الفصل الخامس

شيخوخة السكان

٤٣: العمر الوسيط في كتالونيا1

تقع منطقة روسيون الكتالونية في فرنسا وليس في إسبانيا. وهي عبارة عن أرضٍ من القِمَم المغطاة بالثلوج وخلجان البحر المتوسط المُتلألئة وكروم العنب المتماوِجة المنحدرة حتى البحر، وبذلك تُعَد واحدة من الأماكن القليلة في أوروبا التي يُمكنك فيها أن تتزلج صباحًا وتتشمَّس بعد الظُّهر. ونظرًا إلى أنها محاطة بالبحر من جهة وجبال البرانس من الجهة الأخرى، فهي مُعبِّر رئيسي بين فرنسا وإسبانيا منذ قرون. وقد كنتُ محظوظًا بزيارتها مرارًا.

وعلى مر القرون، كانت ممرات جبال البرانس في روسيون طريقًا لتهريب الأشخاص والبضائع في كلا الاتجاهَين. ففي عام ١٩٣٩، اتجه مئات الآلاف من الإسبان شمالًا ليهربوا من براثن فرانكو؛ وبعد ذلك ببضعة أشهر، فَرَّ اللاجئون اليائسون في الاتجاه المعاكس ليَهرُبوا من الغزاة النازيِّين وحلفائهم في فرنسا الفيشية.

على كل حال، قررتُ قبل عامين زيارة بورتبو، أول بلدة ساحلية على الجانب الآخر من الحدود في إسبانيا، حيث انتحر الفيلسوف الألماني اليهودي فالتر بنيامين في سبتمبر ١٩٤٠. وصحيح أنها الآن بلدة ساحلية جميلة، لكنها ليسَت مُهمة بقدر منتجعات أخرى مثل كوليور في الشمال أو كاداكيس في الجنوب. إذ لا تضم الكثير من المعالم الجديرة بالزيارة سوى قبر بنيامين ونصبٍ تذكاري له على الساحل.

ومع أنَّ زيارتي إلى بورتبو لم تكن رحلة استكشافية ديموغرافية بقدر ما كانت حجًّا إلى ضريح فيلسوف ميت، فإنها ساعدَتني على حلِّ لغزٍ ما. فقبلها بعام تقريبًا، دعت السلطات الإقليمية إلى استفتاء على استقلال كتالونيا، وصوَّت الناس هناك بتأييده. لكن مدريد رفضت الاعتراف بنتيجة الاستفتاء؛ وبدا واضحًا أنَّ إسبانيا لن تسمح لكتالونيا بأن تُصبح دولة منفصلة. وصحيح أن شوارع برشلونة شهدت اشتباكات ووقوع بعض الإصابات، ولكن لم يُقتَل أحد. إذ لم تقع هجمات غاضبة عنيفة على مراكز الشرطة الريفية، ولم يُنفِّذ الجيش أي أعمال انتقامية وحشية. وبدلًا من أن يؤدي الاستفتاء إلى حرب أهلية، بدا أنَّ القصة برمتها تتلاشى ثم تختفي تمامًا من العناوين الرئيسية.

وبينما كنتُ جالسًا في إحدى ساحات بورتبو، تأملتُ الأسباب التي جعلت الاستفتاء شيئًا هامشيًّا في التاريخ بدلًا من أن يكون سببًا في نشوب صراعٍ عنيف. نظرت حولي إلى السكان المحليين ذوي الشعر الرمادي وهم يَستمتعُون بشمس أكتوبر ويحتسون القهوة السادة من فناجينهم. فوجدتهم أكبر سنًّا بكثيرٍ من أن يستطيعوا حمل الأسلحة والمشي في الشوارع تعبيرًا عن غضبهم من الظلم السياسي. صحيح أن هؤلاء السكان الساحليِّين كانوا أكبر من متوسط الأعمار الكتالوني بعقدين، لكن حتى الأشخاص الأربعينيِّين لا يميلُون غالبًا إلى حمل الأسلحة من أجل قضية سياسية. فمعظم مَن هُم في منتصَف العمر عادةً ما يكونون مُنشغلين جدًّا بالقلق على صحة آبائهم المسنين وأداء أطفالهم في المدرسة وكيف سيُدبِّرون نفقاتهم المعيشية بعد التقاعد مع مواصلة سداد أقساط الرهن العقاري في موعدها.

تنطوي التركيبة العمرية العامة للمجتمع على تأثيرٍ مهم، لكننا غالبًا لا نقدِّره حق قدره أو لا نفكر فيه أصلًا. إذ لفت انتباهي تكرار الظاهرة نفسها حينما خرج الناس في هونج كونج إلى الشوارع احتجاجًا على تنازلات حكومتهم لمطالب بكين بشأن تسليم المجرمين في عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠. فمع أن الاحتجاجات شملت فئات متنوعة من السكان، كان الشباب هُم قادتها. وقد كان عدد الوفيات في تلك الاحتجاجات يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة،2 لكن الوضع كان مختلفًا تمامًا في احتجاجات ميدان تيانانمِن في بكين في عام ١٩٨٩، حينما قتل الجيش الصيني ما يصل إلى عشرة آلاف شخص.3 وإذا قارنَّا بين العمر الوسيط لسكان الصين في نهاية الثمانينيات (الذي كان ٢٥ عامًا تقريبًا) والعمر الوسيط في هونج كونج بعدها بثلاثة عقود (والبالغ نحو ٤٥ عامًا)، فسنمسك بطرف الخيط. سنفترض بالطبع أنَّ السلطات الصينية اتخذت كل الإجراءات اللازمة للحفاظ على النظام في كلتا الحالتَين، ولكن لعدم وجود موجة مُتزايدة من الشباب بين السكان في المرة الثانية، كانت الإجراءات اللازمة أخفَّ وطأة؛ ولذا كانت حصيلة القتلى أقل. لقد سمعنا عن بلدان تَشيخُ قبل أن تُصبح غنية. والخوف هنا أن نجد بلدانًا تَشيخُ قبل أن تتحرَّر، وتضطرُّ إلى تحمُّل الأنظمة الاستبدادية إلى الأبد بسبب افتقارها إلى الشباب الغاضب المجازف.

