في انتظار الحوت!
كانت الساعة تقترب من الثالثة حين كان «أحمد» ينظر في المنظار المكبر … لقد مرَّ الوقت بطيئًا، وها هي الشمس تقترب شيئًا فشيئًا من المغيب … لقد أكد الزعيم رقم «صفر» أن السفينة قادمة، وستمر بالجزيرة قبل حلول الظلام … صَعِد «أحمد» فوق إحدى الكتل الصخرية، ثم وضع المنظار مرة أخرى على عينَيه، وراح يجوب الأفقَ كلَّه، ثم أخذ يكلم نفسه: ما هذا؟ ووقف يدقق النظر …
أهي أشباح تظهر وتختفي فوق سطح الماء؟ أتكون هذه هي السفينة؟ إنها غير واضحة، الضباب يلفُّها، لم يستطع «أحمد» أن يتبيَّنَ جيدًا ما هذا الذي يلوح ويختفي لأنه بعيد …
عاد مرة أخرى، واستلقى بجوار الشياطين … وصمت قليلًا، ثم قال: ربما تتأخر السفينة حتى حلول الظلام. انتبه «بو عمير»، وهبَّ جالسًا: كيف هذا؟
قال «أحمد»: أنا أقول ربما … لأن الساعة الآن الثالثة ومع ذلك لم نلمح أيَّ أثر للسفينة فوق ماء المحيط.
التفت «باسم»، وقال: ما زالت هناك خمس ساعات حتى يحلَّ الظلام …
نظر «أحمد» إلى المحيط، وقال وهو ينظر بعيدًا: كنا نتمنَّى أن تأتيَ الآن … ليكن … ليكن ما يكون.
مرَّت فترةُ صمتٍ ثم قال «رشيد»: لكن ماذا سنفعل في هؤلاء الأشرار في القلعة؟
ردَّ «أحمد»: هؤلاء كم نهبوا وكم خربوا … وكم خطفوا آلافًا من الأطفال والنساء وباعوهم في سوق الرقيق … ولم تقتصَّ منهم العدالة!
إنهم معنا الآن ورقةُ ضغط … إن مَن يراهم سيظنُّ أن «أوكارا» يتلهف شوقًا إلى وصول السفينة، ولن يصدق القادمون أن «أوكارا» أسطورة المحيط قد سقط بهذه السهولة …
قال «باسم»: لكن ألَا ترى أننا لم نجد لديهم سفنًا ولا قواربَ كبيرة … كلُّ ما لديهم كان عبارةً عن أربعة أو خمسة لنشات مطاطية …
قال «أحمد»: نعم … حتى يتحركوا في سرعة ويهاجموا في خفة … فلا تستطيع السفن ولا القوارب ملاحقتَهم …
وهنا تدخَّل «خالد» في الحديث وكأنه يتذكَّر شيئًا، فقال: فعلًا … ولقد قرأت منذ فترة عن عصابة من القراصنة هاجمَت باخرة في أحد المضايق … وقتلوا ما يقرب من ثلاثين بحارًا من بحارتها، ونهبوا ما كان معهم من مالٍ وكل ما خفَّ حمْلُه وغلَا ثمنُه، وكل ذلك في قوارب صغيرة!
ردَّ «أحمد»: لقد قرأتُ شيئًا كهذا فعلًا … وإنه لشيء مؤسف حقًّا … إن هؤلاء يجب أن يعاقبوا … لكن من المؤسف حقًّا أن بعض الحكومات تهابهم وتتركهم يعيثون في الأرض فسادًا.
