الفصل السابع

انخفاض عدد السكان

٥٥: النسبة المئوية لانخفاض تعداد سكان بلغاريا في قرنٍ واحد

في عام ١٩٨٩، كانت أوروبا على وشك أن تشهَد أكبر تغيير سياسي فيها منذ الحرب العالمية الثانية مع ترنُّح الشيوعية على حافة الانهيار. وفي تلك الأثناء، في الركن الجنوبي الشرقي من القارة، طُرِد أكثر من ثلاثمائة ألف بلغاري من أصول تركية من بلغاريا، وأُجبِروا على الفرار إلى تركيا. كانت فاطمة سومرسان آنذاك طالبةً تدرس الفيزياء وتبلغ من العمر ٢٢ عامًا، وكانت «جريمتها» في نظر السلطات الشيوعية البلغارية هي الاحتجاج على الدمج القسري؛ فقبل ذلك ببضع سنوات، أُجبِر أكثر من نصف مليون مسلم بلغاري على تغيير أسمائهم التركية أو الإسلامية إلى أسماء اعتبرتها السلطات سلافية كما ينبغي. وبعد مسيرة احتجاجية على تغيير الأسماء القسري، استُدعِيَت فاطمة إلى مكتب رئيس البلدية المحلي، وأُمِرَت بأن تعود إلى تركيا. قال لها آنذاك: «الآن وقد شاركتِ في مظاهرة احتجاجية، سترين شكل الحياة في تركيا بالفعل.»

قيل لفاطمة أن تُودع عائلتها، وأُمهِلَت ساعةً واحدةً فقط لحزم الحقيبة الوحيدة التي سُمِح لها بأخذها معها. ومن المُثير للضحك أنَّ السلطات البلغارية أطلقت على تلك السياسة اسم «الرحلة التنزهية الكبرى»؛ كأنها «تسمح» للمسلمين البلغار بمغادرة البلاد طواعية، ولا «تُرحِّلهم» قسرًا. لكنها كانت «رحلة» بلا عودة، ولم يُدفَع أيُّ تعويض عنها قَطُّ.1 ومن المؤسِف أنَّ حتى هذه القِشرة التجميلية التي كانت تهدف إلى حماية بلغاريا من الانتقادات الأجنبية ثَبت أنها غير ضرورية؛ فالمجتمع الدولي ظل غير مُبالٍ بهذا التطهير العرقي الواضح. ويبدو أنَّ تلك كانت مقدمة لسُباته التام في العقد التالي، عندما وقعت أحداث مماثلة فيما كان يُسمَّى يوغوسلافيا آنذاك.

كانت «الرحلة التنزهية الكبرى» هي أحدث فصلٍ في هجرة السكان المسيحيين والمسلمين التي استمرت قرنًا كاملًا في جميع أنحاء البلقان والقوقاز. إذ هُجِّر ملايين الناس قَسرًا من روسيا واليونان والدول المسيحية الناشئة في جنوب شرق أوروبا إلى الإمبراطورية العثمانية ودولة تركيا التي خَلَفَتها، والعكس أيضًا. ففي سبعينيات القرن التاسع عشر، صُدِم السياسي الليبرالي ويليام جلادستون من «الفظائع البلغارية» التي ارتكبها الأتراك العثمانيون وهم يُحاولون الاحتفاظ بحكمهم في مواجهة القوى القومية والمسيحية الناشئة. وفي الوقت نفسه تقريبًا، عَكَف الروس على إبادة مُعظم السكان المسلمين في أماكن مثل الشيشان أو طردهم منها في أثناء توسيع رُقعة حكمهم. وهكذا ظلَّ المسلمون والمسيحيون يضطهد بعضهم بعضًا باسم الدين في غرب البلقان طوال عدة قرون، وحتى في العقود الأخيرة. وقد «تبادلت» اليونان وتركيا أكثر من مليون ونصف مليون شخص في عشرينيات القرن الماضي.

ويُذكَر هنا أنَّ تركيا وبلغاريا الحديثتَين قد نشأتا من خلال مساعٍ رامية إلى تحقيق تجانس قومي وديني.2 ففي المناطق التي كانت تضمُّ مزيجًا معقدًا من أناسٍ ذوي أعراق وأديان مختلفة، حاولت الحكومات تغليب مجموعة عِرقية واحدة تشترك في لغة واحدة ودين واحد وشعور بأنها منبثقة من أصلٍ واحد. فطوال معظم تاريخ بلغاريا الشيوعية، الذي استمر بين أواخر أربعينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، كانت السلطات تسمح للأتراك بالهجرة «الطوعية»، إن لم تكن تُشجعهم عليها، أو حتى تفرضها عليهم قسرًا في بعض الأحيان، كما رأينا بالفعل. وبذلك كانت بلغاريا الشيوعية تكتسي بقشرة اشتراكية أُممية على لُبٍّ قومي عِرقي، وهذا المزيج جعلها مشابهة لجارتها رومانيا، التي كانت خاضعة آنَذاك لحكم نيكولاي تشاوشيسكو. إذ شهدت رومانيا السماح بهجرة اليهود وذوي العِرق الألماني إلى خارج أراضيها وتسهيل الحصول على وسائل منع الحمل لغجَر طائفة الروما وذوي العِرق المجري. وعلى غرار بلغاريا، كانت هذه محاولة لتعزيز هيمنة الأغلبية، إما بتقليص عدد الأقليات وإما بالتخلُّص منها تمامًا.3

وعندما انغمست الحكومة البلغارية في ممارسات التطهير العرقي في أواخر أيام نظامها الشيوعي، لم يَلتفِت العالم إليها. فلم تشهد شوارع العواصم الغربية احتجاجات، وعجزت الأمم المتحدة عن إصدار أي قرارات. وذلك لأنَّ العالم كان مشغولًا بانهيار الشيوعية، ولم يكن مهتمًّا على أي حال بمصير الأقليات في البلقان. أمَّا الأتراك البلغار الذين غادروا بلغاريا، فقد دُمجوا وسط المجتمع التركي، مثلهم مثل أجيال أخرى من اللاجئين المسلمين ومئات الآلاف من المسيحيين الذين فرُّوا نحو الاتجاه الآخر قبلهم.

وبينما كانت بلغاريا تتخلَّص من مئات الآلاف من ذوي العِرق التركي، كانت تركيبتها السكانية تشهد تغييرًا كبيرًا آخر. إذ كانت أواخر الثمانينيات هي المرحلة التي بلغ فيها عدد سكان بلغاريا ذروته بوصوله إلى أعتابِ تسعة ملايين نسمة، مُسجلًا بذلك ارتفاعًا كبيرًا بعدما كان يبلغ نحو سبعة ملايين نسمة فقط في منتصف القرن العشرين. ثم بدأ ينخفض بعدئذٍ، ولم يكن ترحيل فاطمة سومرسان وأمثالها هو السبب الوحيد في ذلك.

يبلغ عدد سكان بلغاريا اليوم نحو سبعة ملايين نسمة، ومن المحتمل أن يقلَّ بمقدار ثلاثة ملايين أخرى بحلول عام ٢٠٨٩. وهكذا فبحلول الذكرى المئوية ﻟ «الرحلة التنزهية الكبرى»، من المرجح أن يكون عدد سكان البلاد قد انخفض إلى النصف تقريبًا. غير أنَّ عمليات ترحيل الأتراك المنسية منذ أمد بعيد بالفعل ليست سوى سبب واحد فقط من عدة أسباب. إذ تشهد بلغاريا مزيجًا من انخفاض معدلات الخصوبة على غرار اليابان وهجرة أعداد كبيرة من سكانها — طواعيةً هذه الأيام — ما يعني أن مصيرها الديموغرافي إلى زوال. ربما كان طرد الأقليات من البلاد جُرحًا عميقًا أحدثته الحكومة بنفسها في أعداد السكان، لكنه تفاقم بسبب عزوف البلغاريين عن الإنجاب، وإقبالهم على مُغادرة البلاد عند ظهور فرص سانحة في أماكن أخرى.

