قصة ذي الرأس الأصلَع
تبِعْنا الهنديَّ في ممرٍّ قذِرٍ مُتواضع، إضاءته رديئة وأثاثه أردأ، حتى وصلْنا إلى بابٍ عن يمينِنا، ففتحَه. غمَرَنا وهَجٌ من الضوء الأصفر، وفي وسط ذلك الوهَج وقفَ رجل ضئيل الجسم رأسه مُدبَّبٌ جدًّا، يُحيطُه من الجانبَين شَعرٌ أحمر خشِنٌ، وفي مُنتصفه بدا جِلد رأسه الأصلع اللامع كقمَّةِ جبلٍ تبرُز وسط أشجار التنوب. أطبقَ يدَيه معًا وهو واقِف، وكانت تعبيرات وجهه تتبدَّل باستمرار، فتارةً يبتسِم وتارةً يتجهَّم، ولكنها لم تسترخِ للحظة. منحَتْه الطبيعة شفاهًا مُتدلِّيةً وصفًّا من الأسنان الصفراء غير المُستوية البارزة، التي كان يسعى بشدَّة لإخفائها بتمرير يدَيه على الجزء السُّفلي من وجهِه باستمرار. وعلى الرغم من صلَعِه الواضح، كان مظهرُه يُوحي بصِغَر سنِّه. وفي الواقع، كان قد أتمَّ عامَهُ الثلاثين للتوِّ.
ظلَّ يُكرِّر بصوتٍ حادٍّ مرتفع: «في خِدمتكِ يا آنسة مورستان، وفي خدمَتِكما أيُّها السيدان. تفضلوا بالدخول إلى صومَعتي المُتواضِعة. إنه مكانٌ صغير يا آنستي ولكنه مؤثَّثٌ على ذَوقي، إنه بمثابة واحةٍ للفنِّ وسط صحراء جنوب لندن المُقفِرة.»
ذُهِلنا جميعًا من مظهر الشقَّة التي دعانا للدُّخول إليها؛ ففي هذا المنزل المُتواضع، كانت تبدو في غير موضِعها كألماسةٍ من أجود الأنواع وُضِعَت داخل إطار من النحاس، تدلَّت من جُدرانها أَقْيَمُ أنواع الستائر والمنسوجات الجدارية، وأكثرُها بهرجة، والتي انحسرتْ في بعض المواضع لتظهَرَ وراءها لوحةٌ فنيةٌ مُعلَّقة بأناقةٍ أو مزهريَّةٌ شرقية. كان لون السجادة كهرمانيًّا في أسود، وكانت ناعمةً وكثيفةً لدرجة أنَّ قَدَم المرء تغُوص فيها بلُطف وكأنها تغُوص في رُقعةٍ من الطحالب. زاد وجود قطعتَين من جلد النَّمِر كانتا مفروشتَين بعرْض الغرفة، وكذلك النارجيلة الكبيرة التي كانت موضوعةً فوق بساطٍ في ركن الغرفة، من طابعها الشرقي المُترَف. كان ثمَّة مصباح على شكل حمامةٍ فضيَّة يتدلَّى من حبلٍ ذهبيٍّ يكاد يكون غيرَ مرئيٍّ في منتصف الغرفة. ومع توهُّجه كان ينشُر في الهواء رائحةً عطرية نفَّاذة.
قال الرجل الضئيل الحجم وهو لا يزال يتململ ويبتسِم: «السيد ثاديوس شولتو، هذا هو اسمي، وأنتِ الآنسة مورستان بالطبع. وهذان السيدان هما …»
«هذا السيد شيرلوك هولمز، وهذا الدكتور واطسون.»
صاح بحماسٍ كبير: «دكتور، حسنًا! هل معك سمَّاعتك الطبية؟ هل يُمكن أن أطلُب منك … هلا تفضَّلتَ بالكشْف عليَّ؟ أنا قلقٌ جدًّا على سلامة صِمامي التاجي، هلَّا تكرَّمتَ بالكشف عليَّ؟ أنا لست قلقًا بشأن الصِّمام الأورطي، إنما سأكون مُمتنًّا لسماع رأيك بخصوص الصِّمام التاجي.»
