التغير العرقي
«أومن بأنَّ الرب قدَّر للولايات المتحدة أن تكون موطنًا لشعبٍ عظيم. شعب ناطق بالإنجليزية ومنحدر من عِرقٍ أبيض له مُثُل عظيمة ومُعتنِق للدين المسيحي، شعب ذو عرق واحد وبلد واحد ومصير واحد. لقد كانت أرضًا عظيمة استوطنها أهلُ شمال أوروبا من المملكة المتحدة والشماليين والسكسونيين … لم يكن ينبغي قطُّ السماح للأفارقة والشرقيِّين والمنغوليين وكل الأجناس الصفراء في أوروبا وآسيا وأفريقيا بالعيش في هذه الأرض العظيمة.»
لكنَّ صراحة ألبرت جونسون كانت مُتواضعة مقارنةً بتلك التي أبداها مُؤيده إيرا هيرسي، الذي يُذكِّرني تعصبه بشخصية بوس فينلي، إحدى شخصيات مسرحية «طائر الشباب الجميل» (ذا سويت بيرد أوف يوث» التي كتَبَها تينيسي ويليامز. ومع أنَّ خطاب هيرسي كان دينيًّا ومشحونًا بالتمييز العنصري، فإنه لم يكن عُضوًا ممثلًا لإحدى ولايات الحزام الإنجيلي أو الولايات الجنوبية، بل كان ممثلًا لولاية مين الشمالية ذات الأغلبية الساحقة من ذوي البشرة البيضاء؛ وهو ما يُوضح أنَّ التعصب كان منتشرًا على نطاقٍ واسعٍ في أمريكا بين الحربين العالميتين. وكان هيرسي مقتنعًا تمامًا بأنَّ الرب فضَّل ذوي الأصل الأوروبي الشمالي، وهو ما يُشير إلى غطرسة عرقية لم تكن مُمكنة إلا في عصرٍ فرض فيه ذوو الأصول الأوروبية سيادتهم على العالم، ويتوقَّعون أنهم سيظلون هكذا إلى الأبد.
الهجرة والعرق في أمريكا
في القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة مدفوعة برغبة في التوسُّع، وهو ما كان يستلزم أن تملأ مساحاتها الفارغة بسكانٍ ومدن وسكك حديدية ومصانع ومزارع. شعر الأمريكيون عندئذٍ بأنهم في مهمة، وهذا الشعور، الذي صار يُعرَف بمصطلح «القدر المتجلي»، كان قائمًا على فكرة أنَّ قَدَرهم أن يُنشئوا أمة عظيمة من الساحل إلى الساحل. ويُمكن القول إنَّ ذلك الدافع كان دينيًّا وأيديولوجيًّا وعمليًّا. إذ اعتقد العديد من الأمريكيِّين بأنهم مُكلَّفون من الرب بالانتشار في البرية، لكنهم كانوا مدفوعين أيضًا بدافعٍ اقتصادي قوي. غير أنَّ ملء أمريكا تطلَّب أناسًا جددًا، وبأعدادٍ كبيرة. صحيح أنَّ الأمريكيين كانوا يتمتَّعون بخصوبة عالية وعائلات كثيرة الأفراد وبقاء نسبة كبيرة من مواليدهم على قيد الحياة، لكنَّ النمو السكاني السريع في البلاد لم يكن كافيًا لملء القارة بالوتيرة المُلحة التي كان القدر المتجلِّي يتطلَّبها. وهكذا قبلت الولايات المتحدة مهاجرين فقراء ومتسخين من أقصى أركان أوروبا، بل ورحبت بهم. حتى إنها أقامت تمثال الحرية لإبراز هذه النقطة.
