قوات شارع بيكر غير النظامية
سألتُه: «ماذا سنفعل الآن؟ لقد فقد توبي سمته المميزة التي لا تخطئ.»
قال هولمز وهو يُنزله من فوق البرميل ويقتاده إلى خارج مستودع الأخشاب: «لقد تصرَّف وفق معطياته. إذا وضعتَ بعين الاعتبار كمية الكيروزوت التي تُنقَل حول لندن في كل اليوم، فلن تتعجَّب كثيرًا أن الأَثَر الذي نقتفيه اختلط بآخر. لقد أصبح استخدامه شائعًا هذه الأيام خاصة لتجفيف الأخشاب. لا يجب أن نلوم توبي المسكين.»
«إذن، أعتقد أننا يجب أن نعود لاقتفاء أثَر الرائحة الأصلية.»
«أجل، ولحسن الحظ، لن نُضطر للسير لمسافةٍ طويلة؛ فمن الواضح أن ما أثار ارتباك الكلب عند ناصية نايتس بلايس هو وجود أَثرَين مختلفَين للرائحة نفسها يسيران في اتجاهَين متعاكسَين. لقد تبِعنا الأثر الخاطئ من قبلُ، ولم يبقَ لنا الآن إلا أن نتبعَ الآخر.»
لم نجد صعوبة في ذلك؛ فحين اقتدنا توبي إلى المكان الذي أخطأ فيه، بدأ يدور في دائرة كبيرة ثم انطلق أخيرًا في اتجاهٍ جديد.
قلت ملاحظًا: «يجب أن ننتبه كي لا يقودنا إلى المكان الذي أتى منه برميل الكيروزوت.»
«لقد فكرتُ في هذا، لكنك إذا نظرتَ فستلاحظ أنه يسير على الرصيف، بينما البرميل كان يسير في الطريق. نحن نتبع الرائحة الأصلية الآن.»
قادنا إلى ضفَّة النهر بين بيلمونت بلايس وشارع برينس. وفي نهاية شارع برود ركض حتى وصل إلى حافة الماء حيث يُوجد رصيف مرفأٍ خشبيٍّ صغير. قادنا توبي إلى حافة الرصيف ووقف يعوي وهو ينظر إلى تيار النهر الداكن تحته.
قال هولمز: «لم يسعفنا الحظ؛ فقد استقلَّا مركبًا من هنا.» كان هناك عدة مراكب وقواربَ صغيرةٍ منتشرة على سطح الماء وعند حافة الرصيف. أخذنا توبي إلى كلٍّ منها بالترتيب لكن مع أنه كان يشم بهمة، لم يُبدِ أية إشارة.
بالقرب من رصيف المرسى البدائي كان يُوجد منزلٌ صغيرٌ مبني من الطوب، عُلِّقت في نافذته الثانية لافتةٌ خشبية مكتوب عليها بأحرفٍ كبيرة «مورديكاي سميث»، وتحتها «قوارب للإيجار بالساعة أو باليوم». وعلمنا من عبارةٍ أخرى مكتوبة فوق الباب أن لديهم زورقًا بخاريًّا. أكد تلك العبارةَ وجودُ كومةٍ كبيرة من الفحم على الرصيف البحري. تلفَّت شيرلوك هولمز حوله ببطء، وارتسم على وجهه تعبير يُنذر بالسوء.
قال: «هذا يبدو سيئًا؛ فهذان الرجلان أذكى مما توقعت. يبدو أنهما أخفيا أثرهما جيدًا. أخشى أن ما حدث كان بترتيبٍ مسبق.»
كان يقترب من باب المنزل عندما انفتح وخرج منه صبيٌّ صغيرٌ مُجعَّد الشعر يجري، وتلحق به امرأةٌ بدينةٌ محتقنة الوجه وفي يدها إسفنجةٌ كبيرة.
