الفصل التاسع

التعليم

٧١: النسبة المئوية للبنجلاديشيات اللواتي يعرفن القراءة والكتابة1
ركَّز هذا الكتاب حتى الآن على المسائل «الكَمِّية»: كعدد السكان، وعدد أطفالهم، ومُتوسط أعمارهم، والعمر الذي يموتون عنده. وصحيح أنَّ كل هذا مُهم بالطبع، ولكن حان الوقت للانتقال إلى مسائل «الجودة». فالبشرية مرَّت بالمرحلة الانتقالية الأكثر استثنائية في تاريخها؛ إذ شهدت ارتقاءً نوعيًّا يطغى على أي تقدم تكنولوجي. ولولا هذا الارتقاء، لما تحقَّقت التغيرات الرقمية الكبيرة التي شهدناها، كانخفاض معدلات الوفيات، وارتفاع متوسط العمر المتوقع، وانخفاض معدلات الخصوبة.2
ببساطة، انتقل البشر من ظلام الأمية إلى نور التعليم، فبعدما كان التعليم حكرًا على قلة قليلة جدًّا جدًّا، صار حقًّا أصيلًا لمليارات البشر. ومقارنةً بالتاريخ البشري المُمتد على مدار عشرات الآلاف من السنين، فقد حدث كل هذا في غمضة عين. ففي عام ١٨٠٠، كانت نسبة الأمية في العالم تُقدَّر بنحو ٩٠ في المائة. أمَّا اليوم، فإنَّ نسبة معرفة القراءة والكتابة هي التي تقترب بسرعة من ٩٠ في المائة.3

مُعجزة التعليم البنجلاديشية

عشية استقلال الهند عام ١٩٤٧، أصرَّت القيادة الإسلامية في البلاد على إقامة دولة إسلامية مُنفصلة. فحصلوا آنذاك على منطقة مقتطعة كانت تضم ما يُعرَف الآن بباكستان في الغرب وبنجلاديش في الشرق، بمسافة فاصلة بينهما بنحو ألف ميل. وعلى مرِّ عقدين من الزمن، عاشت هاتان المنطقتان المنفصلتان دولةً واحدة، على رغم الاختلافات الجغرافية والثقافية بينهما. ولكن عندما لم يعُد البنغاليُّون في الشرق قادرين على تحمُّل هيمنة البنجابيين وغيرهم من الباكستانيين الغربيين، ثاروا، وعندئذٍ ردَّ الباكستانيون الغربيون بعُنفٍ اعتبره الكثيرون إبادةً جماعية. إذ قُتل ما يصل إلى ثلاثة ملايين بنغالي،4 علمًا بأنَّ القوات الباكستانية كانت تستهدف الأقلية الهندوسية بالأخص. ومن ثَم واجهت الهند المُجاوِرة تدفقًا هائلًا من اللاجئين. فتدخلَّت رئيسة وزرائها إنديرا غاندي لنُصرة المتمردين، وفي مارس من ١٩٧١، انفصلت باكستان الشرقية عن باكستان الغربية؛ وأصبحت دولة بنجلاديش المستقلة.
غير أنَّ الدولة الجديدة وُلدت في ظروف مشئومة. صحيح أنَّ دلتا نهر الجانج المستوية، بخصوبتها وطميها، تُتيح تُربةً مثاليةً للزراعة، لكن عدد سكان البلاد ازداد بنحو ٨٠ في المائة في السنوات الخمس والعشرين الماضية، ليصل إلى أقصى حدٍّ تتحمَّله قدراتها الإنتاجية. وقد كانت البلاد في الأصل فقيرة جدًّا وكان أغلب سكانها يعيشون على الكفاف. وكما كانت إثيوبيا مثالًا للمعاناة في ثمانينيات القرن الماضي، اضطلعت بنجلاديش بهذا الدور في سبعينياته، عندما ضربتها سلسلة من الأعاصير والفيضانات. فأغلب مناطق البلاد منخفضة للغاية، ما يجعلها عُرضة لمثل هذه الكوارث، وما فاقم المشكلة أنَّ النمو السكاني دفع المزيد والمزيد من الناس إلى المناطق المتطرِّفة، مما جعلهم عرضة للخطر عند وقوع الكارثة. ومن ثَم كانت بنجلاديش من أكثر الدول حصولًا على مساعدات الإغاثة الدولية في حالات الكوارث، ولذا اعتبرها البعض مثالًا للدولة «العالة»؛ بل يُزعم أنَّ مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر استخدم هذا المصطلح الازدرائي بالفعل.5

ومع أن بنجلاديش ما زالت دولة فقيرة والمعيشة فيها صعبة على مُعظم الناس، فإن البيانات الديموغرافية توضح أنها في طريقها نحو مستقبلٍ مختلفٍ تمامًا. فمنذ حصولها على الاستقلال في أوائل السبعينيات، ارتفع متوسط العمر المتوقع هناك من سنِّ منتصف الأربعينيات إلى أوائل السبعينيات، بينما انخفض معدل وفيات الرضَّع إلى نحو سدس ما كان عليه في أوائل سبعينيات القرن الماضي. وكذلك انخفض معدل خصوبة المرأة الواحدة من سبعة مواليد تقريبًا إلى نحو مولودَين فقط، وبذلك بدأ يتجلى أن الدولة تدخل مرحلة استقرار عدد السكان، علمًا بأنَّ كل هذه التطورات كانت مدعومة بثورة في محو الأمية. فكما رأينا بالفعل، عندما تمنح الناس أبسط قدرٍ من التعليم الأساسي على الأقل، يُصبحون أقدر على الاعتناء بأنفسهم ورعاية أطفالهم، ويعيشون عمرًا أطول ويبدءون في الاكتفاء بعددٍ أقل من الأطفال. وهكذا فإنَّ البنجلاديشيِّين يرسمون مصيرهم بأيديهم، وذلك بتعليم أنفسهم.

ويُشار هنا إلى أنَّ ازدياد نسبة معرفة القراءة والكتابة في بنجلاديش هو أساس التقدم الذي تشهده البلاد. إذ تبلغ نسبة مَن يعرفون القراءة والكتابة هناك نحو ثلاثة أرباع السكان، علمًا بأنَّ النسبة في الرجال أكبر مُقارنةً بالنساء. ولكن بين أولئك الذين تقلُّ أعمارهم عن أربعة وعشرين عامًا، تتجاوَز نسبة معرفة القراءة والكتابة ٩٠ في المائة، وهي أعلى بين النساء مقارنةً بالرجال. وقريبًا سيُصبح كل سكان بنجلاديش على دراية بالقراءة والكتابة، مثل سكان كندا واليابان. صحيح أنَّ التعليم ربما لا يكون علاجًا سحريًّا لكل داء، لكنه ضروري لتحقيق أي تقدُّم اجتماعي حقيقي؛ ومحو الأمية على نطاقٍ واسعٍ هو الخطوة الأولى على هذا الدرب.

