شيرلوك هولمز يُقدِّم شرحًا
قال هولمز وهو يفرك كفَّيه: «والآن يا واطسون لدينا نصف ساعة بمفردنا. دعنا نستغلها جيدًا؛ فكما أخبرتك، القضية على وشكِ أن تكتمل، ولكن دعنا لا نرتكب خطأً بسبب الثقة الزائدة؛ فبِقدْرِ ما تبدو القضية بسيطة الآن، بقدرِ ما قد يكون وراءها أمرٌ أكثر تعقيدًا.»
صحتُ مندهشًا: «بسيطة!»
قال بأسلوبٍ يشبه أسلوبَ أستاذِ طبٍّ يشرح لصفٍّ دراسي: «بالطبع، فقط اجلس في ذلك الركن حتى لا تُعقِّد آثار أقدامك الأمر. والآن لنبدأ العمل! أولًا، كيف دخل هؤلاء الأشخاص وكيف خرجوا؟ فالباب لم يُفتَح منذ ليلة أمس، وماذا عن النافذة؟» حمل المصباح متَّجهًا إليها، وهو يتمتم بملاحظاته بصوتٍ مسموع، لكنه كان يُوجِّهها لنفسه وليس لي. «النافذة مغلقة بمزلاج من الداخل، وإطارها متين. ولا تُوجد مُفصَّلات جانبية، لنفتحها. لا تُوجد ماسورةُ مياهٍ بجوارها، والسطح لا يمكن الوصول إليه. ومع ذلك، دخل رجل عَبْر النافذة. لقد هَطلَت بعض الأمطار الخفيفة ليلة أمس، وهناك بصمةُ قدمٍ تظهر على عتبة النافذة، وهناك علامةٌ دائرية من الوحل، وتُوجد واحدةٌ أخرى هنا أيضًا على الأرض، وهنا بجوار الطاولة. أترى هذا يا واطسون؟! هذا حقًّا إثباتٌ قاطع.»
نظرتُ إلى الأقراص الدائرية من الوحل الظاهرة بوضوح، وقلت: «هذا ليس أَثرَ قدم.»
«بل هو أمرٌ ذو قيمة أكبر من ذلك بالنسبة إلينا. إنه أثَرُ ساقٍ خشبية. أترى هنا على عتبة النافذة يُوجد أثرُ حذاءٍ طويل الرقبة، وهو حذاءٌ ثقيل له كعبٌ معدنيٌّ عريض، وبجواره أثر القدم الخشبية.»
«إنه الرجل ذو الساق الخشبية.»
«هذا صحيح، لكن كان معه شخصٌ آخر؛ شريكٌ قوي وبارعٌ جدًّا. هل تستطيع تسلُّق ذلك الجدار يا دكتور؟»
نظرت من النافذة المفتوحة، وكان ضوء القمر لا يزال يسطع ببهاء على تلك الزاوية من المنزل. كنا على ارتفاع ستين قدمًا من الأرض، وبالنظر من مكاني، لم أستطع رؤية أي موطئ قدم، ولا حتى بحجم شق في الحائط المبني من الطوب.
أجبت: «هذا مستحيل بالتأكيد.»
«هو مستحيل دون مساعدة، لكن افترض أن لك صديقًا هنا بالأعلى رمى لك ذلك الحبل القوي الذي أراه في الركن، بعد أن ربط أحد طرفَيه في هذا الخطَّاف الكبير المُثبت في الحائط. أعتقد حينها أنك إن كنتَ رجلًا رياضيًّا، فقد تستطيع التسلُّق لأعلى، حتى إن كان لك ساقٌ خشبية. وستُغادر أيضًا بالطريقة نفسها بالطبع، ثم سيسحب شريكك الحبل ويفُكُّه من الخطَّاف ويغلق النافذة بالمزلاج من الداخل، ثم يهرب بالطريقة نفسها التي دخل بها.» استطرد وهو يتفحَّص الحبل بأصابعه: «هناك نقطةٌ صغيرة جديرة بالملاحظة، وهي أن صاحبنا ذا الرِّجل الخشبية، مع أنه متسلِّق جيد، لم يكن بحَّارًا محترفًا؛ فيده ليست خشِنة البتة؛ فعَدسَتي تُظهِر أكثر من علامةٍ دموية، خصوصًا بالقرب من نهاية الحبل، نتجت من انزلاقه بسرعةٍ كبيرة أدَّت إلى انتزاع الجلد من يدَيه.»
