسط في أواخر سبعينيات القرن العشرين، لكن معدلات الخصوبة انخفضت منذ ذلك الحين. ونختتم رحلتنا بالدولتين الأخيرتَين قبل وصولنا إلى سنغافورة، وهما تايلاند (التي تتَّسم بمعدَّل خصوبة أعلى قليلًا من ١٫٥) وماليزيا (التي تتسم بمعدل أقل بقليلٍ عن ٢). وتُعد تايلاند بمنزلة نموذج يُبين كيف يمكن أن يسبق التحوُّل الديموغرافي مسيرة التنمية الاقتصادية في بلدان فقيرة نسبيًّا؛ فقبل وقت طويل من أن تُصبح متقدمةً اقتصاديًّا،18 كانت قد وصلت إلى مستويات الخصوبة المنخفضة التي كانت مقصورة في الماضي على البلدان المتقدمة.

اللافت في هذه «الجولة العالمية» عبر مناطق الخصوبة المنخفضة هو اختلاف طبيعة الدول التي تسود فيها قِلة الإنجاب. ففي الدول الأوروبية كألمانيا وصربيا مثلًا، كانت معدلات الخصوبة منخفضة أصلًا منذ عقود من الزمن، أمَّا في الدول الآسيوية مثل تايلاند، كانت المرأة تنجب أكثر من خمسة أطفال في المتوسِّط حتى أوائل السبعينيات. وكذلك تجد بعض الدول غنيًّا، وبعضها فقيرًا. وبعضها مسيحيًّا، وبعضها بوذيًّا، وبعضها مسلمًا والبعض الآخر علمانيًّا جدًّا. ومن غير المرجَّح أن يشهد أيٌّ منها زيادات كبيرة في معدلات الخصوبة في المستقبل المنظور.

وكذلك نجد معدلات الخصوبة مُنخفِضةً إلى تلك المستويات نفسها في ثقافات أخرى مختلفة تمامًا. فالنساء اللبنانيات مثلًا كُنَّ ينجبن في المتوسِّط أكثر من خمسة أطفال في ستينيات القرن الحالي، لكن متوسط إنجابهنَّ الحالي صار أقل من ١٫٧٥. فيما كانت وتيرة انخفاض الخصوبة في إيران هي الأسرع مُقارنةً بأي مكان آخر تقريبًا. إذ قالت إحدى النساء الإيرانيات التي يُحتمل أن تُصبح أمًّا في المستقبل بشيء من الحسرة: «كيف لي أن أفكِّر حتى في الإنجاب ونحن نعيش على الكفاف؟»19 وفي كل مناطق أمريكا اللاتينية، نجد معدَّلات الخصوبة إمَّا منخفضة بالفعل وإما تتناقص. فيما تُشير تقديرات إلى أنَّ انخفاض معدل الخصوبة في كوريا الجنوبية ربما قد وصل به الآن إلى ٠٫٨.20

ومن ثَم يتضح أنَّ ظاهرة قلة الإنجاب العالمية لا تعترف باختلاف المناطق أو الثقافات. ففي وقتٍ من الأوقات، كانت الأم الإيطالية تُعَد مثالًا نموذجيًّا لربة الأسرة الكثيرة الإنجاب، لكن الوضع لم يَعُد هكذا منذ عدة أجيال. ولعلَّ الاستثناء الكبير الوحيد حاليًّا هو منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، التي تتَّسم بمزيجٍ من انخفاض معدَّلات الوفيات واستمرار الخصوبة العالية، ما يُغذِّي فيها أكبر طفرة سكانية في التاريخ.

الدين والخصوبة: نحو ديموغرافيا ما بعد الحداثة

عادةً ما كان مستوى تنمية البلد يشير إلى معدل الخصوبة ومتوسِّط العمر المتوقع فيه. ففي أوائل السبعينيات، كان سكان شمال أوروبا الأثرياء يعيشون حتى السبعينيات من أعمارهم، في حين أنَّ سكان جنوب آسيا الأفقر كانوا لا يصلُون حتى إلى الخمسينيات. أمَّا اليوم، فقد تقلَّصت الفجوة بين المنطقتين في متوسِّط العمر المتوقع، وإن كانت فجوة التنمية ما زالت موجودة. وهكذا نجد أنَّ ذلك يصحُّ أيضًا حينما نقارن معدلات المواليد في البلدان الواقعة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. ففي السبعينيات، كانت النساء البرازيليات يُنجبن أكثر من ضِعف ما تُنجبه النساء الأمريكيات. أمَّا اليوم، فمع أنَّ مستوى ثروة البرازيليين لا يكاد يبلغ خُمس ثروة الأمريكيين، نجد أنهم يُنجبون أطفالًا أقل منهم بقليل. لقد كانت البلدان الفقيرة تتسم في الماضي بكثرة الإنجاب وقِصَر العمر المتوقَّع، لكنَّ الحال لم يَعُد هكذا.