صاحت: «عُدْ إلى هنا لتستحمَّ يا جاك. عُد إلى هنا أيها العفريت، فإذا عاد أبوك إلى المنزل ورآك هكذا، فسيوبِّخنا.»
قال هولمز بأسلوبٍ استراتيجي: «يا لك من صبيٍّ جميل! يا لك من طفلٍ شقي مُورد الخدَّين! أهناك ما ترغب به يا جاك؟»
فكَّر الصغير لبرهة، وقال: «أريد شلنًا.»
«ألا تُفضِّل شيئًا آخر؟»
ردَّ الطفل الفطن بعد تفكير: «بل أُفضِّل الحصول على شلنَين.»
«هاك إذن! التقط! — يا له من طفلٍ رائع يا سيدة سميث!»
«بوركتَ يا سيدي بل هو أكثر من رائع. يصير من الصعب عليَّ السيطرة عليه، خصوصًا عندما يغيب زوجي لأيام.»
قال هولمز بصوتٍ ينم عن خيبة الأمل: «أهو غائب؟ هذا مؤسفٌ فقد أردت الحديث مع السيد سميث.»
«لقد خرج منذ صباحِ أمس يا سيدي، ولا أُخفيك أني بدأتُ أقلق عليه. لكن إذا كنت تريده بخصوص قاربٍ يا سيدي، فأنا أيضًا يمكنني خدمتك.»
«لقد أردتُ استئجار زورقه البخاري.»
«يا إلهي! لقد ذهب في الزورق البخاري يا سيدي. وهذا ما يُحيِّرني؛ فأنا أعلم أن ما به من فحمٍ يكفي بالكاد لرحلة ذهابٍ وعودةٍ من ولويتش؛ فلو كان قد ذهب في الصندل ما كنت لأقلق؛ ففي العديد من المرات تَضطَره مهمة عملٍ للذهاب بعيدًا حتى جريفسيند، وإذا كان لديه الكثير ليفعله فقد يبيت هناك. ولكن ما نفعُ الزورق البخاري إن نفد منه الفحم؟»
«قد يكون اشترى بعضًا منه من رصيفٍ آخر على النهر.»
«هذا ممكن يا سيدي، لكن هذا ليس من طبعه؛ فقد سمعته عدة مرات يتذمَّر من الأسعار التي يطلبونها مقابل مجرد بضعةِ أكياسٍ منه. علاوةً على أني لا أرتاح لذلك الرجل ذي الساق الخشبية بوجهه القبيح ولكنته الغريبة. ماذا يريد بالتردُّد علينا هنا طوال الوقت؟»
قال هولمز بدهشةٍ خفيفة: «رجل ذو ساقٍ خشبية؟»
«أجل يا سيدي، رجلٌ أسمر البشرة قبيح الوجه أتى إلى هنا أكثر من مرة ليقابل زوجي. هو من أيقظه مساءَ أمس، والأغرب من هذا أن زوجي كان يعلم بقدومه لأنه كان قد جهز الزورق. بصراحة يا سيدي، لستُ مطمئنةً لذلك الأمر.»
قال هولمز وهو يهزُّ كتفَيه: «لكن يا عزيزتي السيدة سميث، ليس هناك ما يستدعي الخوف؛ فكيف عرفتِ أن من أتى مساء أمس كان هو الرجل ذو الساق الخشبية؟ لا أفهم كيف تأكدتِ أنه هو.»
«من صوته يا سيدي؛ فأنا أعرف صوته، فهو خشِن ومبحوحٌ نوعًا ما. طرَق على النافذة في حوالي الساعة الثالثة وقال: «استيقِظ يا صاح. حان موعد تغيير نوبة الحراسة.» أيقظ زوجي جيم — ابني البكر— وغادَرا دون أن ينطقا لي بكلمةٍ واحدة، ثم سمعتُ صوت طقطقة الساق الخشبية على الحجارة.»
«وهل كان الرجل ذو الساق الخشبية هذا بمفرده؟»
«لست متأكدة يا سيدي، ولكني لم أسمع صوت أحدٍ آخر.»