قلتُ: «هذا كله جيد، لكنه يجعل الأمور أكثر غموضًا من ذي قبل. ماذا عن ذلك الشريك الغامض؟ كيف دخل إلى الغرفة؟»
كرَّر هولمز مفكرًا: «نعم، الشريك! تُوجد بعض النقاط المثيرة للاهتمام بخصوص ذلك الشريك؛ فوجوده هو ما يُخرِج القضية عن طَورِ المألوف. وأظن أن ذلك الشريك يُسطِّر صفحاتٍ جديدة في تاريخ الجريمة بهذا البلد، مع أنه يحضُر في ذهني ملابساتُ قضايا مشابهة من الهند، وإذا لم تخُنِّي الذاكرة، من سينيجامبيا.»
كرَّرتُ: «كيف دخل إذن؟ فالباب مغلق، والنافذة لا يمكن الوصول إليها. هل أتى من المدخنة؟»
أجاب: «مَوقِد المِدْفأة صغيرٌ جدًّا. لقد فكرتُ في ذلك الاحتمال بالفعل.»
قلتُ بإصرار: «إذن كيف؟»
هزَّ رأسه وقال: «أنت لا تُطبِّق قاعدتي؛ فكم مرة أخبرتك أنه عندما تستبعد الاحتمالات المستحيلة، فما يتبقى لك، مهما بدا غير محتمل، لا بد أن يكون هو الحقيقة! نحن نعلم أنه لم يدخل من الباب، ولا من النافذة، ولا من المدخنة، ونعلم أيضًا أنه لم يكن مختبئًا في الغرفة، فلا يُوجد بها أيُّ مكان يمكن الاختباء فيه؛ إذن، من أين دخل؟»
صِحتُ: «دخل من الفَتْحة التي في السقف.»
«بالطبع، لا بُد أنه أتى منها. هلا تفضَّلتَ وحملتَ المصباح لي؛ فعلينا الآن أن نُوسِّع نطاق بحثنا ليشمل الغرفة العلوية؛ الغرفة السرية التي عُثِر بها على الكَنز.»
صعِد درجاتِ السلَّم، وأمسك بيدَيه عارضةً خشبية ورفع نفسه إلى العلِّيَّة، ثم رقد على بطنه ومدَّ يده ليأخذ المصباح وأمسك به، في حين تبِعتُه إليها.
كان اتساع الحجرة التي وَجَدنا أنفسنا بداخلها حوالي عشرة أقدامٍ من أحد الجوانب وستة أقدامٍ في الجانب الآخر. كانت أرضيتها مصنوعة من عوارضَ خشبيةٍ بينها طبقةٌ رقيقة من الشرائح الخشبية والجبس؛ لذا عند المشي فوقها يضطر المرء لأن يخطو من عارضة للأخرى. امتد السقف لأعلى في شكلٍ هرمي، وكان من الواضح أنه الهيكل الداخلي لسطح المنزل الفعلي. لم يكن بها أثاثٌ من أيِّ نوع، وكانت أرضيَّتها مغطاةً بطبقةٍ سميكة من الغبار الذي تراكَم على مرِّ السنوات.
قال شيرلوك هولمز مسندًا يده على حائط السقف المائل: «ها نحن ذا، أترى؟ هذا بابٌ أُفقي سحري يُؤدِّي إلى السطح. يُمكِن أن أدفعه وسنرى السطح نفسه، يميل بزاويةٍ بسيطة؛ تلك هي إذن الطريقة التي دخل بها الرجل الأَوَّل. لِنرَ إن كان بإمكاننا العثور على دلائلَ أخرى على شخصيته.»
خفَض المصباح نحو الأرض، وبمجرد أن فعل، رأيت للمرة الثانية تلك الليلةَ على وجهه نظرةَ ذهولٍ ودهشة. أنا نفسي بمجرد أن أتبعتُ عيني موضع نظره اقشعرَّ بدني؛ فقد كانت الأرض مغطاةً بكثافة بآثارِ أقدامٍ حافية، كانت واضحةً ومحددةً ومكتملة التكوين لكن حجمها بالكاد نصفُ حجم قدم الرجل العادي.
