الفصل الثامن

التغير العرقي

٢٢: النسبة المئوية لطلاب المدارس البيض في كاليفورنيا1

«أومن بأنَّ الرب قدَّر للولايات المتحدة أن تكون موطنًا لشعبٍ عظيم. شعب ناطق بالإنجليزية ومنحدر من عِرقٍ أبيض له مُثُل عظيمة ومُعتنِق للدين المسيحي، شعب ذو عرق واحد وبلد واحد ومصير واحد. لقد كانت أرضًا عظيمة استوطنها أهلُ شمال أوروبا من المملكة المتحدة والشماليين والسكسونيين … لم يكن ينبغي قطُّ السماح للأفارقة والشرقيِّين والمنغوليين وكل الأجناس الصفراء في أوروبا وآسيا وأفريقيا بالعيش في هذه الأرض العظيمة.»

هذا ما قاله منفعلًا عضو الكونجرس إيرا هيرسي في مناقشةٍ دارت في عام ١٩٢٤ بشأن تقديم مشروع قانون لفرض ضوابط على الهجرة إلى الولايات المتحدة. كانت الولايات المتحدة قد استقبلت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى موجةً هائلة من المهاجرين من جنوب أوروبا وشرقها. ولم تُفرَض ضوابط جدية على استقبال المهاجرين من أوروبا إلَّا حالما انتهت تلك الحرب؛ وذلك بدافعٍ من نزعةٍ إلى الانعزال. وقيل آنذاك — بلا خجل — إنَّ الهدف من هذه الضوابط هو الحفاظ على الطابع العِرقي للبلاد؛ وبصرف النظر عن تسمية ذلك الطابع بأنه «أنجلوسكسوني» أم «أوروبي شمالي»، فقد فضَّلت السلطات الوافدين من الجزر البريطانية على أولئك القادمين من روسيا أو بولندا أو إيطاليا. ووضِعَت النسب المسموح بها بناء على التركيبة العِرقية للمهاجرين بين سكان الولايات المتحدة في عام ١٨٩٠. وكانت القيود التي فُرضَت في عشرينيات القرن الماضي تهدف إلى الحد من «نوعية الأوروبيين الخاطئة»، لكنها أيضًا حظرت استقبال أي مُهاجرين من آسيا على الإطلاق. ويُذكَر أنَّ عضو الكونجرس ألبرت جونسون، أحد رعاة مشروع القانون، قد أوضَح أهدافه آنذاك قائلًا: «أملنا هو أمة مُتجانسة … الحفاظ على الذات يتطلَّب ذلك.»2

لكنَّ صراحة ألبرت جونسون كانت مُتواضعة مقارنةً بتلك التي أبداها مُؤيده إيرا هيرسي، الذي يُذكِّرني تعصبه بشخصية بوس فينلي، إحدى شخصيات مسرحية «طائر الشباب الجميل» (ذا سويت بيرد أوف يوث» التي كتَبَها تينيسي ويليامز. ومع أنَّ خطاب هيرسي كان دينيًّا ومشحونًا بالتمييز العنصري، فإنه لم يكن عُضوًا ممثلًا لإحدى ولايات الحزام الإنجيلي أو الولايات الجنوبية، بل كان ممثلًا لولاية مين الشمالية ذات الأغلبية الساحقة من ذوي البشرة البيضاء؛ وهو ما يُوضح أنَّ التعصب كان منتشرًا على نطاقٍ واسعٍ في أمريكا بين الحربين العالميتين. وكان هيرسي مقتنعًا تمامًا بأنَّ الرب فضَّل ذوي الأصل الأوروبي الشمالي، وهو ما يُشير إلى غطرسة عرقية لم تكن مُمكنة إلا في عصرٍ فرض فيه ذوو الأصول الأوروبية سيادتهم على العالم، ويتوقَّعون أنهم سيظلون هكذا إلى الأبد.

الهجرة والعرق في أمريكا

تخوض الولايات المتحدة صراعًا مريرًا مع قضايا الهجرة والعرق منذ أمدٍ بعيد. فهي دائمًا ما تريد مزيدًا من الناس والتقدم، لكنها في الوقت نفسه تواجه صعوبات في تحديد المعايير المناسبة لضمِّ أفرادٍ جُدد إلى المجتمع الأمريكي. وكذلك فبعض سكانها يُنادون — منذ زمن طويل — باحتضان البشر بصرف النظر عن أصولهم، لكنَّ هؤلاء الليبراليين يَصطدمون دومًا بآخرين ذوي آراء أكثر تعصبًا للنزعة القومية العرقية.3

في القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة مدفوعة برغبة في التوسُّع، وهو ما كان يستلزم أن تملأ مساحاتها الفارغة بسكانٍ ومدن وسكك حديدية ومصانع ومزارع. شعر الأمريكيون عندئذٍ بأنهم في مهمة، وهذا الشعور، الذي صار يُعرَف بمصطلح «القدر المتجلي»، كان قائمًا على فكرة أنَّ قَدَرهم أن يُنشئوا أمة عظيمة من الساحل إلى الساحل. ويُمكن القول إنَّ ذلك الدافع كان دينيًّا وأيديولوجيًّا وعمليًّا. إذ اعتقد العديد من الأمريكيِّين بأنهم مُكلَّفون من الرب بالانتشار في البرية، لكنهم كانوا مدفوعين أيضًا بدافعٍ اقتصادي قوي. غير أنَّ ملء أمريكا تطلَّب أناسًا جددًا، وبأعدادٍ كبيرة. صحيح أنَّ الأمريكيين كانوا يتمتَّعون بخصوبة عالية وعائلات كثيرة الأفراد وبقاء نسبة كبيرة من مواليدهم على قيد الحياة، لكنَّ النمو السكاني السريع في البلاد لم يكن كافيًا لملء القارة بالوتيرة المُلحة التي كان القدر المتجلِّي يتطلَّبها. وهكذا قبلت الولايات المتحدة مهاجرين فقراء ومتسخين من أقصى أركان أوروبا، بل ورحبت بهم. حتى إنها أقامت تمثال الحرية لإبراز هذه النقطة.

فالمهاجرون الذين وفدوا إلى جزيرة إليس في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانوا مُختلفين عن المهاجرين الإنجليز والاسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين والهولنديِّين والألمان الذين سبقوهم. فبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وبفضل تحسُّن وسائل النقل سواءٌ داخل أوروبا أو منها إلى الخارج، أصبح السفر عبر المحيط الأطلسي احتمالًا ممكنًا لسكان أماكن مثل صقلية وبولندا، بعدما كانت أمريكا تبدو لهم في السابق مكانًا بعيدًا جدًّا. ولكن بحلول مطلَع القرن العشرين، صار ممكنًا حتى للكثيرين من سكان المناطق الداخلية في أوروبا أن يطمحوا إلى الهجرة إلى أمريكا، واكتسبت العملية زخمًا. فكما رأينا في الهجرة من أفريقيا في الفصل الثاني، حالما كان العمُّ أو ابن العم مثلًا يستقر هناك، كان يُشعِر أقرباءه من الوافدين الجُدد بالألفة عند وصولهم، ويستضيفهم ليبيتوا عنده ليلةً أو اثنتين، ويوصلهم بمعارف مفيدين يساعدونهم للعثور على عمل.

وصحيح أنَّ رغبة أمريكا في النمو والبناء كانت سببًا في تأخير فرض قيود على الهجرة، لكنَّ النهج الذي كانت تتبعه قبل عشرينيات القرن الماضي لم يكن ليبراليًّا بالكامل على أيِّ حال. ففي عام ١٨٤٨، عندما ضُمَّت كاليفورنيا وجزءٌ كبير من الغرب الأمريكي من المكسيك، لم يُعتبَر المكسيكيون الذين كانوا يعيشون في هذه الأراضي المُخضَعة مواطنين مرغوبًا فيهم داخل الجمهورية. ولم يُعتَرف بتلك الأراضي على أنها ولايات ضمن الاتحاد إلا عندما صارت ذات أغلبية بيضاء راسخة؛ علمًا بأنها كانت تظلُّ قبل ذلك الحين أراضيَ تابعة لإدارة الحكومة الفيدرالية. ويُذكَر هنا أنَّ كاليفورنيا كانت تضم عددًا كبيرًا من السكان المكسيكيين، لكنها كانت جذابة جدًّا للأمريكيين الوافدين؛ وبذلك سرعان ما أصبحت ذات أغلبية بيضاء، وقُبِلت في الاتحاد عام ١٨٥٠. أمَّا نيو مكسيكو، فكانت تضمُّ عددًا أكبر من السكان المكسيكيين في البداية، ولم تكن جذابة بالقدر ذاته للمُستوطنين البيض. ولذا لم تصبح ولاية حتى عام ١٩١٢.4
غير أنَّ المشاعر المرتبطة بالهوية العرقية لم تؤثر فقط في تحديد الأراضي الجديرة بأن تنال الاعتراف بأنها ولايات، وإنما أيضًا في تحديد الأراضي الجديرة بالضمِّ أصلًا. فعندما اقتُرِح ضم الفلبين بعد الحرب الإسبانية عام ١٨٩٨، احتجَّ السيناتور بن تيلمان مُمثل ولاية كارولينا الجنوبية قائلًا: «إنكم تعتزمون ضمَّ جزرٍ يسكنها عشرة ملايين شخصٍ ذوي أعراق ملوَّنة، ونصفهم أو أكثر من أحطِّ أنواع البرابرة، إلى هذه الحكومة وجعلها جزءًا لا يتجزأ منها.» وذكَر أنَّ تأثير ذلك سيكون بمنزلة حَقن «جسم الولايات المتحدة السياسي بذلك الدم الفاسد المتجسد في هؤلاء الناس المنحطِّين الجهلة.»5