استمعتُ إلى قلبه كما طلَبَ منِّي، ولكنِّي لم أجد أيَّةَ علَّةٍ به، باستثناء أنه كان يمرُّ بأقصى درجات الخَوف، فقد كان يرتجِف من رأسه حتى أخمص قدمَيه. قلت: «يبدو طبيعيًّا؛ لا داعي للقلق.»
قال مُعلقًا برِقَّة: «اعذري توتُّري يا آنسة مورستان؛ فأنا شخص معتلُّ الصحَّة، وتُراودني شكوك منذ مدةٍ طويلة بشأن ذلك الصمام، ويُسعِدني أن أعرف أنها غير مُبرَّرة. فلو كان والدك يا آنسة مورستان كفَّ عن تعريض قلبِهِ للإجهاد، لكان من المُمكن أن يبقى على قيد الحياة الآن.»
كدتُ أصفَع وجهه؛ فقد أثارت ملاحظتُه القاسية والعفوية لهذا الموضوع الحسَّاس حنقي الشديد. جلسَتِ الآنسة مورستان وقد امتُقع وجهها بالكامل وصار أبيضَ اللون، وقالت: «كنتُ أشعُر في قرارة نفسي أنه مات.»
قال: «يُمكنني أن أُطلِعَك على كلِّ ما يخصُّ الأمر من تفاصيل، بل ويُمكنني أن أرُدَّ لك حقَّك، وهذا ما أنوي فِعلَه بصرف النظر عمَّا قد يقوله أخي بارثلوميو. أنا سعيد للغاية بقدوم صديقَيك إلى هنا، ليس لمُرافقتِك فحسْب، بل ليشهدا أيضًا على ما أنا بصدَد قولِه وفِعله. فثلاثتُنا يمكن أن نُشكِّل جبهة مُعارضةٍ قوية أمام أخي بارثلوميو. لكن دَعُونا لا نُقحِم أحدًا بيننا، لا الشرطة ولا السلطات الرسمية؛ فيُمكِنُنا أن نسوِّي الأمور بيننا بطريقةٍ مُرضية دون أي تدخُّلات. فلن يُضايق أخي بارثلوميو شيءٌ أكثر من التشهير.» جلس على أريكةٍ مُنخفضة ونظر إلينا وهو يطرُف بعينَيه الزرقاوَين الواهِنتَين المُترقرِقَتَين بتساؤل.
قال هولمز: «بالنسبة إليَّ، سيَظلُّ كلُّ ما تقرَّر أن تقوله لنا سرًّا بيننا.»
أومأتُ برأسي لأُبدي مُوافقتي.
قال: «هذا جيِّد! هذا جيِّد! هل ترغبين في كأس من نبيذ شيانتي يا آنسة مورستان؟ أو من نبيذ توكاي؟ ليس لديَّ أي أنواعٍ أخرى من النبيذ، هل أفتح زجاجة؟ لا! حسنًا إذن، آمُل ألَّا تُمانعي دخان التبغ، أعني تلك الرائحة المُهدِّئة الخفيفة لدُخان التبغ الشرقي؛ فأنا مُتوتِّر قليلًا، وأجد في نرجيلتي مُهدِّئًا فعَّالًا.» أشعَلَ إناء النرجيلة الكبير وامتزج الدُّخان بماء الورد بسلاسة مُحدِثًا فُقاعات. جلس ثلاثَتُنا مُكوِّنين نِصف دائرة وقد مدَّ كلٌّ منَّا رأسه للأمام وأسند ذقنَهُ على يدَيه، بينما جلس الرجل الضئيل الحجم، ذو الرأس المُدبَّب اللامع وتعبيرات الوجه المُتغيِّرة، ينفُث دخان نرجيلته بتوتُّرٍ في الوسط.