كانت الساعة تقترب من الرابعة حين وقف «أحمد»، وأمسك بالمنظار المكبر، وجعل ينظر في الأفق … وسرعان ما قال: الآن بدَا كلُّ شيء واضحًا … الحوت قادم … انظروا …
وقف الشياطين وتناوبوا النظر من خلال المنظار المكبر، ثم قال «باسم»: الآن فقط تبدأ المغامرة الحقيقية اليوم سيرون مَن المنتصر: الشياطين أم القراصنة؟
طلب «أحمد» من الشياطين أن يجلسوا حتى يعدُّوا الخطة لشلِّ حركة السفينة. ثم قال «أحمد»: طبعًا مفهوم لديكم أننا نريد السفينة سليمة لأجل الأرواح التي عليها، وبناءً على ذلك تعاملُنا سيكون مع القراصنة، أمامنا طريقتان للتعامل معهم؛ الأولى أن نهاجمَ السفينة ونتعامل معهم … وهذه مخاطرة كبيرة … والثانية هي أن ننتظر حتى يأتيَ بعضُ القراصنة إلى القلعة لإعطاء التمام لزعيمهم «أوكارا» … في هذه اللحظة سنكون مقسمين إلى فريقين: فريق سيستقبل اللنشَ الخاصَّ بالقراصنة ويذهب إلى حيث كان اللنش، والفريق الثاني سيبقى هنا لنصنع كماشةً حول القراصنة حين ينزلون إلى البر، وبعد ذلك سيكون من السهل الوصول إلى السفينة حيث ستكون خالية إلا من عدد قليل من الحراس.
والآن «خالد» و«باسم» و«قيس» سيستقلُّون اللنش الخاص بالقراصنة، ويتوجهون إلى نقطة المواجهة، وسأبقى أنا، و«بو عمير»، و«رشيد» في نقطة المواجهة «٢». وبدأ الشياطين يتحركون لاتخاذ أوضاع الهجوم.
كانت السفينة تتحرك وتشقُّ الماء قادمةً إلى الجزيرة … وكان أحدُ القراصنة قد اعتلى السارية الأمامية، وراح ينظر في منظاره المكبَّر، ثم أخذ يصيح: هنا … هذا هو «أوكارا» العظيم ينتظرنا فوق القلعة … ها ها ها. لقد نجحنا ولقد وصلنا … نحن ملوك المحيط …
كانت النساء تبكي ويزيدْنَ في البكاء كلما اقتربت السفينة من الجزيرة … وكان كثير من الأطفال يبدون في حالة كئيبة رثة لا يفهمون شيئًا مما حدث.
لقد كان على ظهر السفينة عشرة من القراصنة ذوي الوجوه القبيحة والشعور الطويلة الرثَّة القذرة … لقد كانوا يُشبهون الحيواناتِ المفترسة … كانوا في حالة هستيرية حين رأوا الجزيرة، وراحوا يغنون ويرقصون على ظهر السفينة.
اقتربت الساعة من الخامسة والنصف وأصبحت السفينة قريبة من شواطئ الجزيرة، ثم أخذَت طريقها باتجاه الشمال مقتربةً من اللسان الصخري … ثم أخذَت تُهدِّئ من سرعتها حتى توقَّفَت، ألقَت المرساة في الماء … مضَت لحظات ثم ظهر بجوارها لنشٌ مطاطيٌّ به أربعة من القراصنة، بدأ يتحرك تجاه الشاطئ مقتربًا في اتجاه القلعة … كان «خالد» وصديقه يتربصان قريبًا من الشاطئ حتى إذا اقترب اللنش وأصبح أمامهم.
سارع «خالد» بالوقوف ثم أمرهم بالتوقف والاستسلام … لكن القراصنة لم يستجيبوا وكأنهم لا يصدقون ما يحدث، ثم أمعنوا النظر، فوجدوا أن الأمر فعلًا حقيقيٌّ، في تلك اللحظة دوَّت طلقاتُ الرصاص واستداروا للخلف …
لكن «خالد» قد انطلق وراءهم تجاه السفينة. وكان «أحمد» قد أقبل من الناحية الأخرى مندفعًا تجاه لنش القراصنة، وأصبح اللنش بينهما كالفأر بين مخالب القط … وراح يدور هنا وهناك والقراصنة يُطلقون الرصاص في كل اتجاه …
أوقف «أحمد» اللنش في الوقت المناسب، وراح يصوِّب طلقات المدفع الرشاش تجاه القراصنة، فأسقط منهم ثلاثة في الماء … وكان «خالد» يدور حولهم في مناورة وحصار حتى لا يُفلتوا من قبضتهم …
ورفع «خالد» البندقية وصوَّبها تجاه قرصان من القراصنة، فطار في الهواء ثم سقط في الماء … ولقد كانوا يتساقطون كالبط.