فالمهاجرون الذين وفدوا إلى جزيرة إليس في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانوا مُختلفين عن المهاجرين الإنجليز والاسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين والهولنديِّين والألمان الذين سبقوهم. فبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وبفضل تحسُّن وسائل النقل سواءٌ داخل أوروبا أو منها إلى الخارج، أصبح السفر عبر المحيط الأطلسي احتمالًا ممكنًا لسكان أماكن مثل صقلية وبولندا، بعدما كانت أمريكا تبدو لهم في السابق مكانًا بعيدًا جدًّا. ولكن بحلول مطلَع القرن العشرين، صار ممكنًا حتى للكثيرين من سكان المناطق الداخلية في أوروبا أن يطمحوا إلى الهجرة إلى أمريكا، واكتسبت العملية زخمًا. فكما رأينا في الهجرة من أفريقيا في الفصل الثاني، حالما كان العمُّ أو ابن العم مثلًا يستقر هناك، كان يُشعِر أقرباءه من الوافدين الجُدد بالألفة عند وصولهم، ويستضيفهم ليبيتوا عنده ليلةً أو اثنتين، ويوصلهم بمعارف مفيدين يساعدونهم للعثور على عمل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الفرص الاقتصادية المتاحة في كاليفورنيا، وخصوصًا ذهبها، لم تَجتذِب أوروبيين فحسب، وإنما اجتذبت مُهاجرين آسيويين أيضًا في العقود التي تلَت غزو الولايات المتحدة للغرب، وهو ما أدَّى إلى ردة فعل قوية. ففي وقتٍ مبكر جدًّا، وتحديدًا في عام ١٨٥٢، فُرِضَت ضرائب على السكان الصينيين في كاليفورنيا من أجل تثبيط استيطانهم. وفي أواخر القرن التاسع عشر، سُنَّت عدة قوانين متنوِّعة لتقييد وجودهم، وغالبًا ما كانت مصحوبة بأعمال عنفٍ ضدهم. وعادةً ما كانت النقابات العمالية تُفضِّل فرض قيودٍ على الهجرة لأنَّ وفرة العمالة الأجنبية بلا رادعٍ كانت ستُؤدي إلى المنافسة وانخفاض الأجور؛ في حين أنَّ أغلب رجال الأعمال كانوا يُفضِّلون الهجرة للسبب ذاته.
ولكن بحلول نهاية القرن العشرين، كان الوافدون الجدد إلى كاليفورنيا يأتون من الجنوب وليس من الشرق، وذلك ضِمن موجة هسبانية كبيرة. ومن ثَم أصبح السكان «الأوروبيون» غير الهسبان أقلية الآن، وصار عدد طلابهم في المدارس أقل من أي وقتٍ مضى. فقبل جيلَين، كان الطلاب البيض يشكِّلون الأغلبية الساحقة في مدارس كاليفورنيا. وقبل جيل واحد، كان أكثر من ٤٠٪ من طلاب المدارس في كاليفورنيا من البيض؛ أمَّا اليوم، فقد وصلت النسبة إلى ٢٢ في المائة وما زالت تتناقص.
الغرب يصبح شمالًا
من منظور الولايات المتحدة، أتاحت عمليات الضمِّ التي نفَّذتها بعد الحرب مع المكسيك في منتصَف القرن التاسع عشر فرصة عظيمة لها للتوسُّع غربًا. إذ كانت الأمة تتحرَّك في هذا الاتجاه بالفعل منذ وصول مؤسسيها إلى نيو إنجلاند وفيرجينيا. أمَّا من منظور المكسيك، فهذه المنطقة لا تُعَد غربًا بل شمالًا، وتُمثِّل أرضًا شاسعة قد فُقدت.
وكل هذا نتاج التغيُّرات التي حدَّدناها في الفصول السابقة: وهي انخفاض معدَّل الإنجاب منذ فترة طويلة في العالم المتقدم إلى جانب ارتفاع معدلات الخصوبة وارتفاع معدلات بقاء الأطفال على قيد الحياة في الجنوب العالمي. صحيح أنَّ معدل الخصوبة في المكسيك حاليًّا ليس أعلى بكثيرٍ من نظيره في الولايات المتحدة، لكنه كان أعلى منه ثلاث مرات خلال سبعينيات القرن الماضي.
وفي حين أنَّ العوامل الديموغرافية أوجدت الظروف التي أتاحت هجرات السكان الجماعية، فإنَّ الاقتصاد هو ما حفَّزها. ففي العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، كان الاقتصاد الأمريكي المتجدِّد باستمرارٍ يتطلَّب عمالة رخيصة، بل وما زال، تمامًا كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى. لكنَّ أوروبا الآن، على عكس حالتها آنَذاك، صارت غنية ولم تعُد تتسم بخصوبة ديموغرافية كبيرة، أي إنَّ سكانها ليس لديهم الحجم الديموغرافي الكافي للهجرة إلى الولايات المتحدة ولا الدافع الاقتصادي إلى ذلك. وحتى سكان مناطق أوروبا الشرقية الأقل ازدهارًا يرَون أنَّ الهجرة إلى غرب أوروبا خيارٌ أسهل.