تحدَّث الرجل قائلًا: «عندما أخذتُ قراري في البداية بأن أراسِلَك، كان من المُمكن أن أعطيكِ عنواني، لكنِّي خشيتُ أن تتجاهلي طلبي وتُحضري معك أشخاصًا أفظاظًا؛ لذا سمحتُ لنفسي بأن أُرتِّب ذلك اللقاء بطريقةٍ تسمح لمُساعدي ويليامز بأن يراكُم أوَّلًا؛ فأنا أثِقُ تمامًا في تكتُّمه، وأعطيتُه أوامري بألَّا يستمرَّ في تنفيذ الخطَّة إذا وجَدَ ما لا يُرضيه. اعذُروني على هذه الاحتياطات، لكنِّي رجل أحبُّ العُزلة، وذَوقي رفيع إلى حدٍّ ما، وليس هناك ما يُزعِجني أكثر من وجود رجال الشرطة؛ فأنا لديَّ نفورٌ طبيعي من كلِّ صُوَر المادية الخَشِنة، ونادرًا ما أختلِط بالحشود الفظَّة. أنا أعيش كما ترَون وسط جوٍّ من الرُّقي، وأعتبِر نفسي راعيًا للفنون؛ فهي نُقطة ضَعفي. هذا المنظر الطبيعي هو لوحةٌ أصلية لكورو، ومع أنَّ خبيرًا قد يُشكِّك في أصالة لوحة سلفاتور روزا هذه، فإنه لا غُبار على لوحة بوجيرو تلك. فأنا من المُتحيِّزين للمدرسة الفرنسية المُعاصرة.»
قالت الآنسة مورستان: «عذرًا يا سيد شولتو ولكنِّي قد جئتُ إلى هنا بناءً على طلبك لأسمع ما تُريد إخباري به. والوقت مُتأخِّر جدًّا وأنا أريد أن تكون تلك المُقابلة أقصرَ ما يُمكن.»
ردَّ قائلًا: «ستستغرِق بعض الوقت على أقلِّ تقدير، لأنَّنا سنحتاج بالتأكيد للذهاب إلى نوروود لمُقابلة أخي بارثلوميو. يجِب أن نذهب جميعًا ونرى إن كان بإمكاننا التغلُّب عليه. إنه غاضب جدًّا منِّي لأني سلكتُ الطريق الذي رأيتُه صحيحًا؛ وقد تشاجرتُ معه ليلة أمس. لا تتخيَّلون كم يَصير شخصًا مُريعًا عندما يكون غاضبًا!»
تجرَّأتُ وقلت: «إذا كنَّا سنذهب إلى نوروود، فمِن الأفضل أن ننطلِق على الفور.»
انفجر ضاحكًا حتى احمرَّت أذُناه، وصاح: «لن ينفع ذلك، لا أعلم ما سيقول إنْ أحضرتُكم بتلك الطريقة المُباغِتة. لا، يجِب أن أُحضِّرَكم أولًا بإطلاعكم على موقف كلٍّ منَّا بالنسبة إلى الآخر. أولًا يجِب أن أُخبركم أن ثَمَّة بعض النقاط المُبهَمة في القصة بالنسبة إليَّ. ما أستطيع فِعله هو سرْد الحقائق عليكم كما أعرفها.
إن أبي هو الرائد جون شولتو كما خمَّنتُم بالطبع، وهو أحد ضباط الجيش السابقين في الهند. تقاعَدَ منذ ما يقرُب من أحد عشر عامًا، ثم أتي ليستقرَّ في منزل بونديتشيري لودج في أبر نوروود. كان قد جمع ثروةً طائلة في الهند، وعاد ومعه مبلغٌ ضخم من المال، ومجموعةٌ كبيرة من التُّحَف القيِّمة وطاقم خدَم من السكان المحليِّين. وبهذه المزايا اشترى لنفسه منزلًا وعاش في ترفٍ كبير. كنتُ أنا وتوأمي بارثلوميو ذُرِّيَّته الوحيدة.