قد يبدو ظاهريًّا أننا بدأنا نصل إلى نهاية تاريخ التغيُّرات الديموغرافية، مع تبقِّي فصل أفريقي أخير لم يأخذ مجراه بعدُ. ففي مرحلة ما قبل الحداثة، كانت البلدان كلها تتَّسم بارتفاع معدلات خصوبة عالية وقِصَر متوسط العمر المتوقع. صحيح أنها شهدت تفاوتات فيما بينها — فإنجلترا واليابان مثلًا شهدتا في القرن الثامن عشر انخفاضًا مُتواضعًا في معدلات الخصوبة على ما يبدو مقارنةً بباقي المناطق — لكنَّ الاختلافات لم تكن كبيرة. ولعلَّ الاستثناءات الوحيدة كانت ناجمة عن كوارث كالأوبئة والحروب التي كان فيها معدل الوفيات أعلى من العادي، أو فترات الحصاد الوفير، التي انخفض فيها معدَّل الوفيات قليلًا. ولكن في العموم، مرَّت دول العالم بتحوُّلٍ ديموغرافي في أوقات مختلفة وبمعدلات مختلفة. وفور انتهاء ذلك التحول، يُصبح الفارق الديموغرافي الرئيسي هو معدل الخصوبة، وتكون العوامل المحدِّدة له ثقافية وليست اقتصادية.

ويتجلَّى ذلك إذا قارنَّا بين معدلات الخصوبة في ولايات أمريكية مختلفة. فمُتوسِّط ما تُنجبه نساء ولاية داكوتا الجنوبية أكبر بنحو ثلاثة أرباع طفل مما تنجبه نساء ولاية فيرمونت؛ وذلك لأنَّ القيم المؤيدة لكثرة الإنجاب في منطقة وسط أمريكا مختلفة تمامًا عن المبادئ الليبرالية العلمانية في منطقة نيو إنجلاند. فكلَّما كانت الولاية الأمريكية أكثر تدينًا، كان معدل الخصوبة فيها أعلى، بل إنَّ النزعة المحافِظة أيضًا أشد ارتباطًا بارتفاع معدلات الخصوبة. إذ نجد في كل ولاية أنَّ ارتباط التدين بالخصوبة أقوى خمسًا وعشرين مرة من ارتباطها بالدخل، وأنَّ النزعة إلى انتخاب دونالد ترامب في عام ٢٠١٦ أقوى ارتباطًا بها أربعين مرة من ارتباطها بالدخل.21 ويتجلَّى تأثير الدين في الخصوبة في ولاية يوتا؛ حيث تشتهر العائلات المورمونية بكثرة عدد أفرادها. وفي هذا الصدد قالت أمٌّ مورمونية لديها ستة أطفال: «كثيرًا ما كان الناس يسألونني عن سبب إنجابي هذا العدد الكبير من الأطفال. وعادةً ما كنتُ أحدِّثهم بكلماتٍ قليلة عن خطة الخلاص.»22 وكذلك نجد أنَّ نساء طائفة الأميش في بنسلفانيا وأوهايو وإنديانا يُنجبن خمسة أو ستة أطفال في المتوسط، أي ما يُعادل معدل الخصوبة في النيجر وتشاد. وقد ارتفع عدد تلك الطائفة من ٦ آلاف إلى أكثر من ٣٠٠ ألف بين عامَي ١٩٠١ و٢٠١٠،23 علمًا بأن السبب الأكبر في هذه الزيادة هو كثرة إنجاب أفرادها، وليس إقبال أشخاص جدُد على اعتناق مذهبها.
وعلى المدى الطويل، قد يُحدِث هذا تأثيرًا غير متوقَّع في التركيبة العرقية للولايات المتحدة. فالولايتان الأمريكيَّتان الوحيدتان اللتان تتَّسمان بمعدل خصوبة أعلى من مستوى الإحلال، وهما داكوتا الجنوبية ويوتا، تضمَّان نسبةً من السكان البيض أعلى من المتوسِّط. صحيح أن معدلات الخصوبة بين النساء الأمريكيات البيضاوات ما زالت أقل بقليلٍ من معدلات خصوبة النساء السوداوات أو اللاتينيات، لكنَّ الفجوة تقلَّصت. فاللاتينيات يأتين من بلدان تتَّسم بخصوبة عالية منذ القِدَم لكنهن يعِشن في مناطق حضرية ذات خصوبة منخفضة. وبينما شهدت معدلات خصوبتهن انخفاضًا إلى المستويات المحلية السائدة، نرى أن الخصوبة في بلدانهنَّ الأصلية تقترب أيضًا باستمرار من تلك المستويات. فنجد أن معدَّل الخصوبة في المكسيك الآن قريب من مستوى الإحلال، مع أنَّ كل امرأة مكسيكية كانت تُنجب سبعة أطفال تقريبًا في المتوسط في أوائل السبعينيات. وفي عام ٢٠٠٧، كانت معدلات خصوبة النساء المنحدرات من أصول لاتينية في الولايات المتحدة أعلى بنسبة ٦٠ في المائة تقريبًا من معدلات خصوبة النساء البيضاوات؛ أما اليوم، فقد تلاشت ثلاثة أرباع هذه الفجوة.24 وبحلول عام ٢٠١٦، كانت النساء المنحدرات من أصولٍ لاتينية ينجبن أطفالًا أقل بقليلٍ مما تنجبه النساء الريفيات ذوات الأغلبية البيضاء، والفجوة هنا تتَّسع بلا توقف.25
وفي الوقت نفسه، تظهر معدلات خصوبة فائقة الارتفاع بين جماعات ريفية ذات أغلبية بيضاء مثل طائفة الأميش المذكورة أعلاه والهوتريتيين، الذين ازداد عددهم من ٤٠٠ إلى ٥٠ ألف بين عامَي ١٨٨٠ و٢٠١٠، أي بمعدل نحو ٣٫٨ في المائة سنويًّا.26 صحيح أنَّ هذه الجماعات ما زالت صغيرة نسبيًّا، وربما لا تكون بارزة حتى الآن، ولكن إذا صحَّ الافتراض المستبعَد القائل بأنهم ما زالوا عند ثُلث طريقِ الازدياد بالمعدَّل نفسه، فمن المتوقع أن يصل عددهم إلى نصف مليار بحلول عام ٢٠٦٠.