تناقص السكان: المستقبل البعيد يصبح واقعًا حاليًّا

تخيَّل سيارةً تصعد مسرعة نحو أعلى تلَّة ما. إذا خفَّف السائق الضغط على دواسة الوقود تدريجيًّا، ستبدأ السيارة تتباطأ. وبمرور الوقت، لن تتجاوز سرعتها سرعة السلحفاة لأنَّ قوة الدفع التي تمضي بها إلى الأمام ستُصبح أقل وأقل. وبعدما يُصبح من الصعب مقاومة قوة الجاذبية التي تشدها إلى الخلف، ستبدأ أخيرًا في الرجوع نحو أسفل التلة. يتيح هذا التشبيه فكرة تقريبية عن كيفية انخفاض عدد السكان. ويمكن القول إنَّ جزءًا متزايدًا من العالم قد رفع قدمه من على دواسة الوقود منذ فترة طويلة، وبدأت سيارته تنزلق إلى الخلف بالفعل.

إذا تجاهلنا الهجرة لحظةً، يمكن أن نعتبر أنَّ عدد سكان أي دولة يُحدَّد بعاملَين أساسيَّين: المواليد والوفيات. وفي الوقت الحالي، تتلاشى قوة الدفع المتمثلة في إطالة العمر المتوقع (أي تقليل عدد الوفيات السنوية) والخصوبة العالية (أي كثرة المواليد)، على الرغم من الزيادة الهائلة في نسبة المسنِّين المعمَّرين. ففي جزء كبير من العالم، نجد أن معدلات الخصوبة أقل من مستوى الإحلال منذ سنوات عديدة، ما يعني أن قوى «الزخم الديموغرافي» قد استُنفِدَت بالفعل، في حين أنَّ الزيادات المتحَقِّقة في العمر المتوقع تُعَد طفيفة في أحسن الأحوال. أي إنَّ قوة دفع المحرِّك تتضاءل، والسيارة تجد صعوبة في منع نفسها من الانزلاق إلى الخلف.

ويُذكَر هنا أنَّ دول العالم المتقدِّم عمومًا، وأوروبا بالأخص، تمرُّ الآن بالمرحلة الأخيرة من القوى التي تؤدي منذ أمد بعيد إلى خفض أعداد سكانها. فمعدل الزيادة في متوسط العمر المتوقع حاليًّا يبدو قوةً شبه مستنفدة، ولا يُسفر إلَّا عن زيادة طفيفة في إجمالي عدد السكان في أحسن الأحوال. وفي الوقت نفسه، فاستمرار انخفاض معدلات الخصوبة فترة طويلة يُحدِث تأثيرًا متضاعِفًا، والنتيجة هي انخفاض عدد السكان. إذ لا تتوقف المسألة عند اكتفاء النساء اللواتي في سنِّ الإنجاب بأطفالٍ أقل، ولكن بسبب خيارات تحديد النسل في الأجيال السابقة، يتناقص عدد النساء أنفسهن باستمرار. وهكذا تختفي الأمم.

وبالحديث عن بلغاريا، نجد أنَّ معدل ازدياد العمر المتوقع هناك طفيف جدًّا؛ فبعدما كان أكثر من ٧٠ عامًا بالفعل في أواخر الستينيات، ما زال أقل من ٧٥. أمَّا معدلات الخصوبة، فهي أدنى من مستوى الإحلال منذ عام ١٩٨٠ على الأقل، بل إنَّ متوسِّط إنجاب المرأة الواحدة في معظم أوقات هذه الفترة كان أقل بطفلٍ كاملٍ من المستوى اللازم للحفاظ على ثبات عدد السكان.

بعبارة أخرى، أنجب الجيل الأخير عددًا قليلًا من الأطفال، وهؤلاء الأطفال وصلوا الآن إلى سن الإنجاب، ويُنجبون عددًا قليلًا من الأطفال بدورهم. تخيَّل امرأةً لديها أسرة كبيرة، وافترِض مثلًا أنها أنجبت ست بنات. بذلك سيكثُر أفراد الأسرة، ولكن إذا أنجبت كل بنت أطفالًا أقل، سيبدأ معدل الازدياد يتراجع في الجيل التالي. وإذا ماتت الجدة، ستفقد العائلة بذلك فردًا واحدًا مقابل الكثير من المواليد الجدد. ولكن حينما يبدأ موتُ البنات الأولَيات، وتقرر حفيداتهن عدم الإنجاب أو الاكتفاء بطفلٍ واحدٍ على الأكثر، ستبدأ كفة ميزان الوفيات والمواليد تميل ناحية الوفيات، ويقلُّ عدد أفراد العائلة.

صحيح أنَّ معدل الخصوبة الكلي في بلغاريا يبلغ الآن ١٫٥ طفل، بعدما كان ١٫٢٥ طفل قبل عشرين عامًا، لكنَّ هذا نِتاج ما يُعرف بتأثير التوقيت، وهو النمط الذي ناقشناه في الفصل الرابع في سياق الحديث عن إسبانيا. فخلال فترة تأجيل الإنجاب وزيادة متوسِّط العمر الذي تُصبح عنده المرأة أمًّا، سيحدث انخفاضٌ في الخصوبة؛ وعندما يتوقَّف ذلك، يرتفع معدل الخصوبة إلى حدٍّ ما.4 ولكن بصرف النظر عن هذه الانعكاسات الطفيفة في الاتجاه العام، فإن بلغاريا تُعَد مثالًا نموذجيًّا على انخفاض الخصوبة في أوروبا منذ فترة طويلة. فعدد النساء اللواتي في أوائل العشرينيات من أعمارهن الآن في بلغاريا يساوي نصف ما كان عليه في عام ١٩٨٠، لذا فحتى لو أنجبت كل واحدة منهنَّ نفس عدد الأطفال الذين كانوا يُنجَبون آنذاك، فإنَّ العدد السنوي لمواليد النساء اللواتي يتراوَح عُمرهن بين العشرين والخامسة والعشرين سيكون نصفَ ما كان عليه آنذاك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه ليست مجرد أرقام نظرية أو دراسات عقيمة يجريها الديموغرافيون عبثًا؛ وإنما تُحدِث تأثيرًا حقيقيًّا في الحياة اليومية. فعلى الجانب الآخر من الحدود اليونانية، أُغلِقَت أكثر من ١٧٠٠ مدرسة في الأعوام الخمسة الممتدة حتى عام ٢٠١٤، وذلك أساسًا بسبب نقص الطلاب.5 وفي مقدونيا الشمالية المجاورة، التي فقدت نحو ربع سكانها بالفعل، وصف الرئيس التحدي الديموغرافي الذي تواجهه البلاد بأنه أعمق خطر يهددها.6 وإذا انضمَّت إلى الاتحاد الأوروبي، وزادت فرص الهجرة، فستتفاقَم المشكلة.
هذا وتُعَد ألمانيا دولية أوروبية أخرى تعاني أوضاعًا ديموغرافية سيئة. فالحفاظ على عدد سكانها، ونسبة سكانها الذين هُم في سن العمل، يستلزم استقبال عدد هائل من المهاجرين. فالعديد من الألمان الذين يموتون اليوم ينتمون إلى جيلٍ لديه أطفالٌ قلائل، إن وُجِدوا أصلًا، وبذلك لا يتركون وراءهم مَن ينعونهم. وأحد دلائل هذا التغيير أنَّ عدد «جنازات الصحة العامة» — أي التي تنظمها الدولة وتتكفل بنفقاتها — تضاعَف في هامبورج بين عامَي ٢٠٠٧ و٢٠١٧.7 ومن المرجح أن يكون هذا الاتجاه مُعبِّرًا عن ألمانيا ككل.

القوة الثالثة: الهجرة

في بلغاريا واليونان ومثيلاتهما من الدول، يتضح أنَّ انخفاض الخصوبة منذ فترة طويلة يؤدي إلى تناقص السكان بوتيرة أسرع بكثيرٍ من وتيرة تأثيرِ إطالة العمر المتوقَّع في الحفاظ على عددهم. وهنا يأتي دور العامل الحاسم الثالث الذي لم يشمله مثال السيارة الذي عرضناه؛ ألا وهو ميزان الهجرة. ويمكننا هنا أن نعتبر الهجرة ميكانيكيًّا محليًّا مُتعاونًا مستعدًّا لسحب السيارة إلى الأعلى بدلًا من تركها تنزلق إلى الخلف على التل.