قلتُ هامسًا: «هولمز، هل ارتكب طفل ذلك الفعل الشنيع؟»
استجمع رباطةَ جأشه في ثوانٍ وقال: «تَشوَّش ذهني لِوهلة، لكن الأمر طبيعي. لم تُسعِفني الذاكرة وإلا لكنتُ تنبأتُ بذلك. لم يعُد هناك ما يمكن اكتشافه هنا؛ هيا بنا لننزل.»
سألتُه بلهفة عندما عدنا إلى الغرفة السفلية مرةً أخرى: «ما نظريتُك إذن بخصوصِ آثار الأقدام تلك؟»
قال بأسلوب ينمُّ عن نفادِ الصبر: «عزيزي واطسون، جرِّب أن تقوم بالقليل من التحليل بنفسك؛ فأنت تعرف أساليبي؛ طبِّقها، وسيكون من المفيد مقارنة النتائج.»
أجبتُه: «لا أستطيع الوصول لأي استنتاجات من الحقائق.»
قال دون تفكير: «قريبًا ستتضح لك الأمور. أعتقد أنه لم يتبقَّ شيءٌ آخر له أهمية هنا، لكني سأُلقي نظرة على أيِّ حال.» أخرج عدستَه وشريطَ قياس، وانكبَّ على ركبتَيه يجول في الغرفة، يقيس، ويقارن، ويفحص، يكاد أنفه الطويل الرفيع يلامس الأرض، وعيناه المتفحِّصتان تلمعان وتضيقان كعيني طائر. كانت حركاتُه خفيفة وصامتة وخاطفة، كحركات كلبٍ بوليسي يقتفي أَثَر رائحةٍ ما، حتى إنني تخيَّلتُ كم كان سيصبح مجرمًا عتيًّا لو كان قد كرَّس طاقاته وقدراته الذهنية ضد القانون بدلًا من استخدامها للدفاع عنه. كان يُتمتِم لنفسه في أثناء بحثه، ثم أخيرًا انطلقَت منه صيحةُ فرحٍ عالية.
قال: «لقد حالفَنا الحظ بكل تأكيد؛ فقد أَوشكَت مشكلتنا أن تُحل. لقد داس الرجل الأوَّل لسوء حظه في مادة الكريوزوت. يمكنك أن ترى الخط الخارجي لقدمه الصغير هنا بجانب تلك الفوضى الكريهة الرائحة. لقد شُرِخت القنينة كما ترى وتسرَّب منها السائل.»
سألته: «وماذا في ذلك؟»
قال: «لقد أمسكنا به، هذا كلُّ ما في الأمر؛ فأنا أعرف كلبًا يمكنه أن يقتفي أثر تلك الرائحة حتى نهاية العالم، فإذا كان بإمكانِ قطيعٍ من كلاب الصيدِ أن يقتفي أثر سمكةِ رنجة لمقاطعةٍ كاملة، فما المسافة التي يمكن لكلبٍ تلقَّى تدريبًا خاصًّا أن يقطعها متتبِّعًا رائحةً نفاذة كتلك؟ تبدو لي كمسألةٍ تتطلب استخدام القاعدة الثلاثية. من المفترض أن تكون الإجابة … لكن أهلًا! ها قد وصل الممثلون الرسميون للقانون.»
سمعنا وَقْع خطواتٍ ثقيلة وضجيجَ أصواتٍ عاليًا قادمًا من الأسفل، وصُفِق باب الردهة مُحدِثًا دويًّا عاليًّا.
قال هولمز: «بسرعة قبل أن يصلوا إلى هنا، تحسَّس ذراع ذلك المسكين هنا ورجله هنا، بمَ تشعر؟»
أجبتُ: «العضلات متيبِّسة كلوحٍ خشبي.»
«هذا صحيح، إنها في حالة انقباضٍ شديد، يفوق تيبُّس الجثث المعتاد. أضف إلى ذلك التعبير الغريب المرسوم على الوجه؛ هذه الابتسامة المتشنِّجة، أو الضَّزَز السردوني كما أسماه الكُتاب القُدامى، ما الاستنتاج الذي يتبادر إلى ذهنك من هذا؟»
أجبتُه: «سبب الوفاة هو مادةٌ شبة قلويةٍ نباتية؛ مادة شبيهة بالسترِكْنين تسبب الكُزاز.»