صحيح أن افتراضنا الذي يتوقع أنَّ المجتمعات البيضاء ستتعرَّض لانكماشٍ ديموغرافي وانخفاض معدَّلات الخصوبة يعتمد على الاتجاه الديموغرافي المرصود طوال القرن الماضي، لكن ليس من الضروري أن يتحقَّق الأمر بتلك الصورة دائمًا. إذ ربما نشهد بعض المناطق الحضَرية الأمريكية وحتى الأوروبية التي ينحدر أغلب سكانها من أعراقٍ مختلطة وأصل غير أوروبي تنحسر أمام صحوةٍ ديموغرافية من السكان الريفيين البيض. ربما تكون المؤشِّرات طفيفة، لكنها موجودة.

الاستثناء اليهودي

يُعَد يهود الحريديم الأرثوذكسيون المُتطرِّفون جماعة أخرى متوسعة ديموغرافيًّا من الأمريكيِّين البيض. ولكن على عكس مُعظم الأقليات الأمريكية الأخرى ذات الخصوبة العالية، فكل أفرادها تقريبًا يسكنون مناطق حضَرية فقط، ويعيشون في ولايات تتَّسم بانخفاض معدَّلات الخصوبة عمومًا. ففي حي ويليامزبرج وحي بورو بارك في بروكلين، توجد مجتمعات حريدية تضمُّ عشرات الآلاف (الحريديم هم طائفة محافِظة من اليهودية الأرثوذكسية الذين يطبقون الطقوس الدينية ويعيشون حياتهم اليومية وَفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية)، ومُكوَّنة من عائلات كبيرة العدد على غِرار أعلى البلدان خصوبة في العالم. وتجدر الإشارة هنا إلى أنهم يتزايَدون بسرعة مع عدم وجود مؤشِّرات تُذكَر على أن نموهم سيتباطأ، ما سيدفع هذه المجتمعات حتمًا إلى البحث عن حيِّزٍ جديدٍ لها في أحياء أخرى.

وكذلك يتزايد أفراد المجتمعات الحريدية في المملكة المتحدة بنسبة خمسة في المائة كل عام، وبهذا المعدَّل سيتضاعَف عددهم في غُضون ١٥ عامًا تقريبًا.27 وهنا أيضًا تتعرَّض الموارد السكنية لضغطٍ هائل؛ لذا بدأت الجماعات الحريدية في إقامة مُستوطنات فرعية خارج الضواحي الداخلية، حيث يتوفَّر السكن بأسعارٍ أرخص. ويُذكر هنا أنَّ هذا النمط موجود بالفعل في الولايات المتحدة. إذ انتقلت مجموعة من الحريديم من ويليامزبرج في سبعينيات القرن الماضي إلى بلدة جديدة تُدعى كيرياس جويل صار عدد سكانها الآن قرابة ٣٠ ألف نسمة، ومتوسِّط أعمار سكانها نحو ١٣ عامًا (علمًا بأن متوسط الأعمار في أمريكا ككل يبلغ ٣٧).28
وكذلك يُسهم الحريديم في النمو الديموغرافي في إسرائيل. وكدأب المجتمعات التي تشهد إنجاب الكثير من الأطفال على مدار فترة زمنية طويلة، فَهُم مجتمعٌ ذو أغلبية شابة؛ إذ تبلغ فيه نسبة الأفراد الأصغر من ٢٠ عامًا نحو ٦٠ في المائة، في حين أن نسبة تلك الفئة السِّنية في بقية السكان اليهود تبلغ ٣٠ في المائة.29 لكن كثرة الإنجاب ليست مُقتصرة على الحريديم فقط في إسرائيل؛ فمعدَّل الخصوبة في مختلف فئات الطيف الديني أعلى من المتوقع في بلدٍ متقدمٍ كهذا. إذ نجد أن مُتوسط ما تنجبه النساء الإسرائيليات أكبر ثلاث مرات مما تنجبه النساء السنغافوريات، مع أنهن لَسن أقل تعليمًا منهن. وكما هي الحال في أمريكا، نجد في إسرائيل أنَّ الجماعات ذات النزعة السياسية المحافظة تُكثِر من إنجاب الأطفال، حتى وإن لم تكن مُتدينة.30

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ ظاهرة ارتباط الخصوبة بالقِيَم ستقلب الكثير من افتراضاتنا الديموغرافية رأسًا على عقب. فمن المفترض أن يكون اليهود أقل إنجابًا من العرب والشعوب الأخرى ذات الأغلبية المسلمة، لكن الوضع ليس هكذا في الواقع. ففي أوائل الثمانينيات، كانت النساء الإسرائيليات يُنجبن أقل من نصف عدد الأطفال الذين تُنجبهم النساء الإيرانيات، لكنهن اليوم أصبحن يُنجبن أكثر منهن بكثير.