ففي ألمانيا التي يفوق معدَّل وفياتها معدل مواليدها، سيتناقص عدد السكان لولا الهجرة. فلأنها دولة مُزدهرة تقع في قلب أوروبا، يمكنها أن تتيح فرص عمل وظروفًا معيشية أفضل للملايين إذا اختارت فتح حدودها. سنستعرض ردة الفعل العنيفة التي يمكن أن تصاحب الهجرة في الفصل التالي، ولكن بصرف النظر عن التأثير السياسي، فعندما فتحت ألمانيا أبوابها لأناس يمرُّون بأزمات، كما فعلت خلال الحرب الأهلية السورية في عام ٢٠١٥، انتقل أكثر من مليون لاجئ إلى هناك.8

ويُذكَر هنا أنَّ ألمانيا تجتذب المهاجرين منذ فترة طويلة. ففي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، انتقل مئات الآلاف من الأشخاص إلى هناك من جنوب أوروبا وتركيا ومنطقة البلقان. وقد ساعدها كل هؤلاء المهاجرون، مع المهاجرين الذين استقبلتهم من الاتحاد السوفييتي السابق، في تجنُّب تناقص السكان. إذ جاء العديد منهم على أنهم «عمالٌ ضيوف»، لكنهم استقرُّوا هناك في النهاية. وإذا تجولتَ في أي مدينة ألمانية تقريبًا، على الأقل خارج ألمانيا الشرقية السابقة، فستجد محلات الكباب والحلاقون الأتراك والمساجد، وهذه كلها علامات واضحة على هجرة مستمرة منذ أجيال. ومهما كانت مزايا الهجرة أو عيوبها، فإنها تُضاد انخفاض عدد السكان. إذ تستطيع الدول الغنية كألمانيا، التي يزداد العزوف عن الإنجاب بين شعبها، أن تتحمَّل نفقات توكيلِ مسألة الإنجاب وتربية الأطفال إلى سكان البلدان الفقيرة بنجاحٍ، ثم تجتذب الأطفال من تلك البلدان الفقيرة عندما يبلغون السن الكافية للعمل. لذا، فعندما تصبح السيارة معرضة للانزلاق نحو الأسفل بفعل الجاذبية، يمكن الاستعانة بالهجرة. فمئات الآلاف مستعدون للمخاطرة بحياتهم للهروب من دول مثل تشاد وأفغانستان وسوريا للوصول إلى دول مثل ألمانيا.

أمَّا في بلدٍ مثل بلغاريا، فنجد أنَّ ميزان الهجرة له تأثير عكسي؛ فبدلًا من أن يُعوِّض انخفاض عدد السكان، يضاعفه، وبذلك يعزز القوة التي تسحب السيارة إلى الخلف. بل إنَّ الهجرة هي المسئولة عن نحو ثلثَي الانخفاض في عدد السكان في بلغاريا، ما يجعلها عاملًا أقوى من انخفاض الخصوبة حتى.9 فلم يَعُد السكان ذوو العرق التركي هُم من يغادرون البلاد تحت إجبارٍ من نظامٍ قمعي؛ بل صار البلغاريون الشباب المتعلمون يغادرونها طواعيةً في ظل ترسيخ الديمقراطية، وذلك لما يجدونه من إغراء في الأجور الأعلى ومستويات المعيشة الأفضل المتاحة في بلدان أوروبا الغربية التي يُمكن للبلغاريين الهجرة إليها بكل حُرية.
وقد استقبلت الدولة بعض المهاجرين خلال أزمة اللاجئين السوريين؛ لأنها كانت محطة للعديد من المهاجرين القادمين عبر تركيا، وخلال عامَي ٢٠١٤ و٢٠١٥، مُنِح نحو خمسة آلاف شخص وضعَ اللجوء رسميًّا. صحيح أنَّ معظمهم كانوا يحبذون الانتقال إلى ألمانيا، لكنَّ أولئك الذين سُمح لهم بالبقاء في بلغاريا ولم يستطيعوا مواصلة الترحال غربًا وجدوا ذلك أفضل من العودة إلى أوطانهم الممزقة من ويلات الحروب. ومنذ ذلك الحين، أصبحت إجراءات السماح بعبور الحدود أكثر تشددًا، وصار عدد المهاجرين الذين يدخلون أصغر بكثيرٍ ممن يخرجون؛ ففي عام ٢٠١٧، كان عدد البلغاريين الذين يعيشون في الخارج تسعة أمثال عدد الأجانب الذين يعيشون في بلغاريا.10
وصحيح أنَّ الحكومة البلغارية تبذل جهودًا للحد من هجرة البلغاريين إلى الخارج واجتذاب مواطنيها المقيمين ليعودوا إليها، لكن تأثير تلك الجهود ما زال مُتواضعًا. ويُذكَر هنا أنَّ أحد العائدين أعرب عن حسرته في عام ٢٠١٩ قائلًا: «لدينا عاصمة بلغارية بأكملها تعيش في الخارج.»11 فمُعظم مَن هُم في سن العمل لا يميلون إلى الهجرة من البلدان المرتفعة الدخل إلى البلدان المنخفضة الدخل، وقلَّما يرغبون في العودة إلى بلدانهم المنخفضة الدخل حالما يعيشون في أماكن أغنى. وأغلب المغتربين البلغاريين يعيشون في دول غنية. صحيح أنَّ ظهور جائحة كوفيد-١٩ في مارس من عام ٢٠٢٠ أسفر عن عودة نحو ٢٠٠ ألف بلغاري إلى بلادهم،12 لكن البلاد ستجد صعوبة في الاحتفاظ بهم حالما تعود الحياة إلى طبيعتها.

الريف يخلو تدريجيًّا

عندما يحدث الانفجار السكاني في دولة ذات أغلبية ريفية، سواء كبريطانيا في القرن التاسع عشر أو نيجيريا في العصر الحديث، يحدث تدفُّق هائل إلى المدن، التي تنمو كفطر عيش الغراب. لكن على الرغم من الانتقال من القرى إلى المدن، فإن الريف لا يُصبح خاليًا في البداية، بل يفقد سكانه الزائدين الذين لا يمكن استيعابهم في الزراعة. ولكن بعد فترة طويلة من انتهاء الانفجار السكاني، تُواصل المدن جذب سكان الريف بأضوائها الساطعة ووظائفها ذات الأجر المُجزي وفرص الحياة المثيرة. ولأنَّ أولئك الذين بقوا في المناطق الريفية لم يعودوا ينجبون الكثير الأطفال، ينخفض عدد السكان الإجمالي. وبذلك تُصبح القرى نجوعًا صغيرة، ثم تتحوَّل هذه النجوع إلى تجمعاتٍ من بضعة بيوت فقط. وفي النهاية لا يتبقَّى سوى أطلال متهالكة وبيت وحيد ذي مزرعة، ثم يُهجَر هذا البيت أيضًا في النهاية.

وتجدر الإشارة هنا إلى التراجع الهائل في تعداد سكان أوروبا ليس بظاهرة جديدة؛ فقد أسفر الطاعون الذي اجتاح القارة كلها في القرن الرابع عشر عن انخفاض عدد سكان أوروبا بمقدار الثلث تقريبًا.13 وبعد مائتَي عام، شهدت مناطق من أوروبا انخفاض عدد سكانها بنسبةٍ مشابهة إبان حرب الأعوام الثلاثين.14 وقد شهدت الصين انخفاضات كبيرة في عدد سكانها طوال تاريخها الطويل، سواء بسبب الفيضانات أو الأوبئة. وعندما وصل الأوروبيون إلى الأمريكتَين، انهارت أعداد السكان المحليين هناك.15 غير أنَّ الشيء المختلف في الانخفاض السكاني الحالي الذي تشهده المناطق الريفية في مختلف أنحاء العالم هو أنَّ الأعداد لا تتناقَص بسبب قوى خارجية فظيعة كالحرب أو المرض؛ وإنما بسبب خيارات الرجال والنساء بشأن عدد الأطفال الذين يريدون إنجابهم ومكان العيش ليس إلَّا.