«هذا ما تبادر إلى ذهني منذ رأيتُ انقباض عضلات وجهه. ومنذ دخولي إلى الغرفة بحثت على الفور عن الطريقة التي دخل بها السم إلى جسده. وكما رأيتَ، اكتشفتُ شوكةً غُرست أو أُطلقَت بقوةٍ ليست كبيرةً على فروة رأسه. ستلاحظ أن الجزء الذي أُصيب هو الجزء الذي يُفترض أن يكون مقابلًا لفتحة السقف لو كان الرجل يجلس مستقيمًا في مقعده. والآن افحصِ الشوكة.»
تناولتُها بحرصٍ بالغ وأمسكتُها تحت ضوء المصباح. كانت طويلةً وحادة وسوداء، وطرفُها الحادُّ يبدو لامعًا كما لو أن مادةً صمغية قد جفَّت عليه. وكان طرفُها غير الحادِّ قد شُحذ باستخدام سكين.
سأل: «أهي شوكة من أصلٍ إنجليزي؟»
«لا، ليست كذلك بكلِّ تأكيد.»
«من المفترض أن تساعدك كلُّ هذه البيانات على التوصُّل إلى استنتاجٍ قوي، ولكن ها قد وصل الجنود النظاميون، يمكن للقوات المساعدة أن تتقهقر الآن.»
وبينما كان يتحدث، علا صوتُ وقع الخطوات التي كانت تقترب منا في الممر، ودلَف إلى الغرفة رجلٌ بدين ومهيب يرتدي بذلةً رمادية. كان أحمر الوجه ضخم البنية ممتلئًا، عيناه الضيقتان اللامعتان تنظران بحدَّة وذكاء من بين جفنَيه المنتفخَين المتورمَين. تبِعه مباشرةً مفتش يرتدي الزيَّ الرسمي، وثاديوس شولتو الذي كان لا يزال يرتجف.
صاح بصوتٍ أجشَّ مكتوم: «هذا سيئ! هذا أمرٌ سيئ! لكن مَن كل هؤلاء؟ لماذا يبدو المنزل مكتظًّا كجُحر أرنب!»
قال شيرلوك هولمز بهدوء: «أعتقد أنك تتذكَّرني يا سيد أثيلني جونز.»
قال بصوتٍ فيه أزيز: «بالطبع أذكرك! أنت السيد شيرلوك هولمز، الباحث النظري. أتذكرك! أنا لن أنسى أبدًا كيف ألقيتَ علينا جميعًا محاضرة عن الأسباب والاستدلالات والآثار في قضيةِ جوهرة بيشوبجيت. صحيحٌ أنكَ وضعتَنا على المسار السليم، لكن أعتقدُ أنك تُقرُّ الآن أن ذلك كان بمحضِ الصدفة السعيدة، وليس نتيجةَ حسن الاستدلال.»
«لقد كان استدلالًا منطقيًّا بسيطًا.»
«بربك! لا تخجل من الإقرار بذلك. لكن ما هذا كله؟ هذا سيئ! هذا أمرٌ سيئ! إن ما أراه هنا ما هو إلا حقائق مجرَّدة، لا مجال للنظريات هنا. كم كان من الحظ السعيد أن تَصادَف وجودي في نوروود بسبب قضيةٍ أخرى! فقد كنت في مركز الشرطة عندما وصلت الرسالة. ما سبب وفاته في رأيك؟»
قال شيرلوك هولمز بفتور: «هذه قضيةٌ بالكاد تحتاج إلى تنظيري.»
«لا، لا؛ فأنا مع ذلك لا أُنكِر أنك تُصيب كبِد الحقيقة أحيانًا. يا إلهي! الباب كان مغلقًا، حسبما فهمت. وفُقِدَت مجوهراتٌ قيمتها نصف مليون جنيه. ماذا عن النافذة؟»
«كانت مغلقة بإحكام، لكنْ هناك آثارُ أقدامٍ على عتبتها.»
«حسنًا، إذا كانت مغلقةً بإحكام فلا بد أنَّ آثار الأقدام هذه لا علاقة لها بالأمر؛ فهذا هو التفكير المنطقي؛ فقد يكون الرجل قد تُوفي جراء نوبةٍ قلبية، ولكن المجوهرات مفقودة. حسنًا! لديَّ نظرية؛ فأنا تأتيني هذه التجلِّيات أحيانًا. هلَّا غادرتَ الغرفة أيها المفتش أنت والسيد شولتو. ويمكن لصديقك أن يبقى. ما رأيك في هذا يا هولمز؟ كان شولتو، باعترافه، برفقة أخيه ليلة أمس، فقد توفي الأخ بنوبةٍ قلبية؛ وعلى إثرِ ذلك غادر شولتو ومعه الكنز. ما رأيك بهذا؟»
«بعدها قام المتوفَّى متفضِّلًا ليغلق الباب.»