أتذكَّر تأثُّره البالِغ باختفاء النقيب مورستان. لقد قرأنا التفاصيل في الصُّحف، ولأنَّنا نعلم أنه كان أحد أصدقاء والِدِنا؛ ناقشْنا القضية بحُريَّةٍ في وجوده. كان يشترِك معنا في تكهُّناتنا بشأن ما حدَث، ولم نشكَّ للحظة أنه يكتُم السرَّ بأكمله بداخله، وأنه دُونًا عن الجميع يعرف مصير آرثر مورستان.
لكنَّنا، مع ذلك كنَّا نعلم أن لُغزًا ما، وخطرًا مؤكدًا يُحيط بوالِدِنا؛ فقد كان يخشى جدًّا الخروج بمُفردِه، وكان يُعيِّن دائمًا مُلاكِمَين مُحترفَين حرَّاسًا بمنزل بونديتشيري لودج. وكان ويليامز الذي أحضركُما إلى هنا الليلة واحدًا من هذَين؛ فقد كان في وقتٍ سابق بطلَ إنجلترا في الوزن الخفيف. لم يُفصِح لنا أبونا أبدًا عمَّا كان يُخيفه، لكن كانت لدَيه كراهيةٌ شديدة للرجال ذوي الأرجل الخشبيَّة. ففي إحدى المرَّات أطلق النار بالفعل على رَجُلٍ ذي رِجْلٍ خشبية اتَّضح فيما بعدُ أنه تاجرٌ غير مُؤذٍ يجمع الطلَبات، واضطُرِرنا إلى دفع مبلغٍ كبير من المال للتكتُّم على الأمر. اعتقدتُ أنا وأخي أن تلك مُجرَّد نزوةٍ عابرة لأبي، ولكن دفعَتْنا الأحداث لتغيير وجهة نظرِنا هذه.
في مطلع عام ١٨٨٢، تلقَّى أبي خطابًا من الهند كان بمثابة صدمةٍ كبيرة بالنسبة إليه. كاد يفقد وعيَهُ على طاولة الإفطار عندما فتحَه، ومنذ هذا اليوم مرِض حتى وافته المنيَّة. لم نكتشِف أبدًا فحوى الخطاب، لكنِّي استطعتُ أن أرى وهو يُمسكه أنه كان مُقتضبًا ومكتوبًا بخطٍّ رديء. لقد ظلَّ لسنواتٍ يُعاني من تضخُّم الطحال، لكن حالته تدهورَتْ بسرعة حِينها، وفي نهاية شهر أبريل علِمْنا أنه لا أمل من شفائه، وأنه يريد أن يتحدَّث معنا للمرة الأخيرة.
وعندما دخلنا غرفته كان يجلس مستندًا إلى وسائد ويتنفَّس بصعوبة. طلَبَ منَّا أن نُوصِد الباب ونجلس على جانبَي فِراشِه. ثمَّ أمسك بيدَينا وقال كلامًا صادمًا بصوتٍ خرج مُتهدِّجًا من التأثُّر والألم على حدٍّ سواء. سأحاول أن أُعيد عليكم ما قاله بنفس كلماته.
قال لنا: «يُوجَد أمرٌ واحد يشغل ذِهني في هذه اللحظة المُهمَّة، وهو طريقة تعامُلي مع ابنة مورستان المسكينة اليتيمة؛ فقد حال جشَعي اللَّعين، الذي كان خطيئتي التي لازمتْني طوال حياتي، بينها وبين حصولها على الكنز الذي لها أحقيَّةٌ في نِصفه على الأقل، ومع ذلك لم أستفِدْ منه أنا نفسي؛ فالجشع حقًّا أعمى وغبي. إحساس التملُّك في حدِّ ذاته كان عزيزًا عليَّ لدرجة أني لم أتحمَّل فكرة مُشاركته مع شخصٍ آخر. أترَيان هذا الإكليل المُرصَّع باللآلئ بجوار قنينة الكينين؛ حتى هذا لم أتحمَّل فراقَه، مع أني أخرجتُه بنيَّة إرساله إليها. أنتما يا بَنِيَّ ستُعطيانها حصَّتَها العادلة من كنز مدينة أجرا. ولكن لا تُرسلوا لها أيَّ شيء — حتى ذلك الإكليل — إلَّا بعد وفاتي؛ فعلى كلِّ حال، هناك رجال كان حالُهم على هذه الدرجة من السوء وتعافَوا.»