لذا لم يعُد الأوروبيون يرَون في أمريكا الوجهة المفضَّلة للسكان الفائضين مثلَما كانت قبل قرن من الزمان. وبدلًا من ذلك صارت العمالة الرخيصة تتوافد إلى الولايات المتحدة من جنوب نهر ريوجراند. وهكذا فبعدما كانت المصانع المُستغِلة للعمال في حي لوَر إيست سايد في نيويورك تعجُّ في العقد الأول من القرن العشرين بسكان فائضين من روسيا وإيطاليا وأطراف الإمبراطورية النمساوية المجرية؛ تغيَّر الوضع بحلول نهاية القرن العشرين ليصبح مهاجرون وافدون من المكسيك وأمريكا الوسطى هم مَن يعتنُون بحدائق أثرياء كاليفورنيا ومسابحهم.
وصحيح أنَّ مثل هذه التنبؤات توحي بأنَّ مسائل العِرق بسيطة وواضحة، لكنها في الحقيقة حساسة ومعقَّدة. فبادئ ذي بدء، تعتمد البيانات على كيفية تعريف الأشخاص لأنفسهم، وهو أمر شخصي وقابل للتغيُّر. فعلى سبيل المثال، لم تكن فئة «البيض» ذات أهمية كبيرة عندما كانت النخب الأمريكية متخوفة من وصول الكاثوليك الأيرلنديين إلى المدن الشمالية الشرقية.
ولكن بصرف النظر عن كيفية تقسيم تركيبة السكان الأمريكيين العرقية، فإنها تتغير بوتيرة سريعة، وستستمر في ذلك. فبعدما وصل الأوروبيون وأبادوا السكان الأصليين، استمرت هيمنتهم الديموغرافية قرونًا عديدة بلا منازع. لكنَّ طبيعة أمريكا «البيضاء» تغيَّرت لاحقًا مع وصول أفواج الإيطاليين والبولنديين واليهود الذين تحدَّوا الهيمنة الديموغرافية لفئة البروتستانت الأنجلوسكسونيِّين البيض، التي صارت تُعرَف باسم الواسب، ثم تحدَّوا هيمتنهم الثقافية. فالعديد من الرموز الثقافية والأدبية في أمريكا في منتصف القرن العشرين وأواخره، من فيليب روث إلى مادونا، كانوا من نسل مهاجرين وافدين من سواحل أوروبا البعيدة.
ولكن منذ إصلاحات قوانين الهجرة في الستينيات، التي ألغت القيود المفروضة في عشرينيات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة بمنزلة بوتقة انصهار، لا لأعراقٍ أوروبية معينة وإنما للعالم بأسره. إذ صارت تضم جاليات متنامية من آسيا وأفريقيا، وكذلك أمريكا اللاتينية. وبذلك سيكون السكان الأمريكيون في المستقبل مختلفين تمامًا عن الأمريكيِّين في الماضي؛ ثقافيًّا وعرقيًّا ودينيًّا.
هذا وتُتيح التغيرات الديموغرافية الظروف الأساسية المواتية لمثل هذا التغيير؛ إذ يشهد الجنوب العالمي ازديادًا هائلًا في عدد السكان، بينما يشهد العالم المتقدِّم تراجعًا. ثم ينجذب السكان المتزايدون في الجنوب إلى الاقتصادات المزدهرة في الشمال. غير أنَّ هؤلاء الناس غالبًا ما يميلون إلى البقاء في بلدانهم الأصلية عندما يُعانون فقرًا مدقعًا، ولا يتسنى لهم التفكير في الهجرة إلا بعد تحسُّن أحوالهم المادية بعض الشيء. والآن صار في إمكان الجميع، بثمنِ هاتفٍ محمول، أن يروا الرخاء المادي المغري الذي ينعم به العالم المتقدم، ويَنجذبوا إليه. وهذا المزيج من العوامل الديموغرافية والاقتصادية، الذي يجذب المهاجرين ويُغيِّر التركيبة السكانية، قائم في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بل وفي أوروبا التي ننتقل إليها الآن.