«أنا آسف يا سيدة سميث، كنت أريد استئجار زورقٍ بخاري، وقد سمعت كلامًا جيدًا عن … ماذا كان اسمه؟»
«اسمه «أورورا» يا سيدي.»
«آه! أهو ذلك الزورق القديم الأخضر الذي به خطٌّ أصفر، ومقدمته عريضةٌ جدًّا؟»
«كلا، في الواقع هو صغير الحجم مثل أي زورقٍ آخر هنا في النهر. لقد طُلي حديثًا بالأسود وبه خطَّان أحمران.»
«شكرًا لكِ، أتمنى أن تسمعي من السيد سميث قريبًا. سوف أُبحر في النهر، وإذا صادفتُ الزورق «أورورا» فسأُخبر زوجك بأنكِ قلقة بشأنه. قلتِ إن مدخنة الزورق سوداء، أليس كذلك؟»
«لا يا سيدي، بل سوداء وبها شريطٌ أبيض.»
«أجل، بالطبع؛ فجوانبه هي السوداء. عمتِ صباحًا يا سيدة سميث. أرى مراكبيًّا معه زورقٌ نهري هناك يا واطسون، لنأخذَه ونعبر النهر.»
قال هولمز ونحن نجلس على ألواح الزورق: «أهم شيء في التعامل مع هذا النوع من الأشخاص هو ألا تدعهم أبدًا يشعرون بأن ما يُدلون به من معلومات يُمثل أي أهمية بالنسبة إليك. فإن فعلت سيُطبِقون فمهم على الفور مثل المحار. أما إذا استمعت لهم وأنت مُحتج، كما فعلتُ أنا، فستَحصُل غالبًا على مرادك.»
قلت: «يبدو أن مسارنا أصبح واضحًا الآن.»
«ماذا تفعل إذن؟»
«أستأجر زورقًا بخاريًّا وأُبحر في النهر في إثر الزورق «أورورا».»
«يا صديقي العزيز، ستكون تلك مهمةً بالغة الصعوبة. فمن الممكن أن يكون قد رسا في أيٍّ من الأرصفة العديدة المنشرة على ضفتَي النهر من هنا إلى جرينتش؛ فتحت الجسر توجد متاهة من المراسيِّ تمتد لأميال، وقد يستغرق البحث فيها جميعًا أيامًا عديدة إن فعلت ذلك بمفردك.»
«فلنستعِن بالشرطة إذن.»
«لا، غالبًا سأستدعي أثيلني جونز في اللحظة الأخيرة. فهو ليس شخصًا سيئًا، ولا أرغب في فعل ما قد يضرُّه مهنيًّا. لكني أريد أن أحلَّ تلك القضية بنفسي بما أننا وصلنا إلى هذا الحد بالفعل.»
«هل يُمكن أن ننشر إعلانًا نطلب فيه معلومات من أصحاب المرافئ؟»
«سيكون وقع ذلك أسوأ بكثير! فسيعرف الرجلان أنهما أصبحا مطاردَين وربما يغادران البلاد. الأرجح أنهما ينويان مغادرتها على أيِّ حال، لكن ما داما يظنان أنهما بمأمن فلن يكونا في عجلة من أمرهما. كما أن مجهودات جونز ستكون في صالحنا في تلك النقطة؛ فوجهة نظره بخصوص القضية حتمًا ستصل إلى الصحف اليومية وسيظنُّ الهاربان أن الجميع يتبع الأثر الخاطئ.»
سألته ونحن نرسو بالقرب من إصلاحية ميلبانك: «ماذا سنفعل إذن؟»
«سنستقلُّ تلك العربة ونذهب إلى المنزل ونتناول الإفطار ونحظى بقسط من النوم؛ فعلى الأرجح سوف ننطلق هذا المساء مرةً أخرى. توقف عند أي مكتب للبرقيات أيها السائق! سنحتفظ بتوبي؛ فقد نحتاج إليه مرةً أخرى.»