وعلى غِرار جميع البيانات، يجب وضع نِسَب معرفة القراءة والكتابة المتغيِّرة في بنجلاديش في سياقٍ تاريخي. فعندما أصبحت بنجلاديش دولة مستقلة، لم تكن نسبة مَن يعرفون القراءة والكتابة فيها أكبر بكثيرٍ من واحدٍ من كل أربعة.6 وكانت النسبة بين النساء بالأخص تبلغ بالكاد واحدة من كل ست نساء، أي أقل من نصف النسبة لدى الرجال. ولكن بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت الفجوة بين الجنسَين في معرفة القراءة والكتابة في البلاد قد تلاشَت تقريبًا، ووصلت نسبة معرفة القراءة والكتابة بين الصغار إلى مستويات قريبة من مائة في المائة.7
وصحيح أن محو الأمية يُمكن أن يتحقَّق بالتعليم الابتدائي، لكن الصعوبة التالية تتمثَّل في إلحاق المزيد من الفتيان والفتيات في بنجلاديش بالمدارس الثانوية وإبقائهم فيها رغم الضغوط الاقتصادية والقوى الاجتماعية التي تحُول دون ذلك. ومع ذلك، شهدت المنطقة تقدمًا مذهلًا في نسبة الحصول على التعليم الثانوي وما بعده. ففي منطقة جنوب آسيا ككلٍّ خلال الأعوام العشرين التي سبقت عام ٢٠١٤، تضاعفت نسبة الالتحاق بالتعليم العالي، وأصبحت أربعة أمثال ما كانت عليه؛ إذ ارتفعت من واحد من كل عشرين إلى واحد من كل خمسة.8
هذا وتُحدث تجارب الفتيات البنجلاديشيات اللواتي يُكملن تعليمهن تحولًا فارقًا في حياتهن. إذ تقول سلمى، التي تطمح أن تكون محامية، بشيء من الإصرار: «تعليمي … سيجعلني إنسانةً كاملةً. وسيسهم في تقدم هذا المجتمع.» فيما أعربت أنجانا عن قناعاتٍ مشابهة مؤمنة بدور التعليم في التنمية الذاتية؛ إذ قالت: «حين أفكر في إمكانية عدم إكمال تعليمي، أشعر بحزنٍ شديدٍ لأنني عندئذٍ لن أحظى بحياة كريمة. فمن المهم أن أتعلم وأطور نفسي.» ومثل سلمى، ترغب روبا، التي تطمح إلى دراسة الطب، في الإسهام في المجتمع، إذ قالت: «أريد أن أصبح طبيبة وأساعد الفقراء وأولئك المحرومين من المساعدة.»9
وتُعد هذه القناعات هي أعظم القوى المعروفة التي ستُساعد البشرية للهروب من دائرة الفقر والجهل. فمن الصعب أن نجد واحدة من النساء الأميات حبيسات القرى والكدح في تربية الأطفال والعمل اليدوي الزراعي تحمل مثل هذه الطموحات السامية. وعلى حد تعبير أحد مستشاري الحكومة البنجلاديشية: «النساء الآن أفضل تعليمًا وآمن وأوفر رخاءً ماديًّا من أمهاتهنَّ. فاليوم، أصبحت النساء تحظى بالقبول والتقدير ليس بصفتهنَّ زوجات يساعدن أزواجهن فقط، وإنما أيضًا بصفتهن مزارعات وبرلمانيات ورائدات أعمال. والأمة كلها تستفيد من ذلك.»10

رواد: كيف تحوَّلت منطقة شرق آسيا بفضل التعليم

حينما جعلت السلطات البنجلاديشية الأولوية للتعليم، كانت بذلك تسير على خُطى دول شرق آسيا. فبحلول وقت استقلال بنجلاديش، كانت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة تسير على طريق التنمية بوتيرة فائقة السرعة، وكان التعليم هو أساس هذه التنمية.

ففي أواخر أربعينيات القرن الماضي، كانت كوريا الجنوبية واحدة من أفقر دول العالم، وما زاد الطين بلَّة أنَّ الحرب دمرتها في أوائل الخمسينيات. لكنها مع ذلك استطاعَت أن تحقق نموًّا اقتصاديًّا بمعدلٍ تجاوز ١٠ في المائة في اثني عشر عامًا خلال العقدَين من عام ١٩٦٨ إلى عام ١٩٨٨،11 وبحلول نهاية القرن العشرين، كان اقتصادها واحدًا من أسرع الاقتصادات نموًّا وأنجحها في العالم. ولم يتحقَّق كل ذلك باعتمادها على استغلال الموارد الطبيعية، وإنما بنشر التعليم بين سكانها. إذ انتهجَت عدة مبادرات لتحقيق ذلك، من بينها إتاحة التعليم المدرسي المجاني للجميع وزيادة أجور المعلِّمين، الذين يحمل ثلثهم تقريبًا درجة الماجستير. وبفضل ذلك ارتفعت نسبة الالتحاق بالكليات والجامعات من ٣٠ في المائة في منتصَف الثمانينيات إلى أكثر من ٩٥ في المائة حاليًّا.12 ووفقًا للتصنيفات التي أجراها برنامج التقييم الدولي للطلاب التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تُعَد كوريا الجنوبية من بين الدول العشر الأولى في العالم من حيث التفوق في القراءة والعلوم والرياضيات، بينما لم تتمكَّن الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة من دخول المراكز العشرة الأولى في هذه الفئات.13 هذا ويتجلَّى نجاح كوريا الجنوبية في البيانات الاقتصادية والديموغرافية، سواء في تصنيفها على أنها عاشر أكبر اقتصاد في العالم، أو في الانخفاض المُذهِل الذي حقَّقته في معدَّل وفيات الرضع والارتفاع الكبير في متوسط العمر المتوقَّع.14