بقيَ اللنش فيه واحد من القراصنة، وبدَا كالذي أصابه حالةٌ من الهستيريا، فاندفع باللنش تجاه «أحمد» ورفيقه في عملية انتحارية يريد أن يصطدم بهم ليفجرَ اللنش بهم … لكن الشياطين كانوا قد فهموا الإشارة فتركه «أحمد» حتى اقترب منهم، ثم ضغط على زراع المحرك بقوة، فاندفع اللنش للأمام كالسهم، وانطلق اللنش الآخر في الناحية الأخرى، لكن «أحمد» صوَّب إليه عدةَ طلقات من الخلف، فانفجر جانبٌ من اللنش وأصابَت الطلقةُ خزانَ الوقود، فانفجر وتطايرَت قطعٌ من اللنش، وتحوَّل سطح المحيط إلى جحيم، وتحرَّك الشياطين تجاه السفينة التي كانت قد بدأت تستدير لتهرب … فقد رأى القراصنة الباقون ما حل بزملائهم فعزموا على الهروب … وأحاط الشياطين بالسفينة … لكن القراصنة استقبلوهم بدفعات من طلقات الرصاص … لم يستطع الشياطين أن يردوا عليهم … لأن القراصنة كانوا يستخدمون من الأطفال دروعًا بشرية يحتمون بها … وكان على الشياطين أن يتحركوا سريعًا لمواجهة هذا الموقف الصعب …
كانت الشمس قد بدأَت تختفي وراء السحب المتكاثرة … وقفزَت فكرةٌ إلى ذهن «رشيد» … فطلب من «أحمد» أن يُطلق عدة أعيرة نارية تُشغل القراصنة حتى يقفز إلى الماء ثم يغطس حتى يصل إلى السلم الجانبي للسفينة ويحاول أن يتسلَّقَه.
وفعلًا قام «أحمد» بإطلاق عدة أعيرة نارية فوق سطح السفينة ليُشغل بها القراصنة … ثم قفز «رشيد» بهدوء إلى الماء، واختفى وظل غاطسًا تحت الماء، بينما راح «أحمد» يُطلق النيران مبتعدًا وهو يتجه إلى مقدمة السفينة …
وصل «رشيد» إلى السفينة وحاول أن يصل إلى السلَّم، لكنه كان مرتفعًا بعيدًا عن متناول يده، فوجد قطعة من الحبال تتدلَّى قريبًا من السلم، فأمسك بها ثم بدأ يتعلق بها حتى اقترب من السلم وأمسك به في خفة، ثم راح يتسلل عليه صاعدًا لأعلى السفينة … حتى وصل إلى السطح … وفي هذه اللحظة اندفع إليه أحد القراصنة وفي يده قطعة كبيرة من الحديد ليضربه بها، فسقط «رشيد» على الأرض، فهوى الرجل على جانب السفينة، فحمله «رشيد» وألقى به في الماء … ثم جرى للأمام ليُشغل القراصنة ويحول المعركة إلى ظهر السفينة حتى يجد الشياطين فرصةً للصعود إلى ظهر السفينة …
وتحرَّكَت كتلةُ البشر على ظهر السفينة، وأحسَّ القراصنة أن شيئًا ما يحدث على ظهر السفينة فهرع بعضهم متجهًا للخلف، فرأى «رشيد» يتخلل كتلة البشر … وانشغل القراصنة به مما أعطى الفرصة ﻟ «أحمد» ورفاقه أن يقتربوا من السفينة، وأمسك «بو عمير» بالسلَّم وصَعِد باقي الشياطين، وابتدأَت معركةٌ فاصلة لتضعَ النهاية لهذه المأساة.