وأردف قائلًا: «سأخبرُكم الآن كيف مات مورستان. لقد كان يُعاني منذ سنوات من ضَعفٍ في قلبه، لكنه أخفى ذلك عن الجميع، وأنا وحدي كنتُ أعرف. وعندما كنَّا في الهند، وقع في حوزتِنا أنا وهو، عقبَ سلسلةٍ من الأحداث غير العادية، كنزٌ ضخم، أحضرتُه معي إلى إنجلترا. وليلة وصول مورستان، أتى إليَّ على الفور ليُطالِب بحصَّتِه. لقد سار من المحطَّة إلى هنا، وأدخلَهُ خادمي المُخلص لال شاودر، وهو الآن قد مات. اختلفْنا أنا ومورستان في الرأي بشأن حصَّة كلٍّ منَّا في الكنز، واحتدَّت بيننا المُناقشة؛ هبَّ مورستان واقفًا من كُرسيِّه في نوبة غضب، وفجأة ضغط بيدَهِ على جنبِه، واسودَّ وجهه، ثم سقط للخلف وجُرِح رأسه من ارتطامه بحافة صندوق الكنز. وعندما مِلتُ عليه، فزعتُ لأني وجدتُهُ ميتًا.
جلستُ لفترةٍ طويلة مُشوَّش الذهن تمامًا، أتساءل عمَّا يجِب أن أفعله. أول ما خطر ببالي بالطبع هو أن أطلُب المساعدة، لكنِّي لم أستطِع تجنُّب فكرة أنَّ احتمالات اتِّهامي بقتله كبيرة؛ فوفاته في أثناء الشجار، والجُرح الذي في رأسه سيؤخَذان ضدِّي. كذلك لا يمكن فتح تحقيقٍ رسمي دون انكشاف بعض الحقائق عن الكنز، الذي كنتُ حريصًا جدًّا على إبقائه سرًا. لقد أخبرَني أنه لا يعرف أحدٌ على وجه الأرض شيئًا عن وجهته، وأنا لم أرَ داعيًا لأن يعرف أحدٌ أبدًا.
وكنت لا أزال أُقلِّب الموضوع في رأسي عندما نظرتُ لأعلى، فرأيتُ خادمي لال شاودر واقفًا في مدخل الباب. دلَفَ إلى الداخل وأقفل الباب وراءه وقال: «لا تخَفْ يا صاحب، لن يعرف أحدٌ أنك قتلتَه. لنُخبِّئ جثَّتَه ولن يعرِف أحد.» قلت: «أنا لم أقتُلْه.» هزَّ لال شاودر رأسه وابتَسَم قائلًا: «لقد سمعتُ كلَّ شيء يا صاحب؛ سمِعتُكما تتشاجران وسمعتُ الضربة. لكنِّي لن أُخبِر أحدًا، فجميع مَن في البيت نائمون. لنتخلَّصْ منه معًا.» كان هذا كافيًا لأخذ قراري؛ فإذا كان خادمي نفسُه لا يُصدِّق براءتي، فكيف سأنجح في إقناع اثني عشر من التجار الحمقى على منصَّة هيئة المُحلَّفين؟ تخلَّصتُ أنا ولال شاودر من الجثَّة تلك الليلة، وفي غضون بضعة أيَّام امتلأتْ صُحُف لندن بخَبَر الاختفاء الغامض للنقيب مورستان. وسترَيان ممَّا سردتُه عليكما أني بالكاد أُلام على وفاته. الخطأ الذي أُلام عليه حقًّا هو إخفاء الجُثَّة واحتفاظي بنصيب مورستان ونصيبي. أريد منكما أن ترُدَّا الحقَّ إلى صاحبته. قرِّبا أُذنَيكُما من فمي، الكنز مُخبَّأ في …» وفي تلك اللحظة، ظهر تعبير مُريع على وجهه، فقد اتَّسعتْ عيناه عن آخِرِهما وتدلَّى فكُّه، وصرخ بصوتٍ لن ينمحي أبدًا من ذاكرتي: «أبقِياه خارجًا! بحقِّ المسيح، لا تسمحا له بالدُّخول!» نظر كلانا إلى النافذة التي كان نظره مُثبَّتًا عليها خلفَنا. كان ثمَّة وجهٍ ينظُر إلينا وسط الظلام. استطعْنا رؤية الأثر الأبيض الذي تركَهُ أنفُه في المكان الذي أسندَه فيه إلى الزجاج. كان وجهًا مُلتحيًا، كثيف الشَّعر، عيناه قاسيتان وارتسمَتْ عليه ملامح الحِقد الشديد. اندفعتُ أنا وأخي تجاه النافذة لكنَّ الرجل كان قد اختفى. وعندما عُدْنا إلى والِدِنا كان رأسُه مُتدلِّيًا ونبضُه مُتوقِّفًا.