وعلى مر التاريخ، كانت معظم الجماعات السكانية هشَّة؛ إذ كانت تُحقق زيادات مؤقتة تتلاشى بعدئذٍ. ويتجلى ذلك في رواية ليونارد وولف التي صدرت في عام ١٩١٣ بعنوان «القرية التي في الأدغال»، وكانت مستوحاة من الفترة التي قضاها المؤلف في سيلان (سريلانكا الآن) حيث كان يعمل مسئولًا لدى حكومة الاستعمار. إذ عانى أهل القرية في الرواية صعوبات دائمة من أجل البقاء. وفي نهاية القصة، تبدأ الأدغال في الزحف لتستعيد مكانها وتُمحى القرية تدريجيًّا، مع أنَّ أهلها بذلوا قصارى جهدهم؛ ويبدو المغزى من ذلك أنَّ الطبيعة تسود حيثما تتراجع أعداد البشر. فتَلف المحصول أو تفشِّي أحد الأمراض يمكن أن يمحو نتاج سنوات من النمو السكاني، ويؤدي إلى انخفاضٍ ربما لا يتعافى منه المجتمع أبدًا. إذ يُمكن أن تظهر قرية إلى الوجود نتيجة لفائضٍ سكاني من مستوطنة أكبر حجمًا ثم تزول تمامًا بعد بضعة أجيال فقط.

وصحيح أنَّ التراجع السكاني الحالي يحدث في منطقة واسعة من العالم تتَّسم بانخفاض معدلات الخصوبة منذ فترة طويلة، لكن الالتزام بمثال بلغاريا بالأخص يتيح لنا صورةً واضحةً عمَّا يحدث. إذ كشفت دراسةٌ استقصائيةٌ أنَّ الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين إلى عام ٢٠١٢ شهدت انخفاض عدد سكان الريف البلغاري بنحو ٦٠ في المائة، علمًا بأنَّ هذا الانخفاض استمر عقدًا كاملًا تقريبًا بعد ذلك الحين.16 كذلك فإنَّ عدد المستوطنات الكبيرة بما يكفي لتصنيفها ضِمن القرى قد انخفض من نحو ستة آلاف إلى نحو خمسة آلاف بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام ٢٠٠٧، بل وتفاقم معدَّل الانخفاض منذ ذلك الحين. ولا عجب في أنَّ القرى التي شهدت أكبر انخفاض في أعدادها هي تلك التي كان يسكنها ذوو العِرق التركي، وذلك نتيجة «الرحلة التنزهية الكبرى».17 وبينما تخلو القرى البلغارية من سكانها بمعدلٍ ينذر بالخطر، غالبًا ما يبقى كبار السن فيها لتعلُّقهم بذكريات الماضي حينما كانت الوديان تمتلئ بأصداء أصوات الأطفال وهم يلعبون. وربما يتساءلون أين عساهم أن يجدوا قسًّا ليؤدي المراسم الأخيرة لهم قبل الموت. وعن ذلك قال أحد الأشخاص الثلاثينيِّين القلائل الذين بقوا في قريةٍ ليست بعيدة عن العاصمة صوفيا لصحفي من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): «جميع أصدقائي الذين نشأت معهم هنا غادروا منذ فترة طويلة.» وذكر أنَّ مخزون البضائع في متجر قريته ضئيل جدًّا، وأنَّ صاحبة المتجر لا تعرف متى قد تضطر إلى إغلاقه بسبب قلة الزبائن. وفي بعض القرى الواقعة على مسافة أبعد نحو أعلى الوادي، أُغلِقت المحلات التجارية إغلاقًا تامًّا بالفعل.18
وفي مقاطعة فيدين التي تقع في أقصى شمال غرب بلغاريا، بين رومانيا وصربيا، تبدو الأمور أسوأ من ذلك. إذ انخفض عدد سكانها الذين هُم في سن العمل إلى النصف منذ الثمانينيات، ما زجَّ بالمنطقة في دوامة من الانحدار. فبعدما كانت تخدمها رحلةُ طيران داخلية مدتها ثلاثون دقيقة من العاصمة، لم يَعُد يُمكن الوصول إلى فيدين إلا بخوض رحلة شاقة مدتها خمس ساعات بالسيارة. وقد اشتكى أحد سكان عاصمة المقاطعة المحليين الذي حاول سابقًا أن يرحل عنها قبل أن يضطرَّ إلى العودة كلما نفدت فرص العمل، قائلًا: «كنتُ أشعر كأنني أعود إلى قبري. هذه مدينة تحتضر.»19

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عملية خلو الريف من سكانه تتفاقم ذاتيًّا. فحالما ينخفض عدد سكان قريةٍ ما عن مستوى معيَّن، تُصبح معرضةً بشدة لتوقف مدرستها عن العمل، وبذلك لن تنجذب العائلات الشابة إلى العيش هناك، بل إنَّ السكان المقيمين هناك بالفعل قد يختارون الانتقال إلى مكان آخر. وغالبًا ما تتوقَّف بعض المرافق الأساسية، كخدمة الحافلات والمخبز ومتجر البقالة، عن العمل حالما يقل السكان عن عدد معين؛ إذ تصير تكاليف الخدمات العامة غير مبررة، بينما يصبح استمرار المشروعات التجارية المحلية غير مُجدٍ اقتصاديًّا. وكذلك فعاصمة المنطقة حين تُصبح محاطة بقرى وبلدات تعاني انخفاضًا سكانيًّا، يقلُّ حجم الاستثمارات التي تجتذبها، وتفقد بِنيتها التحتية الخاصة بوسائل النقل، وبذلك تتفاقَم عُزلة المنطقة، وينفُر الناس من العيش فيها.

ومن بين العديد من الدول التي تعاني انخفاضًا هائلًا في أعداد سكانها في وسط أوروبا وشرقها، تُعَد روسيا بالأخص مثالًا لافتًا. فعلى غرار بلغاريا، نجد أن عملية التحضُّر المستمرة في روسيا منذ فترة طويلة قد تضاعفت بسبب انخفاض معدَّل الخصوبة منذ أمدٍ بعيد، وتحديدًا منذ السبعينيات على الأقل. والنتيجة أنَّ معدَّل وفياتها صار أكبر من معدل مواليدها. ولكن على عكس بلغاريا، شهدت روسيا استقبال أعدادٍ كبيرةٍ من المهاجرين، خصوصًا من دول الاتحاد السوفييتي السابق، في حين أنَّ معدلات الهجرة خارج أراضيها محدودة لأنها ليست عضوة في الاتحاد الأوروبي. غير أنَّ المهاجرين إلى روسيا، شأنهم شأن المهاجرين إلى مُعظم الأماكن، غالبًا ما ينجذبون إلى أضواء المدن الكبرى الساطعة بدلًا من الريف المحتضر. إذ هُجِرَت عشرون ألف قرية روسية بالكامل، فيما توجد ستة وثلاثون ألف قرية أخرى يقلُّ عدد سكانها عن عشرة أشخاص.20
وتُعَد قسوة المناخ في معظم أنحاء روسيا، وبُعد العديد من الأماكن في هذه البيئة الشاسعة من العوامل التي أسهمت في انخفاض عدد السكان في المناطق الريفية من البلاد. إذ يلوذ الروس إلى المناطق المركزية الحضرية الأكبر حجمًا، حيث تُدفَّأ المنازل بتدفئة مركزية، ويمكن شراء مجموعة متنوعة من سلع البقالة بسهولة أكبر وتكلفة أرخص. وتعج روسيا، مثل بلغاريا وعدد مُتزايد من مناطق العالم أيضًا، بنفسِ الحكايات المحزنة عن أفرادٍ مسنِّين بقوا في القرى التي كانت مفعمة بالحيوية في الماضي وصارت تحتضر الآن. إذ تساءلت فيرا سيليفانوفا، وهي عاملة اجتماعية من قرية شيليبوفو الواقعة على مقربة من الحدود مع كازاخستان، قائلةً: «لم يتبقَّ سوى عدد قليل من الأطفال في المدرسة. إلى متى سيبقى المُسنُّون على قيد الحياة؟» وقالت لمراسلٍ صحفي زائر: «القرية تحتضر ولا أحد يبالي.»21

التأثيرات الجيوسياسية للمساحات الفارغة: سيبيريا والشرق الأقصى الروسي والصين

في حين أنَّ خلو المناطق الريفية من السكان في بلغاريا ليس له تداعيات كبيرة على العلاقات الدولية، لا يمكن قول الشيء نفسه عن تخلِّي الروس عن مساحاتٍ شاسعة من أراضي بلادهم. فلطالما كانت الحكومة الروسية قلِقة إزاء قلة السكان في جزء كبير من أراضيها، ولذا تعكفُ منذ فترة طويلة على تغيير هذا الوضع.