غير أنَّ البعض يُشكِّك في أنَّ التعليم هو المحرك الحقيقي للتقدم الاقتصادي؛ إذ يرون أنه ربما يكون نتيجة للرخاء الاقتصادي وليس سببًا له. لكن الإجابة الصائبة بالتأكيد أنَّ التنمية الاقتصادية والتعليم يسيران جنبًا إلى جنب. فمن الصعب أن يوجد مجتمع مزدهر وحديث يزخر بأفراد ذوي إنتاجية عالية ويؤدُّون وظائف معقَّدة كمجتمع كوريا الجنوبية إلَّا إذا كان سكانه متعلمين. صحيح أنَّ بريطانيا استطاعت في القرن التاسع عشر أن تتقدَّم وتصبح دولة صناعية من دون أن يكون مُعظم سكانها متعلمين، لكن هذا أصبح مستبعدًا في الوقت الحالي، لا سيما أنَّ الوظائف ذات الأجور المرتفعة الآن صارت تتطلب قدرات فكرية أعلى بكثير. ومن الجدير بالذكر هنا أن مُستويات المعيشة في بريطانيا لم تبدأ الارتفاع بوضوحٍ قاطعٍ إلا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أي في العقد الذي تلا فرض التعليم الابتدائي الإلزامي.

وتُؤكِّد البيانات بما لا يدع مجالًا للشك أن ثمة علاقة قوية بين مستوى التعليم المُحصَّل والإنجاز الاقتصادي، سواءٌ عند المقارنة بين الأفراد أو الدول أيضًا. فعلى سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات الأمريكية أن الأشخاص الحاصلين على درجة علمية متقدِّمة يكسبون دخلًا أعلى خمس مرات من أولئك الذين لا يحملون شهادة الثانوية العامة ولديهم ثروة أكبر منهم ثماني عشرة مرة.15 ولكن لو كان تأثير التعليم يقتصر على تأهيل الأفراد للحصول على وظيفة راقية من دون زيادة عدد هذه الوظائف، فلا يُمكن القول إنه كان سببًا في الارتقاء بمجتمعات بأكملها من الفقر إلى الرخاء، كما رأينا في حالة كوريا الجنوبية.
ربما يكون التعليم شرطًا ضروريًّا للتقدم الاقتصادي، لكنه وحده ليس كافيًا. ففي النهاية يُمكن أن يكون سكان الدولة متعلِّمين لكنها تفشل في الارتقاء بوضعها الاقتصادي. ففي العديد من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لا يجد الخريجون الجامعيون وظائف بعد التخرج. إذ إنَّ جودة تعليمهم الجامعي غالبًا ما تكون سيئة. فعلى سبيل المثال، تُصَنَّف جودة التعليم الجامعي في مصر، الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، في المرتبة رقم ١٣٠ من بين ١٣٧ دولة.16 ويُحاول العديد من أصحاب الكفاءات بين مواطنيها مغادرة البلاد.
فعندما تعجز دولة ما عن دمج نفسها في الاقتصاد العالمي ولا تستطيع توفير وظائف بأجورٍ جيدة لذوي التعليم العالي، غالبًا ما يتلاشى الاستثمار في التعليم؛ لأنَّ لا الأفراد ولا الدولة يجدون حافزًا لإحراز المزيد من التقدُّم. ففي مصر مثلًا، نجد أنَّ معدلات البطالة بين الخريجين أعلى مقارنةً بغير الخريجين؛ لأنَّ سوق العمل غير قادرة على تلبية توقعات الخريجين المتخرِّجين في جامعات دون المستوى المطلوب.17 ويُشار هنا إلى أن وجود درجات علمية بلا قيمة وتوقُّعات غير واقعية يُعَد من أهم العوامل التي تُسبِّب عدم الاستقرار، خصوصًا في البلدان التي يُشكِّل الشباب نسبة كبيرة من سكانها. ففي مصر، كان إحباط الخريجين الجامعيين، الذين كان نصفهم تقريبًا عاطلًا عن العمل،18 من أبرز أسباب الثورة التي قامت في عام ٢٠١١. وكذلك فالأوضاع مشابهة في دولة لبنان المجاورة؛ إذ يتخرج ٣٥ ألف خريج كل عام، لكن الوظائف المتاحة لا تكفي سوى ٥ آلاف منهم.19 فيما يُعزى قيام الحركات الثورية التي شهدها الغرب منذ عام ١٨٤٨ على الأقل إلى أنَّ عدد الأفراد المتعلمين كان يفوق احتياج الاقتصاد والفرص المتاحة.20 ومع أنَّ التقدم الذي أحرزته بنجلاديش في نشر التعليم الابتدائي والثانوي بين سكانها قد أسهم بوضوحٍ في نموها الاقتصادي السريع، فإنها أيضًا تجد صعوبة في توظيف خرِّيجيها.21

المرأة والتعليم والتنمية

في حين أنَّ تحقيق المساواة بين الجنسين ما زال بعيد المنال، فإن التقدم الذي تَحقَّق في هذا المسعى حتى الآن يتجلَّى بأوضح صورة في مجال التعليم بالأخص. فعدد الطالبات الجامعيات صار يفوق عدد الطلاب الجامعيِّين في العديد من الدول، وبفارقٍ كبير في بعض الأحيان. إذ تَلتحِق سبع إناث أيسلنديات بالجامعة مقابل كل أربعة ذكور، في حين أنَّ عدد الإناث الملتحقات بالتعليم العالي في الكويت أكبر من ضعف عدد الذكور الملتحقين به.22 لكنَّ الفرق أنَّ هذه الظاهرة في أيسلندا، ومثلها من الدول، تُعدُّ جزءًا من تحرير المرأة في العموم، مثلما يتجلى في أماكن العمل والساحة السياسية. أمَّا في الكويت ومثلها من الدول، فمِن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تراكم مشاعر الإحباط، لأنَّ معظم الإناث ذوات التعليم العالي يصطدمن بفرصٍ محدودة في مجال الأعمال والحياة العامة. ولكن إذا استمرت الأوضاع الحالية على نفس منوالها، فإنَّ المساواة بين الإناث ستنتقل حتمًا من التعليم إلى الحياة العامة. ففي بنجلاديش، تولَّت النساء رئاسة الوزراء على مدار أكثر من نصف عمر البلاد.