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الفرص الاقتصادية المتاحة في كاليفورنيا، وخصوصًا ذهبها، لم تَجتذِب أوروبيين فحسب، وإنما اجتذبت مُهاجرين آسيويين أيضًا في العقود التي تلَت غزو الولايات المتحدة للغرب، وهو ما أدَّى إلى ردة فعل قوية. ففي وقتٍ مبكر جدًّا، وتحديدًا في عام ١٨٥٢، فُرِضَت ضرائب على السكان الصينيين في كاليفورنيا من أجل تثبيط استيطانهم. وفي أواخر القرن التاسع عشر، سُنَّت عدة قوانين متنوِّعة لتقييد وجودهم، وغالبًا ما كانت مصحوبة بأعمال عنفٍ ضدهم. وعادةً ما كانت النقابات العمالية تُفضِّل فرض قيودٍ على الهجرة لأنَّ وفرة العمالة الأجنبية بلا رادعٍ كانت ستُؤدي إلى المنافسة وانخفاض الأجور؛ في حين أنَّ أغلب رجال الأعمال كانوا يُفضِّلون الهجرة للسبب ذاته.

حالما أصبحت كاليفورنيا جزءًا من الولايات المتحدة، سرعان ما تدفَّقت إليها موجةٌ من سكان أمريكيِّين من أصول أوروبية. وبذلك ارتفع عدد سكان الولاية على مدار القرن العشرين من أقل من مليون ونصف المليون إلى أكثر من ثلاثين مليون نسمة.6 وكان ما جلب هؤلاء الوافدين الجدد هو انجذابهم إلى الأراضي الزراعية الخصبة في الولاية، وما تحمله من فرصٍ ذهبية، بالإضافة إلى ظروف الفقر التي دفعَتهم إلى الرحيل عن شرق البلاد. وقد كانت عوامل الجذب والدفع هذه لا تزال مستمرة في الثلاثينيات. ففي رواية جون شتاينبك «عناقيد الغضب» التي صدرت في عام ١٩٣٩، دُفِعَت عائلة جود البائسة إلى الخروج من أوكلاهوما بسبب ظهور عاصفة الغبار، وسافرت كآلاف الآخرين إلى ساحل المحيط الهادئ، الذي كان لا يزال يُعدُّ أرضًا موعودة.

ولكن بحلول نهاية القرن العشرين، كان الوافدون الجدد إلى كاليفورنيا يأتون من الجنوب وليس من الشرق، وذلك ضِمن موجة هسبانية كبيرة. ومن ثَم أصبح السكان «الأوروبيون» غير الهسبان أقلية الآن، وصار عدد طلابهم في المدارس أقل من أي وقتٍ مضى. فقبل جيلَين، كان الطلاب البيض يشكِّلون الأغلبية الساحقة في مدارس كاليفورنيا. وقبل جيل واحد، كان أكثر من ٤٠٪ من طلاب المدارس في كاليفورنيا من البيض؛ أمَّا اليوم، فقد وصلت النسبة إلى ٢٢ في المائة وما زالت تتناقص.

الغرب يصبح شمالًا

من منظور الولايات المتحدة، أتاحت عمليات الضمِّ التي نفَّذتها بعد الحرب مع المكسيك في منتصَف القرن التاسع عشر فرصة عظيمة لها للتوسُّع غربًا. إذ كانت الأمة تتحرَّك في هذا الاتجاه بالفعل منذ وصول مؤسسيها إلى نيو إنجلاند وفيرجينيا. أمَّا من منظور المكسيك، فهذه المنطقة لا تُعَد غربًا بل شمالًا، وتُمثِّل أرضًا شاسعة قد فُقدت.

ويُذكَر هنا أنَّ سرعة التغير الديموغرافي في جنوب غرب الولايات المتحدة في العقود الأخيرة مذهلة، كما توضح الأرقام المذكورة أعلاه؛ ويُمكن اعتبار تركيبة طلاب المدارس مؤشرًا على تركيبة السكان ككل في المستقبل. ففي عام ١٩٧٠، كان أكثر من ٧٥ في المائة من سكان كاليفورنيا من البيض، و١٢ في المائة من اللاتينيين. وبحلول عام ٢٠١٨، كان ٣٨ في المائة من السكان من اللاتينيين، بينما كان ٣٧ في المائة منهم من البيض.7 صحيح أنَّ عدد المكسيكيِّين الذين يغادرون الولايات المتحدة صار أكبر من عدد المكسيكيين الذين يتوافَدون إليها في السنوات الأخيرة، لكنَّ المهاجرين الوافدين من هندوراس وجواتيمالا والسلفادور قد ازدادوا. ويُمكننا هنا أن نرى تركيبة سكان كاليفورنيا المستقبلية مُتجليةً في تركيبة طلاب مدارسها، حيث يفوق عدد التلاميذ اللاتينيِّين عدد أقرانهم البيض بأكثر من اثنين إلى واحد.8

وكل هذا نتاج التغيُّرات التي حدَّدناها في الفصول السابقة: وهي انخفاض معدَّل الإنجاب منذ فترة طويلة في العالم المتقدم إلى جانب ارتفاع معدلات الخصوبة وارتفاع معدلات بقاء الأطفال على قيد الحياة في الجنوب العالمي. صحيح أنَّ معدل الخصوبة في المكسيك حاليًّا ليس أعلى بكثيرٍ من نظيره في الولايات المتحدة، لكنه كان أعلى منه ثلاث مرات خلال سبعينيات القرن الماضي.

وفي حين أنَّ العوامل الديموغرافية أوجدت الظروف التي أتاحت هجرات السكان الجماعية، فإنَّ الاقتصاد هو ما حفَّزها. ففي العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، كان الاقتصاد الأمريكي المتجدِّد باستمرارٍ يتطلَّب عمالة رخيصة، بل وما زال، تمامًا كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى. لكنَّ أوروبا الآن، على عكس حالتها آنَذاك، صارت غنية ولم تعُد تتسم بخصوبة ديموغرافية كبيرة، أي إنَّ سكانها ليس لديهم الحجم الديموغرافي الكافي للهجرة إلى الولايات المتحدة ولا الدافع الاقتصادي إلى ذلك. وحتى سكان مناطق أوروبا الشرقية الأقل ازدهارًا يرَون أنَّ الهجرة إلى غرب أوروبا خيارٌ أسهل.

لذا لم يعُد الأوروبيون يرَون في أمريكا الوجهة المفضَّلة للسكان الفائضين مثلَما كانت قبل قرن من الزمان. وبدلًا من ذلك صارت العمالة الرخيصة تتوافد إلى الولايات المتحدة من جنوب نهر ريوجراند. وهكذا فبعدما كانت المصانع المُستغِلة للعمال في حي لوَر إيست سايد في نيويورك تعجُّ في العقد الأول من القرن العشرين بسكان فائضين من روسيا وإيطاليا وأطراف الإمبراطورية النمساوية المجرية؛ تغيَّر الوضع بحلول نهاية القرن العشرين ليصبح مهاجرون وافدون من المكسيك وأمريكا الوسطى هم مَن يعتنُون بحدائق أثرياء كاليفورنيا ومسابحهم.