ويُذكَر هنا أنَّ ألاسكا كانت جزءًا من روسيا قبل بيعها للولايات المتحدة في عام ١٨٦٧، وكان بعض المستوطنين الروس يُسافرون بطول ساحل المحيط الهادئ وصولًا حتى شمال كاليفورنيا في أوائل القرن التاسع عشر. وبالإضافة إلى وجود المستوطنين الروس في أمريكا الشمالية، أسفر مد خطوط السكك الحديدية إلى سيبيريا عن تعزيز قبضة روسيا على المنطقة منذ تسعينيات القرن التاسع عشر. وقد كانت الثورة الصناعية التي أحدثها ستالين في منطقة جبال الأورال في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما أمر بنقل رجال ونساء إلى تلك الحدود البعيدة مع الآلات اللازمة لتشجيع التنمية، بمنزلة تطور فارق في هجرة سكان روسيا إلى الخارج. وكذلك أسهمت بدورٍ حاسم في الانتصار على ألمانيا النازية؛ لأنها ضمَنت عدم اجتياح جميع المناطق الصناعية. وفي الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الحملة التي أطلقها خروتشوف تحت عنوان «الأراضي البِكر» لتشجيع روادٍ شباب على الاستقرار في الأطراف الخارجية للبلاد هي الرمق الأخير للتوسُّع الروسي.

ولكن من بعدها بدأت البلاد تشهد تراجعًا مستمرًّا منذ أكثر من نصف قرن. صحيح أنَّ بعض هذا التراجع كان سياسيًّا؛ وذلك بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي وانفصال جميع الجمهوريات غير الروسية، ولكن حَدَث تراجع ديموغرافي أيضًا. إذ أصبح الوجود الروسي في أقصى أطراف البلاد ينحسر مع تقدم السكان في العمر وعدم تناسُلهم؛ وحتى عندما يُنجبون أطفالًا، يجدون أن أبناءهم لا يُشاركونهم الرغبة في العيش في تلك المناطق النائية. وقد أعرب الرئيس فلاديمير بوتين عن قلقه بشأن منطقة الشرق الأقصى الروسي التي وصفها بأنها منطقة حمراء لتناقُص عدد سكانها الروس، خصوصًا وأنها تقع بجوار الصين التي ما زال عدد سكانها يتزايد.22 وقد سعى بوتين مؤخرًا إلى إعادة توطين بعض السكان في الشرق، وذلك من خلال تقديم أراضٍ هناك للأشخاص الراغبين في العمل بالزراعة، لكن جهوده لم تُكلل بنجاحٍ يُذكَر؛ فالتربة هناك غالبًا ما تكون أفقر من أن تُلائم الاستخدام الزراعي، والعقبات البيروقراطية عادةً ما تُبطئ سير العملية بشدة.23

وكلك فنقص الأشخاص المؤهَّلين لإدارة البِنية التحتية في الشرق الأقصى الروسي يجعل المنطقة أقل صلاحية للسكن. إذ تواجه الشركات صعوبة في إقناع الخبراء المختصين بالانتقال للعيش هناك، في حين أنَّ مُعظم السكان المحليين الذين يحملون مؤهِّلات في مجالات مفيدة اقتصاديًّا، كالتنقيب عن النفط مثلًا، يفضِّلون العمل في المدن الكبرى في الغرب الروسي.

ومع أنَّ الروس ربما يَرقُبون حدودهم مع الصين بأعين قلقة، مُتخوفين من الكثافة السكانية الكبيرة لدى جارتهم في المقاطعات المجاورة لتلك التي يهجرها الروس، فإن العديد من القرى الصينية تحتضر أيضًا. وصحيح أنَّ أحد أسباب ذلك هو معدل التحضُّر الهائل الذي استعرضناه بمخططٍ بياني بالفعل، ولكن لو كان الصينيون قد حافظوا على معدلات إنجابهم المرتفعة، سواء بأربعة أو خمسة أطفال، أو حتى طفلين أو ثلاثة، لَبقيت القرى عامرة بالكثير من السكان. فريفُ نيجيريا مثلًا لا يفرغُ من سكانه، حتى مع امتلاء مدنها بسكان جدد.

وفي هذا الصدد، تُعد قرية لومانتشا التي تقع في مقاطعة قانسو الشمالية الغربية، ولا تضمُّ أيَّ بالغين تحت سن الأربعين تقريبًا، مثالًا لتناقص عدد السكان في الصين. إذ قال مدير المدرسة الابتدائية في القرية لأحد الزائرين: «في الماضي، عندما كان الجو يُصبح أدفأ بعد فصل الشتاء، كنتَ تجد أطفالًا كثيرين يركضون ويلعبون ويصرخون ويمرحون. أمَّا الآن، فحتى عندما تحين العطلة المدرسية، قلَّما ترى طفلًا في أي مكان. لا في إجازة الصيف، ولا في إجازة الشتاء. الأطفال الذين يذهبون إلى المدن للدراسة لا يعودون.» ويُذكَر هنا أنَّ مدرسته كانت تضم مائة تلميذ في الماضي؛ أما الآن، فصار فيها ثلاثة تلاميذ فقط، لتكون بذلك واحدة من نحو ألفَي مدرسة في قانسو وحدها تضم أقل من عشرة تلاميذ.24
غير أنَّ مشكلة الصين ليست مُقتصرة على مناطق معينة فحسب. فانخفاض الخصوبة الذي استمر طوال العقود الأربعة الماضية، وتفاقم بسبب سياسة الطفل الواحد لكنه لم يَعُد إلى ما كان عليه بعد إلغائها، جعل شبح الانخفاض السكاني يلوح في الصين ككل. فخلال العقد الماضي، بلغ معدَّل النمو السكاني السنوي في الصين نحو ٠٫٥ في المائة.25 وقُرب نهاية العقد، كان معدَّل النمو أبطأ؛ بل ويعتقد البعض أنَّ عدد سكان الصين يتناقص بالفعل.26 ومن ثَم يمكن القول إنَّ الصين أصبحت، على أقل تقدير، على أعتاب الانخفاض السكاني. وبذلك عندما يتجاوز عدد سكان الهند عدد سكان الصين، وهذا شبه حتمي في السنوات القليلة المُقبلة، ستكون هذه هي المرة الأولى منذ أن أصبحت الصين دولة، أي منذ أكثر من ألفَي عام، التي لا تكون فيها الصين هي الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم.

تناقص عدد السكان يصل إلى المدن

تُعَد اليابان أيضًا من الدول التي تتَّسم بانخفاضٍ مستمر في معدل الخصوبة، كما رأينا بالفعل. ولذا فهي لا تعاني شيخوخة سكانية فحسب، بل تخلو تدريجيًّا من السكان أيضًا. فعلى غِرار قُرى بلغاريا وروسيا، تُهجَر القرى اليابانية. ومن ثَم تزدهر أشكال الحياة البرية في الريف الذي يهجره المزارعون، بل وبدأت تتعدى على المساكن البشرية المتضائلة؛ ففي شمال اليابان، ازداد عدد المرات التي شوهدت فيها الدببة إلى الضِّعف في عام واحد فقط.27 لكنَّ حتى ضواحي البلاد بدأت تخلو من السكان الآن. فعلى عكس ما يحدث في جزء كبير من دول الغرب، حيث يتطلَّع الكثيرون ممَّن هُم في منتصف العمر إلى المكسب المالي المفاجئ الذي يأتي إليهم عند وراثة منزل أحد أقربائهم الأكبر سنًّا؛ نجد أنَّ الكثيرين ممَّن يرثون العقارات في اليابان، ومن أجل الضرائب المرتفعة المفروضة على المساكن الثانية، يختارون التخلي عن ملكيتها ويعلنونها مهجورة. وبذلك أصبح ما يقرب من منزل واحد من كل سبعة منازل في اليابان مسجلًا على أنه بلا مالك، ومن المتوقع أن تتفاقم المشكلة.28
وبينما تسافر أعداد مُتزايدة من السياح لرؤية وسط مدينة طوكيو الصاخب النابض بالحياة، تعاني الضواحي الواقعة على بُعد مسافة قصيرة بالقطار من العاصمة شيخوخةً سكانية، وتخلو تدريجيًّا من السكان. وفي حين أنَّ المشكلة أسوأ في بلدات المقاطعات، توقَّع أحد خبراء العقارات أن ضواحي طوكيو في غضون خمسين عامًا ربما ستُصبح نُسخًا مُصغرة من مدينة ديترويت، لأنها حينئذٍ ستعجُّ بعقاراتٍ متهدمة وخاوية.29