توقفنا عند مكتب بريد شارع جريت بيتر، وأرسل هولمز برقية، ثم سألني ونحن نُتابع رحلتنا: «لمن تظن أني أرسلت ذلك؟»
«ليس لديَّ أدنى فكرة.»
«أتذكر قسم التحقيقات بشرطة شارع بيكر الذي استعنتُ به في قضية جيفرسون هوب؟»
قلت ضاحكًا: «أجل.»
«قد تكون مساعدتهم لا تُقدَّر بثمن في هذا النوع من القضايا. وإن فشلوا، فلديَّ مواردُ أخرى، ولكني سأُجرِّب حظي معهم أولًا. كانت تلك البرقية للملازم الصغير الشقي ويجنز، وأتوقع أن يأتي إلينا هو وعصابته حتى قبل أن نُنهي إفطارنا.»
كانت الساعة بين الثامنة والتاسعة وكنت أشعر بوطأة الأحداث المتتابعة المثيرة لتلك الليلة عليَّ. كنت أشعر بالوهن والإرهاق؛ فكان عقلي مشوشًا وجسدي متعبًا. لم أكن أتمتَّع بالحماسة المهنية التي كانت تُحرِّك رفيقي، ولا كنتُ أنظر للأمر باعتباره مجرد مشكلةٍ منطقيةٍ مجردة. فبالنسبة إلى مقتل بارثلوميو شولتو، لم أسمع عنه كلامًا جيدًا؛ ومِن ثمَّ لم أحملْ أيَّ ضغينة شديدة لقاتليه. أما بالنسبة إلى الكنز، فالأمر مُختلِف؛ فهذا الكنز، أو جزء منه، يحق للآنسة مورستان. وما دام يوجد أمل في استرجاعه، فأنا مستعدٌّ لأن أُكرِّس حياتي لتلك الغاية. صحيح أني إن وجدته فلن أطالها أبدًا، ولكن سيكون حبِّي أنانيًّا وحقيرًا إن تركت تلك الفكرة تؤثر عليه. فإذا كان هولمز يعمل جاهدًا على إيجاد المجرمين، فلديَّ دافعٌ أقوى بأضعاف لإيجاد الكنز.
في شارع بيكر، ساعدني الاستحمام وتبديل ملابسي كثيرًا على استعادة نشاطي. وعندما نزلت إلى غرفتنا وجدت الإفطار مُعَدًّا وهولمز يصب القهوة.
قال ضاحكًا وهو يشير إلى صحيفةٍ مفتوحة: «ها قد رتب جونز المتحمِّس والمراسل الصحفي النشيط الأمر فيما بينهما. ولكنَّك نلتَ كفايتك من تلك القضية، ومن الأفضل لك أن تتناول البيض ولحم الخنزير المملَّح أولًا.»