فنظرًا إلى الفقر الذي يُعانيه اللاتينيون وارتفاع معدلات الخصوبة لديهم حتى وقت قريب، فقد استجابوا للفرص المتاحة في أمريكا كما استجاب الأوروبيون من قبل، وبذلك تتأثَّر تركيبة السكان في الولايات المتحدة، علمًا بأنَّ هذا لا يقتصِر على كاليفورنيا وحدها. ففي عام ٢٠١٩، كانت نسبة السكان البيض والسكان اللاتينيِّين في تكساس متقاربة.9 وحتى وقت قريب، وتحديدًا في الثمانينيات، كان ثلثا سكان تكساس من البيض؛ في حين أنَّ تلك النسبة الآن تكاد لا تبلغ ٤٠ في المائة، ومن المتوقَّع أن تصبح أقل من الثلث في غضون عقدَين من الزمن.10 وعلى مستوى البلاد ككل، نجد أنَّ نسبة السكان اللاتينيين أكبر بكثيرٍ من نسبة السكان السود بالفعل. فيما أظهر التعداد السكاني لعام ٢٠٢٠ أنَّ أقل من ٦٠ في المائة من السكان الأمريكيِّين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم من البيض. هذا ومن المتوقع أنَّ نسبة السكان الأمريكيِّين البيض ستكون أقل من النصف بحلول عام ٢٠٦٠، فيما سيكون عدد السكان اللاتينيين حينئذٍ أكثر من ضعف عدد السكان السود.11

وصحيح أنَّ مثل هذه التنبؤات توحي بأنَّ مسائل العِرق بسيطة وواضحة، لكنها في الحقيقة حساسة ومعقَّدة. فبادئ ذي بدء، تعتمد البيانات على كيفية تعريف الأشخاص لأنفسهم، وهو أمر شخصي وقابل للتغيُّر. فعلى سبيل المثال، لم تكن فئة «البيض» ذات أهمية كبيرة عندما كانت النخب الأمريكية متخوفة من وصول الكاثوليك الأيرلنديين إلى المدن الشمالية الشرقية.

ولكن بصرف النظر عن كيفية تقسيم تركيبة السكان الأمريكيين العرقية، فإنها تتغير بوتيرة سريعة، وستستمر في ذلك. فبعدما وصل الأوروبيون وأبادوا السكان الأصليين، استمرت هيمنتهم الديموغرافية قرونًا عديدة بلا منازع. لكنَّ طبيعة أمريكا «البيضاء» تغيَّرت لاحقًا مع وصول أفواج الإيطاليين والبولنديين واليهود الذين تحدَّوا الهيمنة الديموغرافية لفئة البروتستانت الأنجلوسكسونيِّين البيض، التي صارت تُعرَف باسم الواسب، ثم تحدَّوا هيمتنهم الثقافية. فالعديد من الرموز الثقافية والأدبية في أمريكا في منتصف القرن العشرين وأواخره، من فيليب روث إلى مادونا، كانوا من نسل مهاجرين وافدين من سواحل أوروبا البعيدة.

ولكن منذ إصلاحات قوانين الهجرة في الستينيات، التي ألغت القيود المفروضة في عشرينيات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة بمنزلة بوتقة انصهار، لا لأعراقٍ أوروبية معينة وإنما للعالم بأسره. إذ صارت تضم جاليات متنامية من آسيا وأفريقيا، وكذلك أمريكا اللاتينية. وبذلك سيكون السكان الأمريكيون في المستقبل مختلفين تمامًا عن الأمريكيِّين في الماضي؛ ثقافيًّا وعرقيًّا ودينيًّا.

وقد أتاحت الهجرة إلى الولايات المتحدة فرصًا عظيمة للكثيرين. لكن رحلة الهجرة ليست سهلة، خصوصًا للمهاجرين الذين يواصلون المخاطرة بحياتهم للسفر إليها بطرقٍ غير شرعية. ففي شهرٍ واحد من عام ٢٠١٩، اعتقلت السلطات ١٤٤ ألف شخص واحتجَزتهم في أثناء محاولتهم عبور الحدود. وقد أُنقِذَ المئات من الغرق في نهر ريو جراندي، بينما لقي الكثيرون مصيرًا أتعس.12 ففي يونيو من عام ٢٠١٩، تصدَّرت الأخبارَ الرئيسية صورةٌ مفجعة لجثتَي أب وابنته الصغيرة بعد غرقهما. إذ كان أوسكار راميريز قد سافر من السلفادور مع أسرته على أمل أن يطلب اللجوء في الولايات المتحدة؛ ونجح هو وطفلته الصغيرة في اجتياز النهر بالفعل، ولكن عندما عاد من أجل زوجته، تبعته الرضيعة وجرَفَهما التيار معًا.13 ومثل هذه المآسي ليست بجديدة؛ إذ يُعتقد أن نحو ١٦٠٠ مهاجر لقوا حتفهم في أثناء محاولتهم عبور الحدود المكسيكية في الفترة بين عامَي ١٩٩٣ و١٩٩٧ فقط.14
غير أنَّ ما شهدته كاليفورنيا يظهر أيضًا في مختلف أنحاء العالم الغربي، وهو ما يدلُّ على أن المرحلة التوسعية من التحول الديموغرافي صارت ظاهرة عالمية. ويُذكَر هنا أنَّ بعض الأمريكيِّين البيض ظنُّوا يومًا ما أنَّ المكسيكيين «سيتلاشون» أمامهم، في حين أنَّ المغامرين البريطانيين في أفريقيا كانوا مُتخوفين من أنَّ السكان الأصليين قد يختفون عندما يواجهون النمو السكاني الأوروبي المتفشِّي. وكما رأينا، كان تشارلز داروين يعتقد أنَّ الأجناس «المتحضرة» (أي الأوروبيين) ستمحو كل الأجناس الأخرى من الوجود وتحل محلها في نهاية المطاف.15 والآن، يمكننا أن نرى غطرسة هذه الآراء وما شابهها مُتجليةً في بيانات مدارس كاليفورنيا الحالية.

هذا وتُتيح التغيرات الديموغرافية الظروف الأساسية المواتية لمثل هذا التغيير؛ إذ يشهد الجنوب العالمي ازديادًا هائلًا في عدد السكان، بينما يشهد العالم المتقدِّم تراجعًا. ثم ينجذب السكان المتزايدون في الجنوب إلى الاقتصادات المزدهرة في الشمال. غير أنَّ هؤلاء الناس غالبًا ما يميلون إلى البقاء في بلدانهم الأصلية عندما يُعانون فقرًا مدقعًا، ولا يتسنى لهم التفكير في الهجرة إلا بعد تحسُّن أحوالهم المادية بعض الشيء. والآن صار في إمكان الجميع، بثمنِ هاتفٍ محمول، أن يروا الرخاء المادي المغري الذي ينعم به العالم المتقدم، ويَنجذبوا إليه. وهذا المزيج من العوامل الديموغرافية والاقتصادية، الذي يجذب المهاجرين ويُغيِّر التركيبة السكانية، قائم في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بل وفي أوروبا التي ننتقل إليها الآن.

أوروبا تحوَّلت

في صيف عام ٢٠١٥، ظهرت صورةُ جثةِ صبي صغير جرفتها الأمواج إلى أحد شواطئ تركيا، وزلزلت مشاعر أوروبا بأكملها. وهكذا أصبحت مأساةٌ واحدة تُعبِّر عن كارثة إنسانية أكبر، مثلما حدث بعد ذلك بأربع سنوات في وفاة أوسكار راميريز وابنته في ريو جراندي.