ولعلَّ هذه الإشارة إلى ديترويت تُذكِّرنا بما يحدث منذ فترة في مُعظَم أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية. فمع أنَّ عدد سكان كل دولة هناك قد يكون ثابتًا أو يزداد بمعدلٍ طفيفٍ حتى، نتيجة للهجرة وتأثيرات الزخم الديموغرافي الضعيفة المتبقية، فإن خروج السكان المستمر الذي بدأ في الريف قد امتد الآن إلى بعض البلدات. والأكثر تضررًا هي مدن مثل ديترويت، التي كرَّست الكثير من مواردها لصناعاتٍ معينة بدأت تتدهور منذ ذلك الحين، وبذلك أصبحت بمنزلة مناطق حضرية صدئة في ظل ما تعانيه من تضاؤل فرص العمل وتدهور المراكز التجارية وتهالك البنية التحتية.

ويُعَد احتضار المدن عَرَضًا لمرضٍ مُستشرٍ في معظم العالم المتقدم. وأذكر هنا أنَّ صديقًا لي نشأ في مدينة ستوك-أون-ترينت الإنجليزية، التي تشتهر بصناعة الفخار والتي كانت مُزدهرةً يومًا ما، قال لي إنه حين زار البلدة مؤخرًا وجدها مختلفة تمامًا عمَّا كانت في طفولته. ومع أنَّ الكثيرين من سكان البلدة كانوا فقراء عندما نشأ هناك في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، فإنَّ المتاجر والشوارع كانت مزدهرة. وقد صار سكان ستوك حاليًّا يتمتعون بحياة أفضل من حيث التغذية والإسكان والتعليم، فيما أصبحت نسبة البطالة منخفضة جدًّا؛ على الأقل قبل جائحة كوفيد-١٩. وكذلك أصبحوا يمتلكون هواتف ذكية ويستمتعون بعطلاتٍ رخيصة في الخارج بعدما كان ذلك يبدو بمنزلة معجزة لصديقي في صباه. لكن رغم كل هذا، شعر صديقي بيأسٍ من حالة المكان.

غير أنَّ كبار السن عادةً ما ينظرون إلى الأشياء من منظورٍ وردي، لذا ربما ينبغي هنا ألَّا نُسلِّم بصحة كلام صديقي دون دليل. لكن إذا نظرنا إلى البيانات السكانية، عِلمًا أنَّ التغيرات الديموغرافية وحدها لا يُمكن أنَّ تفسر التدهور الحضري بالكامل؛ لأنها في الحقيقة جزءٌ من النتيجة بقدرِ ما هي جزء من السبب، فسنجد مؤشرًا على التدهور الذي شعر به صديقي. فعدد سكان ستوك، الذي ازداد إلى خمسة عشر أمثاله بين مطلع القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، قد بلغ ذروته في منتصَف القرن العشرين ثم مضى بعدئذٍ يتراجع تراجعًا تدريجيًّا وغير مُنتظم. لكن الشيء اللافت هو التغيُّر الذي طرأ على تركيبة أعمار السكان. فقبل الحرب العالمية الأولى، كان عدد الأطفال دون سن الخامسة يفوق عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على خمسة وستين عامًا أربع مرات على الأقل؛ أمَّا الآن، فأصبح عدد أفراد تلك الفئة الثانية يفوق عدد أفراد الأولى بنسبة اثنين إلى واحد تقريبًا.30 وفوق ذلك، فقدت المدينة ٤٠ في المائة من خمَّاراتها وحاناتها في الأعوام العشرين الماضية.31 لذا لا عجب في أن تبدو ستوك الآن مكانًا مختلفًا عن تلك المدينة الشابة الحيوية التي عهدها صديقي منذ سبعين عامًا.

إنَّ قلة السكان، وخصوصًا الشباب، تُمثل فصلًا رئيسيًّا في قصة التدهور الحضري. فلو كان معدل الخصوبة في بريطانيا قد استمر كما هو، وظل عدد سكانها ينمو بنفس المعدل الذي كان ينمو به خلال فترة طويلة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لَما شعرت مدينة ستوك ومثيلاتها حاليًّا بهذا القدر من التضاؤل. ولكانت البلاد عامرة بأعدادٍ كافية من السكان ليتسنى لمناطق أكثر أن تشهد نموًّا سكانيًّا كالذي شهدته المدن الإنجليزية الناجحة مثل مانشستر وليفربول، اللتين استطاعت كلتاهما أن تقلب الوضع في السنوات الأخيرة، وتحوِّل الانخفاض السكاني إلى زيادة. ولكن ينبغي القول إنَّ نجاح هذه المدن الشمالية جاء على حساب البلدات المحيطة بها، التي تشعر بأنها ضُمَّت إليها قسرًا أو أُفرِغَت من سكانها.

ويُمكنك أن تلمس الفرق بين النمو السكاني والانخفاض السكاني حينما تتمشى في وسط أي مدينة. فإذا زرت مدينة كامبريدج الإنجليزية الشهيرة بكثرة الشباب الجامعيين بين سكانها على سبيل المثال، ستجد أنها مزدهرة بكل وضوح. وهذا يتجلى في وجود الناس في وسط المدينة حتى في غير أوقات الفصل الدراسي، إلى جانب أنَّ معظم المنافذ التجارية مشغولة وتعمل بالفعل. وكذلك سترى المطاعم والحانات ممتلئة، ولن تجد متاجر مغلقة ذات واجهات مغطاة بالألواح الخشبية في شوارع التسوق الرئيسية. وبعد رؤية ذلك، لن تستغرب حين تكتشف أنَّ عدد سكان كامبريدج يزداد باطراد منذ فترة طويلة. إذ تضاعف عددهم تقريبًا بين عشرينيات القرن العشرين والتعداد السكاني لعام ٢٠١١، بينما انخفض عدد سكان ستوك بنحو ٦ في المائة خلال الفترة نفسها.32 أي إنَّ كامبريدج تُجسد صورةً مختلفةً تمامًا عن ستوك، وما يُمكنك أن تشعر به في الشوارع، يمكنك أن تراه في أعداد السكان أيضًا.
هذا وتُعَد شيفيلد من المدن الإنجليزية الأخرى التي استطاعت الحفاظ على عدد سكانها من خلال زيادة عدد الطلاب، الذي صار يتجاوز الآن ٦٠ ألف طالب، مع أنَّ عدد وظائف قطاع التصنيع انخفض منذ أوائل السبعينيات من ١٢٥ ألف إلى ٢٥ ألف فقط.33 صحيح أنَّ حياة الطالب ربما تكون أمتع من حياة عامل في مصنع الصلب مثلًا وأنَّ وجود سكان متعلمين يحمل منافع، لكنَّ مصانع الصلب كانت تُلَبِّي احتياجاتها المالية بنفسها يومًا ما على الأقل، في حين أنَّ احتياجات الطلاب المالية تُلبَّى بموجة من الديون المتزايدة.

ويُمكن القول إنَّ ما شعر به صديقي تجاه ستوك ينطبق على معظم العالم المتقدم. فالولايات المتحدة مثلًا لديها منطقة شاسعة تُعرَف باسم «حزام الصدأ»، وهي منطقةٌ تراجعت فيها الصناعة، وخلَّفت وراءها مدنًا يتناقص عدد سكانها يومًا تلو الآخر. فالشوارع التي كانت مزدحمة يومًا ما أصبحت الآن فارغة ومشوَّهة بالمحلات التجارية المغلقة والواجهات المغطاة بألواح خشبية. وتظهر المشكلة ذاتها في مناطق واسعة من ألمانيا وفرنسا. صحيح أنَّ عدد السكان في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لم يبدأ التناقُص بالأرقام المطلقة حتى الآن، لكنَّ جغرافيتنا الحضرية، مثلها مثل اقتصادنا، قائمة على افتراضِ وجود نموٍّ مُستمر وقوي. وحالما ينتهي ذلك النمو، يبدو أنَّ المدن تُصبح مُستنزَفة الطاقة والحيوية.