الحرب والسلام، الشباب والكهولة

تُعَد نسبة الأفراد الأربعينيين بين سكان كتالونيا حاليًّا أعلى بكثيرٍ من نسبة الأفراد العشرينيِّين، في حين أن العمر الوسيط يتخطَّى الأربعين بكثير.4 وأذكر هنا أنَّ بداية معرفتي بكتالونيا كانت ما قرأته عنها في كتاب «الحنين إلى كتالونيا» من تأليف جورج أورويل، وأنها كانت مختلفة جدًّا آنذاك. فبعيدًا عن الوديان المشمسة والقِمَم الثلجية التي أعرفها في روسيون، كانت برشلونة في ثلاثينيات القرن الماضي نموذجًا حضريًّا للفوضى الناجمة عن الحرب والصراع. وكانت المدينة آنَذاك تحت إدارة مزيج ثوري من الشيوعيين واللاسلطويِّين، وكان العمر الوسيط في إسبانيا لا يكاد يبلغ نصف ما هو عليه في الوقت الحالي.5

وتُعد إسبانيا في مرورها بهذا التغيير مثالًا مُعبِّرًا عن العديد من البلدان التي مرَّت بالتحوُّل الديموغرافي. فبسبب عقودٍ من معدلات الخصوبة الأقل من مستوى الإحلال وزيادة متوسط العمر المتوقَّع (حتى وصل الآن إلى أكثر من ٨٣ عامًا، وهو بذلك من أعلى متوسِّطات العالم)، صارت تتَّسم بشيخوخة عالية جدًّا بين سكانها، سواء بمعاييرها الخاصة أو بمُقارنتها مع مناطق أخرى من العالم. وهذه نتيجة شبه حتمية لتطور أي بلد، باستثناء الأماكن التي توجد فيها دوافع أيديولوجية أو دينية تقاوم الاتجاه نحو قلة الإنجاب. ولذا فإن التركيبة العُمرية في إسبانيا ومثلها من البلدان الأوروبية كألمانيا وإيطاليا تُعَد مؤشرًا لما ينتظر معظم البشر.

وعادةً ما تكون ظاهرة شيخوخة السكان متبوعة بزيادة هائلة في عدد كبار السن ونقص في عدد السكان الإجمالي، ما لم تستقبل الدولة هجرةً جماعيةً من الخارج. وسأستعرِض هذه الموضوعات في فصولٍ لاحقة، لكني أريد هنا أن أستعرض تأثير تصاعد العمر الوسيط في المجتمع والعالم ككل.6

من المنطقي أن يكون المجتمع الذي يتراوح متوسط الأعمار فيه بين أوائل العشرينيات ويتسم بغالبية من الشباب مختلفًا عن مجتمع يقع متوسط أعماره في الأربعينيات ويتَّسم بقلة الشباب. وتمامًا كما يُتوقَّع أن يكون الجو العام في ملهًى ليلي مختلفًا عن أجواء المقهى، فمن المتوقَّع أن يكون المجتمع ذو الأغلبية الشبابية مختلفًا عن مجتمعٍ معظم أفرادِه في منتصف العمر.

وإذا سلَّمنا بوجود اختلافات بين المجتمعات التي يُعَد أغلب أفرادها ممَّن هُم في مُنتصَف العمر والمُسنين والمجتمعات التي تعجُّ بالشباب، فسنجد أن الاختلاف الأبرز يكمن في مسائل النزاع. وقد رأينا بالفعل الفرق بين كتالونيا الشابة في ثلاثينيات القرن الماضي وكتالونيا الكهلة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث لم تُزهَق ولو رُوح واحدة في نضالٍ سياسيٍ من أجل الاستقلال. فالتغيُّر الديموغرافي هو الذي يفسر لماذا غرقت كتالونيا في الحرب الأهلية في الثلاثينيات، ولماذا لم يحدُث ذلك في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

قد يُقال هنا إنَّ كتالونيا وإن ظلَّت مسالمة، فإنَّ ذلك لم يَنطبق على إقليم الباسك الواقع عند الطرف المقابل من جبال البرانس، لكنَّ النزاع هناك يُؤكد النقطة نفسها. ففي ستينيات القرن الماضي، حينما بدأ القوميون الباسكيون أعمال العنف، كان العمر الوسيط في إسبانيا لا يكاد يتجاوَز الثلاثين؛ أي أصغر من الرقم الحالي بنحو ١٥ عامًا. ولكن مع ازدياد نسبة الشيخوخة في إسبانيا، استُنزِف وقود النزاع رويدًا رويدًا، وأُعلِن التوصل إلى هدنة دائمة في عام ٢٠١٠. وكذلك استنزفت الشيخوخة السكانية قدرًا كبيرًا من وقود النزاع في أيرلندا الشمالية. ولا أقصد هنا التقليل من جهود الدبلوماسيِّين الذين صاغوا اتفاقية السلام، لكنهم كانوا يحظون بمساعدة من التغيُّرات الديموغرافية. يُذكَر أنَّ العمر الوسيط الحالي في أيرلندا يقارب الأربعين، ليُسجل بذلك ارتفاعًا كبيرًا بعدما كان يقع عند منتصف العشرينيات في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

وإذا ألقينا نظرةً أدق، سنجد أمثلةً عديدةً على فتور النزاعات العنيفة مع ازدياد نسبة الشيخوخة بين السكان. فحينما اندلعت الحرب الأهلية في يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات، كان العمر الوسيط في البوسنة أقل من ثلاثين عامًا؛ أمَّا اليوم، فصار أكبر من أربعين عامًا. وفي صربيا أيضًا ارتفع العمر الوسيط بمقدار عشر سنوات تقريبًا في أثناء تلك الفترة. ومهما كانت التسويات الدستورية في البوسنة وكوسوفو غير مُريحة وغامضة، ما زال السلام سائدًا هناك منذ أكثر من عشرين عامًا.