كان آلان كردي، ذاك الطفل الغريق، من بلدة كوباني التي تقع في شمال سوريا، والتي دمَّرها القتال بين القوات الإسلامية والكردية. فرَّت أسرته آنذاك بحثًا عن الأمان في تركيا، وبعدها حاولوا الانتقال إلى اليونان، لكنهم استطاعوا بشق الأنفس تجاوز الساحل التركي. إذ انقلب قارب آلان، مع قارب آخر، قبالة شبه جزيرة بودروم في ٢ سبتمبر، ما أدى إلى غرق اثني عشر شخصًا، بينهم خمس نساء وأطفال.16 وعلى غرار أوسكار راميريز وابنته، أصبح آلان البالغ من العمر ثلاث سنوات رمزًا يُمثِّل الآلاف الذين يُحاولون الهروب إلى الدول المتقدمة لينتهي بهم المطاف إلى الموت في أثناء رحلتهم. ومن ثَم تواجه الدول الأوروبية، مثلها مثل أمريكا، تحديًا مؤلمًا يجعلها عالقةً بين السيطرة على الهجرة والتغيير العرقي من ناحية، وتوفير ملاذ آمِن لمن يحتاجون إليه من الناحية الأخرى.
وحتى لو كانت سياسة الباب المفتوح ممكنة من الناحية السياسة، فمن شأنها أن تُشجع أعدادًا أكبر من الأشخاص الطموحين أو اليائسين على خوض رحلات محفوفة بالمخاطر، وستُؤدي حتمًا إلى مزيدٍ من الوفيات. صحيح أنَّ بعض المنظمات غير الحكومية تجبر السلطات الأوروبية أحيانًا على إنقاذ النساء والأطفال قبل الغرق، ولكن غالبًا ما تتجاهَل السلطات صرخات الاستغاثة. ففي أغسطس ٢٠٢١، غرق عشرات من المهاجرين قبالة سواحل أفريقيا في أثناء توجُّههم إلى جزر الكناري، ولم يظهر هذا الخبر آنذاك إلَّا في «موجز الأنباء المختصر»؛ لأنَّ مثل هذه الأخبار صارت شائعة جدًّا.17 وحتى عندما تُنشَر مثل هذه الأخبار على نطاقٍ واسعٍ، يستمر تدفُّق المهاجرين؛ وذلك لأنَّ التفاوت الهائل بين المستقبل البائس الذي ينتظرهم في أوطانهم والفرص الواعدة المتاحة في أوروبا يجعلهم مُستعدين لتجاهل أي خوف من مخاطر الرحلة.
ففي عام ٢٠١٥، طلب أكثر من ١٫٣ مليون مهاجر اللجوء في أوروبا، أي أكثر من ضِعف العدد في العام السابق.18 وكان الكثيرون، مثل آلان كردي، وافدين من سوريا هربًا من الحرب الأهلية التي كانت مُستمرة آنذاك منذ ما يقرب من خمس سنوات. فيما جاء آخرون من أماكن مثل أفغانستان، هربًا من صراعاتٍ مستمرة منذ فترة أطول، وبحثًا عن فرص اقتصادية في أوروبا. غير أنَّ هذا المد انحسر منذ عام ٢٠١٥، وأحد أسباب ذلك هو تشديد الرقابة المفروضة على الحدود. لكنَّ رخاء أوروبا ما زال بمنزلة مغناطيس يجذب أعدادًا هائلة من السكان الشباب في جنوب القارة وجنوب شرقها. ومن المرجح أن يؤدي استيلاء طالبان على أفغانستان مؤخرًا إلى إثارة موجة أخرى كهذه. ففي صيف عام ٢٠٢١ وخريفه، عادَت حالات الوصول الجماعي إلى سواحل بريطانيا لتتصدَّر عناوين الأخبار؛ إذ خاطر مهاجرون وطالبو لجوء بحياتِهم آنَذاك، وفَقَدَها أغلبهم وهم يُحاولون الانتقال من بلدٍ آمن إلى بلدٍ آخر مفضَّل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ التركيبة العرقية لأوروبا الغربية شهدت تغيُّرًا كبيرًا بفعل الهجرة إليها من مصدرَين رئيسيَّين؛ أولهما هو الهجرة القديمة المستمرة من أفريقيا وآسيا — ومن دول الكاريبي، في حالة المملكة المتحدة — والثاني هو الهجرة الحديثة من دول الكتلة الشيوعية السابقة. وهذا النوع الثاني يتدفَّق بالأخص من الدول التي انضمَّت إلى الاتحاد الأوروبي، وصار يحقُّ لمواطنيها أن يتنقلوا بين دولِه بلا تأشيرة. ففي عام ٢٠١٨، كان نحو ٦ في المائة من المقيمين في المملكة المتحدة مولودين في دولٍ أخرى داخل الاتحاد الأوروبي، وهي نسبة كبيرة لكنها أقل من النسبة التي شكَّلها السكان المولودون خارج أوروبا آنذاك، والتي بلغت ٩ في المائة.19

أسفر هذان التياران المتدفِّقان عن تغيُّرٍ ملحوظ في تركيبة سكان أوروبا الغربية، وخصوصًا في مُدنها الكبرى. فلندن التي ولدتُّ فيها، في منتصف الستينيات، كانت مأهولة بأغلبية ساحقة من سكان بريطانيِّين أبًا عن جدٍّ عن جد. ولأنني كنتُ طفلًا لأبوَين مهاجرين، كان وضعي استثنائيًّا؛ ولو كنتُ وُلدت قبل ذلك بعقدين، أي قبل وصول جيل «ويندرَش» والهجرة الجماعية المبكرة من جنوب آسيا، لكان وضعي أكثر استثنائية.

أمَّا بحلول عام ٢٠١١، فكان أكثر من ثلث سكان لندن مولودين في الخارج. وفي عام ٢٠١٧، كان نحو ٣٠ في المائة من المواليد في المملكة المتحدة مُنجَبين من أمهاتٍ مولودات في الخارج، في حين أن نسبة مثل هؤلاء المواليد في لندن فقط كانت ٦٠ في المائة. وفي منطقة برنت التي ولدتُّ فيها في لندن، كانت النسبة أكثر من ثلاثة أرباع.20 وكذلك فالأرقام في باريس وبروكسل وبرلين لا تختلف كثيرًا. بعبارة أخرى، كان البيض يُشكِّلون أغلبية ساحقة بين سكان برنت في الستينيات، ولكن بحلول عام ٢٠٠١، كانت نسبتهم أقل من النصف، وبحلول عام ٢٠١١، كانت بالكاد تبلغ الثلث.21 وليس عندي أدنى شكٍّ في أن التعداد السكاني لعام ٢٠٢١ سيُظهر مزيدًا من الانخفاض.
غير أنَّ مثل هذا التغيير يُمكن أن يسبِّب مشكلات لوجستية، حتى للخدمات الصحية. ففي مستشفى شاريتيه الموجود في برلين مثلًا، يلاحظ أفراد قسم التوليد أنَّ العديد من النساء اللواتي يأتين للولادة من أصولٍ غير ألمانية، ما يُصعِّب التواصُل معهن. وقد أعرب الطبيب فولفجانج هنريك مدير القسم عن قلقِه قائلًا: «بلغت تكاليف المترجمين الفوريِّين عدة مئات من آلاف اليوروهات هذا العام، بسبب حضور النساء الأجنبيات فجأة هكذا. لا أتحدث عن النساء السوريات فقط، وإنما أيضًا عن نساء من العراق أو إيران أو أفغانستان أو دول أفريقية مختلفة. وفي مثل هذه الحالات، نحتاج إلى توفير مُترجمين فوريين في أسرع وقت. غير أنَّ تمويل هذه الخدمات مشكلة مستعصية على الحل.»22 وكذلك تواجه المدارس والمحاكم صعوبات مماثلة. ومن ثَم، فإنَّ دول الرفاهية الحديثة تجد نفسها مُطالَبةً بحل المشكلات التي تنشأ من تعددية اللغات بين أفرادها، والتي لطالما عذَّبت جيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية والاتحاد السوفييتي في الماضي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الهجرة بين القارات كانت نادرةً في الماضي بسبب صعوبة اجتياز المسافات الطويلة وارتفاع تكاليف السفر، فضلًا عن بدائية وسائل النقل آنذاك. وفي القرن التاسع عشر، حينما بدأ الأوروبيون يتدفَّقون خارج قارتهم، مدفوعين بالطفرة السكانية في الداخل ومنجذبين إلى الفرص الواعدة المتاحة في أماكن أخرى، تمكَّنوا من ذلك بفضل أشكالٍ جديدة من وسائل النقل. أمَّا الآن، ومع انكماش أعداد السكان في أوروبا، فقد شهد مسار هذه الهجرة العالمية انقلابًا حادًّا. إذ لم تعد أوروبا تُصدِّر أعدادًا هائلة من المهاجرين، بل صارت تستقطبهم.

