الفصل السادس

الهِرَم

٧٩ ألفًا: عدد سكان اليابان الذين تجاوز عمرهم ١٠٠ عام
قد يبدو أن وجود ٧٩ ألفًا من السكان المعمَّرين المئويين ليس شيئًا فارِقًا في بلدٍ يتجاوز عدد سكانه ١٢٠ مليون نسمة. ولكن مع أنَّ هذا العدد البسيط لا يزيد كثيرًا على واحدٍ على عشرين من أصلِ واحدٍ في المائة من إجمالي السكان اليابانيين، أو ما يعادل نحو فردٍ واحد بين كل ٢٠٠٠ شخص، فمن شبه المؤكد أن هذه النسبة هي الأعلى في أي مجتمعٍ على مر التاريخ.1 ولعلَّ مقدارها يُبيِّن لنا شيئًا مهمًّا عن اليابان، وهذا الشيء بدوره يُبيِّن لنا شيئًا مهمًّا عن مستقبل العالم: ألا وهو أنه لن يشهد ارتفاعًا في العمر الوسيط فقط، وإنما في نسبة المسنين أيضًا.
ويُذكر هنا أن ما يقرب من ٩٠ في المائة من المعمَّرين اليابانيين نساء. فعندما توفيت تشيو مياكو أكبر معمَّرة في العالم، في يوليو ٢٠١٨، كانت تبلغ من العمر ١١٧ عامًا. وكانت قد ورثت اللقب من نابي تاجيما عندما تُوفيَت الأخيرة قبلها بثلاثة أشهر. وبعد وفاة مياكو، انتقل اللقب إلى كين تاناكا، وهي «شابة يافعة» عمرها ١١٥ عامًا،2 وما زالت تحمل اللقب حتى وقت كتابة هذا الكتاب. وبحلول الوقت الذي تقرءونه فيه، من المرجَّح جدًّا أن يكون اللقب قد انتقل إلى شخصٍ آخر، ومن شبه المؤكد أنَّ انتقاله سيكون إلى امرأة يابانية أخرى.
غير أن العمر الطويل ليس حكرًا على جنس الإناث فقط، فالفرد الياباني من المرجح أن يعيش عمرًا مديدًا حتى لو كان رجلًا. إذ وُلِد ماسازو نوناكا في يوليو ١٩٠٥ وسُجِّل رسميًّا على أنه أكبر رجل مُعمَّر في العالم في نهاية عام ٢٠١٨؛ وذلك قُبيل وفاته في أوائل عام ٢٠١٩. وقد كان نوناكا في أوائل منتصف العمر بالفعل حينما انخرطت بلاده في حربٍ ضد الولايات المتحدة بعد الهجوم على بيرل هاربور، علمًا بأنه وُلِد إبان الحرب الروسية اليابانية، وتُوفي قبل أشهر من اعتلاء الإمبراطور ناروهيتو العرش. وقال سابقًا إنَّ طول عمره يرجع إلى ولعه بالاستحمام في الينابيع الحارة وتناول الحلوى.3
وينبغي هنا ألا نستغرب أنَّ أكبر النساء والرجال في العالم مُعظمهم يابانيون، لكن المزيد والمزيد من البلدان الأخرى صار يشهد تزايُد أعداد الأشخاص الذين يعيشون حتى سنٍّ كبيرة جدًّا، وازدياد نسبة الرجال بين هؤلاء الأشخاص. فبينما كنت أكتب هذا الفصل، لفتت زوجتي انتباهي إلى إعلان وفاة في النشرة الأسبوعية الصادرة عن أبرشيتنا المحلية يحمل نعيًا لطبيب متقاعد تُوفي عن عمرٍ يناهز ١٠٥ سنوات، ولم ينعه في الإعلان أبناء أحفاد أبنائه فقط، وإنما شقيقتان من أشقائه أيضًا. وصحيح أن الإعلان لم يكشف عن أعمار شقيقتيه فيليس وميري، لكن يستحيل أن تكونا أصغر بكثيرٍ من مائة عام.4 ويُذكر هنا أنَّ أكبر رجل وأكبر امرأة في المملكة المتحدة وقتَ كتابة هذا النص وُلدا هما الاثنان معًا، بالصدفة البحتة، في ٢٩ مارس ١٩٠٨.5
تجدر الإشارة إلى أنَّ الرقم القياسي العالَمي لأطول عمر ليس مسجلًا باسم مواطن ياباني، بل امرأة فرنسية تُدعى جان كالمان، والتي تُوفيت في عام ١٩٩٧ عن عمر يناهز ١٢٢ عامًا. غير أنَّ عالِم الرياضيات الروسي نيكولاي زاك يُكذِّب هذا الادعاء منذ ذلك الحين، زاعمًا أنَّ ابنة جان، وتُدعى إيفون، بدَّلت هُويتها مع هوية أمها، وتُوفيت في عام ١٩٩٧، في حين أنَّ أمها توفيت أصلًا قبل ذلك بثلاثة وستين عامًا.6 وإذا صحَّ ذلك، فإن الرقم القياسي سيعود إلى اليابان، لكن، على أي حال، من اللافت للنظر أنَّ كالمان نشأت في مدينة آرل الواقعة في منطقة بروفنس جنوب فرنسا. إذ تُشتهَر مناطق حوض البحر الأبيض المتوسِّط بطول أعمار سكانها، الذي يُعزى إلى اتِّباع نظام غذائي غنيٍّ بزيت الزيتون وقليل الدهون الحيوانية؛ وهو تفسير أكثر إقناعًا من حُب ماسازو نوناكا لتناول الحلوى. بل إنَّ اثنتَين من المناطق الخَمس التي تُعرَف باسم «المناطق الزرقاء»، وتضمُّ مُعظم الأشخاص الأطول عمرًا في العالم، تقعان في البحر الأبيض المتوسط: وهما جزيرة سردينيا الإيطالية وجزيرة إيكاريا اليونانية. أمَّا الثلاثة الأخرى فهي شبه جزيرة نيكويا في كوستاريكا ولوما ليندا في كاليفورنيا وجزيرة أوكيناوا اليابانية.7

العمر المتوقَّع وازدياد عدد المعمَّرين المئويين

مثلَما يكشف العمر الوسيط معلوماتٍ كثيرة عن المجتمع، فإن متوسِّط العمر المتوقع يمكن أن يُبيِّن الكثير عن كبار السن في المجتمع، خصوصًا حالما يفقد معدَّل وفيات الرضَّع والوفاة في سن الشباب أو الكهولة أهميتهما الإحصائية.

ويُذكر هنا أنَّ أول مَن صمَّم طريقة حساب متوسط العمر المتوقَّع كان قطاع شركات التأمين على الحياة في القرن السابع عشر، حينما كان قطاعًا ناشئًا.8 فمُتوسط العمر المتوقَّع في الأساس هو عكس احتمال الوفاة، لأنه يعتمد على الاحتمالية الإحصائية للبقاء على قيد الحياة، أو عدم الموت. وكما أوضحتُ في المقدمة، يمكن حسابه عند أي سن، ولكن حينما نتحدَّث عن متوسِّط العمر المتوقع، فإننا عادةً نقصد «منذ لحظة الولادة». وفي المجتمعات التي ترتفع فيها معدلات وفيات الرضع، سيكون العمر المتوقَّع للطفل الذي أتمَّ عامه الأول أطول من العمر المتوقَّع لطفل حديث الولادة؛ وذلك لأنه قد نجا بالفعل من السنة الأولى التي يكون معرضًا فيها للموت. وفي معظم البلدان، غالبًا ما يتناقص عدد السنوات التي يُتوقع أن تعيشها كلما تقدمت في السن. وغالبًا ما يُستشهَد ببيانات الرجال وبيانات النساء كلٌّ على حدة بسبب وجود فجوة كبيرة بين الاثنين؛ لأنَّ عمر النساء المتوقَّع عادةً ما يكون أطول.
وعلى مستوى العالم ككل، ارتفع متوسِّط العمر المتوقع من منتصف سنِّ الأربعينيات إلى أوائل سنِّ السبعينيات منذ عام ١٩٥٠، وهو إنجاز هائل وفارق، لكن وتيرة التقدم مُتفاوتة. فأغلب الدول التي حقَّقت أسرع ارتفاع هي تلك التي كانت تتَّسم بأقصر عمر متوقع في منتصَف القرن العشرين، أمَّا الدول التي حققت أعلى ارتفاع، فقد ارتفع فيها العمر المتوقَّع من سن منتصف الأربعينيات إلى سن منتصف الثمانينيات.9 وفي جزر المالديف وعمان وكوريا الجنوبية، ارتفع العمر المتوقَّع بأكثر من أربعين عامًا منذ عام ١٩٥٠؛ أي إنه ازداد في الدولتين الأوليين إلى أكثر من ضِعف قيمته. وعلى غرار معدَّل وفيات الرضع ونصيب الفرد من الدخل، شهدت السنوات الأخيرة تقليص قدرٍ كبير من الفجوة في متوسِّط الأعمار المتوقعة؛ إذ تباطأت وتيرة تقدم الدول المتقدمة بالفعل، بينما أحرزت العديد من الدول التي كانت مُتخلِّفة تقدمًا كبيرًا.