وكذلك يضمُّ الشرق الأوسط العديد من الأمثلة الجيدة على هذا الاتجاه. فعندما بدأت الحرب الأهلية في لبنان في مُنتصَف سبعينيات القرن الماضي، كان العمر الوسيط يقَعُ في أواخر سنِّ المراهَقة. وبعد ذلك بجيلٍ تقريبًا، تمكَّنت البلاد من تجنُّب الانزلاق مجددًا إلى صراعٍ مفتوحٍ شامل. صحيح أنَّ الاحتجاجات في الشوارع كانت عنيفة، لكن عدد القتلى ما زال يُحصى على أصابع اليد الواحدة حتى وقت كتابة هذا الكتاب. وأحد أسباب ذلك أنَّ العمر الوسيط في لبنان قريب من الثلاثين، ويزداد بسرعة. ومع أنَّ البلاد شهدت حالة من عدم الاستقرار مع حدوث أزمة مالية وانفجار مُدمِّر في بيروت في أغسطس ٢٠٢٠، لكن السلام الأهلي ظلَّ قائمًا حتى خريف عام ٢٠٢١ على الأقل، ويرجع جزء من الفضل في ذلك إلى التركيبة العمرية في البلاد. أمَّا سوريا، التي يُعَد العمر الوسيط فيها صغيرًا جدًّا، فلم تستطع تجنب ويلات الحرب والمجازر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الادَّعاء بأنَّ المجتمعات الأكبر سنًّا أقل عرضة للحروب ليس مدعومًا بالأدلة السردية فقط، بل بأبحاثٍ إحصائية وأكاديمية موثوقة.7 ففي ستينيات القرن الماضي، لُوحظ أن صعود النازيين كان مصحوبًا بطفرة في أعداد الشبان بين السكان الألمان. ويبدو أنَّ عدم الاستقرار الذي عانته أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، والذي أعقبته فترة طويلة من السلام، يُمكن أن يُعزى جزئيًّا إلى مرور القارة بفترة من الشباب أعقبتها فترة من الشيخوخة؛ فالعمر الأوروبي الوسيط الآن أكبر بأكثر من عقدٍ كاملٍ مما كان عليه عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وتكشف بعض الدراسات التي غطَّت فترات ممتدة حتى عدة عقود عدمَ وجود أي حروب أهلية — تقريبًا — في البلدان التي تكون فيها نسبة الأفراد الثلاثينيِّين والأكبر بين سكانها ٥٥ في المائة أو أكثر.8
نجد في العصر الحديث أن السكان الشباب عادةً ما يكونون أفقر، والسكان الأفقر غالبًا ما يكونون أعنف. ربما يخطر ببالنا أنَّ السكان الشباب يتَّسمون بالعنف لأنهم عادةً ما يكونون فقراء، ولكن ثمة علاقة وثيقة بين نسبة الفئة العمرية الشابة إلى الفئات الأكبر سنًّا واحتمالية نشوب الحروب الأهلية، التي تُعد النوع الأكثر شيوعًا من الصراعات بفارقٍ كبيرٍ عن الأنواع الأخرى.9 فمن الصعب تخيُّل أنَّ الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام ١٩٩٤ كان يمكن أن تحدث لو كان العمر الوسيط فيها آنَذاك يقع في نطاق الأربعينيات وليس ١٨ عامًا فقط.

وليست الحرب فقط هي التي ترتبط بشبابِ السكان، بل الجريمة أيضًا. ولكن قبل أن نستعرض التأثيرات الأخرى التي تُحدثها التغيُّرات الديموغرافية في المجتمعات، يجدر بنا أن نسأل عن سبب وجود هذه العلاقة والكيفية التي تؤثر بها.

شرح العلاقة

بينما لا يُمكن القول إنَّ الشباب «يسبِّب» الحرب، أو إن الكهولة «تسبِّب» السلام، فإن التركيبة العُمرية في المجتمع تُتيح ظروفًا محيطة إمَّا أن تكون مُواتية لإشعال فتيل النزاعات أو مُثبطة لها. فالاستفتاء على استقلال كتالونيا ومعاهدة تسليم المجرمين في هونج كونج قد أطلقا شرارةً كان من المرجح أن تتحوَّل إلى جحيمٍ مُستعر لو وُجِدَت مجموعة كبيرة من الشباب لتؤججها. ولكن لمَّا أخمِدَ الوقود البشري المحيط بها بسبب هيمنة الأشخاص الأكبر سنًّا، فإنها تلاشَت ببساطة. لذا نجد أن نوعية المجازر التي عانتها رواندا في أوائل تسعينيات القرن الماضي لا تحدُث في أماكن مثل بورتبو.

وليس المهم هنا هو عدد الشباب في أي بلد، بل النسبة بين الفئات الشبابية والفئات الأكبر سنًّا.10 فإذا نظرنا إلى الأرقام المطلَقة، نجد أن الشباب في ألمانيا أكثر من الشباب في جواتيمالا، لكنَّ هذا ليس هو المهم؛ لأنَّ عدد سكان ألمانيا الإجمالي أكبر بكثير. فما يجعل جواتيمالا أعنف من ألمانيا، على الأقل في سياق تفسير الفرق بينهما بناءً على العمر، هو أن عدد السكان العشرينيِّين في جواتيمالا يبلغ ضِعف عدد السكان الأربعينيِّين هناك. أمَّا في ألمانيا، فإن عدد السكان الأربعينيِّين والخمسينيِّين أكبر بنحو ٥٠ في المائة ممَّن تقل أعمارهم عن العشرين.11 لذا يُعَد العمر الوسيط مقياسًا مفيدًا؛ لأنه يُحدد موضع مركز الثقل الديموغرافي في السكان، وكلَّما كان ذلك المركز يقع عند سِنٍّ أكبر، كان المجتمع أكثر استقرارًا على الأرجح. إذ يبدو أن السكان الأكبر سنًّا يكبحون جماح صغارهم، في حين أن غياب هذا القيد يسمح لجموح الشباب بالهيمنة على المجتمع.
ويبدو أيضًا أن مركز الثقل الديموغرافي هذا يُبين شيئًا عن الثقافة. فبعض الملاهي الليلية في المملكة المتحدة كانت قد بدأت تُغلَق بالفعل حتى قبل جائحة كوفيد-١٩ بفترة طويلة.12 وإذا كان الشباب ينامُون في وقت أبكر، ويشربون الكحول بمعدَّل أقل ويُمارسون الجنس مرات أقل، فربما يرجع ذلك إلى أن انخفاض نسبتهم في المجتمع أفقدهم هيمَنتهم على الثقافة. بل صاروا يتأثَّرون بكبار السن الأكثر عددًا. ومن ثَم يبدو أن عصر ثقافة الشباب قد وُلِدَ مع جيل طفرة المواليد وتلاشى مع دخولهم مرحلة الشيخوخة.

غير أنَّ ذلك لا يُفسر سبب ارتباط الشباب بالعنف والحرب. وصحيح أننا عادةً ما ننظر إلى الرابط بين الشباب والاضطرابات الاجتماعية، وبين مرحلة منتصَف العمر والشيخوخة والهدوء الاجتماعي، على أنه شيء مفروغ منه، لكن هذا الرابط له تفسيران مُقنعان جدًّا يتعلقان بالاختلافات البيولوجية والاجتماعية بين الأجيال.