ومن المرجح أن يكون ما شهدناه من هذه العملية حتى الآن مجرد بداية فقط. فأفريقيا في طريقها إلى النمو السكاني كما رأينا، وبذلك سيشتد الدافع الذي يعزز الرغبة في الهجرة إلى أوروبا. فمصر مثلًا تضم أكثر من ١٠٠ مليون نسمة؛ أي أكثر من عدد سكان ألمانيا، في حين أنَّ عدد سكانها كان أقل من ثلث سكان ألمانيا في عام ١٩٥٠. وهي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدعم المالي الأجنبي والمساعدات الخارجية؛ وإذا توقف هذا الدعم، فإنَّ موجة المهاجرين الذين سيسعون إلى دخول أوروبا قد تفُوق أي هجرة شهدناها من قبل. وصحيح أنَّ المسألة مرهونة بسياسات الهجرة المُتبعة لدى الدول، لكنَّ أحد الخبراء قدَّر أنَّ الأشخاص المُنحدِرين من أصلٍ بريطاني أبيض، الذين كانوا يُشكِّلون أكثر من ٩٠ في المائة من سكان المملكة المتحدة في أوائل التسعينيات، سيُشكِّلون نحو ٦٠ في المائة فقط من السكان بحلول مُنتصف هذا القرن.23
وعلى الجانب الآخر من القنال الإنجليزي، يكاد يكون الوضع مماثلًا. فرغم عدم وجود إحصاءات رسمية عن الانتماءات الدينية في فرنسا، تشير الدراسات الاستقصائية المتاحة إلى أن نحو ٩ في المائة من السكان الفرنسيين مسلمون. ولا يُشكِّل السكان الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام سوى جزءٍ ضئيلٍ جدًّا من تلك النسبة،24 في حين أنَّ الأغلبية العُظمى منهم إمَّا مهاجرون وافدون من شمال أفريقيا وإما نسل هؤلاء المهاجرين. فقد انجذب إلى فرنسا سكانٌ مغاربة وجزائريون وتونسيون كانوا على دراية باللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وكانوا يعيشون في دول ذات معدَّلات مواليد عالية واقتصادات فقيرة، تمامًا كما انجذب سكانٌ من الأجزاء السابقة من الإمبراطورية البريطانية إلى المملكة المتحدة.
ويُذكر هنا أنَّ فرنسا، قبل ستين عامًا فقط، لم يكن فيها عددٌ كبير من أبناء شمال أفريقيا، لكنها كانت تضمُّ أكثر من مليون فرد من «الأقدام السوداء»، وهم أشخاصٌ من أصل أوروبي عاشوا في الجزائر وجرى إجلاؤهم عند حصولها على الاستقلال، أو غادروا بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ. وقد حدث التحوُّل بعد عقودٍ من ازدياد السكان الأصليِّين الجزائريين، الذي أدَّى إلى تغيير جذري في التوازن السكاني بين البلدين، وحسم مصير الاستعمار الفرنسي للجزائر، وأرسى الأساس لحدوث هجرة جماعية من شمال أفريقيا إلى فرنسا. ولم يكن هذا ليُسعِد رجل الدولة الفرنسي شارل ديجول، الذي ذكر أن وجود أقليات غير أوروبية في فرنسا مقبولٌ «ولكن بشرط أن تبقى أقليات صغيرة»، لئلا تتحوَّل مدينته ومسقط رأسه «كولومبيه لي دوز إجليز» إلى «كولومبيه لي دو موسكيه»؛25 أي تتحوَّل من مدينة الكنائس إلى مدينة المساجد.

هذا وتتوقَّع الدراسة الاستقصائية المذكورة أعلاه بخصوص التركيبة الدينية والديموغرافية في فرنسا أنَّ نسبة المسلمين من إجمالي سكان البلاد ستكون ١٣ في المائة بحلول عام ٢٠٥٠. وكذلك ستعجُّ البلاد بالكثير من الأفارقة غير المسلمين، على غِرار ما ستشهده أماكن أخرى في أوروبا. فباريس ولندن وروتردام وفرانكفورت وبروكسل ومارسيليا كلها تضمُّ بالفعل عددًا كبيرًا من سكان هاجروا إليها من خارج أوروبا أو ينحدرون من مثل هؤلاء المهاجرين. وهكذا يتضح أنَّ السكان الأوروبيين في المستقبل، مثلهم مثل الأمريكيِّين، سيكونون مختلفين تمامًا.

الهجرة أم الخصوبة: ما الذي يُسبِّب التغيُّرات العرقية؟

يمكن أن يكون التغيُّر العرقي السريع في منطقة ما مدفوعًا إمَّا بتفاوت معدلات الخصوبة وإما بالهجرة الجماعية، لكن تفاوت معدلات الوفاة أيضًا يمكن أن يغيِّر التركيبة العرقية. وهذا قد يحدث بسبب الإبادة الجماعية، ويتجلى أيضًا عندما يكون السكان المهاجرون أصغر سنًّا من السكان المحليين. وسواء ما إذا كانت نسبة مواليد المهاجرين أعلى من مواليد السكان الأصليين أم لا، فإن التركيبة العمرية لجماعات المهاجرين تجعل نسبة وفياتهم أقل من وفيات السكان الأصليِّين على الأرجح. فعلى سبيل المثال، عندما انخفضت نسبة الصرب في سكان كوسوفو أو البوسنة بعد مُنتصَف القرن العشرين، كان ذلك يرجع جزئيًّا إلى هجرتهم من تلك المناطق، لكنه كان يرجع أيضًا إلى أنَّ الكوسوفيين والبوسنيين كان ينجبون أطفالًا أكثر ممَّا ينجبه جيرانهم الصرب.

وفي حالة الولايات المتحدة، نجد أنَّ الهجرة هي السبب الأكبر في التغيير العرقي الكبير الذي بدأ يطرأ منذ أوائل السبعينيات وليس تفاوت معدلات الخصوبة. صحيح أنَّ المكسيك كانت تتَّسم بمعدل خصوبة أعلى بكثيرٍ من الولايات المتحدة طوال فترة من الوقت، وهو ما كان سببًا رئيسيًّا في حدوث الهجرة من البداية، ولكن عندما تنتقل جماعات المهاجرين إلى أماكن ذات خصوبة مُنخفِضة، فإن معدلاتهم سرعان ما تصبح أقرب إلى المعدلات السائدة في موطنهم الجديد في أغلب الأحيان. وكما رأينا في الفصل الرابع، سرعان ما تقاربت معدلات خصوبة اللاتينيين في الولايات المتحدة مع معدلات الخصوبة لدى البِيض. بل إنَّ انخفاض معدلات المواليد بين اللاتينيين كان عاملًا رئيسيًّا في الانخفاض الأخير في معدلات المواليد في الولايات المتحدة.

والسبب المباشر لهذا التقارب في معدلات الخصوبة هو إقبال جيل الشباب على تبنِّي عادات الحياة في البلد الجديد. وفي حالة المكسيك، نجد أنَّ أنماط الخصوبة تتراجَع في الوطن الأصلي أيضًا. ومن ثَم فإذا كان معدَّل المواليد يتراجع في المكسيك وغيرها من دول أمريكا الوسطى، فمن الطبيعي أن يتأثَّر أولئك المهاجرون الذين سافروا شمالًا للعيش في أمريكا بنفس القوى المصاحِبة لعصر الحداثة. وهكذا فبدلًا من أن تحثَّ الأمهات والجدات الأجيال الشابة على الإنجاب، أصبحن ينصحنهم بالعكس. وعن ذلك قالت يوسلين وينسيس، وهي ابنةٌ لمهاجرين مكسيكيين إلى الولايات المتحدة، لمحاورٍ من صحيفة «نيويورك تايمز»: «كانت نصيحتهنَّ لي: «إياكِ أن تكوني مثلنا، لا تتزوَّجي مبكرًا، ولا تنجبي مبكرًا. لا تكوني واحدة من الأمهات المراهقات. لقد بذلنا هذه التضحيات لتتمكني من إكمال تعليمكِ وبدء حياتك المهنية.» وأضافت يوسلين، وهي طالبة في ولاية كارولينا الجنوبية، إنها لا تعتزم إنجاب أي أطفال قبل أن تبلغ منتصف الثلاثينيات من عمرها.26 ونظرًا إلى الانخفاض العام في معدلات الخصوبة لدى اللاتينيين، يبدو أن الشابات الأخريات يتلقَّين نصيحة مماثلة، ويتبعنها بالفعل.

وأذكر هنا أنَّ بناتي التحقنَ بمدرسة للفتيات في لندن حيث كانت غالبية الطالبات إما مهاجرات وإما بناتِ مهاجرين من جنوب آسيا في الأغلب. وقد كانت تطلُّعاتهن هي الالتحاق بالجامعة والعمل، وليس الزواج المبكر وإنجاب الكثير من الأطفال. وهُنَّ بذلك لم يكنَّ متوافقات مع المعايير المجتمعية البريطانية فحسب، وإنما أيضًا مع الاتجاهات التي لاحظناها بالفعل في جنوب آسيا. ومن ثَم فإذا استمر التغير العرقي في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، فلن يكون سببه الرئيسي هو الفرق بين معدلات الإنجاب لدى المهاجرين وأطفالهم ومعدلات السكان الأصليِّين.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الأدلة القصصية مدعومة ببياناتٍ فِعلية. فمعدلات الخصوبة بين الهنود في المملكة المتحدة أقل من معدَّلات السكان البريطانيين البيض منذ أواخر الثمانينيات، ولا عجب في ذلك. وصحيح أنَّ معدل الخصوبة لدى ذوي الأصول البنجلاديشية والباكستانية كان أعلى في وقتٍ ما، لكنه اقترب من معدَّل السكان الأصليِّين بدرجة ملحوظة في تسعينيات القرن الماضي.27 وفي العموم، تتَّسم العديد من هذه الجاليات بأنها شابة نسبيًّا، لذا تشهد مواليد أكثر ووفياتٍ أقل من متوسِّط ما تشهده البلاد ككل؛ ومن ثَم، فحتى لو لم يتوافد مزيدٌ من المهاجرين، سيضمَن «الزخم الديموغرافي» استمرار ازدياد أعدادهم فترة من الوقت. ولكن من دون مجيء المزيد من المهاجرين، فلن يُحدِث هذا التأثير سوى تغيير طفيف في التركيبة العرقية للمملكة المتحدة.