«حسنًا! هناك خطأٌ ما هنا، فلننظر للأمر بنظرةٍ منطقية؛ فقد كان ثاديوس شولتو هذا برفقة أخيه، ودار شجارٌ بينهما؛ هذا ما نعرفه. الأخ توفِّي والمجوهرات اختفت؛ هذا أيضًا نعرفه. ولم يرَ أحدٌ الأخ منذ أن تركه ثاديوس. كما أنه لم ينَم في سريره، وثاديوس يبدو عليه الاضطراب لأقصى درجة. أمَّا بالنسبة إلى مظهره، حسنًا، فإنه ليس جذابًا. كما ترى أنا أنسج شباكي حول ثاديوس، وقد بدأ الخناق يضيق عليه.»
قال هولمز: «أنت لم تطَّلع على الحقائق كلها بعدُ؛ فهذه الشظية الخشبية، التي لديَّ أسبابٌ كافية للاعتقاد بأنها مسمومة، كانت مغروسة في فروة رأس الرجل حيث لا يزال بإمكانك رؤيةُ أثرها، وهذه البطاقة المكتوب فيها هذا الكلام كما ترى كانت موضوعة على الطاولة، وبجوارها تلك الأداة الغريبة ذات الرأس الحجري. أين كل ذلك من نظريتك؟»
قال المُحقِّق البدين بخُيلاء: «كل هذا يؤكدها من جميع النواحي؛ فالمنزل مليء بالتحف الهندية. أحضر ثاديوس هذه معه إلى هنا، وإذا كانت تلك الشظية مُسمَّمة، فمن المحتمل أن ثاديوس استخدمها للقتل مثلما كان سيفعل أيُّ شخصٍ آخر في مكانه. أمَّا البطاقة فهي محضُ هُراء؛ خدعة لتضليلنا على الأرجح. السؤال الوحيد هو: كيف غادر؟ حسنًا! بالطبع، هناك فتحة في السقف.» وبنشاطٍ كبير؛ نظرًا لحجمه الضخم، صَعِد درجات السلم وحشَر نفسه عبر الفتحة ليدخل إلى العلِّيَّة وبعدها على الفور سمعنا صوته المغتبط يعلن أنه وجد الباب الأفقي السحري.
علَّق هولمز وهو يهزُّ كتفَيه قائلًا: «على الأقل يمكنه اكتشاف بعض الأشياء. تنتابه لمحاتٌ من عقل من حين لآخر.» ثم أردف بالفرنسية: «أكثر الناس إزعاجًا هم الحمقى الذين يمتلكون قدْرًا من الذكاء!»
قال أثيلني جونز وهو يهبط السلم: «أترى! في النهاية الحقائقُ أفضل بكثير من النظريات المجرَّدة. لقد تأكد رأيي في تلك القضية؛ يُوجد بابٌ أفقي يؤدي إلى السطح، وهو مفتوح جزئيًّا.»
«أنا من فتحتُه.»
«حسنًا! بالطبع! قد لاحظتَه إذن؟» بدا مُحبَطًا من هذا الاكتشاف بعض الشيء. ثم قال: «حسنًا، بصرف النظر عمَّن اكتشفه، هو يوضح كيف هرب المجرم. أيها المفتش!»
ردَّ من الممر: «أمرك يا سيدي.»
«اطلب من السيد شولتو أن يأتي إلى هنا. سيد شولتو، من واجبي أن أُخبرك بأن أي شيء تقوله قد يؤخَذ ضدك. أنت مقبوض عليك باسم الملكة لتورُّطك في موت أخيك.»
صاح الرجل الضئيل المسكين وهو يُقلِّب كفَّيه وينظر من أحدنا للآخر: «أرأيتما! ألم أقل لكما!»
قال هولمز: «لا تقلق بهذا الشأن يا سيد شولتو؛ فأظن أن بإمكاني التدخُّل لتبرئتك من هذه التهمة.»
قال الشرطي بحدَّة: «لا تقطع وعودًا كبيرة أيها الباحث النظري! لا تقطع وعودًا كبيرة! فقد تجد الأمر أصعب مما تصورتَه.»