ويُعَد هذا جزءًا من الاتجاه الذي لاحَظناه بالفعل، ورأينا فيه أن مختلف دول العالم تتجه نحو معايير الدنمارك الديموغرافية التي تتَّسم بانخفاضٍ مُعتدل في معدل الخصوبة وانخفاضٍ فائق في معدل وفيات الرضع وارتفاع سائد في متوسط العمر المتوقع. ولنقارن هنا بين كندا وكولومبيا على سبيل المثال. فكندا التي كانت تُبلي بلاءً حسنًا بالفعل في عام ١٩٥٠ صارت تبلي بلاءً أحسن، وارتفع متوسِّط العمر المتوقع فيها من سنِّ أواخر الستينيات إلى سنِّ أوائل الثمانينيات. لكن كولومبيا، التي تُعَد دولة أفقر بكثيرٍ، وكانت في وضعية أسوأ بكثيرٍ في البداية، أحرزت ما يقرب من ضِعف التقدم في الفترة نفسها؛ إذ ارتفع متوسِّط العمر المتوقع فيها من سن أوائل الخمسينيات إلى سن منتصف السبعينيات. وبذلك تقلَّصت الفجوة بين الدولتَين من ثمانية عشر عامًا إلى خمسة أعوام فقط، وهذا لأنَّ حتى الدول التي ما زالت فقيرة تهتم أولًا بالموارد والمرافق التي تُطيل العمر. وكما رأينا في أماكن أخرى، يتقدم العالم النامي بوتيرة سريعة في مرحلة الحداثة، بينما توقف العالم المتقدم عند منتهى ما يمكن تحقيقه في الوقت الحالي، وصار على حافة عصر ما بعد الحداثة.

ويُذكر هنا أن اليابان كانت تُبلي بلاءً حسنًا بالفعل في فترة ما بعد الحرب، بعدما تعافت بسرعة من كارثتَي هيروشيما وناجازاكي وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية. ففي مُنتصَف القرن العشرين، كان مُتوسِّط العمر المتوقَّع في اليابان يقع في أوائل الستينيات بالفعل؛ أي إنه كان أقصر بقليلٍ فقط من كندا ومُعظم دول أوروبا الغربية. ومن بَعدها نجحت في بلوغ الصدارة، بل إنها الآن تجاوزت، مع هونج كونج، أقرب منافسيها. لقد فقد الموت المبكر في اليابان أهميته الإحصائية منذ فترة طويلة؛ وصار ارتفاع متوسِّط العمر المتوقَّع في العقود الأخيرة مُرتبطًا كليًّا بكبار السن.

وعندما يُصبح عدد كبار السن كبيرًا جدًّا، يُحدِث ذلك تأثيرًا عميقًا في كل جوانب المجتمع تقريبًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ اليابان صارت تشهد استخدام كلمة «روجاي» أو (الكبار المزعجين) لوصف كبار السن حينما يزعجون الأجيال الأصغر سنًّا، سواء بتأخير إغلاق الأبواب في مترو طوكيو أو تقديم نصائح غير مرغوب فيها للأمهات الشابات اللواتي يتناقص عددهن.10 وكما قال أجنبي يعيش في اليابان، فإنَّ المصطلح يُعبِّر عن إحباط السكان العاملين من أنهم يُصبحون أقليةً في مجتمع يرَونه مكدسًا بالمتقاعدين.11 ويُشير ذلك إلى تضاؤل احترام المسنِّين الذي كان يومًا ما سِمةً مميِّزةً للثقافة اليابانية.

وإلى جانب الزيادة في متوسِّط العمر المتوقَّع الإجمالي، فإن ازدياد عدد السكان المُسنين جدًّا في اليابان مُذهل. ففي عام ١٩٩٠ فقط، كانت تقديرات الأمم المتحدة تُشير إلى أنَّ اليابان تضمُّ ألفَي شخص فقط من المعمَّرين المئويين، وهو رقم بعيد كل البُعد عن عددهم الحالي الذي يبلغ ٧٩ ألفًا. وبعد خمسين عامًا من الآن، سيكون العدد أكبر من ذلك عشر مرات، في حين أنَّ عدد سكان اليابان ككلٍّ سيكون قد انخفض من أكثر من ١٢٥ مليونًا إلى أقل من ١٠٠ مليون؛ أي تقريبًا كما كان في مُنتصف ستينيات القرن الماضي. صحيح أنَّ المعمَّرين المئويِّين لن يكونوا هُم الأغلبية السائدة على الإطلاق، لكنَّ أعدادهم ستتزايد بوتيرة مُذهلة.

وكما هي الحال في إسبانيا، فإنَّ تركيبة اليابان الديموغرافية وصلَت إلى مرحلة ما بعد الحداثة؛ إذ أصبح معدَّل الخصوبة أقل بكثيرٍ من مستوى الإحلال، بل إنَّ اليابان بلغت حدًّا أبعد حتى، لأنَّ مُتوسِّط معدل الخصوبة في اليابان كان أقل بنحو طفلٍ كامل من المعدل الإسباني حتى فترة قريبة، وتحديدًا في سبعينيات القرن الماضي. ونظرًا إلى أنَّ اليابان تُعد مثالًا متقدمًا على الخصوبة المنخفِضة التي تُميز العديد من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة جدًّا، فإنَّ بلاد الشمس المشرقة تُعبِّر عن مستقبل جزء كبير من العالم.

غير أنَّ ازدياد نسبة كبار السن ليس ظاهرة مستقلة بذاتها، بل ينبغي النظر إليه مع الأرقام التي أبرزتها الفصول السابقة. فأولًا، يمنع المجتمع وفاة أعداد كبيرة من صغاره في سنٍّ مُبكرة، كما هي الحال في بيرو، فيشهد عدد السكان زيادة هائلة، كما يحدث في أفريقيا. ثم يُهاجر العديد من هؤلاء الأشخاص الجدد، الذين لا يستطيعون كسب رزقهم في الريف، إلى مدنٍ تتنامى بسرعة، كما رأينا في الصين، ويتأثَّرون بعادات الخصوبة المنخفضة، على غِرار سنغافورة. والآن، مع قلة وفيات الأطفال المصحوبة أيضًا بقلَّة عدد المواليد، تشيخ هذه المجتمعات، كما رأينا في كتالونيا. وفي النهاية، ترتفع نسبة المسنِّين ارتفاعًا حادًّا، كما هي الحال في اليابان.

وعلى غِرار معدلات الخصوبة في سنغافورة والعمر الوسيط في كتالونيا، فإن عدد المعمَّرين المئويين في اليابان مُهمٌّ بحد ذاته؛ لأنَّ اليابان قوة اقتصادية رائدة لها تأثير عالمي يشمل كل شيء بدءًا من الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي إلى الغذاء. لكنه أيضًا مُهم بصفته مثالًا متطرفًا مُعبرًا عن اتجاه عالمي. صحيح أنَّ اليابان تعتلي صدارة الدول التي تضم عددًا كبيرًا من السكان المسنِّين جدًّا، لكنَّ العديد من الدول الأخرى ليسَت ببعيدة عنها.

ففي المملكة المتحدة مثلًا، ارتفع عدد المعمَّرين المئويين من ٤ آلاف إلى ١٥ ألف بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠١٥، ومن المتوقَّع أن يصل إلى ٢٠٠ ألف بحلول نهاية القرن الحالي. وفي عام ١٩٥٠، كان عدد سكان الصين الذين تجاوزوا الثمانين مليونًا ونصفًا فقط. ولكن بحلول عام ١٩٩٠، ارتفع العدد إلى سبعة ملايين ونصف. وبحلول منتصَف القرن الحالي، سيتجاوَز هذا الرقم ١١٥ مليونًا — أي أكثر من ٨ في المائة من إجمالي سكان البلاد — وبذلك سيكون أكبر ٧٥ مرة ممَّا كان عليه قبل قرن واحد. ونتيجة لذلك، ستكون الصين مختلفة اختلافًا تامًّا عن أيِّ مرحلة سابقة في تاريخها الطويل. وبذلك قد تشهد العقود القادمة امتداد المصطلح الياباني «روجاي» إلى مختلف أنحاء العالم.