أشرنا بالفعل إلى أنَّ معدلات الخصوبة في المناطق الريفية النائية في الولايات المتحدة أعلى منها في المناطق الحضرية. وصحيح أنَّ بعض المهاجرين إلى أمريكا، كالوافدين من المناطق الريفية الاسكندنافية مثلًا، كانوا يَنجذبون إلى الأرياف، لكنَّ أغلب المهاجرين إلى البلدان المتقدمة لطالما كانوا يُفضِّلون الاستقرار في المدن. وسواء أكان المهاجرون قادمين من المدن أو الريف، فهُم دائمًا ما يحذون حذو أهل المدن الجديدة التي يستقرون فيها. فأغلب الظن أنَّ الأجزاء الأوروبية والأمريكية الشمالية التي تعيش فيها نسبةٌ كبيرة من الأغلبيات الأصلية في المناطق الريفية ربما تتَّسم بمعدل خصوبة أعلى ممَّا لدى مجتمعات المهاجرين في المناطق الحضرية؛ بل ويُمكننا أن نرى هذا بالفعل في الولايات المتحدة، حيث لم يعُد معدل الخصوبة بين الأمريكيِّين البيض أقل بفارقٍ ملحوظ من معدَّل خصوبة الأقليات المهاجرة. فمعدل الإنجاب لدى طائفة المورمون في ريف ولاية يوتا مثلًا أكبر منه لدى السكان اللاتينيين في مدينة نيويورك. غير أنَّ الفروق في الخصوبة بين المناطق الريفية والحضرية في العالم المتقدم عادة ما تكون طفيفة، ومن المستبعد أن تُؤدي إلى أيِّ تغير عرقي ملموس.

الانعكاس ورد الفعل وإعادة التعريف

إذا كان تاريخ الديموغرافيا يُعلمنا أي شيء، فهو أنَّ لا شيء حتمي تمامًا. فمُعظم الأحداث الديموغرافية التي وقعت كانت تبدو مستبعدة جدًّا قبل حدوثها، ولكن بعد حدوثها، بات يُنظر إليها على أنها حتمية. وهذا ينطبق أيضًا على التغيُّر العرقي؛ فمستقبل أمريكا الشمالية وأوروبا ما زال غير محسوم على الإطلاق. ويمكن القول إنه سيتحدَّد بعوامل مختلفة، وستكون الخيارات التي يتخذها الأفراد والساسة مهمة جدًّا. ففي الديموغرافيا، تسود الإرادة الحرة وليس الحتمية، حتى لو كانت إرادة ملايين الناس هي التي ستُحدث فارقًا.

ربما تكون العوامل الاقتصادية والاختلافات في معدَّلات المواليد والتركيبات العمرية تُشجع حاليًّا على مزيدٍ من الهجرة، ولكن من المحتمل أن تضعُف هذه الاتجاهات مع تقلص الفجوة بين الأوضاع الاقتصادية والديموغرافية. فعلى سبيل المثال، تُصبح أوروبا الشرقية أغنى، وتزداد نسبة الشيخوخة بين سكانها في الوقت نفسه. ففي الفترة من عام ٢٠٠٥ إلى عام ٢٠٤٥، ستنخفض نسبة البولنديين الذين هم في أوائل العشرينيات من عمرهم، وهو سن ذروة الإقبال على الهجرة، إلى النصف تقريبًا، ما سيُقلِّص من مجموعة المهاجرين المحتملين. ومن ثَم يبدو أنَّ زمن انتشار السباكين البولنديِّين في كل أرجاء المملكة المتحدة سيُولَّى عمَّا قريب؛ لأنَّ عدد الشباب الذين يدخلون سوق العمل يتضاءل، وبذلك لن تتوفَّر عمالة بولندية كافية لتلبية كل الطلب عليها.

fig15
المصدر: مركز بيو البحثي. لاحظ أنَّ نسبة كل من «الآسيويين» و«الأعراق الأخرى» كانت أقل من ١٪ في عام ١٩٦٥.

في الماضي هاجر سكان ذوو أصول أوروبية إلى أبعد القارات وغيَّروا تركيبتها الديموغرافية. أمَّا الآن، فيأخذ ذلك اتجاهًا معاكسًا؛ إذ تجتذب الدول الغنية في أوروبا وأمريكا الشمالية مهاجرين من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

في أعقاب الهجرة الجماعية من أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى وما تلا ذلك من فرض ضوابط صارمة، كان البيض يُشكِّلون أغلبية ساحقة بين سكان الولايات المتحدة قبل أن تُغيِّر سياستها المتعلقة بالهجرة في ستينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، تستقبل سيلًا من المهاجرين من أمريكا اللاتينية بالأخص. وبحلول عام ٢٠٦٥، ستكون نسبة البِيض من السكان قد انخفضَت إلى نصف ما كانت عليه تقريبًا قبل قرن من الزمان، وسيُصبح البيض أقلية.

fig16
المصدر: مرصد الهجرة التابع لجامعة أكسفورد.

في ظل احتياج المملكة المتحدة إلى العمالة باستمرارٍ، ومعدَّل خصوبتها المنخفض منذ زمن طويل، كانت بمنزلة مغناطيس للمهاجرين، سواء من داخل الاتحاد الأوروبي أو من خارجه. إذ ازداد عدد الأشخاص المولودين في الخارج بين سكان المملكة المتحدة إلى الضِّعف تقريبًا بين عامَي ٢٠٠٤ و٢٠١٨.

في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما ارتفعت معدلات هجرة ذوي الأصول الإسبانية إلى الولايات المتحدة بسُرعة الصاروخ، كان متوسط ما تُنجبه المرأة المكسيكية نحو سبعة أطفال، في حين أنَّ نساء الولايات المتحدة كُنَّ يُنجبن ما يزيد قليلًا على طفلَين في المتوسط. أمَّا اليوم، ومع انخفاض معدل الخصوبة في الولايات المتحدة إلى مستويات أدنى، هَوَت معدلات الخصوبة في المكسيك إلى مستوى مقارب. ولعلَّ هذا الفارق الذي يتقلَّص بسرعة يُفسِّر اقتراب «موجة الهجرة المكسيكية» إلى أمريكا من نهايتها، حتى لو استمر ضغط المهاجرين الوافدين من أماكن أخرى في أمريكا اللاتينية. وفي الوقت نفسه، فإنَّ معدلات الخصوبة بين السكان المهاجرين عادةً ما تَنخفِض وتقترب من معدلات السكان الأصليين، كما رأينا بالفعل. ولأنَّ أغلب المهاجرين يعيشون في مناطق حضرية، ربما تكون معدلات الخصوبة لديهم إلى حدٍّ ما أقل من معدلات خصوبة السكان ككل.

ولا بد أنه بدا آنذاك أنَّ تدفُّق المهاجرين الأوروبيين إلى أمريكا في أوائل القرن العشرين لن يتوقف أبدًا، لكن اتضح بعدئذ أن هذا غير صحيح على الإطلاق. وبالمثل، فإذا شهدت الدول التي ينتقل منها المهاجرون حاليًّا إلى أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية بأعدادٍ هائلة انكماشًا سكانيًّا وازدهارًا اقتصاديًّا، سيتكرَّر هذا النمط.