فتَّشْنا الحديقة تلك الليلة ولكنَّنا لم نجد أي أثر لذلك الدخيل، باستثناء بصمةِ قدمٍ واحدة ظهرت في حوض الأزهار. ولولا ذلك الأثر لكُنَّا ظننَّا أن الوجه القاسي العنيف من نسج مُخيِّلتنا. لكنَّنا سرعان ما حصلنا على دليلٍ دامغٍ على أنَّ ثمَّة جهاتٍ سرِّيةً تحُوم حولنا؛ فقد وجدنا نافذة غرفة أبي مفتوحةً في صباح اليوم التالي، ودواليبه وصناديقه مُفتَّشة، ووجدنا فوق صدره ورقةً مُمزَّقة مكتوبًا عليها «علامة الأربعة». لم نعرف مُطلقًا معنى هذه العبارة ولا هوية الزائر السري. وعلى حدِّ عِلمنا، لم يُسرَق أيٌّ من مُمتلكات أبي، على الرغم من أن كل شيء كان مقلوبًا رأسًا على عقب. وبطبيعة الحال، ربطْنا أنا وأخي بين هذا الحادث الغريب والخوف الذي طارد أبي طوال حياته، ولكنَّهُ ظلَّ لغزًا بالنسبة إلينا.»
وتوقَّف الرجل الضئيل الحجم ليُعيد إشعال نرجيلته، ثم نفَث دخانها وهو مُستغرق في التفكير لبضع لحظات. كنَّا جالسين جميعًا بانتباه، نستمع لروايته العجيبة. وفي أثناء الجزء القصير من روايته الذي أتى فيه على ذِكر وفاة والِدِها، شحَب لون الآنسة مورستان بشدَّة، ولوهلةٍ خشيتُ أن تفقِد وعيَها. ولكنها تعافَتْ بعد شُرب كوب من الماء صببتُه بهدوء لها من إبريق من مدينة البندقية كان يُوجَد على الطاولة الجانبية. رجع شيرلوك هولمز إلى الوراء في كُرسيِّه شارد الذِّهن وجفناه مُرتخيان على عينَيه اللامِعتَين. وتذكرتُ وأنا أتطلَّع إليه كيف كان يشتكي بمرارة في هذا اليوم بالتحديد من أنَّ الحياة عادية. هذه على الأقل مشكلةٌ كفيلة باستنفاد قُدراته العقلية لأقصى حدٍّ ممكن. نقَّل السيد ثاديوس شولتو نظرَه من أحدِنا للآخر، وكان يبدو عليه الزهو بوقع قصته علينا، ثم تابَعَ من بين نفثات غليونه الضخم قائلًا: «كما تتصوَّرون، كنتُ وأخي مُتحمِّسَين جدًّا بخصوص الكنز الذي حدثنا عنه أبي، وظللنا لأسابيع وشهور نحفُر ونُنقِّب عنه في كل جزء من الحديقة لكننا لم نكتشف مكانه. كان التفكير في أن مكان إخفائه كان على طرف لسانه لحظةَ وفاتِهِ يُثير السُّخط. كان بإمكاننا تقدير مدى روعة الثروات المفقودة من الإكليل الذي كان قد أخرَجَه منها. أجريتُ أنا وأخي بارثلوميو نقاشًا صغيرًا حول ذلك الإكليل. كان من الواضح أن اللآلئ قيِّمةٌ جدًّا، وكان مُعترضًا على التخلِّي عنها، فهو — بيني وبينكم — كان يُعاني شيئًا من علَّة أبي؛ فقد كان يعتقد هو أيضًا أنه إذا تخلَّينا عن هذا الإكليل، فقد يُثير هذا الشائعات ويورِّطنا في النهاية في المشاكل. كل ما استطعتُ فِعله هو إقناعه بأن يَدَعْني أستدلُّ على عنوان الآنسة مورستان وأرسل لها لؤلؤة من الإكليل على فتراتٍ زمنيةٍ ثابتة، حتى لا تشعُر أبدًا بالعَوز على الأقل.»