«لن أُبرِّئه فحسب سيد جونز، بل سأُقدِّم لك أيضًا على طبقٍ من فضة اسم وأوصاف أحد الرجلَين اللذَين كانا في هذه الغرفة مساء أمس؛ فأنا لديَّ الأسباب الكافية التي تدفعني إلى الاعتقاد بأن اسمه هو جوناثان سمول. هو رجل تلقَّى قدْرًا بسيطًا من التعليم، وضئيل الحجم ونشيط الحركة، وساقه اليمنى مبتورة، ويرتدي طرفًا خشبيًّا مهترئًا من الجانب الداخلي. حذاؤه الأيسر طويل الرقبة له نعلٌ قاسٍ مقدمته مربعة، ومثبَّت في كعبه طوقٌ حديدي. وهو رجل في منتصف عمره، أسفع الوجه، وكان مسجونًا. هذه الدلالات القليلة قد تساعدكم. هذا بالإضافة إلى أن جزءًا كبيرًا من جِلد كفَّيه منزوع. أمَّا الرجل الآخر …»
«ماذا؟ الرجل الآخر!» سأل أثيلني جونز بنبرةٍ تهكمية، مع أن انبهاره من دقة أسلوب هولمز بدا جليًّا.
قال هولمز وهو يستدير: «إنه شخصٌ مثير للاهتمام للغاية. آمل أن أستطيع أن أُعرِّفك على كلَيهما عما قريب. هل تسمح لي بكلمةٍ على انفراد يا واطسون؟»
قادني خارج الغرفة إلى قمة الدرَج. قال: «إن هذا الحدث غير المتوقَّع جعلنا نشيح بنظرنا عن الهدف الأصلي من رحلتنا هذه.»
أجبت: «لقد كنتُ أُفكِّر في الشيء نفسه. وليس من اللائق أن تبقى الآنسة مورستان في ذلك المنزل المشئوم.»
«صحيح؛ فيجب أن تَصحَبها لبيتها؛ فهي تعيش مع السيدة سيسِل فورستر في لوير كامبرويل، وهذا ليس بعيد جدًّا عن هنا. سوف أنتظرك هنا إذا كنت تنوي العودة، أو ربما تكون متعبًا جدًّا.»
«على الإطلاق، لا أظن أني سأستريح قبل أن أعرف أكثر عن هذا الأمر الغريب. لقد كَشفَت لي الحياة من قبلُ شيئًا من جانبها المظلم القاسي، لكني أُقسم لك بأن هذا التتابُع السريع للمفاجآت الغريبة الليلة وتَّر أعصابي تمامًا. ومع ذلك أرغب في أن أَمضِي معك في هذا الأمر حتى النهاية، بعد أن وَصَلت بالفعل إلى تلك المرحلة.»
أجاب قائلًا: «سيُساعدني وجودك كثيرًا؛ فسوف نعمل على كشف خبايا القضية بمفردنا، وسنترك جونز ذلك يطارد أيَّ سرابٍ يُخيَّل له. بعد أن تُوصِّل الآنسة مورستان، أريدك أن تذهب إلى المنزل رقم ٣ بشارع بينشن لين، بالقرب من ضفة النهر في لامبيث؛ فالمنزل الثالث على الصف الأيمن هو لمُحنِّط طيور اسمه شيرمان. سترى في نافذته ابن عرس يُمسك بأرنبٍ صغير. اطرق الباب وأَيقِظه من نومه، وبلِّغ شيرمان تحياتي وأخبره أني أريد توبي على الفور. وأحضر توبي معك في العربة.»
«توبي هذا كلب، أليس كذلك؟»
«بلى، كلبٌ هجين غير عادي يمتلك حاسةَ شمٍّ مذهلة. وأنا أُفضِّل أن أحظى بمساعدة توبي عن أن أحظى بمساعدة قوة التحقيق كلها في لندن.»
قلتُ: «سأُحضره إذن، إنها الواحدة الآن. من المفترض أن أعود قبل الثالثة، إذا ألقى الحظ في طريقي حصانًا نشطًا.»
قال هولمز: «وأنا سأرى ما يمكنني معرفته من السيدة بيرنستون، والخادم الهندي الذي أخبرني السيد ثاديوس بأنه يبيت في العُلِّيَّة المجاورة. ثم سأدرس أساليب جونز العظيم وأستمع إلى تهكُّماته الغليظة. لطالما كان جوته فصيح اللسان حين قال: «لقد اعتدنا أن نرى الناس يسخرون مما لا يفهمونه».»