الاقتصاد الشائخ

يُمكن أن نعتبر اليابان مُختبرًا للمستقبل؛ وذلك بأن نختبر فيها ما يحدث للمجتمعات عندما تشيخ.12 ففي الوقت الحالي تبلغ نسبة السكان اليابانيين الذين تجاوزوا سنَّ الخامسة والستين ٢٨ في المائة، علمًا بأنَّ هذه أعلى نسبة في العالم وبفارقٍ كبير. ومن المتوقَّع أن تصل إيطاليا إلى هذه النسبة في عام ٢٠٣٠، ثم ألمانيا في عام ٢٠٣٥ تقريبًا، والصين في مُنتصَف القرن، والولايات المتحدة بحلول عام ٢١٠٠، على الأقل وفقًا لتوقُّعات الأمم المتحدة. لم يشهد العالم مجتمعات كهذه قَطُّ، وإذا أردنا أن نعرف حالتها في المستقبل، فاليابان هي أفضل دليل إرشادي لنا.
ومن المفيد هنا أن نستهل استعراض النموذج الياباني بالحديث عن الاقتصاد. فبعدما كانت اليابان نجمًا اقتصاديًّا ساطعًا ذات يوم، أصابها ركود تامٌّ تزامنًا مع وصول عدد سكانها الذين أعمارهم في نطاق سنِّ العمل إلى ذروته في عام ١٩٩٠ تقريبًا.13 وصحيح أنَّ ذلك الانهيار الحاد والمفاجئ ربما كان ناجمًا عن بداية تقلُّص القوى العاملة، فإنَّ عجز البلاد عن التعافي متأثرٌ حتمًا بعاملٍ ديموغرافي؛ فاليابان مُثقَلة منذ فترة طويلة بانخفاضٍ تدريجي في عدد السكان.
فرغم مرور ثلاثين عامًا، لم تتمكَّن سوق الأسهم اليابانية قَطُّ من استعادة الارتفاعات الهائلة التي حقَّقتها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.14 وفي الأعوام الثلاثين الماضية، لم يتجاوَز معدَّل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في اليابان ٢ في المائة إلا خمس مرات فقط، علمًا بأنه كان يتجاوَز تلك النسبة باستمرار طوال الأعوام الثلاثين التي سبقتها باستثناء عامَين فقط.15 وعندما نسمع الاقتصاديِّين يذكرون مصطلح «الركود المزمن»، الذي يعني تباطؤ النمو الاقتصادي على مر فترة طويلة في العالم المتقدِّم، فينبغي أن نذكر أنَّ اليابان تعتلي صدارة هذه المجموعة المنكوبة منذ فترة طويلة؛ وليست مُصادفةً أنها تتصدر اتجاهًا ديموغرافيًّا أيضًا. وفوق ذلك، فتوقف النمو الاقتصادي مصحوب بانخفاض مُستمر في معدلات التضخم؛ إذ لم يتجاوز معدل التضخم السنوي في اليابان ٢ في المائة إلا مرة واحدة في العقود الثلاثة الماضية.16

يبدو هنا كما لو أنَّ علم الاقتصاد المُتعارَف عليه، بما يحمله من مفاضَلاتٍ معقَّدة بين التضخم والبطالة، كان قائمًا على افتراض وجود سكانٍ مُتزايدين ذوي أغلبية شبابية. وعندما لا يعود هذا الافتراض قائمًا، يبدو أن الوضع يئول في أحسن الأحوال إلى نموٍّ ضئيل، ويبدو أنَّ هذا النمو الضئيل، حين يكون مصحوبًا بانخفاضٍ مستمرٍّ في التضخم يُصبح غير متأثِّر بتخفيض أسعار الفائدة والمحفزات المالية الكبيرة. وفي الحقيقة، فإن غياب هذه الإجراءات التحفيزية يُعزز احتمالية حدوث الركود والانكماش.

وفي المملكة المتحدة التي تتزايَد الشيخوخة بين سكانها، صارت النزاعات العُمالية أقل بكثير ممَّا كانت عليه في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي.17 وذلك على الرغم من أنَّ العديد من الاقتصادات صارت تشهد توظيف كل الأفراد المتاحين للعمل تقريبًا، وهذا كان كفيلًا في الماضي بأن يُؤدي حتمًا إلى نضالٍ عُمالي. ومن ثَم يبدو أن الاقتصاد العالمي صار يشيخ هو الآخر مع التركيبة السكانية العالمية.

ويُذكَر هنا أنَّ السبب الأقوى الذي يجعل المجتمعات الشائخة تجد صعوبةً في تحقيق النمو الاقتصادي هو تقلُّص حجم قوتها العاملة. صحيح أنَّ اليابان ربما تكون حالةً متقدمةً، لكنَّ هذا ينطبق أيضًا على دول مثل الولايات المتحدة، التي كانت تتمتَّع — ذات يومٍ — باقتصاد مزدهر يضاهي عدد سكانها المتنامي.

فكِّر في الناتج الاقتصادي على أنه حاصل جمع إنتاجية كل فرد. فكلما كان الناس أكثر، يمكنهم إنتاج المزيد من السِّلع والخدمات، وكلما كانوا أمهر وأفضل تعليمًا، تزداد إنتاجية كل فردٍ منهم. لذا فإن النمو الاقتصادي ينشأ من النمو السكاني والإنتاجية، التي تزداد مع تحسُّن المهارات والمعرفة والتعليم؛ وهذان العنصران معًا يُشكِّلان «رأس المال البشري». ويُشير أحد التحليلات التي أُجريَت للولايات المتحدة إلى أن تأثير التباطؤ في نمو القوة العاملة منذ بداية القرن الحادي والعشرين تجاوز تأثير الزيادة في تعليمها وخبراتها؛ أي إنَّ رأس المال البشري يُسبب تراجع النمو. أمَّا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فيتَّضح أنَّ نمو رأس المال البشري أسهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بأكثر من ١٫٥ في المائة.18

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ زيادة نسبة كبار السن في القوة العاملة لها بعض الفوائد. فالفرد يَصِل إلى ذروة إنتاجيته وقُدرته على الكسب في وقتٍ متأخِّر من حياته المهنية، ما يعني أنَّ القوى العاملة الأكبر سنًّا تكون أكثر خبرة، حتى لو كانت أقلَّ نشاطًا. ومن المرجح أيضًا أن تكون بطبيعتها أقل تصادميةً في مطالبها، وهو ما يمنع الضغوط المؤدية إلى ارتفاع الأجور، والأسعار بالتبعية. وفوق ذلك، فالقوى العاملة التي يتوقَّف عدد أفرادها عن الازدياد لا تجد صعوبةً في الحصول على فرص العمل والاحتفاظ بها. ويبدو، على عكس ما تفترضه النظرية الاقتصادية، أنَّ توظيف كل أفراد القوى العاملة لم يعُد يُفضي إلى مطالب صدامية في أماكن العمل؛ فالعمال الأكبر سنًّا أقل ميلًا إلى التصادم وخوض المجازفات. صحيح أنَّ حركة السترات الصفراء في فرنسا ربما تكون استمرارًا للتقليد الوطني المتمثل في «المظاهرات العامة» وحراك الشارع، لكنَّ بروليتاريا ما بعد الحداثة، إذا سلَّمنا بوجود شيء كهذا أصلًا، لن تؤدي إلى إسقاط الدولة. وكذلك المجتمع الأكبر سنًّا يجلب لرواد الأعمال والشركات فرصًا — وتحديات — مميزة مع تغيُّر أذواق السكان ومتطلباتهم. فبعض الأشياء البسيطة — كتكبير الخط على ملصقات منتجات معينة — يُمكن أن تضيف ميزةً تنافسية.

لقد بدأ التأثير الاقتصادي للشيخوخة السكانية في اليابان وأصبح ينتشر بسرعة؛ إذ ربما تكون التغيُّرات السكانية هي السبب الذي يجعل أسعار الفائدة في الغرب منخفضة جدًّا منذ فترة طويلة جدًّا. فعدد الشباب الذين يدخلون سوق العمل يتضاءل باستمرار. فبحُلول عام ٢٠٥٠، سيكون عدد الإيطاليين الذين تقلُّ أعمارهم عن خمسة وعشرين عامًا نصف ما كان عليه في عام ١٩٨٠. وفي كوريا الجنوبية وصَل عدد السكان العشرينيِّين إلى ذروته منذ نحو عشر سنوات، وبدأ يتناقص وسيكون قد انخفض إلى النصف بحلول عام ٢٠٥٠. وفي تلك الأثناء، تمنع الحكومة نموذجنا الاقتصادي من الانهيار بتقديم أموال شبه مجانية. وربما كنا نتوقع أن ترتفع أسعار الفائدة بفعلِ إقبال كبار السن على بيع سنداتهم لتدبير نفقاتهم بعد التقاعد، ولكن تبين أنَّ القوى الأخرى التي تخفض أسعار الفائدة أقوى.19
هذا وقد بدأنا نسمع الكثير عن «النظرية النقدية في مرحلة ما بعد الحداثة»،20 التي تفترض أنَّ دور الدولة ينبغي ألَّا يظل مُقتصرًا على الاستثمار في أوقات عدم استقرار القطاع الخاص فقط، وإنما ينبغي أن يُصبح دائمًا لرفع الطلب إلى المستوى اللازم لتوظيف كل أفراد القوى العاملة. فالقطاع الخاص صار مُتحجرًا جدًّا إلى درجة أنه لم يعد قادرًا على دفع الاقتصاد من دون دعم حكومي، وهذا يرجع، ولو جزئيًّا، على الأقل إلى أسباب ديموغرافية. فقلَّة عدد الشباب الذين ينضمُّون إلى القوى العاملة، وكثرة المتقاعِدين الذين يتركونها والشيخوخة السكانية كلها عوامل تجعل المستثمرين والموظَّفين يبحثون عن الأمان الذي تُقدمه الدولة، بدلًا من الفرص التي يقدمها السوق.
ولمَّا ظلَّت أسعار الفائدة صفرية أو سالبة حتى على مدار فترات طويلة، أدَّى ذلك إلى ارتفاع أسعار المنازل والسندات والأسهم، ومزيد من الزيادة في الثروة التي جمعها كبار السن. فالسكان الأكبر سنًّا غالبًا ما يبحثون عن عوائد أسرع وآمن على استثماراتهم.21 وقلَّما يُقبِل كبار السن على بدء أعمال أو مشروعات جديدة؛ وبدلًا من أن يستثمروا في صناديق رأس المال الاستثماري أو في سوق الأسهُم، يبحثون عن الأمان في سندات الشركات أو السندات الحكومية، ما يرفع أسعارها ويُقلل أسعار الفائدة التي تحملها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سهولة حصول الحكومات على التمويل يُشجِّعها على تحمُّل عجز كبير في موازنتها لأنَّ ذلك أرخص لها. وتُؤدي أيضًا إلى تزايد الدعوات التي تُطالب الحكومات بفعل ذلك، فيما تُسفِر النزعة المحافظة المصاحبة لشيخوخة السكان عن عدم كفاية الطلب أو الاستثمار لمواصَلة تشغيل كل أفراد القوى العاملة دون تدخل الدولة. وقد أدَّت أزمة كوفيد-١٩ إلى تفاقُم هذه الضغوط.