وبصرف النظر عن القوى الطويلة الأمد، ثمة عوامل قصيرة الأمد تؤدِّي بالفعل إلى تقليل معدلات الهجرة. فأغلب الناس، سواء كانوا من السكان الأصليِّين أو حتى الوافدين الجدد نسبيًّا، غالبًا ما يُمانعون تقبُّل الهجرة والتغيير العرقي. إذ كشف استطلاع رأي في عام ٢٠١٩ أنَّ نحو ٤٤ في المائة من سكان المملكة المتحدة يؤيدون تقليص الهجرة.28 وقبل ذلك ببضع سنوات، في وقتٍ قريبٍ من أزمة اللاجئين في أوروبا عام ٢٠١٥، وجد استطلاع آخر أنَّ أكثر من ثلاثة أرباع البريطانيين يتبنَّون مواقف معارِضة للهجرة.29
صحيح أنَّ مثل هذه المواقف يُمكن أن تستمر سنواتٍ دون تأثيرٍ يُذكَر على وجود إجماع سياسي مُؤيد للهجرة؛ كما كان الحال بالفعل في المملكة المتحدة آنذاك، لكن بحلول عام ٢٠١٥، كان حزب العمال نفسه يدعو إلى فرض مزيدٍ من القيود على الهجرة، ويُهاجم حكومة المحافظين لفشلها في تطبيق ضوابط أشد صرامة.30 وقد كان التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي في العام التالي يَرجع — بدرجة كبيرة — إلى المواقف المعارِضة للهجرة.31 ويُذكَر هنا أنَّ حكومة المملكة المتحدة ظلَّت ملتزمة على مدار سنوات عديدة بتخفيض صافي عدد المهاجرين الذين يدخلون البلاد سنويًّا إلى أقل من ١٠٠ ألف، لكنها لم تحقق هذا الهدف قَطُّ.32 ففي عام ٢٠١٨، كان عدد المهاجرين الذين دخلوا البلاد أكثر ممَّن غادَرُوها بأكثر من ربع مليون شخص، إذ بلغ إجمالي الوافدين آنذاك أكثر من ٦٠٠ ألف؛33 وهذا العدد أكبر بكثيرٍ من إجمالي عدد الذين هاجروا إلى المملكة المتحدة في القرون التسعة بين الغزو النورماندي والحرب العالمية الثانية. وكذلك كانت أرقام عام ٢٠١٩ مشابهة لتلك.34

وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كان وعد دونالد ترامب ببناء جدار عازل على الحدود المكسيكية هو التعهد الأبرز في حملته الانتخابية الرئاسية التي كُلِّلت بالنجاح في عام ٢٠١٦. إذ بدا أنَّ معظم ناخبي ترامب كانوا أكثر اهتمامًا بمسألة الهجرة والوضع الديموغرافي الأمريكي المتغيِّر من اهتمامهم بعدم المساواة الاقتصادية أو فشل النظام المالي. ولكن مثلما تجلَّى لنا في المملكة المتحدة، ففي الدول التي تعج بمشاعر مناهضةٍ بقوة للهجرة، لا يكون الساسة اليمينيون وحدهم هُم من يطبِّقون سياسات رامية إلى الحدِّ منها. فقانون إصلاح الهجرة غير الشرعية ومسئولية المهاجرين لعام ١٩٩٦ صَدَر في عهد الرئيس بيل كلينتون، وجعل ترحيلَ المهاجرين غير الشرعيِّين من الولايات المتحدة حدثًا شائعًا نسبيًّا آنذاك.

وكذلك ينطبق الشيء نفسه خارج الدول الناطقة بالإنجليزية. ففي الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام ٢٠١٧، اتخذت الجبهة الوطنية شعارَ «هذا وطننا نحن»؛ الذي كان يهدف إلى مخاطبة مشاعر قطاعات المجتمع الفرنسي التي كانت تشعر بعبء ثقيل من وجود مُهاجرين معيَّنين، وتعتبر ثقافاتهم دخيلة على المجتمع. فمع ازدياد عدد السكان غير الأصليين في أي بلد، يزداد فيه التأييد الانتخابي لليمين المتطرِّف كذلك. ففي عام ٢٠١٧، كانت النسبة التي حصدتها ماري لوبان من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية ضِعف النسبة التي نالها والدها قبل ذلك بخمسة عشر عامًا.35 وفي انتخابات عام ٢٠١٧، أعرب المرشح الرئيسي لليسار المتطرِّف أيضًا بشدة عن معارضته فتح أبواب بلاده أمام المهاجرين بلا قيود.

ويُمكن القول إنَّ الحكومة الشعبوية الإيطالية في الفترة بين عامَي ٢٠١٨ و٢٠١٩ كانت تَدين بفوزها في الانتخابات للخوف من الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسِّط بقدر ما كانت تدين به للمعاناة الاقتصادية في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شارك اليمين المتطرف النمساوي في الحكومة مؤخرًا، بعدما صَعَدَ نجمه بفضل المخاوف من الهجرة أيضًا. وفي ألمانيا، أدى صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي اليميني إلى الضغط على حكومة أنجيلا ميركل المنتمية إلى يمين الوسط، ودفعها إلى اتخاذ موقف أقل تساهلًا مع الهجرة؛ وبذلك لم يتكرَّر تدفق المهاجرين الذي حدث في عام ٢٠١٥.

ومع ذلك، ينبغي لنا أن نكون حريصين على عدم ربط صعود هذه الأحزاب الشعبوية المناهِضة للمُهاجرين بشكلٍ وثيقٍ للغاية بالفاشية الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. ومرة أخرى، ينعكس الفارق الرئيسي في التركيبة السكانية. وتحقَّق أحزاب اليمين المتطرف الجديدة مكاسب في مجتمعات يبلغ متوسط أعمارها الأربعينيات، وليس العشرينيات. ورغم أنهم محافظون ومقاومون للتغيُّر العرقي السريع، فإن اليمينيين في إيطاليا والنمسا لا يُشكِّلون عصابات في الشوارع. في الواقع، أحد الأشياء المدهشة في هذه الحركات الشعبوية هو غياب العنف. وإذا ذبلت الديمقراطية الأوروبية في مواجهة الشعبوية اليمينية، فلن يتمُّ إخمادها بالعنف كما حدث في سنوات ما بين الحربين العالميتَين. ومن المرجح أن شعوب أوروبا أصبحت أكبر سنًّا من أن تستطيع النزول إلى الشوارع أو دعم حركات قد تكون مهتمَّة بشن مغامرات عسكرية خارج حدودها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مسألة الهجرة وما يترتَّب عليها من تغيُّر عرقي ليست قدرًا حتميًّا على الإطلاق، وإنما مرهونة بالخيارات التي تتَّخذها الحكومة، والتي تستجيب في النهاية للرأي العام. صحيح أنَّ الدولة قد تجد السيطرة على حدودها صعبة، لكنها ليست مستحيلة. ولنضرب هنا مثلًا بسنغافورة، وهي جزيرة مزدهرة تحيط بها إندونيسيا وماليزيا، وهما أقل ثراءً منها بكثير. وعلى الرغم من أنهما تُحرزان تقدمًا اقتصاديًّا، نجد أنهما تضمَّان مئات الملايين من الأشخاص الذين سيكونون أكثر ثراءً بكثير إذا تمكنوا من الهجرة إلى سنغافورة. ونظرًا إلى أنَّ عدد سكان سنغافورة أقل من ستة ملايين نسمة، فيمكن اجتياح سنغافورة بالكامل، لكنها تحرس حدودها بكل تصميم. وتتعامَل أستراليا أيضًا بنفس القدر من الحزم مع أولئك الذين يحاولون دخول البلاد عن طريق البحر، وتحتجز المتسلِّلين الذين يُقبَض عليهم في معسكرات في جنوب المحيط الهادئ. أمَّا بلدان جنوب شرق أوروبا، فقد أقامت سياجات لوقف تدفُّق اللاجئين من تركيا.

ويُمكن للتقدم الذي يُحرَز في دول العالم النامي، مع انخفاض معدَّلات الخصوبة فيها وازدهار اقتصادها، أن يُسهم في وقف التغيير العرقي. ففي البداية ينبهر سكان الدول الفقيرة بالتنمية الاقتصادية في الدول المزدهرة، ويطمحون إلى الهجرة إليها، ولكن عندما تُتاح لهم فرص واعدة في بلادهم، قد يقتنع الكثيرون بالبقاء فيها. من ناحية أخرى، تُعَد الحروب أيضًا أحد الأسباب التي تدفع الناس إلى مغادرة بلادهم، لكن هذه الحروب أصبحت أقل تواترًا. وبالإضافة إلى ذلك، عادةً ما تميل الأقليات إلى العيش في المناطق الحضرية وبذلك تميل أيضًا إلى قلة الإنجاب، في حين أنَّ «السكان الأصليين» الريفيين على الأقل يُمكن أن ينجبوا بمعدلٍ أعلى، لكن الفارق من المرجح أن يكون طفيفًا، فضلًا عن أنَّ سكان الريف عادةً ما يشكِّلون نسبة ضئيلة من إجمالي السكان في العموم.