ولكن بصرف النظر عن المراتب العالية التي تصل إليها النساء في عالم الأعمال والسياسة، فقد تَبيَّن بالفعل أنَّ مجرد نشر معرفة القراءة والكتابة بين الإناث قد أحدث تحولًا فارقًا في البلدان الفقيرة. إذ يُعَد تعليم الإناث إحدى أنجح الطرق لخفض معدَّلات الخصوبة. فالنساء المتعلمات غالبًا ما يكُنَّ أقدر على الاعتناء بأجسادهنَّ وأجساد أطفالهن، ما يؤدي إلى انخفاض معدل الوفيات، وخصوصًا بين الرضع. ومن المرجح أيضًا أنهن سيحرصن على حصول أطفالهن على تعليم بنفس جودة التعليم الذي حصلن عليه على الأقل، وهذا سيخلق تأثيرًا إيجابيًّا مُتوارَثًا بين الأجيال. لذا فإنَّ التطلع إلى تحسين وضع الفرد من خلال التعليم يُعَد أحد أهم العوامل التي تُشجع الدول على التقدم عبر مراحل التحوُّل الديموغرافي، لأنه يؤدي إلى انخفاض معدلات الخصوبة والوفيات. وينبغي أن نتذكر أيضًا أنَّ التعليم بطبيعة الحال يُعَد غايةً بحدِّ ذاته، لأنه يُعزز تمكين الفرد من التحكم في حياته، ويمنحه حياة أكثر إرضاءً.

هذا وقد أصبح من المتعارف عليه في مجال التنمية الدولية أنَّ تركيز الجهود على المرأة يُعَد وسيلة فعالة لانتشال الدول من الفقر. وكما قال لاري سمرز، كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي: «ربما تكون الاستثمارات في تعليم الفتيات هي الأعلى عائدًا بين كل الاستثمارات المتاحة في العالم النامي.» فهذه الاستثمارات لا تحقق عوائد اقتصادية مباشرة فحسب، لكنها تعود بفوائد في المنازل أيضًا، سواء في تحسين الحياة الصحية والنفسية لأفراد الجيل القادم أو في ضبط عددهم. وفوق ذلك، ما زالت الإناث محرومات من التعليم في العديد من المناطق. ولأنهن يتكفَّلن بأداء مُعظم العمل في المجتمعات الفقيرة مع أنهن غالبًا ما يكُنَّ الأكثر تعرُّضًا للتهميش في مثل هذه المجتمعات، ولأنهنَّ مسئولات عن الجيل القادم، فإنَّ الاستثمار في تعليمهنَّ يدرُّ أكبر العوائد.23 إذ تشير التقديرات إلى أن النساء في أفريقيا مثلًا يَمتلكن ٣٠ في المائة من الأراضي فقط لكنهنَّ يُنتجن ٧٠ في المائة من الغذاء.24
وبصرف النظر عن أنَّ التعليم نافع بحد ذاته، فإنه يدرُّ عوائد اقتصادية. فالأشخاص المتعلِّمون أكثر إنتاجية وأقدر على الارتقاء إلى المهن التي تُعطي قيمةً أعلى وأكثر احتمالية للمشاركة في الاقتصاد الرسمي. فالتعليم يمكِّن المزارع الفقير الذي يعيش على الكفاف من استخدام تقنيات زراعية جديدة تُحسِّن الإنتاجية أو الحصول على وظيفة في أحد المصانع. إذ إنه يُتيح الوصول إلى معلومات جديدة، ويسمح بالاستفادة من تلك المعلومات كما ينبغي، وأيضًا يُحسن قدرة السكان على تبنِّي تقنيات جديدة. ويبدو أن ثمة علاقة بين التعليم والإنتاجية الزراعية على مستوى العالم؛ إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن كل سنة إضافية من التعليم ستُؤدي إلى زيادة الإنتاج بنسبة تزيد على ٣ في المائة.25

غير أن التعليم لا يجعل المزارعين أكثر إنتاجية فحسب؛ لكنه أيضًا يمنح الفلاحين أدنى مقومات المعرفة اللازمة للتعامل مع الآلات أو العمل في المصانع. وقد كان هذا هو العامل الرئيسي وراء صعود الصين الاقتصادي منذ الثمانينيات.

وفوق ذلك، تعتمد اقتصادات جميع الدول المتقدمة على نساء يشغلن مناصب تتطلَّب مجموعة متنوعة القدرات والكفاءات. فمُستشفياتنا ومجالس إدارة مؤسساتنا وبرلماناتنا لن تستطيع ممارسة عملها من دون النساء، لكن كل هذا ما كان ليتحقَّق لولا توسيع الفرص التعليمية.

التعليم والديمقراطية

إذا كانت فائدة التعليم الاقتصادية هي تحسين الإنتاجية والتنمية، فإنَّ الكثيرين يرون أنَّ فائدته السياسية هي الديمقراطية. غير أنَّ هذا الادعاء محلَّ جدل. فالهند مثلًا ظلت دولة ديمقراطية طوال عقود من الزمن مع أنَّ أغلب سكانها كانوا أميين خلال تلك الفترة. صحيح أنَّ الأوضاع تغيَّرت الآن لأنَّ نسبة معرفة القراءة والكتابة ارتفَعت من أقل من ٢٠ في المائة إلى أكثر من ٧٥ في المائة منذ حصول البلاد على استقلالها في عام ١٩٤٧.26 ولكن حتى عندما كان أغلب السكَّان أميين، ظلت الديمقراطية الهندية صامدة بأعجوبة غريبة.

وعلى الجانب الآخر، ما زالت توجد دول كثيرة لا تُعد ديمقراطية تمامًا مع أنَّ سكانها حاصلون على تعليم جيد. فالكتلة السوفييتية مثلًا كانت تضمُّ بعضًا من أفضل الأشخاص تعليمًا في العالم. وقد حقق سكان الصين تقدمًا تعليميًّا غير عادي من دون تبني نظام سياسي غربي، ما يبين أنَّ الدول يمكن أن تشهد استمرار مستويات عالية من التعليم حتى في غياب الديمقراطية.

ولكن توجد وجهة نظر مؤمنة منذ زمن طويل بأنَّ التعليم والديمقراطية مُرتبطان، بصرف النظر عن ماهية العلاقة السببية التي تجمعهما. فعندما قرَّرت بريطانيا إتاحة حق التصويت لمزيدٍ من الأفراد في القرن التاسع عشر، أدركت الطبقات العليا أن السلطة تنتقِل إلى عامة الشعب، وحرصت على تمكينهم من ممارسة السلطة بحصافة ووعي. لذا فليسَت صُدفةً أنَّ الحكومة فرضت التعليم الابتدائي الإلزامي بعد ثلاث سنوات فقط من منح العمال الذكور في المناطق الحضرية حق التصويت في عام ١٨٦٧؛ وذلك تحت شعار «علينا تعليم سادتنا».