كان القراصنة يختبئون خلف ظهور الأطفال ويحتمون بهم، مما جعل مهمة الشياطين صعبة، خصوصًا حين بدأ كثيرٌ من الأطفال والنساء في الصراخ … كان على الشياطين أن يدفعوا القراصنة لمقدمة السفينة حتى يتمكنوا منهم … وبدأ الشياطين يضيقون الخناق على القراصنة، فاندفعوا لمقدمة السفينة … وصَعِد أحد القراصنة إلى إحدى السواري وتعلَّق بأحد الأحبال الذي رُبط من طرفه في قطعة خشبية كبيرة فتعلَّق به القرصان ليجعل منه أرجوحة يهجم بها على الشياطين من أعلى …
لكن «خالد» كان قد تسلل من ورائه وصَعِد السارية القريبة منه، وحين اندفع الرجل بالحبل، أخرج «خالد» خنجرَه وقطع به الحبل في لمح البصر، فاندفع الرجل بالحبل وقطعة الخشب إلى البحر، ثم قفز «خالد» بقوة فوق غرفة القيادة، ثم هوى بقدمَيه فوق أحد القراصنة، فاندفع بقوة وارتطم بالسفينة … فرفعه «خالد» وحمله بقوة ثم ألقى به إلى البحر …
واندفع الشياطين هنا وهناك يتتبعون ما بقيَ من القراصنة … فجرى أحد القراصنة وقفز إلى إحدى اللنشات وأدار محرِّكَه ليفلت به ويهرب، وفعلًا تحرَّك به بعيدًا عن السفينة … لكن «أحمد» كان قد صوب إليه طلقة صائبة فأسقطَته في الماء وبقيَ اللنش مندفعًا، وحين كان الشياطين يتابعون اللنش وهو مندفع في الماء لمحوا على البُعد عشرات القوارب واللنشات …
لقد نقل الحاج «أحمد جوهر» الخبرَ إلى حاكم الجزيرة الذي أرسل قواته على الفور، وأقبل عشرات الصيادين في قواربهم يتجهون نحو السفينة … وتحرَّكت القوارب في موكب عظيم حتى أحاطَت بالسفينة، ثم اقترب أحدُ القوارب وأمسك أحد الرجال بالسلم، ثم صَعِد أحد الرجال. لقد كان الحاج «أحمد جوهر» الذي كان أولَ شخص يصعد السفينة، ثم توالى بعد ذلك صعودُ قوارب حرس الحدود ثم بعض الصيادين، واطمأنَّ الحاج «أحمد جوهر» على الشياطين وعلى الأسرى، وجاء قائد الحرس يسأل الشياطين عن باقي أفراد العصابة، فأشاروا إلى القلعة وأخبروه أن زعيم العصابة «أوكارا» وثلاثة من رجاله محبوسون في قلعتهم ينتظرون الموت بعد نصف ساعة.
فسأله القائد: ولماذا بعد نصف ساعة؟
ردَّ «أحمد»: لأننا وضعنا قنابل موقوتة تحت جدران القلعة حتى لا تكونَ دافعًا لأحد أن يستغلَّها بعد ذلك …
أمر القائد جنوده أن يستعدوا للإقلاع إلى الجزيرة … ثم دوَّت في الأفق دقاتُ الطبول تُعلن فرحةَ الجميع … واتجهت السفينة إلى الجزيرة … وبعد دقائق … تحولت القلعة إلى ذرات متناثرة في الفضاء … وتحول ليل الجزيرة إلى نهار … وأدار الجميع رءوسهم إلى الجزيرة ليشهدوا مصرعَ «أوكارا» ونهاية الشر في المحيط، وسقوط عصابة القراصنة … بينما كانت السفينة ترقص على صفحة الماء عائدة إلى ميناء «موروني»، ويُسدل الستار إلى الأبد على أسطورة «أوكارا».