إذ يشهد الدماغ البشري تغيُّرات بيولوجية بين سن البلوغ ومنتصَف العمر لأسباب تطورية وجيهة. ولا يستغرب آباء الأطفال المراهقين من أنَّ الأبناء في هذه السن عادةً ما يكونون أكثر مزاجيةً واندفاعًا من البالغين. وهنا يُخبرنا العلماء بأن جسم المراهق يحمل مستويات عالية من التستوستيرون والإستروجين والبروجسترون، ما يؤدي به إلى اتخاذ ردود فعل انفعالية ومتقلبة.13 وغالبًا ما يتأثر الشباب بشبابٍ آخرين مثلهم أكثر ممَّا يتأثرون بتوجيهات آبائهم وأمهاتهم المُقيِّدة.14
وهذه السِّمات عادةً ما تجعل المراهقين أعنف وأكثر ميلًا إلى المخاطرة. فاحتمالية تورُّط السائقين الشبان في حوادث الطرق الجسيمة أعلى ستِّ مرات مما يتماشى مع نسبتهم من إجمالي السكان الذين يقودُون مركبات في المملكة المتحدة.15 وتجدر الإشارة هنا إلى أن ارتفاع احتمالية تسبُّب الشبان في حوادث السيارات16 لا يرجع فقط إلى قلَّة خبرتهم مقارنة بالأكبر سنًّا، بل أيضًا إلى وجود اختلافات كيميائية وبيولوجية في أدمغتهم تُؤثر في قراراتهم الفورية. لذا فأقساط التأمين المرتفعة التي تُفرَض على السائقين الشباب ليست اعتباطية إطلاقًا، بل قائمة على تقدير المخاطر بحسابات فعلية.

وكذلك لا ننسَ الحقيقة البيولوجية الأساسية التي مفادها أنَّ الناس غالبًا ما يُصبحون أضعف بدنيًّا مع التقدم في السن. فحين ينشب شجار بين فرد في ذروة قوته البدنية وآخر يقترب من منتصَف العمر، عادةً ما تكون الأفضلية للأول. لذا فحالما يتجاوز الفرد مُنتصَف الثلاثينيات، يحاول حل النزاعات بطرقٍ أخرى غير استخدام القوة؛ لأنه يعرف أنه لا يحظى بأفضلية في هذا الجانب.

وخلال العشرينيات من العمر، يستمر تطور مناطق الفص الجبهي المرتبطة بضبط النفس واتخاذ قرارات مدروسة والتخطيط وتقدير المخاطر. ونتيجة ذلك أنَّ الشخص الثلاثيني يكون أقل إقدامًا من الشخص العشريني على اتخاذ القرارات الاندفاعية المتهورة التي، عندما تُتخذ بإقبالٍ جماعي، يمكن أن تحوِّل المسيرة الاحتجاجية إلى أعمال شغب، والشغب إلى حرب أهلية.

والتغيُّر الآخر الذي يطرأ كلما اقتربنا من منتصف العمر هو أننا نتحمَّل مسئوليات شخصية. فالشاب البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا الذي يمارس أعمال شغب في الشارع قد يرى أنه ليس لديه شيء ليخسره؛ لكنه بعد عشر سنوات أو خمس عشرة سنة سيجد نفسه منشغلًا بالتفكير في مجموعة أكثر تعقيدًا من المصالح الشخصية. إذ سيُحدِّث نفسه قائلًا: من سيدفع الرهن العقاري إذا أصابني مكروه؟ من سيُجهِّز الطعام لأطفالي؟ إذا قُبض عليَّ ووُصِم سجلِّي بسابقة جنائية، فهل سأفقد وظيفتي؟ فالناس في الثلاثين غالبًا ما يكونون مُستقرِّين في علاقات طويلة الأمد. وفي الأربعين يكونون مُحمَّلين بالتزاماتٍ أخرى على الأرجح. وهكذا يُمكننا أن نرى أنَّ الرابط بين الشباب والعنف له تفسير اجتماعي وتفسير بيولوجي أيضًا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الناس غالبًا ما يحظون بعلاقات جنسية مستقرة ومستدامة مع تخطيهم بدايات سنِّ البلوغ، وأغلب هذه العلاقات يُكَلَّل بالزواج. وفي المجتمعات التي تنظر بنفورٍ إلى ممارسة الجنس قبل الزواج، يُعاني الكثير من الشباب إحباطًا جنسيًّا. ففي الشرق الأوسط، وبسبب تكلفة السكن في المجتمعات التي تزداد تحضرًا، وارتفاع معدَّلات البطالة وتكلفة المهر، يتزوَّج الشباب في سنٍّ أكبر مُقارنةً بالأجيال السابقة. فأغلب الشباب في الشرق الأوسط لا يتزوَّجون قبل أوائل الثلاثينيات، مُتأخِّرين بذلك عن سن الزواج في كل مناطق العالم الأخرى تقريبًا. وهذا، مع وجود المحظورات المحيطة بممارسة الجنس دون زواج، يُؤدي إلى بركانٍ صامتٍ من الإحباط الجنسي الذي قد يكون سببًا في الكثير من عِلل المنطقة. وكما كتب أحد المعلِّقين: «حينما يجد الشباب العاطلون العازبون ذوو التعليم الجامعي أنفسهم غاضبين وليس لديهم شيء آخر يفعلونه، يلجأ الكثير منهم إلى الاحتجاج السِّلمي — أو النضال المُسلح، وهذا أسوأ — وبذلك يُشكِّلون تهديدًا حقيقيًّا لأمن الأنظمة العربية.»17

وعادةً ما تتغيَّر حسابات الربح والخسارة الشخصيَّين مع تقدُّم الفرد في العمر، ما يؤثر في سلوكه. فحينما يقترب الناس من مُنتصَف العمر، تكون لديهم مصلحة أكبر في بقاء النظام. فانهيار النظام الاجتماعي والمالي قد يؤدي إلى فقدان المُدخرات المالية الصغيرة. والحرب قد تسفر عن تدمير رأس المال المادي الذي قد يكون للشخص الثلاثيني مصلحة مادية فيه، كمنزلٍ أو متجرٍ أو مشروع تجاري على سبيل المثال. أما الشباب اليافعون، الذين لا يملكون أيَّ مدخرات مالية أو ممتلكات ذات قيمة كبيرة، فقد يرَون تغيير النظام القائم مغامرة أو حتى فرصة واعدة. لذا فمن المتوقع — منطقيًّا — أن الأماكن التي يسود فيها الجيل الأكبر سنًّا تكون أكثر استقرارًا وأقل استعدادًا لزعزعة الأوضاع.

أبناء ومحاربون

وثمَّة تفسير آخر لانخفاض النزعة إلى الحرب بين السكان كبار السن؛ فارتفاع العمر الوسيط يأتي نتيجةً لقلة إنجاب الأطفال، ويبدو أن هؤلاء الأشخاص الذين لديهم أطفال أقل يكونون أكثر ترددًا في التضحية بهم من أجل قضية.