غير أنَّ أوضاع اليهود ليست واحدة في العالم كله. فيهود إسرائيل لديهم معدَّل خصوبة عالٍ، وحتى المجتمعات الأشد علمانية هناك لديها معدَّل خصوبة أعلى من مستوى الإحلال على الأقل، لكن اليهود العلمانيين في الولايات المتحدة لديهم واحد من أدنى معدلات الخصوبة بين كل الجماعات.31
وهنا يُشير بعض دارسي الديموغرافيا إلى أنَّ العالم كله يشهد تحولًا ديموغرافيًّا ثانيًا نحو انخفاض معدلات الخصوبة، بينما تحلُّ الطموحات الفردية محل التطلُّعات إلى تكوين أسرة،32 لكن تعميم تلك الظاهرة على مستوى العالم يحمل شيئًا من المبالغة. فالحقيقة الأوقع أنَّ الخصوبة تزداد ارتباطًا بالعقلية والأيديولوجية والدين. وكما هي الحال في مجتمعاتٍ مسيحية ويهودية، نجد أنَّ الانتماءات والممارسات الدينية ترتبط بكثرة الإنجاب في بلدان إسلامية.33 ومن ثَم فإن بعض الفئات الفرعية داخل المجتمعات تختار إنجاب الكثير من الأطفال، بينما يفضِّل البعض الآخر قلة الإنجاب؛ وبذلك سيتغيَّر التوازن الديموغرافي داخل البلدان وفيما بينها. فقد تضاعف عدد السكان المورمون ١٥ مرة عمَّا كان عليه في عام ١٩٤٧، وأحد أسباب ذلك هو ارتفاع معدلات الخصوبة. وإذا استمر نسلُ تلك الجماعات التي تُفضِّل كثرة الإنجاب في تبنِّي الأفكار التقليدية تجاه الخصوبة كدأبِ آبائهم، فربما نجد أنفسنا نتساءل عمَّا إذا كانت المجتمعات العلمانية ستَتلاشى وتترك المتديِّنين يرِثون الأرض.34
ولكن لا شيء حتميٌّ في ذلك؛ فاستمرار نمو الجماعات الدينية لا يعتمد على معدَّل الخصوبة فقط، بل يعتمد — بالقدر نفسه — على الحفاظ على النزعة الدينية. غير أن البيانات المتعلقة بهذه المسألة شحيحة. صحيح أنَّ مجتمعات الحريديم تشهد انحرافًا أكيدًا عن أسلوب الحياة الحريدي، سواء في إسرائيل أو خارجها، ولكن من شبه المؤكد أنه ضئيل مُقارنة بزيادتهم الطبيعية.35 وعلى المستوى المجتمعي، نجد ابتعادًا مُستمرًّا عن الدين سواء في الولايات المتحدة أو في معظم أوروبا. ومثلما كانت المدن في عصر ما قبل الحداثة تتطلَّب هجرة مستمرة من السكان الريفيين إليها لتعويض ما يتناقَص من سكانها، فإن المجتمعات العلمانية الحديثة تستقطب أفرادًا من مجتمعاتٍ أكثر تديُّنًا ذات معدلات مواليد عالية، لكنهم يعجزون بعدئذٍ عن تعويض ما يُفقَد منهم. وهكذا يبدو أن المستقبل سيكون مِن نصيب مَن يستطيعون الاحتفاظ بثقافة الخصوبة العالية مع الحد من التخلِّي عن التعاليم الدينية.

بطلات محليَّات وناشطات بيئيات

في صباح أحد أيام الجمعة، أقنعتُ اثنتَين من صديقاتي بالانضمام إليَّ في نقاشٍ ديموغرافي. إذ كنت متلهفًا على محادثتهما لأنَّ وضعهما يشذُّ عن القاعدة القائلة بأنَّ النساء يُنجبن أطفالًا أقل كلَّما أصبحن أفضل تعليمًا. فسارة خريجة جامعة كامبريدج ولديها ستة أطفال. وفيكي خريجة أكسفورد ولديها سبعة. أردتُ أن أفهم دوافعهما.

تجدر الإشارة إلى أنَّ فيكي وسارة يهوديَّتان أرثوذوكسيتان؛ وكلتاهما لديها عقلية عصرية. لم أشعر بأن إقبالهما على كثرة الإنجاب نابع من أيِّ التزامٍ ديني صارم بقدرِ ما كان نابعًا من شعورهما تجاه الأطفال بحُبٍّ متناغم مع ثقافة مؤيِّدة لكثرة الإنجاب. تعمل فيكي مُحررة لصحيفة مجتمعية من المنزل، في حين أن سارة، التي كانت محامية قبل ولادة أطفالها، لا تعمل خارج المنزل. لكنَّ كلتيهما، على الرغم من ذكائهما ومستوى تعليمهما العالي، تشعر بأنَّ الأمومة هي الدور الأكثر إشباعًا الذي يُمكن أن تؤديه. إذ قالت فيكي: «إنَّ جَلب سبعة أطفال إلى العالم، وتنشئتهم حتى يُصبحوا أفرادًا مصقولين ناضجين مسئولين هو أكثر الأشياء إبداعًا وإشباعًا من أيِّ شيء آخر قد يفعله المرء.»