في حوالي الساعة الثانية عشرة مساءً أمس، عُثر على السيد بارثلوميو شولتو الذي يقطن في بونديتشري لودج بأبر نوروود ميتًا في غرفته في ظلِّ ملابسات تُشير إلى وقوع جريمة قتل. وبحسب ما وردنا، لم توجد أي آثار عنفٍ فعلية على جثة السيد شولتو، ولكن اختفت مجموعة من المجوهرات الهندية التي ورثَها المتوفَّى عن أبيه. كان السيد شيرلوك هولمز والدكتور واطسون هما أول من اكتشف الجثة، وقد كانا يزوران المنزل بصحبة السيد ثاديوس شولتو شقيق المتوفَّى. ولحسن الحظ، تصادف وجود السيد أثيلني جونز، عضو جهاز شرطة التحقيقات المعروف، في قسم شرطة نوروود، ووصل إلى مكان الحادث في غضون نصف ساعة من البلاغ الأول. وفور وصوله، وجَّه ملكاته المتمرِّسة والمحنَّكة صوب اكتشاف الجناة، وقد أتى ذلك بنتائجَ مثمرةٍ؛ فقد اعتقل الأخ ثاديوس شولتو ومعه مدبِّرة المنزل السيدة بيرنستون، وكذلك خادم هندي يُدعى لال راو، والبواب أو حارس البوابة ويُدعى مكموردو. من المؤكَّد أن السارق أو السارقين كانوا يعرفون المنزل جيدًا؛ فخبرة السيد جونز المهنية التي يشتهر بها وقوة ملاحظته مكَّناه من الإثبات على نحو لا يدع مجالًا للشك أن الجناة لا يُمكن أن يكونوا قد دخلوا من الباب أو من النافذة، وأنهم لا بد أن يكونوا قد صعدوا إلى سطح المبنى ومنه دخلوا عبر بابٍ أفقي إلى غرفةٍ متَّصلة بتلك التي وجدت بها الجثة. وهذه الحقيقة المؤكَّدة تثبت بشكلٍ قاطع أن الأمر لم يكن مجرد حادث سرقة عرضي. وأثبت رد الفعل اليقظ والنشيط لرجال القانون الفائدة العظيمة من وجود عقلٍ نشط وبارع في مثل تلك الحالات. نَعتقِد أن ذلك حجة على من يدعون إلى تقليل أهمية محققينا، لكي يتمكَّنوا من العمل بفعالية وعن قرب أكثر على القضايا التي من واجب المحقِّقين العمل عليها.
قال هولمز وهو يَبتسِم ابتسامةً عريضة من خلف فنجان قهوته: «أليس مقالًا رائعًا؟ ما رأيك فيه؟»
«أعتقد أننا نجونا بأعجوبة من الاعتقال بتُهمة ارتكاب هذه الجريمة.»
«وأنا أيضًا أعتقد هذا، فأنا لا أضمَن أننا سنكون بمأمن إن انتابته نوبةٌ أخرى من نوبات نشاطه تلك.»
في تلك اللحظة ارتفع صوت جرس الباب وسمعتُ السيدة هادسون، صاحبة المنزل، ترفع صوتها بعويل احتِجاج وفزع.
قلت وأنا أستعد للنهوض: «بحق السماء يا هولمز، أعتقد أنهم يُطاردوننا حقًّا.»
«لا، الأمر ليس بهذا السوء. إن هذا هو جهاز الشرطة غير الرسمي؛ قوات شارع بيكر غير النظامية.»
بينما كان يتحدَّث، تعالى وقعُ أقدامٍ حافيةٍ رشيقة على السلالم، وجلجلة أصواتٍ عالية، ثم دخل علينا دستة من الأطفال المشرَّدين المتَّسخين الرثِّي الثياب. وعلى الرغم من دخولهم الصاخب، أظهروا قدرًا من الانضباط بينهم؛ فقد اصطفُّوا على الفور في صفٍّ واحد أمامنا ووقفوا يتطلَّعون إلينا بوجوهٍ مُترقِّبة. تقدَّم أحدهم، وكان الأطول والأكبر عمرًا بينهم، بتلكؤ فيه قدر من التعالي، كان من المُضحِك جدًّا أن يتمتَّع به مثل هذا الولد الهزيل زريِّ الهيئة.
قال: «لقد تلقيتُ رسالتك يا سيدي. وأحضرتهم معي في الموعد. ثلاثة شلنات ونصف الشلن مقابل التذاكر.»