أوروبا تحوَّلت
في صيف عام ٢٠١٥، ظهرت صورةُ جثةِ صبي صغير جرفتها الأمواج إلى أحد شواطئ تركيا، وزلزلت مشاعر أوروبا بأكملها. وهكذا أصبحت مأساةٌ واحدة تُعبِّر عن كارثة إنسانية أكبر، مثلما حدث بعد ذلك بأربع سنوات في وفاة أوسكار راميريز وابنته في ريو جراندي.
أسفر هذان التياران المتدفِّقان عن تغيُّرٍ ملحوظ في تركيبة سكان أوروبا الغربية، وخصوصًا في مُدنها الكبرى. فلندن التي ولدتُّ فيها، في منتصف الستينيات، كانت مأهولة بأغلبية ساحقة من سكان بريطانيِّين أبًا عن جدٍّ عن جد. ولأنني كنتُ طفلًا لأبوَين مهاجرين، كان وضعي استثنائيًّا؛ ولو كنتُ وُلدت قبل ذلك بعقدين، أي قبل وصول جيل «ويندرَش» والهجرة الجماعية المبكرة من جنوب آسيا، لكان وضعي أكثر استثنائية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الهجرة بين القارات كانت نادرةً في الماضي بسبب صعوبة اجتياز المسافات الطويلة وارتفاع تكاليف السفر، فضلًا عن بدائية وسائل النقل آنذاك. وفي القرن التاسع عشر، حينما بدأ الأوروبيون يتدفَّقون خارج قارتهم، مدفوعين بالطفرة السكانية في الداخل ومنجذبين إلى الفرص الواعدة المتاحة في أماكن أخرى، تمكَّنوا من ذلك بفضل أشكالٍ جديدة من وسائل النقل. أمَّا الآن، ومع انكماش أعداد السكان في أوروبا، فقد شهد مسار هذه الهجرة العالمية انقلابًا حادًّا. إذ لم تعد أوروبا تُصدِّر أعدادًا هائلة من المهاجرين، بل صارت تستقطبهم.
هذا وتتوقَّع الدراسة الاستقصائية المذكورة أعلاه بخصوص التركيبة الدينية والديموغرافية في فرنسا أنَّ نسبة المسلمين من إجمالي سكان البلاد ستكون ١٣ في المائة بحلول عام ٢٠٥٠. وكذلك ستعجُّ البلاد بالكثير من الأفارقة غير المسلمين، على غِرار ما ستشهده أماكن أخرى في أوروبا. فباريس ولندن وروتردام وفرانكفورت وبروكسل ومارسيليا كلها تضمُّ بالفعل عددًا كبيرًا من سكان هاجروا إليها من خارج أوروبا أو ينحدرون من مثل هؤلاء المهاجرين. وهكذا يتضح أنَّ السكان الأوروبيين في المستقبل، مثلهم مثل الأمريكيِّين، سيكونون مختلفين تمامًا.
الهجرة أم الخصوبة: ما الذي يُسبِّب التغيُّرات العرقية؟
يمكن أن يكون التغيُّر العرقي السريع في منطقة ما مدفوعًا إمَّا بتفاوت معدلات الخصوبة وإما بالهجرة الجماعية، لكن تفاوت معدلات الوفاة أيضًا يمكن أن يغيِّر التركيبة العرقية. وهذا قد يحدث بسبب الإبادة الجماعية، ويتجلى أيضًا عندما يكون السكان المهاجرون أصغر سنًّا من السكان المحليين. وسواء ما إذا كانت نسبة مواليد المهاجرين أعلى من مواليد السكان الأصليين أم لا، فإن التركيبة العمرية لجماعات المهاجرين تجعل نسبة وفياتهم أقل من وفيات السكان الأصليِّين على الأرجح. فعلى سبيل المثال، عندما انخفضت نسبة الصرب في سكان كوسوفو أو البوسنة بعد مُنتصَف القرن العشرين، كان ذلك يرجع جزئيًّا إلى هجرتهم من تلك المناطق، لكنه كان يرجع أيضًا إلى أنَّ الكوسوفيين والبوسنيين كان ينجبون أطفالًا أكثر ممَّا ينجبه جيرانهم الصرب.