لم ترغب أيٌّ منهما في إدانة أولئك الذين يُقرِّرون الاكتفاء بأسرٍ صغيرة، وكانت كلتاهما مُتعاطفة مع مَن يجدون أنفسهم عاجزين عن الإنجاب، ولكن عند الحديث عن معدل الخصوبة المنخفض في المجتمع، لم تستطيعا تجنُّب ذكر كلمة «الأنانية». وقالتا إن ذلك لا يعني أن إنجاب الكثير من الأطفال في المجتمعات الحضرية الحديثة صعب جدًّا بالضرورة. صحيح أنهما — أحيانًا — ما يواجهن صعوبة في العثور على سيارة مُستأجَرة كبيرة بما يكفي لتسعهم في العطلة أو حجز تذاكر عائلية للمناسبات، لكنهما تجدان هذه مجرَّد متاعب طفيفة. بل ترى فيكي وسارة أنَّ الذين يختارون إنجاب أطفال أقل يُفضِّلون التنمية الذاتية أو العطلات أو تخصيص غرفة نوم كاملة لكلِّ طفل بمفرده على خلق حياة جديدة. لم تُرِد فيكي ولا سارة إدانة أيِّ شخص بسبب الخيارات التي يتَّخذها، لكنهما أوضحتا أن العُرف السائد في العالم أصبح هو السعي إلى تحقيق الأهداف الشخصية ومستوًى معيشي معين، وأنَّ الجمع بين ذلك وإنجاب الكثير من الأطفال أمرٌ صعبٌ. بل ربما يستحيل التوفيق بين تحقيق هذه التوقُّعات وإنجاب أي أطفال أصلًا.

وقد قالت سارة إنها ربما كانت أنانية في إنجاب الكثير من الأطفال. إذ يشهد الغرب مخاوفَ مُتزايدة من أن يكون إنجاب الأطفال مجرد إشباع للذة معيَّنة، خصوصًا في العالم المتقدم حيث ترتفع مستويات الاستهلاك والانبعاثات. وهذا هو السؤال الذي طرحته عضوة الكونجرس الأمريكي ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، حين قالت: «ببساطة يوجد إجماع علمي على أنَّ حياة أطفالنا ستكون صعبة جدًّا، وهذا يدفع الشباب إلى طرح سؤال مشروع: هل من «المقبول» أن نُواصل إنجاب أطفال؟»36 وهذا موضوعٌ سنعُود إليه لاحقًا.

مستقبل ممارسة الجنس

شاركتُ مؤخرًا في لجنة من المختصِّين ضمن ندوة عن الديموغرافيا مع أستاذ مُتقاعد بارز متخصِّص في هذا الموضوع. وفي إشارة إلى مسألة الخصوبة المنخفضة، تحدَّث عن «انخفاض وتيرة الجماع». فضحك الجمهور من لغته الأكاديمية القديمة الظريفة في الحديث عن موضوع يجذب اهتمام الناس دومًا. وربما ينبغي هنا أن نسأل عن مقدار تأثير ممارسة الجنس في عدد السكان؛ فنظرًا إلى أنَّ مُعظم المواليد ما زالوا يأتون من الجماع الجنسي، لا يُمكن لأي دراسة ديموغرافية أن تتجاهل هذا الموضوع.

تُظهِر أدلة مُتزايدة على أن الشباب في بلدان مختلفة مثل إيطاليا واليابان أقل إقبالًا من أسلافهم على العلاقات الطويلة الأمد والزواج وإنجاب الأطفال. بل ويبدو حتى إنهم أقل اهتمامًا بممارسة الجنس. فرُبع البالغين اليابانيِّين تحت سن الأربعين لم يمارسوا جِماعًا جنسيًّا كاملًا مع أفرادٍ من الجنس الآخر، وما زالت النسبة في ازياد.37 أمَّا في إيطاليا، فتُعزى قلة الممارسة الجنسية إلى تضاؤل الشهوة الجنسية عند الرجال.38
وصحيح أن اليابان ربما تكون في طليعة الدول المتجهة إلى انخفاض ممارسة الجنس في المستقبل لكنها ليست وحدها. فمعدل العزوف عن ممارسة الجنس بين أفراد جيل الألفية الأمريكي يبلغ ضِعف المعدَّل في الجيل السابق، بينما تتناقَص مبيعات الواقيات الذكرية بوتيرة مطَّردة.39 وربما يرجع ذلك إلى أنَّ قواعد الارتباط بالجنس الآخر في عصر فضح ممارسات التحرُّش الجنسي صارت مُربكة ومُنفرة، وأيضًا إلى تلاشي الحد الفاصل بين الأدوار التقليدية المرتبطة بكل جنس. فمُشاركة الرجال في أداء الأعمال المنزلية، وإن كانت شيئًا محمودًا، يبدو أن ازديادها مرتبط بقلة ممارسة الجنس.40 وربما يكون التطور التكنولوجي عاملًا آخر. إذ قال لي صديق يعمل طبيبًا عامًّا: «السبب في أن معدَّل الحمل في سن المراهقة صار أقل مما كان عليه حينما بدأتُ مسيرتي المهنية هو أن الشباب كلهم صاروا يُفضِّلون البقاء في غرفهم مع وسائلهم التكنولوجية على الخروج وإقامة العلاقات.»