وبينما يستثمر كبار السن المزيدَ من رأس المال في المشروعات مُنخفضة المخاطر، يتفاقَم تباطؤ اقتصادهم. ولقد شهدنا هذا بالفعل في اليابان وألمانيا، فبعدما كانت كلتاهما تشتهر بأنها مركز لريادة الأعمال، صارت تلك السُّمعة تخبو، وأصبحتا تشهدان تباطؤًا في النمو.

ومؤخرًا اقترح الخبيران الاقتصاديان تشارلز جودهارت ومانوج برادهان وجهة نظر بديلة ترى أنَّ القوى العاملة المتناقصة ستتمكَّن من طلب أجور أعلى، وهو ما سيُؤدي إلى دوَّامة تضخُّمية جديدة. ويقولان إنَّ اليابان لم تتجنَّب ذلك إلَّا بالاستفادة من حدوث زيادة كبيرة في العِمالة المُتاحة منذ عام ١٩٩٠ تقريبًا، في ظل انضمام الصين وأوروبا الشرقية إلى القوى العاملة العالمية. ويُؤكدان أنَّ الهند وأفريقيا، على الرغم من أوضاعهما الديموغرافية المواتية، ستواجهان صعوبة في السير على نهج الصين والتحوُّل إلى مراكز صناعية عالمية كبرى، وسينتهي التأثير الانكماشي الناجم عن وجود مئات الملايين من العمال الجدد. بل إنَّ العالم سيُعاني نقصًا في العمالة، وسيُطالب العمال بأجورٍ أعلى، مما سيُؤدي إلى زيادة الأسعار. يتَّضح هنا مرةً أخرى أن التدهور الديموغرافي سيؤدي إلى تباطؤ اقتصادي، لكنَّ جودهارت وبرادهان يقولان إنه سيكون مصحوبًا بتضخمٍ وليس بانكماش.22 وصحيح أنَّ ثمة مؤشِّرات على ارتفاع التضخم في مختلف أنحاء العالم في وقت كتابة هذا الكتاب؛ ولكن من السابق لأوانه أن نجزِم بما إذا كانت هذه نتيجة مُؤقتة للتعافي من كوفيد-١٩ أم إنَّها مترسِّخة بجذورٍ أعمق.

نسخة حكومية من مخطط بونزي؟

من السِّمات الاقتصادية الأخرى التي تنتشِر من اليابان إلى بلدان أخرى هي زيادة الدين الحكومي. ففي اليابان، تجاوز الدين الحكومي ٢٥٠ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الدولتَين اللتين تَلِيانها مباشرةً تعانيان شيخوخة سكانية عميقة مثلها؛ وهما اليونان وإيطاليا. فكلتاهما تنتمي إلى «المناطق الزرقاء» التي تتَّسم بطول أعمار سكانها إلى حدٍّ استثنائي وخصوبة منخفضة باستمرار؛ ومن ثَم يمكن القول إنَّ الدَّين الحكومي انعكاسٌ للضغوط التي تواجهها الموارد المالية للدولة عندما يتقدَّم سكانها في السن. وصحيح أنَّ أزمة فيروس كوفيد-١٩ أدَّت إلى زيادة الدين الحكومي بوتيرة أسرع من أيِّ وقت مضى، لكن المشكلة الأساسية كانت موجودةً بالفعل قبل أن يسمَع أي شخص عن الفيروس.

ويتجلَّى التأثير نفسه في أنحاء أخرى من العالم، ولكن بوطأة أخف ممَّا في اليابان واليونان وإيطاليا. ففي المملكة المتحدة، كانت الأحزاب مُجمِعة في أثناء الانتخابات العامة لعام ٢٠١٩ على أنَّ الشعب لا يُمكنه تحمُّل المزيد من سياسات «التقشف» الحكومية بعدما استمرت عقدًا كاملًا. لكنَّ الحكومة لم تتمكَّن من تحقيق أيِّ فائض في الميزانية إطلاقًا من بعد الانهيار المالي في عام ٢٠٠٨. بل إنَّ التخفيض الوحيد الذي حقَّقته هو تقليص الاقتراض السنوي. صحيح أنَّ الدَّين الحكومي يتراكم بوتيرة أبطأ، لكنه ما زال يتراكم، والتغيُّرات الديموغرافية كانت هي المسئولة.

فازدياد نسبة كبار السن في القوى العاملة يُؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، ما يحدُّ من الإيرادات الضريبية الحكومية. ففي أوائل ستينيات القرن الماضي، شهدت المملكة المتحدة ولادة ما يَقرُب من خمسة ملايين مولود، ثم صار هذا الجيل جزءًا من القوى العاملة بعد ذلك بنحو عشرين عامًا؛ أمَّا في السنوات الخمس الأولى من القرن الحادي والعشرين، فكان عدد المواليد أقل من ٣٫٥ ملايين، وهؤلاء المواليد سيَصِلون إلى سنِّ العمل بعد فترة قصيرة من عام ٢٠٢٠. ويتجلَّى النمط نفسه في أنحاء مختلفة من العالم؛ إذ يقلُّ عدد الأفراد الذين يلتحقون بالعمل، مما يُقلل من الأموال التي يمكن أن تجمعها الحكومة من خلال الضرائب.

وفي الوقت نفسه، يتزايد الضغط على الخزانة العامة مع انتشار الشيخوخة بين السكان. ولأنَّ الناخبين في العالم المتقدم اعتادوا الارتقاء بمستويات المعيشة وتحسين الخدمات الحكومية، فهُم مُقتنعون بأنَّ التقشف الذي شهدوه منذ الكساد الاقتصادي في عام ٢٠٠٨ كان استثنائيًّا، مع أنَّ الموارد المالية الحكومية تُشير إلى العكس.