وفي حالة الولايات المتحدة، نجد أنَّ الهجرة هي السبب الأكبر في التغيير العرقي الكبير الذي بدأ يطرأ منذ أوائل السبعينيات وليس تفاوت معدلات الخصوبة. صحيح أنَّ المكسيك كانت تتَّسم بمعدل خصوبة أعلى بكثيرٍ من الولايات المتحدة طوال فترة من الوقت، وهو ما كان سببًا رئيسيًّا في حدوث الهجرة من البداية، ولكن عندما تنتقل جماعات المهاجرين إلى أماكن ذات خصوبة مُنخفِضة، فإن معدلاتهم سرعان ما تصبح أقرب إلى المعدلات السائدة في موطنهم الجديد في أغلب الأحيان. وكما رأينا في الفصل الرابع، سرعان ما تقاربت معدلات خصوبة اللاتينيين في الولايات المتحدة مع معدلات الخصوبة لدى البِيض. بل إنَّ انخفاض معدلات المواليد بين اللاتينيين كان عاملًا رئيسيًّا في الانخفاض الأخير في معدلات المواليد في الولايات المتحدة.
وأذكر هنا أنَّ بناتي التحقنَ بمدرسة للفتيات في لندن حيث كانت غالبية الطالبات إما مهاجرات وإما بناتِ مهاجرين من جنوب آسيا في الأغلب. وقد كانت تطلُّعاتهن هي الالتحاق بالجامعة والعمل، وليس الزواج المبكر وإنجاب الكثير من الأطفال. وهُنَّ بذلك لم يكنَّ متوافقات مع المعايير المجتمعية البريطانية فحسب، وإنما أيضًا مع الاتجاهات التي لاحظناها بالفعل في جنوب آسيا. ومن ثَم فإذا استمر التغير العرقي في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، فلن يكون سببه الرئيسي هو الفرق بين معدلات الإنجاب لدى المهاجرين وأطفالهم ومعدلات السكان الأصليِّين.
أشرنا بالفعل إلى أنَّ معدلات الخصوبة في المناطق الريفية النائية في الولايات المتحدة أعلى منها في المناطق الحضرية. وصحيح أنَّ بعض المهاجرين إلى أمريكا، كالوافدين من المناطق الريفية الاسكندنافية مثلًا، كانوا يَنجذبون إلى الأرياف، لكنَّ أغلب المهاجرين إلى البلدان المتقدمة لطالما كانوا يُفضِّلون الاستقرار في المدن. وسواء أكان المهاجرون قادمين من المدن أو الريف، فهُم دائمًا ما يحذون حذو أهل المدن الجديدة التي يستقرون فيها. فأغلب الظن أنَّ الأجزاء الأوروبية والأمريكية الشمالية التي تعيش فيها نسبةٌ كبيرة من الأغلبيات الأصلية في المناطق الريفية ربما تتَّسم بمعدل خصوبة أعلى ممَّا لدى مجتمعات المهاجرين في المناطق الحضرية؛ بل ويُمكننا أن نرى هذا بالفعل في الولايات المتحدة، حيث لم يعُد معدل الخصوبة بين الأمريكيِّين البيض أقل بفارقٍ ملحوظ من معدَّل خصوبة الأقليات المهاجرة. فمعدل الإنجاب لدى طائفة المورمون في ريف ولاية يوتا مثلًا أكبر منه لدى السكان اللاتينيين في مدينة نيويورك. غير أنَّ الفروق في الخصوبة بين المناطق الريفية والحضرية في العالم المتقدم عادة ما تكون طفيفة، ومن المستبعد أن تُؤدي إلى أيِّ تغير عرقي ملموس.
الانعكاس ورد الفعل وإعادة التعريف
إذا كان تاريخ الديموغرافيا يُعلمنا أي شيء، فهو أنَّ لا شيء حتمي تمامًا. فمُعظم الأحداث الديموغرافية التي وقعت كانت تبدو مستبعدة جدًّا قبل حدوثها، ولكن بعد حدوثها، بات يُنظر إليها على أنها حتمية. وهذا ينطبق أيضًا على التغيُّر العرقي؛ فمستقبل أمريكا الشمالية وأوروبا ما زال غير محسوم على الإطلاق. ويمكن القول إنه سيتحدَّد بعوامل مختلفة، وستكون الخيارات التي يتخذها الأفراد والساسة مهمة جدًّا. ففي الديموغرافيا، تسود الإرادة الحرة وليس الحتمية، حتى لو كانت إرادة ملايين الناس هي التي ستُحدث فارقًا.