هذا وقد اهتمَّت دراساتٌ مبنيةٌ على أسس إحصائية قوية باستكشاف العلاقة بين الديمقراطية والتعليم ويبدو أنها توصَّلت إلى وجود علاقة بينهما، ولكن نظرًا إلى وجود جدل حول تعريف كلا المصطلحَين، فلا يوجد دليل قاطع يؤكد هذه العلاقة.27 ربما يبدو ذلك جدالًا أكاديميًّا مبهمًا، لكنه ليس كذلك. لذا فالسؤال هنا هو: هل المجتمعات الحديثة المزدهرة والمتعلِّمة لا بد أن تكون ذات طابع ديمقراطي، أم إنه من المُمكن أن توجد مجتمعات ذات سكان مؤهلين للمشاركة في الاقتصاد العالمي لكنهم مستعدون لتقبُّل استبعادهم من عملية صنع القرار السياسي. وهذا هو أهم سؤال لمستقبل البشرية السياسي.

التعليم والشكاوى منه

حتى الآن، لا خلاف على فائدة التعليم. فمن الواضِح أنه نافع سواء في توسيع آفاق الأفراد أو الإسهام في التنمية الاقتصادية والتقدُّم الديموغرافي. إذ تنطبق العلاقة بين تحسُّن التعليم وإطالة متوسِّط العمر المتوقَّع في البلدان النامية حيث يكون المتعلمون أقدر على رعاية أنفسهم وأسرهم. وتنطبق أيضًا في العالم المتقدم حيث تكون معدلات الوفيات أعلى بوضوحٍ بين أولئك الذين لا يحملون شهادات جامعية.28 بل يبدو أنه يُتيح الظروف المواتية للديمقراطية.

ومن المؤكد بالطبع أنَّ هذا أفضل من نظامٍ يضمُّ أفرادًا كثيرين لكن أرواحهم رخيصة، ويُقصي مُعظم السكان من المشاركة في العملية السياسية. وفوق ذلك فالتعليم يعزز التنمية؛ بل هو تنميةٌ بحد ذاته، إن جاز التعبير. فهو يُعَد، إلى جانب نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومتوسِّط العمر المتوقع، واحدًا من المقاييس الثلاثة التي تستخدمها الأمم المتحدة لحساب مؤشر التنمية البشرية الذي يقيس مدى رفاهية الإنسان.

ويرى بعض المشكِّكين أنَّ الرخاء المادي هو الذي يُؤدي إلى التعليم وليس العكس؛ بمعنى أنَّ الأغنياء هم من يستطيعون تحمُّل تكاليف التعليم، وليس التعليم هو الذي يجعل الناس أغنياء. ربما يكون هذا الرأي خاطئًا، لكنَّ الواضح أنَّ ليس كل التعليم نافعًا أو يستحق المال الذي يُنفَق عليه، سواء كانت الدولة هي التي تتحمَّل تكاليفه أو القطاع الخاص.