وتجدر الإشارة هنا إلى أن قلَّة ممارسة الجنس في حد ذاتها لا تؤدِّي إلى انخفاض معدل الخصوبة، كما أن تأخر الفرد في ممارسة الجنس والزواج لا يعني بالضرورة أنَّه سيُنجب أطفالًا أقل. ولكن كلما طالت فترة تأخر المرأة في الإنجاب، من المرجح أن تصبح أقل خصوبة؛ وعلى مستوى المجتمع، فتأخير الإنجاب يعني أن الأسر ستكون أقل أفرادًا. فإذا استبعدنا النساء اللواتي في سِن ذروة الخصوبة من مجموعة الأمهات المحتملات، فمن المرجح جدًّا أن تقلَّ حالات الحمل والولادة في المجمل. كذلك فإنَّ المجتمعات التي تُؤجل نساؤها الإنجاب غالبًا ما تكون هي نفسها المجتمعات التي يسعين فيها إلى تحقيق طموحات أخرى غير الأمومة، وتتَّسم بانخفاض الخصوبة لأسبابٍ اجتماعية.

fig7
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، التوقُّعات المتوسطة.

في منتصف القرن العشرين، كانت معدلات الخصوبة تتَّسم بتفاوتٍ كبيرٍ فيما بين البلدان؛ فأغلب نساء أفريقيا وآسيا كُن يُنجبن ستة أو سبعة أطفال، في حين أن نساء أوروبا وأمريكا الشمالية كُن يُنجبن طفلين أو ثلاثة. ومنذ ذلك الحين، انخفضت معدلات الخصوبة في بلدان أصبحت غنية، مثل سنغافورة، وأخرى كانت غنية بالفعل، مثل ألمانيا، إلى أقل بكثيرٍ من ٢. وحتى بعض البلدان الفقيرة — نسبيًّا — مثل سريلانكا شهدت انخفاضًا سريعًا في معدلات الخصوبة نحو ٢.

واليوم نجد أن البلدان ذات معدَّلات الخصوبة المرتفعة كلها تقريبًا تقع في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وما زال المجهول الديموغرافي الأبرز هو مدى سرعة انخفاضها في المستقبل. وهنا تتوقع الأمم المتحدة أن المعدلات ستشهد انخفاضًا مطردًا في نيجيريا، التي تُعَد أكثر الدول سكانًا في أفريقيا، وأنها لن تقترب من مستوى الإحلال إلا قُرب نهاية القرن الحادي والعشرين.

fig8
المصادر: برنامج «أميريكان إكسبيرينس» وموقع أميش ستاديز.

ملحوظة: بعض البيانات ضُبِطَت لتتماشى بانسيابية مع الاتجاه العام.

عندما تتزايد طائفة سكانية صغيرة بنسبة نحو ٣٫٥ في المائة سنويًّا، فربما لا تكون زيادتها ملحوظة في البداية. ولكن إذا استمرت الزيادة بالمعدل نفسه، فستُصبح الطائفة في النهاية كبيرة بما يكفي للتأثير في المجتمع. وهذا يَنطبق على طائفة الأميش في أمريكا الشمالية. فعدد أفرادها في بداية القرن العشرين كان ٦ آلاف شخص، أمَّا اليوم، فقد بلغ ثُلث مليون.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الجماعات الدينية التي يمكنها الحفاظ على خصوبتها العالية والحفاظ على انتماء معظم أفرادها إليها من المرجح أن تصبح أكثر تأثيرًا في بلدانها الأصلية.

كثيرًا ما يذكر الناس التليفزيون ضِمن أسباب انخفاض الخصوبة، ومن المؤكد أنَّ معدَّل ممارسة الجنس قد شهد انخفاضًا بسيطًا مع ظهور التليفزيون.41 لكن التليفزيون لا يخفض معدلات الخصوبة بصرفِ انتباه الناس عن الإنجاب فحسب. إذ وجدت دراسة برازيلية أن شعبية المسلسلات التليفزيونية المثيرة للطموحات هي التي خفَّضت معدلات الخصوبة؛ فمَشاهِد الشقق الفاخرة والسيارات الذكية والملابس الأنيقة أضفت هالةً ساحرةً حول نمط حياة الأشخاص الذين ليس لديهم أطفال كثيرون، ودفعت السكان إلى إنجاب عددٍ أقل من الأطفال.42 فيما أصبحت كثرة الإنجاب تُربَط بأنماط الحياة الريفية المتخلفة التي يُحاول سكان البلدان النامية الهروب منها. وكذلك يرجع انخفاض الخصوبة إلى مزيجٍ مفاجئ أشرنا إليه من قبل، وهو المزيج السائد في المجتمعات الأدنى خصوبة بين النفور من إنجاب الأطفال دون زواج، والآراء التقدمية بشأن تعليم الإناث. غير أنَّ الوضع في بعض الأماكن التي تشهد إنجاب الكثير من الأطفال دون زواج، مثل بريطانيا والدول الاسكندنافية، غالبًا ما يكون أكثر مدعاة للتفاؤل، على الأقل إذا كنتَ تُحب الأطفال.
وربما يكون موقف المرء من الإنجاب متأثرًا بعاملٍ وراثي.43 صحيح أنَّ وجود نزعة وراثية إلى اشتهاء الإنجاب ربما لم يُحدِث فرقًا في الماضي لأنَّ الناس كانوا محرومين من حرية الاختيار على أيِّ حال. ولكن حالما يستطيعون التحكم في خصوبتهم، فمن الممكن أن تتكاثر الجينات التي تفضِّل الإنجاب، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انتعاش معدلات الخصوبة.