ربما تكون العوامل الاقتصادية والاختلافات في معدَّلات المواليد والتركيبات العمرية تُشجع حاليًّا على مزيدٍ من الهجرة، ولكن من المحتمل أن تضعُف هذه الاتجاهات مع تقلص الفجوة بين الأوضاع الاقتصادية والديموغرافية. فعلى سبيل المثال، تُصبح أوروبا الشرقية أغنى، وتزداد نسبة الشيخوخة بين سكانها في الوقت نفسه. ففي الفترة من عام ٢٠٠٥ إلى عام ٢٠٤٥، ستنخفض نسبة البولنديين الذين هم في أوائل العشرينيات من عمرهم، وهو سن ذروة الإقبال على الهجرة، إلى النصف تقريبًا، ما سيُقلِّص من مجموعة المهاجرين المحتملين. ومن ثَم يبدو أنَّ زمن انتشار السباكين البولنديِّين في كل أرجاء المملكة المتحدة سيُولَّى عمَّا قريب؛ لأنَّ عدد الشباب الذين يدخلون سوق العمل يتضاءل، وبذلك لن تتوفَّر عمالة بولندية كافية لتلبية كل الطلب عليها.
في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما ارتفعت معدلات هجرة ذوي الأصول الإسبانية إلى الولايات المتحدة بسُرعة الصاروخ، كان متوسط ما تُنجبه المرأة المكسيكية نحو سبعة أطفال، في حين أنَّ نساء الولايات المتحدة كُنَّ يُنجبن ما يزيد قليلًا على طفلَين في المتوسط. أمَّا اليوم، ومع انخفاض معدل الخصوبة في الولايات المتحدة إلى مستويات أدنى، هَوَت معدلات الخصوبة في المكسيك إلى مستوى مقارب. ولعلَّ هذا الفارق الذي يتقلَّص بسرعة يُفسِّر اقتراب «موجة الهجرة المكسيكية» إلى أمريكا من نهايتها، حتى لو استمر ضغط المهاجرين الوافدين من أماكن أخرى في أمريكا اللاتينية. وفي الوقت نفسه، فإنَّ معدلات الخصوبة بين السكان المهاجرين عادةً ما تَنخفِض وتقترب من معدلات السكان الأصليين، كما رأينا بالفعل. ولأنَّ أغلب المهاجرين يعيشون في مناطق حضرية، ربما تكون معدلات الخصوبة لديهم إلى حدٍّ ما أقل من معدلات خصوبة السكان ككل.
ولا بد أنه بدا آنذاك أنَّ تدفُّق المهاجرين الأوروبيين إلى أمريكا في أوائل القرن العشرين لن يتوقف أبدًا، لكن اتضح بعدئذ أن هذا غير صحيح على الإطلاق. وبالمثل، فإذا شهدت الدول التي ينتقل منها المهاجرون حاليًّا إلى أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية بأعدادٍ هائلة انكماشًا سكانيًّا وازدهارًا اقتصاديًّا، سيتكرَّر هذا النمط.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كان وعد دونالد ترامب ببناء جدار عازل على الحدود المكسيكية هو التعهد الأبرز في حملته الانتخابية الرئاسية التي كُلِّلت بالنجاح في عام ٢٠١٦. إذ بدا أنَّ معظم ناخبي ترامب كانوا أكثر اهتمامًا بمسألة الهجرة والوضع الديموغرافي الأمريكي المتغيِّر من اهتمامهم بعدم المساواة الاقتصادية أو فشل النظام المالي. ولكن مثلما تجلَّى لنا في المملكة المتحدة، ففي الدول التي تعج بمشاعر مناهضةٍ بقوة للهجرة، لا يكون الساسة اليمينيون وحدهم هُم من يطبِّقون سياسات رامية إلى الحدِّ منها. فقانون إصلاح الهجرة غير الشرعية ومسئولية المهاجرين لعام ١٩٩٦ صَدَر في عهد الرئيس بيل كلينتون، وجعل ترحيلَ المهاجرين غير الشرعيِّين من الولايات المتحدة حدثًا شائعًا نسبيًّا آنذاك.