ومن ثَم فإنَّ التغيُّرات الديموغرافية قد قوَّضت التوازن بين الإنفاق الحكومي والإيرادات الحكومية. إذ أصبحت الدولة تتحمَّل تكلفة الرعاية الصحية بشكلٍ أو بآخر في مُعظم دول العالم المتقدم، وكلما كانت نسبة كبار السن بين السكان أعلى، استلزم ذلك مزيدًا من الإنفاق. وبالأرقام الفعلية بعد حساب تأثير التضخم، نجد أنَّ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية الحكومية في المملكة المتحدة قد تضاعَف بأكثر من ثلاثة أمثاله في ربع قرن منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.23 وربما يكون أحد أسباب ذلك هو ظهور علاجات جديدة مُكلِّفة تُطيل العمر وتُحسن الصحة، لكنه يرجع أيضًا إلى احتياجات السكان المسنين المُتزايدة. وصحيح أنَّ الإنفاق على الرعاية الصحية يتزايَد بوتيرة أسرع من النمو الاقتصادي في مختلف أنحاء العالم، لكنَّ الفجوة أكبر في البلدان التي تضمُّ أعلى نِسَبٍ من كبار السن.24
أمَّا الجانب الآخر الذي يُشكِّل عبئًا على الموارد المالية الحكومية بسبب تقدم السكان في السن، فهو المعاشات. ويُذكر هنا أنَّ المملكة المتحدة استطاعت على مر فترة طويلة أن تكبح زيادة الإنفاق الحكومي على معاشات التقاعد بالحدِّ من ارتفاع معدلات التضخُّم. ومع أنَّ معظم المتقاعدين في البلاد ميسورو الحال، فإنَّ هذا ليس نِتاج سخاءٍ حكومي بقدر ما هو ناتج من نجاحهم في مُراكمة رأس المال على مدار عقود، خصوصًا مع ارتفاع قيمة العقارات. لكنَّ المستقبل سيشهد ضغوطًا شديدة على الحكومات في جميع أنحاء أوروبا، مع انخفاض عدد العمال الجدد وازدياد عدد المتقاعِدِين.25 ويُذكَر هنا أنَّ أوتو فون بسمارك حينما خصَّص معاشًا متواضعًا للعمال الألمان الذين يَبلُغون من العمر سبعين عامًا في عام ١٨٨٩، لم يكن متوسِّط العمر المتوقع أكبر بكثيرٍ من خمسة وثلاثين عامًا.26 ومن ثَم فإنَّ العديد من العمال دفعوا جزءًا من أموالهم في هذا النظام، لكن معظمهم تُوفي أصلًا قبل أن يجني الفوائد؛ وبذلك كانت التكلفة التي يتكبدها النظام معقولة.
ويُمكن القول هنا إنَّ نظام المعاشات الحكومي يُعَد — في أساسه — نسخةً من مخطط «بونزي»؛ فهو يسير على ما يرام ما دامت تنضم إليه أعداد مُتزايدة، لكنه ينهار عندما يتوقف انضمام أفراد جدد، ويُصبح عدد المتبقين فيه غير كافٍ لدفع مستحقات أولئك الذين يخرجون منه. وأحد الحلول التي لجأ إليها البعض هنا هو رفع سن التقاعد تدريجيًّا.27 فمِن المُقرر أن ترتفع سن التقاعد في المملكة المتحدة تدريجيًّا إلى ثمانية وستين عامًا، لكن الاحتجاجات في فرنسا — وخصوصًا من الطلاب الذين لم يبدءوا دفعَ تأمينات نظام المعاشات أصلًا — جعلت الحكومة تتخلَّى عن محاولة رفع سن التقاعُد من اثنَين وستِّين إلى أربعة وستين.28 وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مسألة سن التقاعد تُعَد واحدة من القضايا القليلة التي اضطرَّ فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين — شخصيًّا — إلى التراجع عن موقفه بشأنها.29
هذا وتُتيح خطط المعاشات التي تقدمها الشركات والمعاشات الخاصة حلًّا جزئيًّا للمشكلة، إذ يُشجَّع الأفراد على الانضمام إلى نظام المعاشات الذي يعرضه صاحب العمل أو الادِّخار من أموالهم الخاصة لتدبير نفقاتهم عند الشيخوخة. وحتى اليوم، لا تكاد المعاشات الحكومية تُلبي احتياجات المتقاعدين الأساسية، فضلًا عن أن تُوفر مستوى المعيشة الذي يطمح إليه مُعظم الناس في «سنواتهم الذهبية». وتتبنى العديد من البلدان أنظمة ضريبية تُشجع هذا النهج، ولكن مع انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية وزيادة متوسِّط العمر المتوقع، فإن المبالغ المالية الذي يجب ادخارها لضمان دخل معقول في سن الشيخوخة تصبح أكبر من أيِّ وقت مضى. ويرى الكثيرون أنَّ الحل ببساطة هو العمل عُمرًا أطول؛ ففكرة التقاعُد الطويل المريح تُعَد حديثة نسبيًّا، وبدأت تتلاشى بالفعل. ففي الاتحاد الأوروبي، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على خمسة وخمسين عامًا في القوى العاملة من ١٢ في المائة إلى ما يَقرُب من ٢٠ في المائة بين عامَي ٢٠٠٤ و٢٠١٩.30 وفي المملكة المتحدة، ارتفع عدد الأشخاص العاملين الذين تزيد أعمارهم على السبعين بنسبة ١٣٥ في المائة في عقدٍ واحد.31

أدركتُ هذه الحقيقة من خلال سلسلة من اللقاءات التي جمعَتني بأشخاص واصلوا العمل حتى سنِّ الشيخوخة. ففي عام ٢٠١٤، التقيتُ بالمذيع والفيلسوف والنائب السابق براين ماجِي. كان ماجِي قد تخطَّى الثمانين بكثيرٍ آنَذاك بالفعل، لكنه واصل العمل حتى نشر كتابه الأخير في عام ٢٠١٨، وهو العام الذي سبق وفاته عن عمر يُناهز تسعة وثمانين عامًا. وبعد بضع سنوات، أجريتُ محادثة قصيرة مع الفنان ديفيد هوكني بينما كنا نقف مُتجاورَين في طابور في أحد المطارات. كان آنَذاك في الثانية والثمانين من عمره، وأخبرني بأنه يُحضِّر لإقامة معرض في الأكاديمية الملكية في لندن. (وهو بذلك يُعَد واحدًا من فنانين عظماء قد فعلوا هذا من قبل؛ إذ كان مايكل أنجلو ما زال يعمل عندما تُوفي قبل ثلاثة أسابيع من عيد ميلاده التاسع والثمانين، وكذلك كان بيكاسو عند وفاته عن عمر يناهز واحدًا وتسعين عامًا.) وفي صيف عام ٢٠١٩، ذهبتُ إلى حفل موسيقي في قاعة ألبرت الملكية في لندن. فوجدتُ أنَّ العازف المنفرد على البيانو هو إيمانويل أكس، الذي كان في سن السبعين آنذاك. وكان قائده هو وفرقة كونسرت خيباو الملكية هو برنارد هايتنك، الذي كان قد تجاوز عيد ميلاده التسعين آنذاك، واتضح لاحقًا أنَّ هذا كان ظهوره الأخير في المملكة المتحدة.

هذا ويَظْهَر الاتجاه نفسه في الحياة السياسية. ففي إحدى مراحل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٢٠، كان من المرجح أن يواجه دونالد ترامب، البالغ من العمر ثلاثة وسبعين عامًا، واحدًا من ثلاثة مرشَّحين ديمقراطيين في السبعينيات من عمرهم: جو بايدن، وبيرني ساندرز، ومايكل بلومبرج. وفي النهاية، فاز بايدن بترشيح الحزب؛ ثم تنافس صاحب المنصب البالغ من العمر أربعة وسبعين عامًا والمرشح البالغ من العمر ثمانية وسبعين عامًا في الانتخابات التي أُجرِيَت بعدئذٍ، وفاز فيها الرجل الأكبر سنًّا.

ويُذكَر هنا أنَّ استمرار كبار السن في العمل، سواء في الفنون أو السياسة أو في المجالات الأخرى، له جوانب إيجابية عديدة. فأولًا، صار مُعظم الأشخاص الذين تجاوزوا الخامسة والستين من العمر أفضل لياقة وصحة مما كان عليه نظراؤهم قبل جيل مضى. وثانيًا، فالاستمرار في العمل عادةً ما يكون أفضل لصحة المرء من التقاعد المفاجئ، خصوصًا إذا كان في الإمكان تقليل ساعات العمل تدريجيًّا. ويمكن أن نضرب مثلًا هنا بلويس كيتنر، التي تبلغ من العمر تسعة وسبعين عامًا وتعيش في ويسكنسن؛ حيث تعمل في خدمة دفع الحساب في متجرٍ محلي، وترى نفسها نموذجًا مُعبرًا عن الكثير من أفراد جيلها. إذ تشتكي قائلة: «هذه هي سنواتنا الذهبية، لكن بريقها تلطَّخ بشدة في هذا الزمان.»32 وسواء أكان العمل في سنِّ الشيخوخة صحيًّا أم لا، فإن الحاجة إلى تأجيل التقاعد يمكن أن تثير الاستياء بين مَن كانوا يتطلَّعون إلى التوقُّف عن العمل. وهذا عاملٌ واحد فقط من العوامل التي بسببها أصبحت المواقف السياسية تُتخَذ بناءً على جيل الفَرد.

ظهور سياسة قائمة على الفروق بين الأجيال

بينما قامت مُعظم أسس السياسة في الماضي على الفروق بين الطبقات، فهي تتغيَّر الآن تدريجيًّا لتُصبح قائمةً على الفروق بين الأعمار. فالانتخابات العامة البريطانية في عام ٢٠١٧ أظهرت كيف يُمكن أن تؤثر شيخوخة السكان تأثيرًا مباشرًا في السياسة. إذ هيمنت على الحملة الانتخابية آنَذاك مسألةُ تمويل «الرعاية الاجتماعية»؛ أي الرعاية اليومية للمسنِّين. وفي خطوة جريئة من حزب المحافظين ضد أنصاره الأساسيين حينئذٍ، اقترح الحزب أنَّ نفقات تلك الرعاية ينبغي ألا تتكفَّل بها الحكومة إلَّا بعد حدٍّ معين، وإنما تؤجَّل وتُخصَم من تركة الفرد عند الوفاة. وقد أدَّت هذه السياسة، التي تُعرَف باسم «ضريبة الخَرَف»، إلى رد فعل عنيف، تلاه تراجعٌ سياسي مُذلٌّ من تيريزا ماي رئيسة الوزراء.