قد يبدو الادعاء بأنَّ الأشخاص الذين لديهم الكثير من الأبناء يكونون مستعدين للتخلي عنهم قاسيًا. ولا يتوافق ذلك مع تجربتي الشخصية بالتأكيد؛ فعلى حد علمي، أعرف أنَّ الأشخاص الذين لديهم الكثير من الأطفال يُقدِّرون حياة كل واحدٍ منهم بقدرِ الآباء الذين لديهم طفل واحد أو اثنان فقط. ولكن ربما تشهد المجتمعات، التي يتَّسم أغلب أفرادها بقلة عدد أطفالهم، انتشارَ أولوياتِ هؤلاء الأشخاص إلى أن يتأثَّر بها الأفراد القليلون الذين لديهم الكثير من الأطفال. أمَّا في الأماكن التي تتَّسم فيها مُعظم الأسر بكثرة الأطفال، فربما تكون المواقف المُتبناة مختلفة تمامًا؛ فلا شكَّ أنَّه في الأماكن التي تنجب فيها أغلب النساء ثلاثة أو أربعة أطفال، تبدو غريزة الحماية لديهنَّ أقل شيوعًا ويبدو المجتمع أكثر عدوانية وميلًا إلى الحرب. ومن ثَم يمكن القول إن المجتمعات التي تتجنَّب الحرب ليست فقط هي المجتمعات التي يُكبَح فيها جماح الشباب بفعلِ السكان الأكبر سنًّا، وإنما أيضًا تلك التي تُعاني نقصًا في الشباب ولا ترغب في التضحية بهم. ويُشير المُنظِّر الألماني جونار هاينزون إلى أنَّ الشباب في الأماكن التي يوجد فيها جيلٌ شبابي كبير العدد «غالبًا ما يَقضي بعضهم على بعض أو يُقتلون في حروب عدوانية إلى أن يتحقَّق توازنٌ بين طموحاتهم والحيِّز المقبول المتاح لهم في مجتمعهم.» ويؤكد أنَّ الحروب الأهلية التي نشبَت في الجزائر ولبنان في أواخر القرن العشرين شهدت «توقُّف القتال لأن المجتمع لم يعُد يشهد إنجاب المزيد من المحاربين.»18 (ولكن ينبغي أن نتذكَّر هنا أنَّ الشباب غالبًا ما يُرسَلون إلى القتال بأوامر من رجالٍ أكبر سنًّا.)

قد يبدو غريبًا أن نتصور أنَّ الناس يستجيبُون للمُحفزات الديموغرافية كما لو كانوا فئرانًا في تجربة، ولكن يبدو أن نظرية هاينزون تنطبق في أماكن مثل لبنان. ففي عام ٢٠٠٦، اشتبكت إسرائيل مع جماعة حزب الله اللبنانية المسلحة في حرب قصيرة وفوضوية وغير حاسمة. واليوم أصبح عدد مقاتلي حزب الله ضئيلًا بعدما تكبَّد خسائر كبيرة في معركته ضد جماعات المعارضة السورية على مدار العقد الماضي. ويعاني الحزب نقصًا في عدد المنضمِّين الجدد إليه من المسلمين الشيعة اللبنانيين، الذين يُصبحون أكثر تحضرًا ويُنجبون أطفالًا أقل. بل إنَّ معدل الخصوبة اللبناني الذي كان يقترب من ضِعف المعدل الإسرائيلي في عام ١٩٦٠ أصبح لا يكاد يبلغ نصفه. بعبارة أخرى، عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في سبعينيات القرن الماضي، كان الرجل العشريني واحدًا من بين ثلاثة إخوة وواحدًا من بين ستة أولاد في الغالب. أمَّا اليوم، فأصبح الرجل اللبناني العشريني واحدًا من بين ولدَين فقط في الغالب.

ومن المرجَّح أن يكون هذا هو السبب الذي جعل حزب الله يختار الحفاظ على الهدوء على حُدوده مع إسرائيل طوال الأعوام الخمسة عشر الماضية، على الرغم من الهجمات الإسرائيلية في سوريا. ومن ثَم يبدو أن شيخوخة السكان اللبنانيِّين وقِلة الشبان الجاهزين لحمل السلاح يُسهِمان في حالة السلام داخل لبنان وجارتها الجنوبية، في حين أن تغيُّر عقلية الأمهات اللواتي أصبحنَ يُفضِّلن إنجاب طفلٍ واحد بدلًا من ثلاثة أو أربعة قد يكون عاملًا مساعدًا أيضًا. فالجماعة التي يبلغ معدَّل خصوبة أنصارها اثنين تقريبًا، وتكبَّدت خسائر كبيرة في السنوات الأخيرة، لا يمكن أن تخوض الكثير من الحروب. ومثلَما استمرت حالة السلام الهشِّ داخل لبنان نفسه، استمرت أيضًا على الحدود بين إسرائيل ولبنان، على الأقل حتى وقت كتابة هذه السطور.19
وعلى المستوى العالمي، فربما تستمر هيمنة الولايات المتحدة على العالم لأنَّ سكانها يشيخون بوتيرة أبطأ من مُنافستَيها السابقتَين (ألمانيا واليابان) والحاليتَين (الصين وروسيا). وأيًّا كانت القوة التي ستتفوق في النهاية، فإنَّ حقيقة أنَّ كل القوى الكبرى في العالم تمر بمرحلة من الشيخوخة السكانية تُعَد أحد أسباب قلة النزاعات الكبرى في العقود الأخيرة.20 بل إنَّ بعض المُنظِّرين وصلوا إلى حدِّ الحديث عمَّا يُوصَف بمصطلح «سلام الشيخوخة الأمريكي».21

الهندسة الديموغرافية: استراتيجيات السكان في النزاعات العرقية

من الواضح أنَّ احتمالية نشوب الحرب تكون أكبر حين يكون السكان أصغر سنًّا، وتُصبح أضعف حين يكون السكان أكبر سنًّا، لكن العكس أيضًا صحيح. فبالإضافة إلى تأثير الديموغرافيا في تشكيل النزاعات، يمكن أن تتغيَّر التركيبات السكانية، في حالات النزاع، بفعلِ ما يُسمَّى الهندسة الديموغرافية.