وثمة عامل آخر يمكن أن يحدَّ من التغيير العرقي — أو حتى يعكس مساره — لكنه أكثر تعقيدًا. إذ يمكن النظر إلى بعض التغيرات في الهويات العرقية على أنها نِتاجُ ضبابية الحدود الفاصلة بين الهويات في عصر ما بعد الحداثة، وهي الحدود التي يظنها البعض مُطلَقة لكنها في الحقيقة أكثر اعتباطية ممَّا يُعتقَد في كثير من الأحيان. ربما يبدو هذا الكلام غامضًا بعض الشيء، لذا سأوضحه بمثال. عندما اندلعت التوترات العرقية الطويلة الأمد في سريلانكا وتحوَّلت إلى حرب أهلية شاملة في عام ١٩٨٣، بدأ العالم يرى صراعًا بين الأغلبية السنهالية والأقلية التاميلية. لكن عند تدقيق النظر، سرعان ما يتضح أنَّ الوضع كان أكثر تعقيدًا بكثير. فالسنهاليون كانوا عبارة عن مزيج من «الكانديِّين» الذين يسكنون المناطق المرتفعة وسكان المناطق الساحلية المنخفِضة، وهما فئتان كانت لديهما تقاليد مختلفة. وحتى وقت قريب جدًّا، كانت كل فئة منهما تُحصى على حدة في التعدادات السكانية. أمَّا التاميليون، فكانوا يضمون كلًّا من «التاميليين السريلانكيين» المستقرين منذ فترة طويلة في شمال الجزيرة، و«التاميليين الهنود» أحفاد المهاجرين الذين وفدوا خلال الحقبة الاستعمارية للعمل في قطف الشاي. ويُذكَر هنا أنَّ العديد من السنهاليين والتاميليين ليسوا بوذيين أو هندوسًا، بل مسيحيون. وكذلك توجد جماعات من المسلمين أغلبهم تاميليون لغةً فقط وليس انتماءً.36
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الهويات السريلانكية المعقدة والمُتغيرة والمتقلبة مبنيةٌ على خرافاتٍ معظمها بلا سندٍ تاريخي صحيح. فعلى سبيل المثال، يظن الكثيرون أنَّ السنهاليين من أصول هندية شمالية، لكن أحد كبار المتخصصين في الإثنوغرافيا السنهالية اقترح أنَّ السنهاليين كانوا في الأصل جماعة صغيرة جدًّا اجتذبت إليها — على مر الزمن — موجات من الهنود الجنوبيِّين الذين تبنَّوا لغة السنهاليين ودينهم؛ بل إنَّ مُعظم هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم سنهاليين لا يمكن تمييزهم عن التاميليين من حيث الجينات. إذ قال: «من الناحية البيولوجية، كلنا تاميليون.»37

غير أنَّ هذه الظاهرة لا تقتصر على سريلانكا فقط؛ فالهويات العرقية في العموم ليست واضحة كما يُعتقَد. لنأخذ أيرلندا مثالًا. يشعر الكثيرون هناك بأنهم تعرَّضوا للاضطهاد من الإنجليز. لكن السكان الذين هاجروا إلى أيرلندا من إنجلترا كانوا في بعض الحالات نورمانديين وليسوا إنجليزًا، وكثيرًا ما اندمجوا مع السكان المحليين على مدار أفواجٍ مختلفة، لذا يُرجح أنَّ أغلب السكان الأيرلنديين الحاليين منحدرون من هؤلاء المهاجرين وليس من سكان إنجلترا. ففي أولستر إبان القرن السابع عشر، كان المستوطنون المشيخيون الذين وفد مُعظمهم من اسكتلندا إلى غرب أيرلندا يميلون إلى الاندماج مع السكان المحليين واعتناق الكاثوليكية، في حين أن مُعظم الكاثوليك الأصليين في الشرق، حيث كانت كثافة المستوطنين الوافدين أكبر، أصبحوا بروتستانتيِّين. وهذا ما يفسر وجود قادة قوميين يحملون أسماء مثل آدامز وويلسون، بينما نجد إرهابيين موالين لبريطانيا بأسماء مثل ميرفي.

وفي المقابل، فحينما كان الجيش الجمهوري الأيرلندي، الذي كان العديد من أفراده مُنحدرين بالتأكيد من المهاجرين الإنجليز والاسكتلنديِّين إلى أيرلندا، ينفِّذ تفجيرات ضد المدنيين في البر الرئيسي البريطاني، كان رئيس وزراء المملكة المتحدة آنَذاك يُدعى كالاهان ومستشار الخزانة يُدعى هيلي، علمًّا بأنَّ لا هذا ولا ذاك كان يُعرَّف بأنه أيرلندي. كذلك كانت مارجريت ثاتشر، التي شغلت رئاسة الوزراء بعد كالاهان، وشددت على أنَّ «النزعة الاتحادية متأصِّلة بعمق» في غريزتها، تعتقد أنها منحدرة من أصول أيرلندية جزئيًّا،38 أمَّا توني بلير، فقد اعتنق الكاثوليكية، مع أنَّ بعض أسلافه كانوا بروتستانتيين من أيرلندا الشمالية. ومن ثَم يتجلَّى لنا أنَّ مسائل الهوية بين شعوب الجزر البريطانية معقدة على غِرار حالها في سريلانكا.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تتكرَّر الظاهرة ذاتها. صحيح أننا أشرنا سلفًا إلى أن إحدى أهم القضايا التي حشدت أصوات الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام ٢٠١٦ كانت تعهُّد دونالد ترامب ﺑ «بناء جدار عازل»، لكن رغم هذا الاستياء من اللاتينيين، كان اثنان من منافسيه على الفوز بترشيح الحزب الجمهوري يحملان أسماء لاتينية، وهما كروز وروبيو. إذ تتلاشى الهويات اللاتينية مع مرور الوقت والزواج المختلط؛39 فاليوم أصبحنا نجد مقابل كل اثنين من اللاتينيين الأمريكيين الذين يُصنَّفون على أنهم كاثوليك واحدًا فقط يُصنف على أنه بروتستانتي وآخر ليس له أي دين، فيما تَرتفِع نسبة غير الكاثوليك.40 وبالإضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن الدين، فإن الهوية الهسبانية تتضاءل والزواج المختلط يصبح أكثر شيوعًا مع كل جيل بعد الهجرة.41

ومع أنَّ طابع المستقبل العرقي لأمريكا الشمالية وأوروبا لن يكون أوروبيًّا بقدرِ ما كان في الماضي بكل تأكيد، فمِن المرجَّح أن الكثير من المهاجرين الذين توافدوا من مناطق أبعد سيَندمجون تمامًا في مجتمعات أوطانهم الجديدة. ومن المؤكد أنَّ طبيعة تلك الهويات ستتغيَّر بمرور الوقت، كدأبها دائمًا؛ فالإنجليز في القرن الثالث عشر كانوا مختلفين عن الأنجلوسكسونيين في القرن العاشر. ومع ازدياد حالات الزواج المختلط، سيزداد الأشخاص ذوو الأصول المختلطة، ومن المرجح جدًّا أن يُصنف الكثيرون على أنهم مُنتمون إلى المملكة المتحدة أو إحدى دولها مع أنهم ليسوا من أصول بريطانية، وكذلك سيَنطبِق الأمر نفسه على دولٍ غربية أخرى. ويُذكَر هنا أنَّ الولايات المتحدة كانت بمنزلة آلة فعَّالة جدًّا في دمج المهاجرين في مجتمعها؛ ومِن ثمَّ خلق مزيدٍ من الأمريكيِّين؛ وكذلك يُمكن أن تُحقِّق الدول الأوروبية نجاحًا بالقدر ذاته، مع أنها لا تعتبر نفسها حاليًّا من «دول المهاجرين»، على عكس الولايات المتحدة. ستكون المسألة في النهاية مرهونة بمعدَّل الهجرة وسرعة الدمج.

ربما يبدو ظهور مجتمع مختلط الأعراق تطورًا طبيعيًّا من منظور لندن أو باريس أو نيويورك في أوائل عشرينيات القرن الحالي، لكنَّ التاريخ يثبت خطأ هذه الفكرة. ففي وقتٍ ما من التاريخ، حينما كانت المملكة المتحدة وفرنسا تتَّسمان بتجانسٍ عرقي، كانت بعض مدن الشرق الأوسط، كالجزائر وبغداد والإسكندرية، عبارة عن مزيجٍ من تشكيلة مختلفة من الأديان والجنسيات. أمَّا اليوم، فقد انقلبَت الآية تمامًا، وصارت تلك المدن تتَّسم بتجانسٍ صارمٍ يكاد يصل إلى حد الفصل العرقي. ومن ثَم يتَّضح أنَّه لا يوجد مسارٌ واحدٌ حتمي يؤدي إلى مستقبل متعدد الأعراق؛ وإذا تصور أحد أنه يرى شيئًا كهذا، فسيكون ذلك مجرد سراب بصري يعكس منظورًا ضيقًا من الناحية التاريخية والجغرافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