ولم تعد المدن الصغيرة أو تلك الموجودة في حزام الصدأ فقط هي التي تعاني انخفاض عدد السكان. فحتى منطقة وسط باريس تشهد تضاؤلًا سكانيًّا منذ أكثر من عقد؛ إذ تعرَّضت خمس عشرة مدرسة هناك للإغلاق أو الدمج في السنوات الثلاث من عام ٢٠١٥ حتى عام ٢٠١٨. فيما يفوق عددُ البريطانيين الذين يُغادرون لندن سنويًّا عددَ البريطانيين الذين ينتقلون إليها بنحو مائة ألف فرد، وهذا الفارق لا تعوِّضه سوى الهجرة الجماعية إليها. وكذلك بدأت نيويورك تشهد تناقص عدد سكانها مؤخرًا؛ علمًا بأنَّ كل هذه التطورات كانت قبل جائحة كوفيد-١٩.

ويُذكَر هنا أنَّ الطفرة السكانية الكبيرة في الماضي قد حدثت في الريف أولًا، ثم انتشرت حتى وصلت إلى المدن، وما زال الوضع هكذا في أفريقيا. وبالمثل، فقد رُصِد الانخفاض السكاني لأول مرة في قرى نائية قبل أن يشق طريقه إلى الداخل، حتى تجلَّى أخيرًا في الشقق المهجورة في ضواحي طوكيو والمخابز الباريسية المغلقة. وهذه هي سِمة الانخفاض السكاني الطويل الأمد.34
fig13
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، (التوقعات المتوسطة).

تاريخيًّا، لم يكن عدد السكان يتناقص إلَّا إذا تعرضوا لمجاعة أو طاعون أو حرب أو غيرها من الكوارث. غير أنَّ استمرار الخُصوبة المنخفضة منذ عقود عديدة جعل الدول تعاني انخفاضًا سكانيًّا من صُنع أيديها. وقد شهدت بلغاريا هذه الظاهرة قبل الدول الأخرى، وتسارعت وتيرة حدوثها هناك بفعل الهجرة، لكن اليابان أيضًا صارت تشهدها الآن، فيما لم تتمكَّن ألمانيا من تجنُّب الانخفاض السكاني إلا لأنَّ عدد المهاجرين إليها يفوق عدد مَن يخرجون منها. وفي الصين، بلَغ عدد السكان الذين هم في سن العمل ذروته وبدأ يتناقص بالفعل، وسيبدأ عدد السكان الإجمالي في الانخفاض قريبًا.

fig14
المصدر: شعبة السكان في الأمم المتحدة، (التوقعات المتوسطة).

يتجلَّى الانخفاض السكاني بوضوحٍ صارخٍ في انخفاض أعداد صغار السن، والوضع في إيطاليا مثالٌ على ذلك. فبحلول نهاية القرن الحالي، من المتوقع أن يكون عدد الأطفال الإيطاليين الأصغر من خمسة أعوام ثلثَي ذروته التي وصل إليها قبل ستين عامًا.

البشر في المستقبل: هل سيكون لهم أي وجود أصلًا؟

يبدو من الكلام المذكور أعلاه أنَّ انخفاض عدد السكان ظاهرة حتمية لا مفر منها، فهو مرض زاحف يبدأ في المناطق الريفية النائية، التي تُعَد بمنزلة أطراف الجسم، قبل أن يتقدم تدريجيًّا حتى يصل إلى القلب. وتمامًا كالفيروس، ينتشر من بلدٍ إلى آخر، ومن قارة إلى قارة، ويظهر فجأة في أماكن كانت مشهورة سابقًا بالحشود المكتظة الصاخبة والعائلات الكثيرة الأفراد. ويبدو أنَّ قصص القرى المهجورة والمدارس المغلقة والشقق الفارغة في الضواحي، التي بدت ذات يومٍ مقتصرة على مناطق محلية، قد صارت عالمية. وبينما كان يبدو في الماضي أنَّ البشر سيَلتهمون الكوكب، صار يبدو الآن أننا ربما سنطلب في النهاية من آخر إنسان مُتبقٍّ في الكوكب أن يُطفئ الأنوار قبل رحيله.

ويُذكَر هنا أنَّ داريل بريكر وجون إيبيتسون قد لخَّصَا هذه الأطروحة تلخيصًا وافيًا جدًّا في كتابٍ صدر عام ٢٠١٩ بعنوان «كوكب فارغ». إذ ذكرا أنَّ الكوكب كله يتجه نحو التحضر، وفي الوقت نفسه يمنح المرأة حقوقًا أفضل، ويتبنَّى مواقف أكثر ليبرالية في العموم. وهذا يعني أنَّ معدلات الخصوبة، المنخفضة أصلًا، ستَشهد مزيدًا من الانخفاض، وأنَّ الانخفاض سينتشر على نطاقٍ أوسع، ما يُؤدي في النهاية إلى انخفاض عدد السكان. وفي حين أنَّ الكثير من البيانات تُشير نحو هذا الاتجاه بالفعل، يرى بريكر وإيبيتسون أنَّ أغلبها لا يُعبِّر عن مدى جسامة الوضع. إذ كتبا أنَّ «بعض الخبراء الديموغرافيين والمسئولين الحكوميين [في الهند] قالوا لنا … مِرارًا وتكرارًا … بصوتٍ هامسٍ إنَّهم يظنون أنَّ معدل الخصوبة قد انخفض بالفعل إلى أقل من ٢٫١.»35 وتُظهِر أحدث البيانات أنهم كانوا على حق. وقد أعربا عن شكوكهما في دقة البيانات الأفريقية أيضًا، وبذلك يتوقَّعان أن عدد سكان العالم سيبلغ ذروته ثم يبدأ الانخفاض ليس في نهاية القرن الحالي، بل في منتصفه، أي في غضون بضعة عقود فقط. ويبدو هنا أنَّ الذعر يتقلَّب على مر القرون. ففي أوائل القرن التاسع عشر، حينما بدأت انطلاقة التحول الديموغرافي في إنجلترا، تنبَّأ توماس مالتوس بأنَّ الكوكب في المستقبل سيصبح مكتظًّا بعددٍ مهولٍ من البشر يفوق قدرته على تلبية لوازم حياتهم. وبعد ذلك بمائة عام، حينما بدأ الناس يلاحظون أنَّ معدل الإنجاب في إنجلترا بدأ ينخفض، بدأت صحيفة «ديلي ميل» تُعرِب عن قلقها من «انحسار العِرق»، فيما تحدث الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت عمَّا يُسمَّى «الانتحار العرقي».36 وبحلول الستينيات، عندما كان معدَّل النمو السكاني العالمي في ذروته، هدَّدنا عالمُ الأحياء والخبير السكاني بول إرليتش ﺑ «قنبلته السكانية»، بعدما نظر من سيارة أجرة في مدينة دلهي ورأى «أناسًا يأكلون، وأناسًا يشاهدون، وأناسًا نائمون. أناسًا يتزاوَرُون ويتجادلون ويصرخون … وأناسًا يتغوَّطون ويتبولون. وأناسًا يتشبَّثون بالحافلات. وأناسًا يرعون الحيوانات. أناسًا وأناسًا لا ينتهون.»37 أمَّا الآن، فيبدو أننا نشعر بأننا سنتساءل قريبًا أين اختفى كل الناس.
غالبًا ما يُبالغ كلا طرفَي هذا الجدال المستمر منذ قرون في رؤية الاتجاهات الحالية على أنها لن تتغير أبدًا. وإذا أردنا الحصول على صورة أكثر توازنًا، فسينبغي أن نعود إلى مسألة الخصوبة، التي ستكون هي العامل الحاسم في النهاية. ففي كل الأحوال، يُعَد انخفاض الخصوبة هو السبب الرئيسي لتناقص السكان، ولا سبيل إلى تفادي خلو الكوكب من السكان سوى أن نقلب الوضع ونجعل معدلات الخصوبة المنخفِضة ترتفع، أو على الأقل نمنع انتشار انخفاضها في كل أرجاء العالم. فليست كل المناطق الحضرية تتسم بانخفاض معدلات الخصوبة. صحيح أنَّ معدل الخصوبة في كولكاتا يزيد قليلًا على طفل واحد لكل امرأة. ولكن في ولاية لاجوس، التي تهيمن عليها واحدة من أكبر المدن الكبرى وأسرعها نموًّا في العالم، ما زالت النساء يُنجبن نحو ضعف عدد الأطفال عند مستوى الإحلال.38 صحيح أنَّ ذلك قد يتضاءل بالطبع، ولكن من المحتمل أيضًا ألَّا يتضاءل. والشيء الوحيد الذي سيحسم ذلك ليس قوةً اجتماعيةً مستقلةً عن الإرادة الشخصية، وإنما الخيارات التي يتخذها ملايين النساء والرجال بشأن حياتهم.