لم يكن أحد في السابق يتخيَّل أنَّ تكون هذه القضية محط الاهتمام الرئيسي في الانتخابات العامة البريطانية، ولكن الآن بعدما أصبح كبار السن يُشكِّلون نسبةً مُتزايدةً من الناخبين، فإنَّ العمر قد لا يهيمن على أجندة الانتخابات فحسب؛ بل يمكن أيضًا أن يحدد النتيجة. إذ يحظى كبار السن بنفوذٍ سياسي لأنهم أكثر عددًا وأكثر ميلًا إلى التصويت من أحفادهم.33 ولا عجب هنا في أنَّ أصحاب المنازل الأكبر سنًّا في المملكة المتحدة عُزِلوا عن تأثيراتٍ سياسات التقشف الحكومية، التي وقع ضررها الأكبر على الأسر العاملة الشابة.
هذا وقد ظهر المزيد من القضايا الناشئة من الفجوة بين الأجيال خلال جائحة كوفيد-١٩. فعُرضة الأشخاص الذين تجاوزوا ٧٥ عامًا في إنجلترا للوفاة أعلى مئات المرات مُقارنةً بمن تتراوح أعمارهم بين ١٥ و٤٤ عامًا. وقد تجلَّت أولويات كبار السن في القرارات العامة التي اتُّخذت لمواجهة المرض، وخصوصًا فرض الإغلاق العام على مستوى البلاد.34

وكما رأينا، فازدياد هيمنة كبار السن على مقاليد الحُكم في العالم المتقدم يضع ضغطًا هائلًا على الميزانيات الحكومية والقوى العاملة، مع ارتفاع الطلب على الرعاية التمريضية والاجتماعية. وقد أصبحت تلبية هذه الحاجة تعتمد اعتمادًا مُتزايدًا على استقبال مهاجرين من دول أقل ثراء، في ظل لجوء الدول الأغنى إلى الاستفادة من الموارد البشرية لدى السكان الأفقر والأصغر سنًّا.

ربما يُثير احتمال تأخير سن التقاعد استياءً بين مَن هم في منتصَف العمر، لكنَّ تكلفة تقديم الرعاية الصحية والمعاشات للمسنِّين تُثير استياءً مُتزايدًا بين الشباب. غير أنَّ تأثير العمر في تحديد نتائج التصويتات يتزايد منذ فترة طويلة. ففي عام ١٩٧٤، أحرز حزب المحافظين أصواتًا أكثر من حزب العمال بنسبة ٣٧ في المائة بين ناخبي الطبقة العُليا والوسطى، فيما حصد حزب العمال أصواتًا أكثر بنسبة ٣٥ في المائة بين الطبقة العاملة؛ وبحلول عام ٢٠١٧، كان الحزبان متقاربَين جدًّا في نسبة الأصوات الإجمالية التي حصدها كلٌّ منهما، لكنَّ الفارق بينهما لم يبدُ قائمًا على أساسٍ طبقي هذه المرة، وإنما على أساس عُمري. فحزب المحافظين حصد ٢٠ في المائة تقريبًا من أصوات الشباب العشرينيِّين، فيما حصل حزب العمال على ما يقرب من ٧٠ في المائة من أصواتهم. لكن حزب العمال حصل على أقل من ٣٠ في المائة من أصوات الناخبين السبعينيِّين، فيما حصد حزب المحافظين نحو ٦٠ في المائة من أصواتهم.35 وبحلول عام ٢٠١٩، تجلَّى الأساس العمري للتصويت بوضوحٍ أكبر. وكذلك كان العمر مؤشرًا قويًّا لاختيارات الناخبين في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦.36 ومن ثَم فإنَّ نتيجة التصويت المؤيِّدة للخروج من الاتحاد الأوروبي والانتصارات الانتخابية التي حقَّقها حزب المحافظين منذ عام ٢٠١٠ كلها كانت مدعومة بارتفاع نسبة كبار السن المؤيدين وانخفاض نسبة أفراد الجيل الأصغر سنًّا. ومما أسهم في ذلك أيضًا أنَّ المسنين غالبًا ما يكونون أكثر إقبالًا على المشاركة في التصويت.37
وقد تجلَّى التأثير نفسه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦. فالجمهوريون، الذين كانوا حزب الأثرياء في الماضي، صاروا حزب المسنِّين، فيما تحوَّل الديمقراطيون، الذين كانوا حزب الطبقة العاملة في المدن يومًا ما، إلى حزب الشباب. ومن ثَم، فاحتمالية حصول الحزب الديمقراطي على صوت شابٍّ حديث التخرج ومقيم في مانهاتن مثلًا أعلى من احتمالية حصوله على صوت رجل متقاعد من الطبقة العاملة في الغرب الأوسط. ويُذكَر هنا أنَّ هيلاري كلينتون، في انتخابات عام ٢٠١٦، نالت ضِعف ما حصده ترامب من أصوات الناخبين الذين بلغت أعمارهم ٢٩ عامًا أو أقل، بينما حقَّق دونالد ترامب أفضلية قوية بنسبة عشرة في المائة بين الناخبين الذين بلغت أعمارهم ٦٥ عامًا أو أكثر، علمًا بأن عدد هؤلاء كان أكبر بكثير.38 وفي انتخابات في عام ٢٠٢٠، استمر تناقص عدد الشباب المؤيدين لترامب.39
وصحيح أنَّ تأثُّر أنماط التصويت بالفروق بين الأجيال يتزايد، لكن ينبغي ألا نتصور أنَّ الشباب يؤيدون القضايا «التقدمية» دائمًا. ففي جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في عام ٢٠١٧، يُعتقد أنَّ نحو نصف الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٢٤ عامًا قد دعموا المرشحة اليمينية المتطرِّفة ماري لوبان، بينما لم يؤيدها إلا نحو ٢٠ في المائة فقط ممَّن تجاوزت أعمارهم ٦٥ عامًا.40

وإلى جانب العمر، فنوع الجنس والعِرق أيضًا يؤثران تأثيرًا مهمًّا في الانتخابات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إذ يميل أغلب الرجال البيض إلى التصويت لصالح حزب المحافظين والحزب الجمهوري، بينما تميل مُعظم النساء وأفراد الأقليات إلى تأييد حزب العمال والحزب الديمقراطي. ويُمثل هذا تحولًا كبيرًا عن أنماط التصويت قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، عندما كانت الطبقة الاجتماعية هي العامل الأهم. بعبارة أبسط، صارت العوامل الديموغرافية — كالعمر والعِرق — ذات أهمية أكبر، بينما أصبحت الاعتبارات الاقتصادية أقل أهمية.

وهذا التحوُّل له أسباب وجيهة. ففي الماضي كان من السهل تشكيل نقابات وحركات عمالية منظمة من الموظفين في أماكن العمل الكبيرة، ولكن الآن، قَلَّ عددُ مَن يعملون في مصانع كبيرة، وازداد مَن يعملون لحسابهم الخاص. وثانيًا، فالمجتمعات التي كانت تتَّسم بتجانسٍ عرقي يومًا ما أصبحت الآن أكثر تنوعًا، وهو ما يُسفر غالبًا عن رد فعل قوي يتجلى في انتشار تأييد الأحزاب اليمينية بين السكان الأصليين في الطبقات العاملة. وهذا موضوع سنتطرَّق إليه لاحقًا.

أصبح العمر أقوى تأثيرًا في السياسة بالتحديد لأنَّ انتشار كبار السن يطرح تحديات غير مسبوقة في البلدان التي زادت فيها المُتطلبات المُنتظَرة من الدولة، بينما تقلَّصت قدرتها على تلبية هذه المتطلبات. ومن المتوقَّع أنَّ استمرار ازدياد نسبة كبار السن واستمرار تقلُّص نسبة الشباب سيجعل السياسة أكثر تأثرًا بالاختلافات بين الأجيال في العقود المقبلة.

الشيخوخة قبل الثراء

مع أنَّ مُشكلات تضخُّم تكاليف معاشات التقاعد والرعاية الصحية الحكومية وجمود النمو الاقتصادي وانهيار التقارب بين الأجيال تُمثل تحديات بالتأكيد، يُمكن تصنيفها على أنها من «مشكلات العالم الأول»؛ وذلك لأنها تؤرق البلدان التي تستطيع تمويل عجزها بسهولة وبتكلفة زهيدة، سواء على الصعيد المحلي أو في أسواق المال الدولية. فإذا شاءت هذه الدول، فيمكنها استقدام عمالة من مناطق أفقر في العالم ليؤدُّوا الوظائف التي يعزُف عنها السكان المحليون أو لا يكفي عددهم ليؤدوها بأنفسهم.