فحتى عندما يكون مستوى التعليم جيدًا، لا يُلبي متطلبات السوق في بعض الأحيان. إذ رأينا بالفعل أن التعليم في الشرق الأوسط لا يُؤدي بالضرورة إلى تحسين الدخل المتوقَّع، وهذا يتجلَّى أيضًا في مناطق ريفية بجنوب غرب الصين. فجماعات الأقليات هناك مُلزَمة بإلحاق أبنائها بالمدارس، لكن الباحثين وجدوا أن بعض الآباء يُخرجون أطفالهم من الحصص الدراسية ويجعلونهم يبيعُون الخضراوات بدلًا من ذلك، زاعمين أنَّ حتى خرِّيجي الجامعات يعانون في سبيل العثور على عملٍ في قراهم الجبلية النائية. إذ يرون أنَّ المطاف سينتهي بالأطفال المتعلِّمين إلى العمل في أحد المصانع في أحسن الأحوال، بينما ادَّعى أحد الآباء أنه قد يجعلهم كسالى ويُقعِدهم عن العمل في المزرعة.29 وصحيح أنَّ حُكم هذا الأب ربما لا يكون صائبًا، لكن التعليم يُصبح بلا قيمة، سواء للأفراد أو للأمة ككل، إذا لم تكن الظروف مُناسبة، وإذا كانت الفرص التي ينبغي أن يسعى المرء إلى اقتناصها غير موجودة أصلًا.
وعلى الجانب الآخر، فالتعطُّش إلى التعليم يدفع الكثيرين إلى المُضي قُدُمًا رغم التضحيات المطلوبة. فالأجيال السابقة من المهاجرين إلى أمريكا كانوا يعملون ساعاتٍ طويلة ليمنحوا أطفالهم فرصًا لم يحظوا بها هُم أنفسهم قَط. إذ رأوا التعليم بمنزلة سلم؛ ومع أنهم لم يستطيعوا صعوده، حرصوا على أن تتمكَّن الأجيال القادمة من ذلك. وهذه الظاهرة ليسَت مُقتصرة على الأمريكيين أو المهاجرين؛ ففي جميع أنحاء العالم، تجد صغارًا يذهبون إلى المدرسة للحصول على أفضل تعليم ممكن وهُم حفاةٌ وجياع في أغلب الأحيان. إذ يقول نيرندا، وهو تلميذ في ملاوي: «لا أبالي بعدم تناول الفُطور في الصباح؛ لأنني أومن بأنني سأحظى بمزيدٍ من الطعام في المستقبل عندما أصبح رجل أعمال.»30
هذا وترى مجموعة أخرى من مُنتقدي التعليم أنه يهدف إلى تحويل البشر إلى وحدات إنتاجية لخدمة أغراض الرأسمالية الصناعية الحديثة. إذ كتب ألفين توفلر الكاتب المتخصِّص في الخيال العِلمي وخبير التنبُّؤ بالمستقبل أن «التعليم الجماعي كان آلة ذكية مُصمَّمة بدهاء لإنتاج نوعية الأفراد البالغين التي تحتاج إليها الرأسمالية الصناعية الحديثة … وذلك بإخضاعهم لنسقٍ صارمٍ موحدٍ يقتل التفرُّد فيهم.»31 وقد ظلَّت هذه الانتقادات تلاحق التعليم من حقبة المجتمعات الصناعية إلى عصر ما بعد الصناعة. والآن أصبحت الشكوى أنَّ التعليم يُجرِّد الأفراد من مهاراتهم، ويُدربهم على العمل كآلاتٍ إلى أن تُصبح وظائفهم زائدة على الحاجة بسبب التقدم التكنولوجي.32
وفوق ذلك، فالشعور بضرورة الإنجاز ومُسايرة توقُّعات المجتمع قد يُشكِّل ضغطًا نفسيًّا هائلًا لا يسع الجميع تحمُّله، وكوريا الجنوبية خير مثالٍ على ذلك. فمع أنَّ التعليم قد دفع البلاد إلى مستويات عالية من الازدهار لم يكن يمكن تخيلها في السابق، فإنَّ النظام التعليمي الذي يركز على النتائج يُصيب شباب البلاد بقلقٍ عصبي شديد وهُم يُكافحون للحصول على مكان في إحدى جامعات النخبة من خلال اجتياز امتحانات القبول التي تتَّسم بتنافُسية شديدة. إذ قال ما لا يقلُّ عن ٨٦ في المائة من التلاميذ إنهم يشعرون بالتوتُّر العصبي، فيما اعترف نحو ٧٥ في المائة بأنهم يشعرون بالذنب إذا أخذوا استراحة، علمًا بأنَّ مُعظم طلاب المدارس هناك لا يتوقفون عن المذاكرة حتى الساعة ١١ مساءً. فقد قال أحدهم: «أشاهد ما يفعله أصدقائي الآخَرون. وعندئذٍ أحسُّ بالذنب، وأشعر بأنني في حاجة إلى مزيد من المذاكرة.»33 وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كوريا الجنوبية هي صاحبة أعلى معدَّل انتحار بين جميع دول منظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فضلًا عن أعلى معدَّل انتحار في العالم بين أولئك الذين تتراوَح أعمارهم بين ١٠ أعوام و١٩ عامًا.34
وفي العديد من الدول النامية، أدخلت السلطات الاستعمارية مناهج تعليمية ذات طابع غربي، ما جعل البعض يُدين التعليم هناك ويعتبره اختراعًا أوروبيًّا أبيض يحلُّ محل أشكال المعرفة المحلية الأصلية. لكن العديد من قادة الدول النامية يتحلَّون بعقلية أكثر براجماتية، ويرون أن التعليم هو الطريق الأكثر موثوقية للتحرُّر من الاعتماد على الغرب.35 ويقع على عاتق كل بلد أن يقرر الطريقة المناسبة للدمج بين التعلم الحديث والثقافة والتقاليد المحلية. وتُعَد اليابان نموذجًا يُحتذى به في هذا الصدد؛ فهي دولة ناجحة للغاية في تبني العلوم الغربية والتعليم الغربي، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على تقاليدها القديمة وتميزها. ومع ازدياد نسبة الأفراد المتعلِّمين في العالم، فمن المرجَّح جدًّا أن يُنظَر إلى المعرفة على أنها مسعًى إنساني مشترك وليست حكرًا على الغرب.
هذا ويُؤكد البعض أنَّ التعليم، في أسوأ الأحوال، لا يُنتج آلاتٍ بلا عقلٍ فحسب، وإنما يغذي النزعة القومية، بل ومشاعر الرغبة في الإبادة الجماعية أيضًا. فكثيرًا ما نُذكَّر أن الألمان في سنوات ما بين الحربَين كانوا من بين أفضل شعوب العالم تعليمًا، لكنهم مع ذلك أيَّدوا النازيين، وتخلَّوا عن مؤسساتهم الديمقراطية في اندفاعٍ متهورٍ نحو الحرب والقتل الجماعي. وغالبًا ما يُلقى اللوم في الإبادة الجماعية التي وقعَت في رواندا عام ١٩٩٤ على دور التلقين المناهض لشعوب التوتسي في المدارس.36 وإذا سلَّمنا بأنَّ النزعة القومية مُشكلة، فإنَّ التعليم أسهم بدورٍ محوري في تغذيتها منذ البداية،37 وقد صار دور المدارس في تلقين التعاليم الدينية حاليًّا يُضاهي دور المنزل في هذا الشأن.

غير أنَّ هذه الانتقادات تُشبه إلقاء اللوم على السيارات في التلوث ووقوع حوادث واستخدامها في عمليات السطو على البنوك. بمعنى أنَّ الإجابة تكمن في أن التعليم أداة يُمكن أن تُستَغَل لأغراضٍ سيئة، لكنها في الغالب تُستَخْدَم لغايات جيدة. فالدول القومية والاقتصادات الصناعية الحديثة لم تكن لتنشأ لولا توحيد اللغة ومنظور الفهم بين مواطنيها، ونشر معرفة الحساب والقراءة والكتابة بينهم. وكما لم تكن الدول القومية القديمة لتنشأ لولا التعليم، فالعولمة أيضًا تتطلَّب وجود التعليم ليرى الناس أنهم ليسوا مجرَّد مواطنين في دول معينة، وإنما مواطنون في العالم كله. ولعلَّ الرد الأنسب على الحجج المعارضة للتعليم أن نتساءل هل كنا سنصبح أفضل حالًا لو بقي الجميع قابعين في غياهب الجهل.