ويُمكن القول إنَّ الحكومة الشعبوية الإيطالية في الفترة بين عامَي ٢٠١٨ و٢٠١٩ كانت تَدين بفوزها في الانتخابات للخوف من الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسِّط بقدر ما كانت تدين به للمعاناة الاقتصادية في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شارك اليمين المتطرف النمساوي في الحكومة مؤخرًا، بعدما صَعَدَ نجمه بفضل المخاوف من الهجرة أيضًا. وفي ألمانيا، أدى صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي اليميني إلى الضغط على حكومة أنجيلا ميركل المنتمية إلى يمين الوسط، ودفعها إلى اتخاذ موقف أقل تساهلًا مع الهجرة؛ وبذلك لم يتكرَّر تدفق المهاجرين الذي حدث في عام ٢٠١٥.
ومع ذلك، ينبغي لنا أن نكون حريصين على عدم ربط صعود هذه الأحزاب الشعبوية المناهِضة للمُهاجرين بشكلٍ وثيقٍ للغاية بالفاشية الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. ومرة أخرى، ينعكس الفارق الرئيسي في التركيبة السكانية. وتحقَّق أحزاب اليمين المتطرف الجديدة مكاسب في مجتمعات يبلغ متوسط أعمارها الأربعينيات، وليس العشرينيات. ورغم أنهم محافظون ومقاومون للتغيُّر العرقي السريع، فإن اليمينيين في إيطاليا والنمسا لا يُشكِّلون عصابات في الشوارع. في الواقع، أحد الأشياء المدهشة في هذه الحركات الشعبوية هو غياب العنف. وإذا ذبلت الديمقراطية الأوروبية في مواجهة الشعبوية اليمينية، فلن يتمُّ إخمادها بالعنف كما حدث في سنوات ما بين الحربين العالميتَين. ومن المرجح أن شعوب أوروبا أصبحت أكبر سنًّا من أن تستطيع النزول إلى الشوارع أو دعم حركات قد تكون مهتمَّة بشن مغامرات عسكرية خارج حدودها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مسألة الهجرة وما يترتَّب عليها من تغيُّر عرقي ليست قدرًا حتميًّا على الإطلاق، وإنما مرهونة بالخيارات التي تتَّخذها الحكومة، والتي تستجيب في النهاية للرأي العام. صحيح أنَّ الدولة قد تجد السيطرة على حدودها صعبة، لكنها ليست مستحيلة. ولنضرب هنا مثلًا بسنغافورة، وهي جزيرة مزدهرة تحيط بها إندونيسيا وماليزيا، وهما أقل ثراءً منها بكثير. وعلى الرغم من أنهما تُحرزان تقدمًا اقتصاديًّا، نجد أنهما تضمَّان مئات الملايين من الأشخاص الذين سيكونون أكثر ثراءً بكثير إذا تمكنوا من الهجرة إلى سنغافورة. ونظرًا إلى أنَّ عدد سكان سنغافورة أقل من ستة ملايين نسمة، فيمكن اجتياح سنغافورة بالكامل، لكنها تحرس حدودها بكل تصميم. وتتعامَل أستراليا أيضًا بنفس القدر من الحزم مع أولئك الذين يحاولون دخول البلاد عن طريق البحر، وتحتجز المتسلِّلين الذين يُقبَض عليهم في معسكرات في جنوب المحيط الهادئ. أمَّا بلدان جنوب شرق أوروبا، فقد أقامت سياجات لوقف تدفُّق اللاجئين من تركيا.
ويُمكن للتقدم الذي يُحرَز في دول العالم النامي، مع انخفاض معدَّلات الخصوبة فيها وازدهار اقتصادها، أن يُسهم في وقف التغيير العرقي. ففي البداية ينبهر سكان الدول الفقيرة بالتنمية الاقتصادية في الدول المزدهرة، ويطمحون إلى الهجرة إليها، ولكن عندما تُتاح لهم فرص واعدة في بلادهم، قد يقتنع الكثيرون بالبقاء فيها. من ناحية أخرى، تُعَد الحروب أيضًا أحد الأسباب التي تدفع الناس إلى مغادرة بلادهم، لكن هذه الحروب أصبحت أقل تواترًا. وبالإضافة إلى ذلك، عادةً ما تميل الأقليات إلى العيش في المناطق الحضرية وبذلك تميل أيضًا إلى قلة الإنجاب، في حين أنَّ «السكان الأصليين» الريفيين على الأقل يُمكن أن ينجبوا بمعدلٍ أعلى، لكن الفارق من المرجح أن يكون طفيفًا، فضلًا عن أنَّ سكان الريف عادةً ما يشكِّلون نسبة ضئيلة من إجمالي السكان في العموم.