تُعرَف الهندسة الديموغرافية بأنها السعي المتعمَّد من الجماعات العرقية إلى حيازة الأفضلية الديموغرافية في حالات النزاع. وربما تسعى إليها كغاية بحد ذاتها، أو وسيلة لبسطِ نفوذٍ سياسي أو عسكري.22 إذ تُحاول الجماعة — خلال النزاع — تعزيز نفوذها بتسيير الأحداث على نحوٍ معيَّن بحيث تتزايد أعدادها مقارنةً بأعداد خصومها. فكثرة الأعداد في الماضي كانت تُتيح أفضلية للجماعة في الشوارع أو في ساحة القتال؛ أمَّا في العصور الأحدث، فأصبحت الهيمَنة العددية تُعطي أفضليةً في صناديق الاقتراع، التي صارت هي مسرح تحديد النفوذ. وهذا مهم بالأخص في المناطق التي تقوم فيها الأحزاب السياسية على أسُس عِرقية، كما هي الحال في مُعظم أنحاء العالم.
هذا ويُمكن أن تكون الهندسة الديموغرافية «قاسية» أو «ليِّنة».23 يتضمَّن النوع القاسي تغيير التوازن الديموغرافي بإحداث تأثيرٍ مباشرٍ في السكان أنفسهم؛ أمَّا النوع الليِّن، فيتضمَّن تغيير التوازن الديموغرافي بوسائل أخرى، كإزاحة الحدود المكانية على الخريطة أو حدود الهوية. ربما يبدو هذا الكلام مبهمًا بعض الشيء، لذا يمكن أن نستعين هنا بأمثلة واقعية.
لنضرب مثلًا برومانيا تحت الحكم الشيوعي في عهد نيكولاي تشاوشيسكو بين ستينيات القرن الماضي و١٩٨٩. كان تشاوشيسكو حريصًا على زيادة سكان رومانيا، لذا كان مُستاءً من معدل الخصوبة المنخفض الذي كان لا يكاد يبلغ ٢ في أوائل ستينيات القرن الماضي. وعلى غرار إيطاليا في عهد موسوليني قبل ذلك ببضعة عقود، حددت الحكومة عددًا مستهدفًا ينبغي أن يصل إليه عدد سكان البلاد.24 غير أنَّ تشاوشيسكو أراد في الوقت نفسه تعزيز انتشار العِرق الروماني في بلده. صحيح أن هجرات الناس بأعدادٍ كبيرة في نهاية الحرب العالمية الثانية كانت قد أدَّت إلى تعزيز التجانُس العرقي في البلدان الأوروبية الشرقية والوسطى؛ إذ طُرِد ملايين الألمان من بولندا وتشيكوسلوفاكيا، على سبيل المثال.25 لكنَّ ترانسيلفانيا ظلَّ فيها عددٌ كبير من السكان المجريِّين، وكانت رومانيا تضم عددًا كبيرًا نسبيًّا من اليهود وطائفة الروما (الغجر)، وكانت العديد من البلدات والقرى في البلد تعجُّ بأغلبية ألمانية بين سكانها.
لذا فمع أن وسائل منع الحمل وعمليات الإجهاض حُظِرَت في ١٩٦٦، ما أدَّى إلى ارتفاع معدل المواليد، يقال إنَّ السلطات الرومانية غضَّت الطرف عن عمليات الإجهاض في المناطق التي كانت ذات أغلبية غجرية أو مجرية.26 بل واتخذت تدابير أكثر صراحة؛ إذ سمحت لذوي العِرق الألماني واليهودي بالهجرة إلى ألمانيا وإسرائيل مقابل مبلغ مالي، ما حقَّق للنظام فائدة مُزدوجة من منظوره؛ إذ كسب عملة أجنبية، وعزَّز الوحدة العِرقية في البلاد. وهكذا فمن خلال المحاباة في تعزيز معدَّل المواليد لدى عِرقٍ بعينه ودفْع بعض السكان إلى الهجرة، هُندِسَت التركيبة الديموغرافية في رومانيا بما يتماشى مع أهداف الحكومة المنحازة إلى ذلك العِرق؛ وصحيح أن هذا جدير بالاستنكار، لكنه أخفُّ وطأةً من نهج الهندسة الديموغرافية القاسية الأكثر وحشية: الإبادة الجماعية.

تُعَد الحالة الرومانية مثالًا واضحًا على الهندسة الديموغرافية القاسية، ولكن في أيرلندا الشمالية، استخدمت السلطات مزيجًا من أساليب قاسية وليِّنة. من ناحية التدابير القاسية، كانت السلطات الاتحادية حريصةً على ضمان ألَّا تقل نسبة البروتستانت إلى الكاثوليك في أيرلندا الشمالية عن اثنين إلى واحد تقريبًا. ومن أجل ذلك اتَّبعت سياسات معينة في الإسكان والتوظيف دفعت أعدادًا كبيرة من الكاثوليك إلى الهجرة، علمًا بأنهم كانوا يتَّسمون بمعدل مواليد مرتفع أيضًا. وبينما قد يرى البعض أن هذا نتيجة للمُمارسات الدينية، فإن معدلات المواليد المقابلة لدى الكاثوليك جنوب الحدود كانت أقل، مع أن الحصول على وسائل منع الحمل هناك كان أصعب.

ومن ثَم يشير ارتفاع معدل المواليد لدى كاثوليك الشمال عن نظيره لدى كاثوليك الجنوب إلى أن الصراع كان عاملًا مساهمًا. وحتى ستينيات القرن الماضي، كانت معدلات الهجرة الكاثوليكية العالية مصحوبة بعددٍ أكبر من المواليد الكاثوليك، وبذلك ظلَّ كلا العاملين يُلاشي تأثير الآخر تقريبًا.27 ولكن حالما توقفوا عن الهجرة بأعدادٍ كبيرة، بدأت نسبتهم بين السكان تزداد.
وكذلك يتجلَّى مثال على الهندسة الديموغرافية الليِّنة، أي التي يتغيَّر فيها التوازن الديموغرافي دون المساس بمعدلات المواليد أو الوفيات أو الهجرة، في إنشاء دولة أيرلندا الشمالية. فعندما سَعَت أيرلندا إلى الاستقلال، قررت الحكومة البريطانية وحزب أولستر الاتحادي أنَّ الجزء الشمالي الذي يمكن الاحتفاظ به على حِدة ضمن أراضي المملكة المتحدة يجب ألَّا يشمَل كل مناطق أولستر التقليدية. لذا ضحَّى الاتحاديون بمقاطعات دونجال وموناغان وكافان، ليضمنوا وجود أغلبية بروتستانتية مُستدامة في الجزء الشمالي، ويضمنوا السيطرة على برلمانه في ستورمونت.28

تُوضِّح دراسات الحالة المذكورة أعلاه كيف يمكن للاستراتيجيات السكانية تشكيل الصراعات. إذ يكشف المنظور الديموغرافي خبايا جديدة عن العديد من الصراعات في مناطق مختلفة، بدءًا من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا، وكذلك في أماكن أخرى مُفاجئة كالولايات المتحدة.