قال هولمز وهو يناوله بعض العملات الفضية: «تفضَّل. فيما بعدُ يمكنهم أن يبلغوك بالتطورات؛ وأنت بدورك تبلغني إياها يا ويجنز. فلن أسمح بأن يقتحموا المنزل بهذه الطريقة. ومع ذلك، من الأفضل أنكم أتيتم حتى تسمعوا جميعًا التعليمات. أنا أريد معرفة مكان زورقٍ بخاريٍّ يدعى «أورورا»، صاحبه يدعى موردكاي سميث، والزورق لونه أسود بخطَّين أحمرَين ومدخنته سوداء وبها شريطٌ أبيض. إن هذا الزورق في مكان ما بالنهر. أريد أن يبقى أحد الأولاد عند مرسى موردكاي قبالة ميلبانك لإبلاغي حال عودة الزورق. قسِّموا عملية البحث بينكم، وفتِّشوا الضفتَين بدقة، وأبلغوني على الفور بأي تطورات. هل كلامي واضح؟»
قال ويجنز: «نعم أيها الزعيم.»
«سأُعطيكم الأجر المعتاد، وجنيهٌ مكافأة لمن سيجد الزورق، وهذا أجر يوم مقدَّمًا. والآن هيا انطلقوا!» أعطى كلًّا منهم شلنًا وانطلقوا ينزلون السلالم بسرعة ثم رأيتهم بعد لحظات يتدفَّقون في الشارع.
قال هولمز وهو ينهض من أمام الطاولة ويُشعل غليونه: «إذا كان ذلك الزورق على سطح الماء فسيجدونه حتمًا؛ فهم لديهم القدرة على الذهاب لأي مكان، ورؤية كل شيء، وسماع ما يدور بين الناس. أتوقَّع أن يُخبروني أنهم عرفوا مكان الزورق قبل أن يحلَّ المساء. وفي تلك الأثناء لا يسعنا إلا أن ننتظر النتائج؛ فلا يُمكننا التقاط طرف الخيط المقطوع حتى نجد الزورق «أورورا» أو السيد موردكاي سميث.»
«أعتقد أنه يُمكن لتوبي أن يأكل بقايا الطعام تلك. هل ستخلد للنوم يا هولمز؟»
«لا، لست متعبًا؛ فبِنيتي الجسدية غريبة؛ فأنا لا أذكر أني شعرت أبدًا بالتعب من العمل، مع أن الخمول يُرهقني تمامًا. سوف أُدخِّن وأفكِّر في تلك القضية الغريبة التي أتت إلينا بها عميلتي الحسناء. من المفترض أن تكون مهمَّتنا هذه أسهل ما يكون؛ فذوي الأرجل الخشبية ليسوا كثيرين، لكني أعتقد أن الرجل الآخر فريد من نوعه تمامًا.»
«الرجل الآخر مجددًا!»
«لا أريد أن أجعل منه لغزًا، على الأقل بالنسبة إليك. لكنك حتمًا كوَّنت رأيًا عنه، انظر إلى البيانات. آثار أقدامٍ صغيرة، وأصابع أقدام لم تُوضع قط داخل حذاء، وأقدامٌ حافية، والهراوة ذات الرأس الحجري، وخفَّة في الحركة، وأسهم صغيرة مسمَّمة؛ ماذا تستنتج من كل هذا؟»
صحتُ مندهشًا: «رجلٌ بدائي! ربما كان أحد شركاء جوناثان سمول الهنود.»
قال: «ليس صحيحًا، عندما رأيت آثارًا لأسلحةٍ غريبة ملتُ إلى اعتقاد ذلك، لكن طبيعة آثار الأقدام الغريبة دفعتْني إلى تغيير رأيي؛ فبعض سكان شبه الجزيرة الهندية هم رجال ضئيلو الحجم، لكن ليس لدرجة أن يتركوا أثار أقدام كتلك. فالهندوس الأصليون أقدامهم طويلة ونحيفة، والمسلمون منتعلو الخف يكون أصبع قدمهم الكبير بعيدًا عن الأصابع الأخرى، لأن سير الخف عادةً ما يمرُّ بينه وبينها. وهناك طريقة واحدة فقط لإطلاق هذه الأسهُم الصغيرة؛ لقد أُطلقت من قصبة نفخ. إذن أين نجد رجلنا البدائي هذا؟»
قلت مُخمِّنًا: «أمريكا الجنوبية.»