إذ تستطيع هذه الاقتصادات الغنية إتاحة أجور ومستويات معيشية تجتذب لها قَدرَ ما تشاء من العمالة من أجل معالجة المشكلات المرتبطة بشيخوخة سكانها. وهذا عادةً ما يؤدي إلى هجرة الفقراء والشباب إلى دول الأغنياء والمسنِّين. لكننا أيضًا بدأنا نشهد توجُّه بعض المواطنين الأوروبيين والأمريكيين إلى السفر في الاتجاه المعاكس، سواء للعلاج أو الاستمتاع بحياتهم في مكان دافئ بعد التقاعد. فعلى سبيل المثال، يوجد نحو سبعين ألف أمريكي وكندي يعيشون في كوستاريكا، منهم مُتقاعدون كثيرون، فيما يسافر العديد من المواطنين الآخرين إليها لقضاء فصل الشتاء هناك.41

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف ستتعامَل الدول التي تداهمها الشيخوخة السكانية «قبل» أن تُصبح غنية مع هذا الأمر؟ فالمجتمعات الغنية المترفة تستطيع أن تُواصل تسيير شئونها ما دامت توجد مجتمعات شابة ومتزايدة متخلفة عنها في مسار التنمية، ولكن من سيهتم بهذه المجتمعات بدورها؟ حتى وقت قريب، كانت لي جارة في لندن تُوفيت عن عمر يناهز ١٠٧ سنوات بعدما ظلَّت تحظى بعناية من مجموعة من مقدمي الرعاية الفلبينيين. فمن سيعتني بالمسنِّين الفلبينيين إذن؟

ربما لن تواجه الفلبين مشكلة كبيرة في هذا الصدد في المستقبل المنظور؛ فبفضل شيوع الكاثوليكية المؤيِّدة لكثرة الإنجاب هناك، تتسم البلاد بمعدل خصوبة أعلى من مستوى الإحلال، وستظل شابة إلى حدٍّ ما على مدار فترة طويلة؛ لكن بعض جيرانها لن يكونوا محظوظين مثلها. فتايلاند مثلًا تشهد شيخوخة سريعة بوتيرة ملحوظة؛ وذلك لأنَّ معدل الخصوبة فيها أقل من مستوى الإحلال، ومتوسط العمر المتوقع فيها يزداد زيادةً حادة. إذ يتجاوز العمر الوسيط لسكانها ٤٠ عامًا بالفعل، وهو بذلك أعلى من نظيره في دول غنية مثل النرويج أو أيرلندا. وبحلول منتصف القرن الحالي، ستُصبح نسبة مَن تجاوزوا الخامسة والستين نحو ثُلث سكان تايلاند، علمًا بأنها حاليًّا تبلغ ١٣٪، وكانت لا تكاد تبلغ ٥٪ حتى وقت قريب، وتحديدًا في مُنتصف تسعينيات القرن الماضي؛ أي إنَّ وتيرة انتشار الشيخوخة في تايلاند أسرع أربع مرات من وتيرة انتشارها في فرنسا.42

تُعَد تايلاند مثالًا للدول التي سَبَق تقدمُها الديموغرافي تقدمَها الاقتصادي، وبذلك صارت تركيبتها السكانية ووضعها الاقتصادي غير مُترابطَين معًا. فوفقًا للنماذج القديمة للحداثة، يُفتَرَض أن تتماشى مسيرة التنمية مع التغير الديموغرافي. ومن ثَم، كان من المفترض ألَّا يكون معدل الخصوبة في تايلاند أقل منه في فرنسا، وألَّا يكون العمر الوسيط فيها أكبر منه في لوكسمبورج، وألا يكون متوسِّط العمر المتوقَّع فيها أقل بعامَين فقط من نظيره في الولايات المتحدة.

ومهما كانت مُشكلات تايلاند، فإن مشكلات الصين أكبر بكثيرٍ نظرًا إلى حجمها. صحيح أنَّ الصينيين أغنى من التايلنديين إلى حدٍّ ما، لكن سرعة انتشار الشيخوخة السكانية في الصين تقترب من سرعة انتشارها في تايلاند. وحتى لو كانت الدول الأقل تقدُّمًا مستعدة لإرسال الفائض من سكانها لدعم الصين الشائخة، فسيتطلَّب ذلك إرسال كل شباب العالم تقريبًا لتلبية هذا الغرض. ومع ازدياد الشيخوخة السكانية في تايلاند والصين، من المتوقع أن يتباطأ نموهما الاقتصادي؛ فكلتاهما قد استنفدت رصيدها من العائد الديموغرافي، وسيتعيَّن عليها التعامل مع تقلُّص قوتها العاملة بدلًا من ازديادها. ويُذكَر هنا أنَّ الصين على الأقل كانت تستعدُّ لهذا الاحتمال منذ أن فرضت سياسة الطفل الواحد.43
وصحيح أنَّ الصين وتايلاند لطالما كانتا تتَّسمان باحترام كبار السن، لكنهم لم يكونوا الفئة السائدة بين السكان إطلاقًا، بل دائمًا ما كانوا يشكِّلون نسبةً قليلةً من السكان. وتُوضِّح معلومةٌ إحصائيةٌ واحدةٌ حجم المشكلة. ففي عام ٢٠٠٠، كانت نسبة السكان العاملين إلى المتقاعدين في تايلاند تبلغ سبعة إلى واحد، وبحلول عام ٢٠٥٠، ستكون تلك النسبة ١٫٧ فقط.44 ومن ثَم فالاعتماد على أبنائك عند الشيخوخة لن يكون خيارًا متاحًا إذا لم يكن لديك أبناء أصلًا. وكما قال أحد المتقاعدين: «بصراحة، نُضطر إلى الاعتماد على أنفسنا في كل شيء. وإذا كنتَ محظوظًا، فقد تجد واحدًا من أفراد عائلتك يتطوع ليُقلَّك إلى المستشفى.»45

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سقف توقعات التايلانديين بشأن الخدمات التي ينتظرون من الحكومة أن تتكفَّل بها ليس عاليًا كما هو في الغرب، بينما يستفيد المسنُّون في تايلاند أيضًا من حقيقة أنَّ الشخص البالغ من العمر خمسة وستِّين عامًا الآن من المرجح أن يكون أفضل لياقة وصحة ممَّن كانوا يبلغون ذلك العمر في أيِّ وقت مضى. ولكن لا يُمكن لهذه الحقيقة ولا تلك أن تُخفف من وطأة التحدِّي الذي ستواجهه دولة مثل تايلاند. ووحدها التطورات التكنولوجية الخارقة هي التي ستحمي العديدَ من المسنين، في تايلاند ودول أخرى مماثلة لها، من أن يموتوا وحيدين ومُهمَلين. ففي ظل عدم وجود مَن يعتني بهم، سيضطر المسنون إلى الاعتماد على التكنولوجيا.

تقنيات التعامل مع الشيخوخة وإطالة العمر

نظرًا إلى أنَّ اليابان تتَّسم بالشيخوخة السكانية والتطور التكنولوجي في آنٍ واحد، فلا عجب في أنها تشهد ظهور تطورات كثيرة في مجال الرعاية الاجتماعية. فأكثرُ من ربع الشركات الناشئة اليابانية التي تبلغ قيمتها مليار جنيه إسترليني على الأقل مُرتبطة برعاية كبار السن. إذ أصبح في إمكان الموظفين في دور رعاية المسنين أن يتلقَّوا إشارةً حينما يحتاج المقيمون المصابون بسلس البَول إلى عناية، وبذلك تُخطِرهم سلفًا بالحاجة إلى تدخل عاجل. وكذلك ابتُكِرَت أجهزة تتتبُّع العلامات الحيوية التي تُشير إلى عدم انتظام ضربات القلب أو التنفُّس،46 بينما يجري أيضًا تصنيع أسرَّة آلية تتحوَّل إلى كراسٍ مُتحركة. ويُذكَر هنا أنَّ اليابان في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه التقنيات، ليس فقط بسبب الارتفاع السريع في عدد السكان المسنِّين، ولكن أيضًا لأنَّ اليابان، على عكس العديد من البلدان الأخرى، لا ترغب في فتح أبواب الهجرة إليها. صحيح أنها وضعت نظامَ تأشيراتٍ لمُمرضات الرعاية الأجنبيات، لكن لم تتأهل في السنة الأولى من تطبيقه سوى أقل من عشرين مُتقدمة.47
وإلى جانب الرعاية الجسدية، تُستخدم تقنيات حديثة لدعم الصحة العقلية للمُسنين في المجتمع الياباني الذي يتزايد فيه عددُ الذين يعيشون بلا أقرباء أو أبناء يزورونهم. إذ يتزايد الإقبال على استخدام الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي للإيحاء للأشخاص المسنين الذين يعيشون وحدهم بوجود صُحبةٍ معهم وتحفيز عقولهم. وعلى غِرار التقنيات المساعِدة المخصصة للعناية بالجسد، تلاقي هذه الابتكارات اليابانية رواجًا متزايدًا في سوق التصدير. فالعديد من دور الرعاية الدنماركية تستخدم بالفعل حيوانًا أليفًا آليًّا صُمِّم وصُنع في اليابان.48

قبل بضع سنوات، كنتُ أعمل لدى شركة تُقدِّم للمسنين جهازَ إنذارٍ قابلًا للارتداء. وكانت فكرة الجهاز أنَّها تتيح لمن يرتديه، إذا سقط، أن يضغط على زرٍّ يستدعي زيارة طارئة أو يُنبِّه أحد أقربائه. وصحيح أنَّ هذه تقنية قديمة، لكني سمعتُ آنذاك كلامًا مُتداوَلًا عن ابتكار إصدارات جديدة ستُطلق تنبيهًا إذا لم تُسدَل الستائر قبل وقت معين في الصباح، وقد حَدَث تقدُّم كبير منذ ذلك الحين. إذ توجد الآن كاميرات يُمكن أن ترسل تنبيهًا عند رصدِ حركة. وبذلك يمكنك التحقق ممَّا إذا كانت والدتك المصابة بالخرف تحاول مغادرة المنزل في منتصَف الليل مثلًا. وهكذا فإنَّ هذا المجال يشهد تغييرًا كبيرًا، وسيشهد مزيدًا من التغيير في المستقبل.