وفي السياق نفسه، طرح ديفيد جودهارت وديتريخ فولرات نقدًا أكثر وجاهة؛ إذ أشار كلٌّ منهما على حدة إلى أن الاقتصادات الأكثر تقدمًا ربما تكون قد وصلت إلى «ذروة التعليم». وإذا أردنا توضيح المسألة بمصطلحات اقتصادية، فيمكن القول إنَّ عائد الاستثمار في رأس المال البشري يُصبح مُنخفضًا عندما تصل نسبة الطلاب الجامعيين إلى نصف السكان.38 وفي مُعظم الدول المتقدمة، انخفضت العلاوات الإضافية التي يحظى بها الخريجون الجامعيون في دخلهم.39 ومن ثَم، يؤكد جودهارت أننا يجب أن نعيد النظر فيما يستحق التقدير والمكافأة في مكان العمل، أمَّا فولراث، فيرى أن هذا يُفسر تباطؤ النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة.
وينبغي للدول المتقدمة أن تُفكر في كلا النهجَين، أمَّا بقية البشر، فما زالوا بعيدين بعض الشيء عن مواجهة هذه المشكلة. فما دام مُعظم السكان — وحتى معظم الشباب — في تشاد، ومثل هذه الدول، أميين، فستظلُّ مشكلة ازدياد التعليم عن الحاجة مقتصرةً على دول العالم الأول.40 صحيح أنَّ بنجلاديش، ومثلها من الدول، قد أحرزت تقدمًا رائعًا في مجال التعليم، ولكن ما زال أمامها شوطٌ أطول بكثير، بالإضافة إلى أنَّ بعض الدول الأخرى قد بدأت للتو.
بل إنَّ فشل العديد من الدول في إحراز تقدُّمٍ في مجال التعليم يُثير القلق، خصوصًا في ظل نجاح دول أخرى مثل كوريا الجنوبية وبنجلاديش. وقد ضربنا مثلًا على ذلك الفشل بدولة تشاد، لكنها ليست الدولة الوحيدة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ فالفجوة بين الجنسَين في معرفة القراءة والكتابة في تلك المنطقة بالتحديد أكبر منها في أي مكان آخر في العالم، وإن كانت آخذةً في التقلص.41 غير أنَّ التقدم الذي شهدته المنطقة يتجلَّى في أنَّ ثلاثة أرباع الصغار يعرفون القراءة والكتابة، مقارنة بثلث كبار السن فقط. ولكن في حين أن الصورة العامة توحي بالتحسُّن، تتفاقَم التحديات الهائلة بسبب الانفجار السكاني الذي تشهده المنطقة. ففي دولة غينيا الاستوائية الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا مثلًا، تنخفِض نسبة الأمية بين السكان، لكن عدد الأميين نفسه يتزايد لأن عدد السكان ينمو بسرعة كبيرة؛ فقد أصبح ثلاثة أمثال ما كان عليه تقريبًا في مُنتصف تسعينيات القرن الماضي.42 وعادةً ما تُصبح إتاحة التعليم للجميع صعبة عندما يتزايد عدد صغار السن بمعدَّل كبير.

مشروع المعرفة الكبير

إنَّ فكرة التعليم للجميع مُنتشرة جدًّا في كثير من أنحاء العالم إلى درجة أننا نعتبرها شيئًا مفروغًا منه. لكنها في الحقيقة حديثة جدًّا ولم تكن شائعة في الماضي، لذا فإن تبعاتها ستكون هائلة.

فعندما يشتكي الطلاب في جامعات الغرب من غَلَبة الذكور البيض بين الشخصيات التاريخية التي تظهر في المناهج الدراسية، يكونون مُحقِّين؛ فإذا كان التاريخ قد شهد في القرن الثامن عشر أو العشرين وجود امرأة أفريقية تضاهي إسحاق نيوتن أو ألبرت أينشتاين مثلًا، فينبغي أن نعلم بها. لكن غياب مثل هذه الشخصيات عن مناهج أقسام الفيزياء الجامعية ليس دليلًا على تفوق الذكور أو الأوروبيِّين، كما يدَّعي بعض اليمينيين المتطرِّفين، لكنه أيضًا ليس تحيزًا من أولئك الذين يضعون المناهج الجامعية.

وإنما يُمكن القول إنَّ غَلَبة الرجال البيض بين الشخصيات التاريخية في ثقافتنا مجرَّد انعكاسٍ يُبين مَن كانوا يحظون بإمكانية الحصول على التعليم والمعرفة في الماضي، ومَن كانوا محرومين من ذلك. صحيح أنَّ نيوتن وأينشتاين كانا شخصَين استثنائيَّين وناضلا من أجل تطوير أفكارهما، لكنهما على الأقل كانا قادِرَين على ذلك. وحتى وقت قريب، كانت هذه الميزة حكرًا على الرجال البيض. أمَّا غالبية البشر، فظلوا محرومين حتى من أبسط صور التعليم البدائي طوال معظم فترات التاريخ. فكان أي شيء يتجاوز معرفة القراءة والكتابة الأساسية بمنزلة ترفٍ لم يستطع مُعظم الناس أن يتحمَّلوا نفقاته.

لكن الوضع يشهد تغيرًا كبيرًا الآن. فعلى حدِّ تعبير رئيس أرمينيا، «إذا كان في إمكانك العثور على نيوتن في كل ألف شخص وأينشتاين في كل عشرة آلاف، فتخيَّل عدد الأشخاص الموهوبين الذين يُمكنك العثور عليهم بين مئات الملايين.»43 وعلاوةً على ذلك، فقد أتاحَت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة عددًا هائلًا من الطرق التي تُتيح التعاون داخل المجالات المختلفة وفيما بينها. إذ أصبح عقد المؤتمرات الدولية أسهل بفضل انتشار إمكانية السفر الجوي إلى كل مكان؛ أو على الأقل كان الوضع كذلك حتى جائحة كوفيد-١٩. فيما أتاحَت مجموعةٌ مُتنوِّعة من تقنيات مشاركة المعلومات، بدءًا من البريد الإلكتروني وحتى مكالمات الفيديو الجماعية عبر تطبيق زوم، تكوين شبكات علاقاتٍ أقوى وأكثر انتشارًا. ومن ثَم أصبح العديد من الأشخاص المتعلِّمين يتواصَلُون على نحوٍ متكررٍ أكثر من ذي قبل، وبذلك تتراكَم المعرفة بوتيرة أسرع بكثيرٍ.
يُمكنني هنا توضيح هذه النقطة بمثالَين. فبعدما حضرتُ حفلًا موسيقيًّا مع صديق لي، وهو خبير في دراسة الأيديولوجية القومية، اقترحت عليه أن يُؤلف كتابًا عن الموسيقى والأمة. فاحتجَّ بأنَّه، رغم شغفه بالموسيقى، يفتقر إلى المعرفة الأكاديمية المتعمِّقة اللازمة. فاتصلتُ بباحثٍ موسيقي كُنا قد أُعجِبنا ببحثٍ أجراه عن موسيقى العازف إلجار من قبل، وكانت النتيجة كتابًا مُشتركًا بين صديقي وأستاذ الموسيقى، مع أنهما لم يلتقيا وجهًا لوجه سوى مرة أو مرتَين فقط. ولو كنا في أي عصر سابق، لما استطاعا تبادُل الأفكار بينهما بهذه السرعة وتلك السهولة. وهكذا فإنَّ هذا العمل قد أعطى صديقي هدفًا يرنو إليه في السنوات الأخيرة من حياته، ومنح العالَم دراسةً رائعةً عن موضوع مُهمَل.44