قالت رفيقتُنا بصدق: «لقد كانت فكرةً لطيفة؛ فقد كانت بالفعل لفتةً طيبة للغاية منك.»
أشاح الرجل الضئيل الحجم بيدِه مُعترضًا، وقال: «لقد كنَّا أوصياء على نصيبك، هكذا كنتُ أنظر أنا إلى الأمر، لكن أخي بارثلوميو لم يكن يراه كذلك إطلاقًا. فقد كان لدَينا قدرٌ كافٍ من المال، ولم أطمع في المزيد. علاوة على أنها ستكون قلَّةَ ذَوق منِّي أن أعامل سيدةً شابَّة بهذه الطريقة المُتدنِّية. فكما يقول الفرنسيُّون: «قلَّة الذَّوق تؤدِّي إلى الجريمة.» إن لدَيهم طرقًا رائعة للغاية للتعبير عن تلك الأمور. اختلفْنا بشدَّة في الرأي حول ذلك الأمر لدرجة أني رأيتُ أنه من الأفضل أن أستقلَّ في مكانٍ خاصٍّ بي؛ لذا تركتُ بوندتشيري لودج مُصطحبًا معي خادمي الهندي العجوز وويليامز. لكني عرفتُ يوم أمس بوقوع حدثٍ جلَل، وهو اكتشاف الكنز. راسلتُ الآنسة مورستان على الفور وكل ما تبقَّى أن نفعله هو أن ننطلِق إلى نوروود لنطالب بحصَّتنا. شرحتُ وجهة نظري أمس لأخي بارثلوميو؛ لذا فهو يتوقَّع زيارتنا وإن كان لا يُرحِّب بها.»
توقف السيد ثاديوس شولتو عن الحديث وجلس يتململ على أريكته الفخمة، وظللْنا جميعًا صامِتِين، نفكر في هذا التطوُّر الجديد في وقائع هذا الأمر الغامض. وكان هولمز أول من هبَّ واقفًا.
قال: «أحسنتَ صنعًا من البداية للنهاية يا سيدي. قد نستطيع ردَّ جزء من جميلك بتسليط بعض الضوء على الأمور التي لا تزال غامضة بالنسبة إليك. لكن كما أوضحَتِ الآنسة مورستان، فالوقت مُتأخِّر ومن الأفضل أن نُنجِز هذا الأمر دون تأخير.»
لفَّ رفيقُنا الجديد أنبوبَ نرجيلته بتأنٍّ بالغ، وأخرج من خلف ستارٍ معطفًا طويلًا بأزرارٍ مجدولة وله ياقة وأكمام من الفراء، وأغلق أزرار معطفه بعناية، ومع أن الليلة كانت تقترِب من نهايتها، استكمل زيَّه بارتداء قلنسوة من جِلد الأرنب لها طرَفان مُتدلِّيان يُغطِّيان أُذنَيه، فكان لا يظهر منه إلَّا وجهُه الشاحِب المُتغير التعبيرات. علَّق على هذا قائلًا وهو يقودُنا عبر المَمر: «إن صِحَّتي مُعتلَّة إلى حدٍّ ما؛ لذا فأنا مُضطر للمبالغة في الاهتمام بها.»