متفاوتة وقابلة للنقصان: حدود زيادة العمر الطويل

دائمًا ما كانت مسألة الموت والحياة تعتمِد على حظ الفرد، ولكنْ ثمة أنماط مميزة على مستوى المجتمع. وأوضحها ببساطة هو النمط الزماني والمكاني؛ فالشخص الذي يُولَد حاليًّا في العالم المتقدم من المرجَّح أن يعيش عمرًا أطول بكثير ممَّن وُلِدوا في أي مكان في العالم قبل قرنَين، وكذلك ممَّن يولَد الآن في أفقر دول العالم. ونوع الجنس أيضًا يُحدث فارقًا كبيرًا. فعلى مستوى العالم، تعيش النساء عمرًا أطول من الرجال بخمس سنوات في المتوسِّط، لكنَّ حجم الفجوة يتفاوت. ففي روسيا مثلًا، يبلغ الفرق أكثر من عشر سنوات، وعادةً ما يُعزى ذلك إلى ارتفاع معدلات إدمان الكحول والانتحار بين الرجال. أمَّا في البلاد النوردية، التي لا يوجد فيها فرق كبير في معدلات تعاطي الكحول بين الجنسَين، وتتقلَّص فيها الاختلافات في نمط الحياة بين الرجال والنساء بفعلِ الأيديولوجية التقدمية، فنجد أنَّ الفجوة بين متوسِّط العمر المتوقع للذكور ونظيره لدى الإناث لا تكاد تبلغ ثلاث سنوات. وفي دول أخرى ذات مبادئ غير تقدمية إطلاقًا، نجد الفجوة أقل وأقل، ربما لأن الموارد تُكرَّس للذكور على حساب الإناث.

fig10
المصدر: https://www. populationpyramid.net/japan/2019/.

في عام ١٩٥٠، كانت كل فئة عمرية في اليابان تقريبًا أقل عددًا من الفئة التي تليها، وهذا مؤشر على حدوث زيادة سكانية على المدى البعيد. فعلى سبيل المثال، كان عدد الأطفال الأصغر من سن الخامسة أكبر نحو سبع مرات من عدد الأشخاص الذين كانوا في النصف الثاني من ستينيات عمرهم. أمَّا اليوم، بعد عقودٍ من انخفاض معدَّل الخصوبة وارتفاع متوسِّط العمر المتوقع، فقد أصبح الأشخاص الذين تجاوزوا منتصف ستينيات عمرهم أكثر عددًا من الأطفال الذين يقلُّ عمرهم عن خمس سنوات، علمًا بأنَّ الفئة الأكثر عددًا هي تلك التي تتألَّف ممَّن هم في أواخر الأربعينيات من عمرهم.

ويُذكَر هنا أنَّ «الهرم السكاني» سُمِّي بهذا الاسم لأنه من المفترَض بطبيعته أن يكون ذا قاعدة عريضة، ويُصبح أضيق كلما اتجهنا نحوه قمته. ولكن بحلول عام ٢٠٥٠، ستكون الفئة الأكثر عددًا في اليابان هي تلك التي تضمُّ مَن هم في أواخر السبعينيات، وسيكون عددهم نحو ضِعف عدد الأطفال الأصغر من خمس سنوات. وبذلك يُمكن القول إنَّ تغيُّر شكل هيكل العمر الياباني يُعَد مثالًا واضحًا لمجتمعٍ شائخ.

ولكن في السنوات الأخيرة، لم يكن جُلَّ الاهتمام بالتفاوتات في متوسط العمر المتوقع مُنصبًّا على المقارنات بين الجنسَين أو بين الدول، بل على الاختلافات القائمة على الفوارق الطبقية. ففي المملكة المتحدة، تقلَّصت الفجوة بين الجنسَين في متوسِّط العمر المتوقع عند لحظة الولادة إلى نصفِ ما كانت عليه تقريبًا بين عامَي ١٩٨٠ و٢٠١٢. وصحيح أنَّ هذا التقلص يرجع على الأرجح إلى انخفاض معدلات التدخين، التي كانت أعلى بين الرجال، فضلًا عن تحسُّن علاجات أمراض القلب والأوعية الدموية، التي تؤثر في صحة الرجال تأثيرًا أكبر مُقارنة بالنساء. وربما يرجع أيضًا إلى أنَّ عدد الرجال الذين يعملون في الصناعات الثقيلة الخطرة صار أقل بكثير ممَّا كان عليه في الماضي، علمًا بأنَّ ذلك كان يُلحق ضررًا كبيرًا بأعمارهم. ولكن في حين أنَّ الرجال والنساء الذين ينتمون إلى العشرة في المائة الأعلى دخلًا بين السكان من المتوقَّع أن يعيشوا حتى عمرٍ يتراوح حول خمسة وثمانين عامًا، فإن النساء الأفقر لا يصلن إلى سن الثمانين، والرجال الأفقر لا يعيشون حتى الخامسة والسبعين. ومع مرور الوقت، تباطأت زيادة متوسط العمر المتوقع في إنجلترا، وكان تباطؤها أشد بين الأشخاص الأفقر بالأخص، ما يعني أن الفجوة بين الطبقات قد اتسعت.49 أمَّا فيما يتعلق بتأثير العِرق في تفاوت متوسط العمر المتوقع، فوفقًا لبيانات جُمعَت بين عامَي ٢٠١١ و٢٠١٤، يتضح أنَّ الجماعات الأفريقية والكاريبية والآسيوية في إنجلترا حظيت بعمرٍ متوقع أطول من البيض. (وفي الفئة التي وُصِفت بأنها «مختلطة»، كان العمر المتوقع لنسائها يساوي العمر المتوقع للنساء البيضاوات، فيما كان عمر رجالها المتوقع أقل قليلًا مُقارنة بالرجال البيض.)50
شهد متوسِّط العمر المتوقع للأفراد المسنِّين انخفاضًا طفيفًا في المملكة المتحدة في السنوات الأخيرة. وقد أحدث هذا تأثيرًا كبيرًا في شركات التأمين على الحياة وصناديق التقاعد، التي تَعتمد التزاماتها المالية على طول الفترة التي من المتوقع أن يعيشها الفرد. عندما أكد معهد خبراء حسابات التأمين في عام ٢٠١٨ أن هذا «اتجاه مستمر، وليس مجرد ظاهرة عابرة»، استطاعت العديد من الشركات أن تعزز ميزانياتها العمومية تعزيزًا كبيرًا.51 فلمَّا أصبح من المرجَّح أن يُتوفى الأفراد المشتركون في أنظمة المعاشات قبل موعدهم المتوقع سلفًا، استطاعت أن تُخصِّص أموالًا أقل للمدفوعات.
هذا وقد رُصَد اتجاه مشابه في الولايات المتحدة، وإن كان العمر المتوقَّع لحديثي الولادة أيضًا قد انخفض وليس المسنين فقط. وكما حدث في المملكة المتحدة، جرت تحليلات كثيرة لمعرفة ما إذا كان ذلك جزءًا من اتجاه مستمر أم لا. ويبدو أنَّ السبب الأكبر في ذلك هو ما يُسمَّى بأمراض اليأس، خصوصًا التي ترتبط بإدمان المواد المخدرة، إلى جانب ارتفاع معدلات السِّمنة أيضًا. وربما نكون قد حصدنا المكاسب السهلة نسبيًّا من معالجة أمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية بالفعل، وبذلك لم تعُد تؤدي إلى مزيدٍ من إطالة العمر المتوقع.52

هذا ويميل الكثيرون في المملكة المتحدة إلى إلقاء اللوم في ذلك على نقص تمويل هيئة الخدمات الصحية الوطنية أو انخفاض الإنفاق العام بموجب سياسة التقشُّف. وصحيح أن الحكومة يمكنها دائمًا أن تبذل المزيد بالطبع، لكنَّ استمرار هذه الاتجاهات مرهون بالخيارات الفردية. فمن الواضح أنَّ اتِّباع نظام غذائي صحي مع ممارسة قدر معقول من الرياضة يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا، لكننا أصبحنا نعيش في عصرِ اتهام الدولة بالمسئولية عن كل العواقب.

ورغم التغيُّرات في متوسط العمر المتوقع، ستستمر شيخوخة مجتمعاتنا في الازدياد. أولًا لأنَّ مقدار الانعكاس في الاتجاه العام أقل من أن يستمر على المدى البعيد، ولأنَّ نطاقه أضيق من أن يصبح سائدًا. وفوق ذلك، فالتوقُّعات السابقة بشأن زيادة العمر المتوقع كانت مُتحفِّظةً للغاية، وقدَّرت العمر الذي سيعيشه الفرد بأقل مما ينبغي.53 وثانيًا لأنَّ انخفاض معدلات الخصوبة إلى ما دون مستوى الإحلال وشيخوخة جيل طفرة المواليد في العالم المتقدم حقيقة واقعة بالفعل. غير أنَّ الإنسان لا بُد ميتٌ، وإن طالت الأيام وانفسح العمر، ما يعني أنَّ المجتمعات حالما تشيخ، إما ستبدأ في التدهور الاقتصادي وإما ستحتاج إلى استقدام عمالة من الخارج. وإلى هذين الموضوعين نتحوَّل الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