مدَّ يده لأعلى والتقط مجلَّدًا ضخمًا من الرفِّ، «هذا هو المجلد الأول من معجمٍ جغرافي يُنشر حاليًّا. ويمكن اعتباره أحدث مرجع، ماذا لدينا هنا؟ «جزر أندمان، تقع على بُعد ٣٤٠ ميلًا شمال سومطرة في خليج البنغال.» حسنًا! ما هذا كله؟ «مناخٌ رطب، وشعابٌ مرجانية، وأسماك قرش، ومدينة بورت بلير، وثكنات للمساجين، وجزيرة روتلاند، وأشجار الحور.» حسنًا! ها قد وصلنا: «يمكن اعتبار السكان الأصليين لجزر أندمان العرق الأضأل جسديًّا على الأرض، مع أن بعض علماء الأنثروبولوجيا يقولون إنَّ قبائل البوشمن الأفريقية، وقبائل هنود ديجر الأمريكية، وسكان تيرا ديل فويجو أكثر ضآلة. إن متوسط طول الفرد أقل من أربعة أقدام، مع أنه قد يوجد أفرادٌ بالغون طولهم أقل من ذلك بكثير. وهم شعبٌ شرس وغير ودود وصعب المراس، ومع ذلك لديه القدرة على تكوين علاقات صداقةٍ مُخلِصة عند كسب ثقته.» تذكر ذلك يا واطسون. والآن، استمع لهذا: «هم شعبٌ قبيح المظهر بطبيعتهم؛ فرءوسهم كبيرة وغير منتظمة الشكل، وأعينهم صغيرة وشرسة، وملامحهم مشوَّهة. أيديهم وأقدامهم صغيرة بشكلٍ ملحوظ. وهم قومٌ شرسون ومتوحِّشون، لدرجة أن جميع جهود المسئولين البريطانيين لكَسبِهم في صفهم فشلت تمامًا. طالما كانوا مصدر رعب لأطقم السفن الغرقى؛ حيث يَضربون رءوس الناجين منهم بهراواتهم ذات الرءوس الحجرية، أو يُطلقون عليهم أسهمهم المسمَّمة. وتنتهي هذه المذابح البشرية دائمًا باحتفال لأكل لحوم الضحايا.» يا لهم من أشخاصٍ لطفاءَ وودودين يا واطسون! لو تُرك ذلك الرجل ليتصرف على هواه دون تدخل، لاتخذت تلك القضية مَنحًى أفظع من ذلك بكثير. أعتقد أنه على الرغم من كل شيء، كان جوناثان سمول على استعداد لأن يُضحِّي بالكثير مقابل ألا يستعين به.»
«لكن كيف انتهى به الأمر بصحبة رفيقٍ فريد جدًّا كهذا؟»
«حسنًا، لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال. لقد أقررنا بالفعل أن سمول قد أتى من جزر أندمان؛ لذا ليس من الغريب أن يصحب معه أحد سكان الجزيرة. وبلا شك سنعرف جميع التفاصيل في الوقت المناسب. اسمعني يا واطسون، أنت تبدو مرهقًا جدًّا. تَمدَّدْ هنا على الأريكة لنرى إن كنتُ أستطيع مساعدتك على النوم.»
التقط كمانه من ركن الغرفة وحين استلقَيتُ، بدأ يعزف لحنًا هادئًا حالِمًا عذبًا، لا شك أنه من تأليفه؛ فلديه موهبةٌ فذَّة في الارتجال. أذكر بالكاد أطرافه النحيلة، ووجهه الجدي، وقوس كمانه وهو يعلو ويهبط. ثم شعرت وكأنني أطفو بعيدًا بسلام على صفحة بحرٍ هادئ من الأنغام، حتى وصلت إلى أرض الأحلام، ورأيت وجه ماري مورستان العذب ينظر إليَّ.