كوكب فارغ؟

كان توماس مالتوس مُخطئًا حينما أكَّد أن الضغط السكاني سيظل محدودًا بالموارد إلى الأبد. وكان دارسو الديموغرافيا مخطئين حينما افترضوا أن معدل الخصوبة سيستقرُّ في كل أرجاء العالم عند مقدارٍ يزيد قليلًا على طفلين لكل امرأة، ما سيجعل عدد سكان العالم شبه ثابت. فالغرب قد شهد طفرة في أعداد المواليد ثم انخفاضًا كبيرًا في عددهم، وبعدئذٍ تقلَّصت أحجام الأسر في مناطق أخرى إلى حد أنها صارت مُعرَّضة لتناقُص عدد سكانها. وانتشرت معدلات الخصوبة الأقل من مستوى الإحلال من غرب أوروبا وأمريكا الشمالية إلى جنوب أوروبا والكتلة الشيوعية السابقة وشرق آسيا. وبعدما كان انخفاض معدلات الخصوبة حكرًا على الأثرياء، أصبح الآن منتشرًا على نطاقٍ واسعٍ إلى حد أن ارتباطه بالحالة الاقتصادية تضاءل بشدة. وأوائل البلدان التي تبنَّت نهج تحديد النسل صارت تتَّسم بمعدلات خصوبة أقل من مستويات الإحلال إلى حدٍّ ما، في حين أنَّ بعض البلدان التي تبنَّت نهج تحديد النسل في وقتٍ لاحقٍ شهدت انخفاضًا أشد بكثيرٍ في معدَّلات الخصوبة.

وصحيح أننا ينبغي أن نتوخى الاحتياط في توقعاتنا، ولكن يمكننا إطلاق بعض التنبؤات بيقين تام. ولعلَّ الشيء الأكثر غموضًا هنا، كما ذكرنا من قبل، هو حالة أفريقيا جنوب الصحراء في المستقبل. ولكن من المرجَّح أن تتبع حالتها الديموغرافية نهج بقية العالم؛ وتَنخفِض معدلات الخصوبة فيها ما دامت القارة مستمرة في التطور. وحتى لو توقَّفت القارة عن التطور، يظل انخفاض الخصوبة ممكنًا كما رأينا في الشرق الأوسط، وإن كان من الصعب التنبُّؤ بوتيرة الانخفاض. أمَّا خارج منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، فمن المتوقَّع أن تشهد البلدان ذات معدلات الخصوبة المُرتفعة استمرار الانخفاض الحاد فيها. فحالما يقلُّ معدل الخصوبة في بلدٍ ما عن أربعة، غالبًا ما يستمرُّ الانخفاض، لكن المستوى الذي سيثبُت عنده غير مؤكَّد. ويُذكَر هنا أن معدل الخصوبة في سريلانكا ظلَّ يتراوَح بين ٢ و٢٫٥ طوال ٣٠ عامًا تقريبًا. أمَّا في كولومبيا، فلم يكد معدَّل الخصوبة يبقى في هذا «النطاق المثالي» عقدًا واحدًا ثم أصبح الآن أقل من مستوى الإحلال.

ومهما طرأ على الخصوبة العالمية من تغيرات، فإن الزخم الديموغرافي سيضمن استمرار زيادة سكان العالم في الوقت الحالي، ولو بوتيرة متباطئة. غير أننا قد وصلنا بالفعل إلى ما يسميه الإحصائي السويدي هانس روسلينج «ذروة الأطفال»؛ أي الحد الذي يتوقف عنده عدد الأطفال في العالم عن الازدياد.44 صحيح أن عدد سكان الكوكب من المرجَّح أن يكون أكثر بنسبة ٥٠ في المائة بحلول نهاية القرن الحالي، لكن عدد الأفراد الذين تقلُّ أعمارهم عن خمس سنوات «سينقُص» بمقدار أكثر من خمسين مليون شخص.45

الخصوبة هي المحرك الأهم وراء التغيُّرات الديموغرافية. ومن الناحية النظرية، لا يوجد حدٌّ نهائي لمدى الانخفاض الذي قد تصل إليه؛ فربما يأتي علينا يومٌ نرى فيه أنَّ معدل الخصوبة الحالي في سنغافورة مرتفع جدًّا. وصحيح أننا غالبًا ما نفترض أن معدَّل الخصوبة سيظلُّ عاليًا إلى الأبد في ثقافات أو مجتمعات معيَّنة، لكننا عادةً ما نكون مخطئين. فمع أنَّ معدل الخصوبة في الهند لم يَصِل إلى مستوى الإحلال أو أقل منه بقليل إلَّا مؤخرًا، فإنه يبلغ مستوًى أقل بالفعل في عدة ولايات هندية حيث يُساوي نحو ١٫٧، ومن المرجَّح أن الدولة كلها ستسير على المنوال نفسه. وتجدر الإشارة إلى أنَّ انخفاض معدلات الخصوبة في البلدان الفقيرة يعني أن وتيرة تقدُّمها في عملية التحديث الديموغرافي تسبق وتيرة تنميتها الاقتصادية.