غير أنَّ هذه الظاهرة لا تقتصر على سريلانكا فقط؛ فالهويات العرقية في العموم ليست واضحة كما يُعتقَد. لنأخذ أيرلندا مثالًا. يشعر الكثيرون هناك بأنهم تعرَّضوا للاضطهاد من الإنجليز. لكن السكان الذين هاجروا إلى أيرلندا من إنجلترا كانوا في بعض الحالات نورمانديين وليسوا إنجليزًا، وكثيرًا ما اندمجوا مع السكان المحليين على مدار أفواجٍ مختلفة، لذا يُرجح أنَّ أغلب السكان الأيرلنديين الحاليين منحدرون من هؤلاء المهاجرين وليس من سكان إنجلترا. ففي أولستر إبان القرن السابع عشر، كان المستوطنون المشيخيون الذين وفد مُعظمهم من اسكتلندا إلى غرب أيرلندا يميلون إلى الاندماج مع السكان المحليين واعتناق الكاثوليكية، في حين أن مُعظم الكاثوليك الأصليين في الشرق، حيث كانت كثافة المستوطنين الوافدين أكبر، أصبحوا بروتستانتيِّين. وهذا ما يفسر وجود قادة قوميين يحملون أسماء مثل آدامز وويلسون، بينما نجد إرهابيين موالين لبريطانيا بأسماء مثل ميرفي.
ومع أنَّ طابع المستقبل العرقي لأمريكا الشمالية وأوروبا لن يكون أوروبيًّا بقدرِ ما كان في الماضي بكل تأكيد، فمِن المرجَّح أن الكثير من المهاجرين الذين توافدوا من مناطق أبعد سيَندمجون تمامًا في مجتمعات أوطانهم الجديدة. ومن المؤكد أنَّ طبيعة تلك الهويات ستتغيَّر بمرور الوقت، كدأبها دائمًا؛ فالإنجليز في القرن الثالث عشر كانوا مختلفين عن الأنجلوسكسونيين في القرن العاشر. ومع ازدياد حالات الزواج المختلط، سيزداد الأشخاص ذوو الأصول المختلطة، ومن المرجح جدًّا أن يُصنف الكثيرون على أنهم مُنتمون إلى المملكة المتحدة أو إحدى دولها مع أنهم ليسوا من أصول بريطانية، وكذلك سيَنطبِق الأمر نفسه على دولٍ غربية أخرى. ويُذكَر هنا أنَّ الولايات المتحدة كانت بمنزلة آلة فعَّالة جدًّا في دمج المهاجرين في مجتمعها؛ ومِن ثمَّ خلق مزيدٍ من الأمريكيِّين؛ وكذلك يُمكن أن تُحقِّق الدول الأوروبية نجاحًا بالقدر ذاته، مع أنها لا تعتبر نفسها حاليًّا من «دول المهاجرين»، على عكس الولايات المتحدة. ستكون المسألة في النهاية مرهونة بمعدَّل الهجرة وسرعة الدمج.
ربما يبدو ظهور مجتمع مختلط الأعراق تطورًا طبيعيًّا من منظور لندن أو باريس أو نيويورك في أوائل عشرينيات القرن الحالي، لكنَّ التاريخ يثبت خطأ هذه الفكرة. ففي وقتٍ ما من التاريخ، حينما كانت المملكة المتحدة وفرنسا تتَّسمان بتجانسٍ عرقي، كانت بعض مدن الشرق الأوسط، كالجزائر وبغداد والإسكندرية، عبارة عن مزيجٍ من تشكيلة مختلفة من الأديان والجنسيات. أمَّا اليوم، فقد انقلبَت الآية تمامًا، وصارت تلك المدن تتَّسم بتجانسٍ صارمٍ يكاد يصل إلى حد الفصل العرقي. ومن ثَم يتَّضح أنَّه لا يوجد مسارٌ واحدٌ حتمي يؤدي إلى مستقبل متعدد الأعراق؛ وإذا تصور أحد أنه يرى شيئًا كهذا، فسيكون ذلك مجرد سراب بصري يعكس منظورًا ضيقًا من الناحية التاريخية والجغرافية.