الدافع الثوري

مثلَما أنَّ احتمالية مشاركة السكان ذوي الأغلبية الشبابية في الحروب عادةً ما تكون أكبر، فإن احتمالية مشاركتهم في الثورات أيضًا تكون أكبر. وفي بدايات مرحلة التحوُّل الديموغرافي، عادةً ما يُصبح أغلب السكان صغارًا لأنَّ الرضع والأطفال الصغار الذين كانوا يموتون مُبكرًا في السابق يبقون على قيد الحياة. يتجلَّى ذلك في بلدان مثل مالاوي، حيث يتراوح معدل وفيات الرضع بين ثُلث ورُبع ما كان عليه في أواخر الثمانينيات. إذ انخفض العمر الوسيط بنحو سنة تقريبًا ثم بدأ يرتفع مع ازدياد العمر المتوقَّع. وكما رأينا في الفصل الأول، أدَّى الانخفاض الشديد في معدَّل وفيات الرضَّع في إقليم مايوت الفرنسي إلى انخفاض العمر الوسيط بمقدار ١٥ عامًا، وقد لوحظ تأثير مُماثل في الماضي البعيد. فعندما بدأ التحوُّل الديموغرافي في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، امتلأت الشوارع بشبابٍ كانوا سيمُوتون في طفولتهم لو وُلِدوا في عصور سابقة.

كانت روسيا في عام ١٩١٧ بلدًا ذا أغلبية شبابية، وكان ذلك يتجلَّى في ثوَّارها: فزعيمهم لينين كان تحت سن الخمسين، فيما كان ستالين وتروتسكي تحت سن الأربعين. وكانت الطبقات السُّفلى من الهرم الثوري تعج بأفراد عشرينيِّين كثيرين يشغلون مناصب سُلطوية؛ وبذلك كانوا مختلفين تمامًا عن الثوار الشائخين الذين صاروا، بعد ذلك بنحو سبعين عامًا، يتزعَّمون مجتمعًا شائخًا. وكذلك في إيران، عندما خرجت الجماهير الغفيرة إلى الشوارع في عام ١٩٧٩، كان العمر الوسيط أقل من عشرين عامًا. وإذا بدا أنَّ حماستهم الثورية تضاءلت، فربما لأن العمر الوسيط الإيراني أصبح الآن فوق الثلاثين ويزداد بسرعة.

ومع انتشار الشيخوخة في المجتمعات، لا تقلُّ الثورات السياسية فقط؛ بل تقلُّ الثورات الثقافية أيضًا؛ وذلك بسبب العوامل البيولوجية والاجتماعية نفسها. لذا لا عجب في أنَّ الاضطرابات التي شهدها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية قد بلغت ذروتها خلال أواخر ستينيات القرن الماضي، عندما كان أول أطفال جيل طفرة المواليد يدخلون سن الشباب. ففي تلك الفترة التي شهدت الحَراك المؤيد للحقوق المدنية والاحتجاجات المناهِضة لحرب فيتنام وانتشار الاضطرابات في الجامعات، كان العمر الوسيط الأمريكي أقلَّ من ثلاثين عامًا؛ أمَّا اليوم، فهو يقترب بسرعة من سن الأربعين. صحيح أنَّ الجامعات ربما ما زالت بؤرًا للمُعارضة، لكنها أصبحت نادرًا ما تشهد احتجاجاتٍ عنيفة. بل إنَّ وصول جيل طفرة المواليد إلى سن التقاعد قد أسفر عن تحوُّلات ثقافية أخرى. ففي عام ٢٠١٨، أعلنت مجلة «نيو ميوزيكال إكسبريس» في بريطانيا التوقُّف عن إصدار نسختها المطبوعة بعدما ظلَّت تَصدُر طوال ٦٦ عامًا، بينما ازدادت الرحلات البحرية التي عادةً ما يكون أغلب روَّادها من كبار السن والملحقات اللامعة التي تُصدرها الصحف عن إدارة دخل التقاعُد، علمًا بأنَّ ازدياد الرحلات قد استمر حتى تفشي جائحة كورونا على الأقل.29 وهكذا يبدو أن موضع مركز الثِّقَل الثقافي والسياسي أيضًا قد تغيَّر.

وقد تكرَّرت الظاهرة نفسها في الصين، حيث تزامن لهيب الثورة الثقافية — تقريبًا — مع الانتفاضات الشبابية في باريس وبيركلي، في وقتٍ كان يشهد طفرةً كبيرةً في أعداد السكان الشباب. إذ ركَّز ماو على استقطاب جمهور شاب، وهكذا حافظ على سلطته بتقويض نفوذ أعضاء الحزب القدامى الأكبر سنًّا. فبحلول ستينيات القرن الماضي، كان العمر الوسيط في الصين قد انخفض من أوائل العشرينيات إلى أواخر سن المراهقة؛ وذلك بفضل انخفاضٍ كبيرٍ في وفَيات الرضع. وتعرَّض معلمون وأساتذة جامعيون للضرب والقتل، ووقعت اعتداءات عنيفة على بيروقراطيِّين ومسئولين باسم التغيير الثوري، الذي كان حراكًا يستهدف القضاء على «العادات والتقاليد القديمة السيئة» المتجسِّدة في كبار السن. أمَّا اليوم، فصار حال الصين كحال الولايات المتحدة؛ إذ يقع العمر الوسيط الصيني في أواخر الثلاثينيات ويتزايَد بسرعة. وبذلك فمهما كان ما يُمكن أن نتوقَّعه من الصين، يمكننا أن نؤكد أنها لن تشهد ثورات ثقافية أخرى.

الجريمة والعقاب

تبدو العلاقة بين العمر والإجرام بديهية جدًّا إلى درجة أننا قلَّما نفكر فيها. فما زلنا نستغرب حين نجد كبار السن يرتكبون جرائم، باستثناء تلك التي تندرج تحت فئة «جرائم ذوي الياقات البيضاء» المميزة. ففي عام ٢٠١٥، نفَّذت مجموعة من رجال متوسط أعمارهم ٦٣ عامًا عملية سرقة مدروسة بعناية في حي هاتون جاردن لصاغة الجواهر في لندن.30 وصحيح أنَّ هذه جريمة تتطلَّب خبرة وتخطيطًا دقيقًا، ولكن مع ذلك كان عمر المجرمين مفاجئًا جدًّا وأكسبهم شهرةً محدودة، فيما أنتِجَ فيلمان عن إنجازاتهم.31 وعندما نسمع عن حادثة طعن في وسط المدينة، نفترض دائمًا أن المعتدي ذكر في سن المراهقة أو في أوائل العشرينيات؛ ودائمًا ما نكون محقِّين في افتراضنا. فنصف جرائم الطعن بالسكين في لندن يرتكبها مراهقون أو أطفال.32
fig9
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، (التوقعات المتوسطة).