ثمة مثال آخر أوضح هو ابتكار العلاجات واللقاحات لفيروس كورونا الذي اجتاح العالم في أثناء كتابتي هذا الكتاب. صحيح أنَّ قصة محاربة الفيروس ما زالت مُستمرة حتى وقت كتابة هذا الكتاب، لكنَّ التقدم الذي أحرزه العلماء في فهم طبيعة الفيروس، وإيجاد طرقٍ لمكافحة تأثيراته كان أسرع بكثيرٍ من الوتيرة التي كان سيَسير بها لولا العدد الهائل من الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال، وقدرتهم على التواصُل وتبادُل النتائج. فلو كان هذا الفيروس قد انتشر قبل مائة عام، لكان العالِم في جامعة كامبريدج مثلًا قد عمل وحده في مختبره، وربما كان سيرسل من حين إلى آخر رسالةً إلى زميله في ألمانيا وينتظر أسابيع ليتلقَّى الرد. وبذلك كان التقدُّم سيسير ببطء شديد مُقارنة بما يُمكن تحقيقه اليوم، فالآن يستطيع آلاف الأشخاص من مختلف أنحاء العالم التواصُل معًا في ثوانٍ معدودة. ومن جهة أخرى، نجد أنَّ جائحة كوفيد-١٩ أقل فتكًا وأقل تعطيلًا لسير الحياة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تُتيح للكثيرين العمل والتفاعل دون الحاجة إلى السفر أو الالتقاء وجهًا لوجه.

fig17
المصدر: البنك الدولي.

منذ أوائل الثمانينيات، أصبح كل سكان بنجلاديش تقريبًا يحصُلون على أبسط مقومات التعليم الأساسي. وبذلك صار نحو ثلاثة أرباع سكان البلاد يعرفون القراءة والكتابة، مقارنةً بنحو ٣٠ في المائة فقط قبل أربعين عامًا. أمَّا قصة النجاح العظيمة الأخرى، فتَكمن في تضييق الفجوة التعليمية بين الجنسَين. ففي عام ١٩٨٠، كان عدد الرجال المتعلِّمين ضعف عدد النساء المتعلمات، لكن الفجوة بدأت تتقلَّص في العقود التالية.

fig18
المصدر: البنك الدولي.

يُعَد انتشار التعليم العالي ظاهرةً عالمية، وقد أحرزت الصين بالأخص تقدمًا استثنائيًّا في هذا الشأن. ففي أثناء ثورة ماو الثقافية، كان عدد المواطنين الصينيين الملتحقين بالجامعات أو الكليات ضئيلًا جدًّا إن لم يكن مُنعدمًا؛ أمَّا الآن، فقد صارت نسبة الملتحقين بالجامعات نحو نصف السكان.

المتعلمون في المستقبل

في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، أعرب العديد من الأكاديميين عن قلقهم من أن عدد سكان العالم سيفوق الموارد الكافية لهم في نهاية المطاف. ونظرًا إلى أنَّ عدد سكان العالم كان يَزداد آنذاك بنسبة اثنين في المائة سنويًّا، فإن مثل هذه المَخاوف بشأن قدرة الجنس البشري على تلبية احتياجاته من الغذاء والماء كانت مفهومة بالطبع. ولكن مع انخفاض معدل النمو السكاني الآن إلى نصف هذه النسبة واستمراره في الانخفاض، ونظرًا إلى أنَّ بعض الأماكن تشهد انخفاضًا حادًّا في عدد سكانها، يتخوَّف البعض حاليًّا من أنَّ عدد البشر سيكون أقلَّ مما ينبغي في نهاية المطاف. فكما رأينا، يَضطلع حجم القوى العاملة وأعمار أفرادها بتأثيرٍ اقتصادي كبير، وخصوصًا التأثير في عدد المستهلكين، وإذا كانت القوى العاملة آخذةً في التقلص، فإن الاقتصاد أيضًا قد يتقلَّص. ولكن ثمة قوى مضادة تُحقِّق بعض التوازن. ففي حين أن عدد الأفراد الجدد الذين يَنضمُّون إلى القوى العاملة سينخفض على الأرجح في مختلف أنحاء العالم، مثلَما حدث بالفعل في العديد من الأماكن، فإن إنتاجيتهم من المنتظَر أن تَرتفع. ويُذكَر هنا أنَّ المعجزة الاقتصادية الأخيرة التي شهدتها الصين جاءت مدفوعةً بنقل العمال الزراعيِّين ذوي الإنتاجية المنخفِضة من المزارع إلى المصانع، حيث ترتفع إنتاجيَّتهم الاقتصادية. ومع تحسُّن المستوى التعليمي لمزيدٍ من الناس، ستزداد إمكانات رفع الإنتاجية بهذه الطريقة.

وسيتزايَد اعتماد الاقتصاد العالمي على رفع جودة القوى العاملة في مواجهة تناقُص حجمها. أي إنَّ النمو الاقتصادي والتنمية في المستقبل لن يكونا مرتبطَين بعدد العمال ذوي المهارات المتدنية بقدر ارتباطهما بإحلال مَن يعملون بعقولهم مَحل مَن يعملون بأيديهم حاليًّا. وفي الوقت نفسه، سيتيح الذكاء الاصطناعي فرصةً ليحلَّ محلَّ الكثير من الأعمال الحالية. ومن المرجح أن يحل الذكاء الاصطناعي محل العديد من الوظائف الإدارية وليس تلك التي تتطلَّب براعةً يدويةً أو تعاطفًا إنسانيًّا؛ لذا يخشى المحاسبون «صعود الروبوتات» أكثر مما يخشاه عمال النظافة أو مُقدِّمو الرعاية للمُسنين مثلًا، وذلك لأن إفراغ صناديق القمامة وتغيير ملاءات الفراش وتقديم التعاطف كلها مهارات يصعب على الآلات محاكاتها.

وفي البلدان الأكثر تقدمًا، حيث تُؤدي الشيخوخة السكانية بالفعل إلى زيادة الطلب على العاملين في المهن التي تتطلَّب تعاطفًا إنسانيًّا، ربما يكون تعليم السكان قد وصَل إلى أعلى مستوياته. وما زال مئات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم بعيدين عن الوصول إلى أقصى إمكاناتهم، لكنَّ هذا الوضع يتغيَّر بسرعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