كانت عربتنا مُنتظِرة في الخارج، ويبدو أن خطَّ سيرنا كان مُعدًّا مسبقًا؛ فقد انطلق السائق على الفور بسرعة كبيرة. وكان ثاديوس شولتو يتحدَّث دون انقطاعٍ بصوتٍ يعلو على صوت صليل العجلات.
قال: «بارثلوميو رجلٌ ذكي، وإلَّا كيف استطاع اكتشاف مكان الكنز؟ لقد استنتج أنه لا بدَّ أن يكون مُخبَّأً داخل المنزل؛ لذا حسب مساحة المنزل المُكعَّبة وأخذ قياسات كلِّ جزءٍ منه بحيث لا يَغفُل عن بوصةٍ واحدة. وقد وجد، من ضمن ما وجد، أن ارتفاع المبنى أربعة وسبعون قدمًا، ولكن عند جمع ارتفاعات الغُرَف المُنفصلة، واحتساب مساحة التجويفات التي تأكد منها، لم يتعدَّ الناتج الإجمالي سبعين قدمًا. كان ثمَّة أربعة أقدامٍ إضافية لم تُحسَب ضِمن هذه المساحة. المكان الوحيد الذي يُمكن أن يُوجَد به الكنز هو الجزء العلوي من المبنى. وبالتالي أحدث فتحةً في السقف المصنوع من الألواح الخشبية والجبس بأعلى غرفة، وفوقه وجد بالتأكيد علِّيةً صغيرة، كانت مُغلَقة ولا يعلم أحدُ بوجودها. وفي وسطها وجد صندوق الكنز مُستقرًّا فوق عارضتَين خشبيَّتَين. أنزله عبر الفتحة، وهكذا حصل عليه. قدَّر قيمة المجوهرات بما لا يقلُّ عن نصف مليون جنيه إسترليني.»
عندما ذكر ذلك الرقم الضخم نظرْنا جميعًا إلى بعضِنا وقد اتَّسعت أعيُننا. فإذا استطعنا الحصول على حقِّ الآنسة مورستان، فإنها ستتحوَّل من مُربيةٍ فقيرة الحال إلى أغنى وريثة في إنجلترا. بالطبع من واجب أي صديقٍ وفيٍّ أن يبتهِج لسماع خبرٍ كهذا؛ لكنى أعترِف بخجلٍ أن الأنانية أعمَتْ رُوحي، ووقَر في قلبي حزنٌ شديد. تمتمتُ ببعض كلمات التهنئة المُتقطِّعة، ثم جلستُ مفطور القلب مُطأطئ الرأس، لا أسمع شيئًا من ثرثرة صديقِنا الجديد. من المؤكد أنه كان مُصابًا بوسواس المرَض، وكنتُ بالكاد أسمعه وأنا شارد يسرد مجموعةً لا مُتناهيةً من الأعراض، ويطلب معلوماتٍ عن تركيبة ومفعول عددٍ كبير من العقاقير المغشوشة، كان يحمل بعضها معه داخل حقيبةٍ جلدية في جَيبه. أعتقد أنه قد لا يتذكَّر أيًّا من الإجابات التي أعطيتُه إيَّاها تلك الليلة؛ فهولمز يقول إنه سمِعَني أُحذِّره من تناول أكثر من نقطتَين من زيت الخروع، بينما نصحتُه بتناول جرعاتٍ كبيرة من الاسترِكْنين كمُهدِّئ. على كل حال، شعرت بالراحة عندما توقفَتْ عربتنا بغتة، ونزل السائق ليفتح لنا الباب.
قال السيد ثاديوس شولتو وهو يساعدها على النزول: «هذا هو منزل بونديتشيري لودج يا آنسة مورستان.»