مع تراجع معدلات الخصوبة وازدياد متوسط العمر المتوقع، تزداد نسبة كبار السن في المجتمعات، ويتجلَّى ذلك بأوضح صورة عند تتبُّع العمر الوسيط للسكان. ففي العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبعض الدول الآسيوية مثل اليابان، يتجاوز العمر الوسيط أربعين عامًا بالفعل. وفي الصين، حيث كان العمر الوسيط لا يكاد يبلغ العشرين في أوائل السبعينيات، صار يقترب بسرعة من الأربعين.

وفي البلدان الأقل تقدُّمًا مثل تشاد، من المفترض أن تتزايَد نسبة الشباب في البلاد نظرًا إلى الانخفاض السريع في معدَّل وفيات الرضع مع استمرار ارتفاع معدلات الخصوبة. ولكن حتى هنا، نجد أن الاتجاه قد بدأ يَنعكِس مع ارتفاع مُتوسط العمر المتوقَّع تدريجيًّا وبدء انخفاض معدلات الخصوبة.

ولكن على غِرار الحروب أو الثورات، لا يُمكن إرجاع كل أسباب الجريمة إلى العمر فقط. فلو كان صِغَر السن يُسبِّب الجريمة، لوجدنا أغلب الشباب في مُعظم المجتمعات غير ملتزمين بالقانون. غير أنَّ احتمالية مشاركة الشباب في الجرائم مرتفعة جدًّا بالفعل مُقارنة بالفئات العمرية الأخرى؛ وذلك للأسباب التي ناقشناها سلفًا، والتي تتمثَّل في مزيجٍ من الاندفاع البيولوجي واقتناعهم بعدم وجود ما يخسرونه ووجود مكاسب مُحتمَلة يمكن أن ينالوها.

وليسَت كل المجتمعات الشابة مليئة بالعنف، لكنَّ كل المجتمعات العنيفة تقريبًا مجتمعاتٌ شابة. فإذا نظرنا إلى بنجلاديش والسلفادور مثلًا، يُمكن أن نرى أنهما دولتان شابتان نسبيًّا، لكنهما مُتفاوتتان تمامًا في معدَّل جرائم القتل؛ فمعدل جرائم القتل في السلفادور أعلى بنحو ٣٠ مرة من نظيره في بنجلاديش.33 ولكن مع أنَّ المجتمعات الشابة ليست «كلها» عنيفة، فلا توجد بلدان يجتمع فيها ارتفاع معدلات القتل مع ارتفاع العمر الوسيط. وفي حين أنَّ أغلب البلدان التي يتَّسم معظم سكانها بكِبَر السن غنية، فإن بنجلاديش والعديد من البلدان الأخرى، من مالاوي إلى فيتنام، تُثبت أن الفقر النسبي لا يؤدي بالضرورة إلى العنف. وفي الواقع، يبدو أنَّ سِن الشباب يُعَد مؤشرًا أدقَّ بكثيرٍ من الفقر في التعبير عن معدَّلات العنف.
هذا وما زالت معظم مناطق أمريكا اللاتينية تتسم بالعنف وما زالت شابة، لكن القارة ككل بدأت تَشيخ. ففي المكسيك مثلًا، ارتفع العمر الوسيط من ١٧ عامًا إلى ٢٨ عامًا في العقود الأربعة الماضية، لكن معدل العنف هناك ما زال مرتفعًا. صحيح أنَّ التغيرات الديموغرافية يُفترض أنها تساعد السلطات المكسيكية لعلاج تلك المشكلة، لكن جهودها تتعرقل بسبب نقص الكفاءة واستشراء الفساد. وإذا أردنا مثالًا أقرب إلى موطني، فتجدر الإشارة إلى أن البلدة التي تتَّسم بأعلى معدل لجرائم القتل بين البلدات الثلاثة والثلاثين في لندن هي صاحبة ثاني أصغر عُمرٍ وسيط، في حين أنَّ البلدتين اللتين تتَّسمان بأدنى معدلات القتل تقعان بين البلدات الأكبر سنًّا.34 فما ينطبق على مستوى الأفراد والأمم ينطبق أيضًا على المستوى المتوسِّط بينهما الذي يضم البلديات أو المناطق.
ومع أنَّ جرائم الطعن بالسكين في مدننا الكبرى تلقى اهتمامًا كبيرًا، فإن الكثير من دول العالم المتقدم قد شهدت انخفاضًا في جرائم العنف منذ تسعينيات القرن الماضي. وتشير بعض المؤلَّفات المُتقنة إلى أنَّ انخفاض معدلات الجريمة في نيويورك منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي يرجع إلى تخفيف قيود قوانين الإجهاض وما ترتَّب على ذلك من زيادة انتشار الإجهاض، ما أدَّى إلى عدم إنجاب العديد من الأطفال الذين كان من الممكن أن يصبحوا مجرمين.35 وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الفرضية المثيرة للجدل والمُسماة بفرضية دونوهيو وليفيت، فإنَّ البعض عزا انخفاض الجريمة إلى انخفاض نسبة الشباب في المجتمع، بينما يدَّعي آخرون أنه أكثر ارتباطًا بأن الشباب أصبحوا أقل ميلًا إلى ارتكاب جرائم العنف.36 وحتى إذا صحَّت هذه الفرضية الثانية، فإن التأثير الكابح الذي تفرضه النسبة المتزايدة من كبار السن يمكن أن يكون أحد أسباب هذا التغيير. وفوق ذلك، فالمجتمعات الأكبر سنًّا ليست أكثر سِلمًا وذات معدلات جريمة أقل فحسب؛ بل إنها أيضًا تتيح ظروفًا أنسب لتحقيق الديمقراطية.37

بينما كنت أحتسي قهوتي بجانب سكان بورتبو المتقاعدين في يومٍ معتدلٍ من أكتوبر، وأقارن الأجواء الهادئة هناك بالتوتر الذي شَعُرتُ به في إسرائيل عشية الانتفاضة الأولى، لم يبدُ لي أن هذا المكان على وشك الانزلاق نحو هاوية العنف. وبينما يتَّجه العالم كله إلى شيوع الشيخوخة بين سكانه، يُفترض بذلك أننا نتَّجه إلى عالمٍ أكثر سلامًا، خصوصًا وأنَّ تيار التغيرات الديموغرافية يُعزز الانخفاض العام في معدلات العنف. لكنَّ ارتفاع العمر الوسيط مرتبط ارتباطًا كبيرًا بتمديد متوسط العمر المتوقع؛ والتزايُد المستمر في نسبة كبار السن بين السكان سيُحدِث في العالم تأثيرًا أكبر بكثير من مجرد تهدئته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