ومثلما يُمكن أن تتفاوت معدلات الخصوبة تفاوتًا كبيرًا بين المدن المتقاربة في مستوى التقدم، فإن الشيء نفسه يمكن أن يَنطبق على الدول. إذ نجد حالات مثل تايلاند التي انخفضت فيها الخصوبة من ٥ إلى ١٫٥ منذ السبعينيات، ولكن في الوقت نفسه توجد حالات مثل سريلانكا التي تراوَح فيها معدل الخصوبة بين ٢ و٢٫٥ خلال معظم فترات العقود الثلاثة الماضية.

وحتى ضمن العالم المتقدم، توجد بين بعض الدول اختلافات جديرة بتسليط الضوء عليها. فاليابان ودول جنوب أوروبا وشرقها ربما تتَّسم بضعف الإقبال على إنجاب الأطفال، لكنَّ معدل الخصوبة في دول الشمال قريب جدًّا من مستوى الإحلال مما يجعل أي انخفاض طبيعي في عدد السكان بطيئًا للغاية؛ فمعدل الخصوبة في الدنمارك يكاد يكون ثابتًا منذ خمسين عامًا، في حين أنَّ معدل الخصوبة الحالي في السويد أعلى ممَّا كان في عام ١٩٣٧.39 المغزى هنا أنَّ معدلات الخصوبة يُمكن أن تبقى عند مستوى الإحلال أو بالقُرب منه طوال عدة أجيال؛ أي إنَّ انجراف الخصوبة إلى ما دون مستوى الإحلال ليس أمرًا حتميًّا بأي حالٍ من الأحوال.

ومع أننا نتحدث كثيرًا عن وجود اتجاهات سائدة في مختلف أنحاء قارات معينة، توجد تفاوتات كبيرة داخل بعض القارات. فالخصوبة في غرب أفريقيا غالبًا ما تكون أعلى منها في شرق القارة وجنوبها، وغالبًا ما تكون أقل بكثيرٍ في شمال القارة؛ وكذلك تتَّسم مناطق جنوب أوروبا وشرقها بمعدلات متدنية للغاية، في حين أنَّ مناطق الشمال والغرب لم تصل إلى هذه المستويات؛ على الأقل حتى الآن.

ونلاحظ أيضًا أنَّ مقدار انخفاض الخصوبة في شرق آسيا أعلى منه في جنوب آسيا؛ ويمكن هنا أن نعزو ذلك إلى التقدم الأكبر في الظروف المادية؛ فالصين واليابان مُتقدمتان اقتصاديًّا على الهند وباكستان بفارق كبير. لكن هذه العلاقة المباشرة بين التقدم الاقتصادي وانخفاض معدَّلات الخصوبة لا تنطبق على أوروبا، حيث تتَّسم الدول الاسكندنافية الغنية وفرنسا والمملكة المتحدة بخصوبة أعلى من إيطاليا وإسبانيا واليونان، وبلغاريا أيضًا بطبيعة الحال. ولا يبدو كذلك أن مستويات التقدم تُفسر بُطء انخفاض معدل خصوبة النساء النيجيريات مقارنةً بنظيراتهن في كينيا. يتضح من ذلك أنَّ التفسيرات القديمة المقتصرة على التقدم والتحضُّر لن تصل باستيعابنا إلى أبعد مما وصل إليه بالفعل؛ ومن ثَم سنحتاج إلى تفسيرات أخرى شائقة قائمة على الثقافة والتقاليد والمُعتقدات لنحصل على صورة أشمل. يبدو أنَّ ديموغرافيا ما بعد الحداثة تسود رويدًا رويدًا.

ولكن مهما كانت الاختلافات في معدَّل الخصوبة داخل القارات وفيما بينها، فإن عدد سكان العالم لن ينخفض في أي وقتٍ قريب. فإذا صحَّت بيانات الأمم المتحدة، سنجد أنَّ المعدل العالمي ما زال أعلى بكثيرٍ من طفلين لكل امرأة. وحتى عندما ينخفض إلى ما دون مستوى الإحلال، فإن «الزخم الديموغرافي» سيضمن استمرار الزيادة السكانية لوجود عدد كبير جدًّا من الصغار الذين من المنتظر أن ينجبوا أطفالًا، وذلك بفضل كثرة المواليد في الأجيال السابقة. وفوق ذلك، سيستمر ازدياد متوسِّط العمر المتوقع في العديد من البلدان بمقدارٍ كبير؛ أي إنَّ السيارة التي تتحرَّك نحو أعلى التل ما زالت تحظى بكثيرٍ من الزخم الذي يدفعها إلى الأمام. ويُذكَر هنا أنَّ عدد السكان الأوروبيِّين استمر في الزيادة خلال العقد الثاني من القرن العشرين لأسبابٍ مماثلة، على الرغم من الهلاك الذي أحدثته الحروب وجائحة الإنفلونزا الإسبانية.

وفي أعقاب جائحة كوفيد-١٩ أصبحنا أوعى بالمخاطر التي قد تُشكِّلها مثل هذه الجوائح على سكان العالم؛ فالطاعون أسفر عن تراجع عدد سكان بعض الدول الأوروبية على مدار قرون. ويتكهَّن البعض بأنَّ السبب وراء عدم العثور حتى الآن على حياة ذكية على كواكب أخرى هو وجود عوامل معينة تقضي عليها؛ كأن تُدمر ذاتها بذاتها أو تعاني انخفاض الخصوبة على مر فترة طويلة أو تتعرَّض لنوعٍ من الفيروسات أو الجراثيم.40 ومع ذلك، يُمكننا أن نجزم بثقةٍ في الوقت الحالي بأنَّ البشر سيظلُّون موجودين فترة من الزمن، وأن وصول عددهم إلى «الذروة»، فضلًا عن وصوله إلى «الصفر»، ما زال على بُعد بضعة عقود.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ جزءًا كبيرًا من دول العالم الغني، وخاصة أوروبا الغربية، كان سيشهد انخفاض عدد السكان لولا الهجرة. ففي ألمانيا مثلًا، نجد أنَّ عدد الوفيات السنوي يفوق عدد المواليد السنوي بمائتَي ألف شخص. وعن ذلك يقول مانفريد جروسر، وهو قسٌّ في بلدة تقع بين برلين ودرسدن، إنه يرأس خمس جنازات مقابل كل طقسٍ تعميدي، ويتحدث عن وجود «غيوم ديموغرافية داكنة تُخيم على الأفق.»41 ومن دون استقبال أعداد كبيرة من المهاجرين، سينخفض عدد سكان ألمانيا قريبًا، وبحلول منتصف القرن الحالي سيكون عدد ما تفقده من سكانها سنويًّا نصف مليون. وبحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، من المتوقَّع أن ينخفض عدد سكان ألمانيا بنحو ٤٠٪ عن عددهم الحالي. بل إنَّ الوضع سيكون أفظع إذا لم تكن معدلات خصوبة المهاجرين إلى ألمانيا مرتفعة نسبيًّا.

ربما تستطيع دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية تجنُّب الانخفاض السكاني باستقطاب المهاجرين الذين يتوافَدُون من أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. غير أنَّ هذا يؤدي إلى تحولات في الولايات المتحدة وكندا، ويُسفر عن أسرع تغيير في تركيبة أوروبا العرقية منذ هجرات الشعوب التي أعقبت انهيار الإمبراطورية الرومانية. ولذا نَنتقِل الآن إلى الحديث عن هذا التغير العرقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