ويُذكَر هنا أنَّ انخفاض الخصوبة في الهند حدث في وقتٍ متأخرٍ عن انخفاضه في الصين وبمقدار أقل، ولذا صارت الأولى على وشك أن تتجاوز الثانية وتصبح أكثر الدول سكانًا على وجه الأرض. فبحلول نهاية القرن الحالي، من المتوقَّع أن تكون الصين قد فقدت قرابة ربع سكانها الحاليين، ما يُثير مخاوف بشأن تقلُّص القوى العاملة، بينما تشهد الهند تقدمًا اقتصاديًّا سريعًا. وبفضل الأوضاع الديموغرافية الأفضل في الهند، ستسنح لها فرصة لتعويض ما خسرته لصالح مُنافِستها في العقود الماضية. ففي عام ١٩٨٠، كان حجم اقتصاد الصين أكبر من نظيره الهندي بمقدار مرة ونصف تقريبًا؛ وبحلول عام ٢٠١٦، كان أكبر منه بمقدار يتراوَح بين أربع وخمس مرات.46 ولكن من المتوقَّع أن ينعكس هذا الاتجاه في السنوات القادمة، وخصوصًا بسبب تزايد القوى العاملة في الهند.
تُعاني اليابان انخفاضَ معدلات الخصوبة وركودًا اقتصاديًّا حتميًّا منذ فترة طويلة، وهي بذلك تُعَد حالة نموذجية ممَّا يُعرف بفخ الخصوبة المنخفضة. فحيثما تُتاح للنساء فرص التعليم، عادةً ما ينخفض معدَّل خُصوبتهنَّ إلى مستوى الإحلال تقريبًا، وحينما لا يتلقَّين تشجيعًا على الجمع بين العمل والأمومة، سيُواصل معدل خصوبتهن الانخفاض إلى ما هو أقل من ذلك. ويُذكر هنا أنَّ اليابان تعج بنساءٍ غير راضياتٍ بأمومتهنَّ ولا بعملهن. ولا عجب في أن اليابانيِّين من بين أقل الشعوب سعادةً في العالم المتقدم،47 رغم كل ما ينعمون به من سُبُل الراحة والثراء ونقص الجريمة في بلادهم.

وما زال من الممكن أن يلاقي العالم كله «مصير اليابان» نظرًا إلى أن أفريقيا تحذو حذو القارات الأخرى بسرعة، وأن بعض البلدان كسريلانكا تشهد مزيدًا من الانخفاض في معدلات خصوبتها. خلاصة القول أنَّ الناس في كل مكان سيصبحون أفضل تعليمًا وأكثر رخاء في نهاية المطاف، ما سيؤدي إلى انخفاض الخصوبة دون مستوى الإحلال في العالم كله، مع عزوف الرجال والنساء عن بذلِ الوقت أو المال اللازم لإنجاب أطفال وإنشاء أسر أكبر.

ولكن كما رأينا، تشهد معدلات الخصوبة نمطًا جديدًا بالفعل من أنماط ما بعد الحداثة الديموغرافية. فتبنِّي القيم المحافِظة والتديُّن دائمًا ما يكونان مصحوبين بارتفاع معدَّل الخصوبة، ويُمكن أن يجعلاه أعلى بقليلٍ من مستوى الإحلال أو حتى مرتفعًا جدًّا كمعدَّل طائفة الأميش في بنسلفانيا. ومن ثَم، فربما لن يتبقى في العالم سوى الجماعات ذات الأيديولوجيات المؤيِّدة بقوة لكثرة الإنجاب، بينما تفشل الجماعات الأخرى في التكاثر وتختفي بكل بساطة. وبذلك فإننا لسنا متجهين إلى «كوكب فارغ»،48 بل إلى عالمٍ مليء بجماعاتٍ متنوعة لديها تشابهات اجتماعية ولكنْ بينها اختلافاتٌ أيديولوجية. وإذا أصبحت الجماعات ذات الخصوبة العالية، التي غالبًا ما تحمل أفكارًا استبدادية وتكره التكنولوجيا الحديثة، هي السائدة، فستتفاقَم التحديات السياسية والتقنية المرتبطة بإدارة مجتمع حديث. وبينما قد تُعَد اليابان رائدة الحداثة الديموغرافية، فإن إسرائيل ربما تكون هي رائدة مرحلة ما بعد الحداثة.

وفي تلك الأثناء، وحتى قبل أن يبدأ تناقُص السكان، نجد أن معدَّلات الخصوبة المنخفِضة تؤدي إلى ما يُعرَف بشيخوخة السكان، وهي الظاهرة التي نَنتقِل إليها الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