بالرغم من تعدد — بل وتباين — الحقول المعرفية التي تنتمي إلى مجال خطاب ما، فإنه
—
وانطلاقًا من الوَحدة البنيوية لكلٍّ من العقل والخطاب — يصعب تمامًا تصور أي ضرب
من
القطيعة بين هذه الوَحَدات المعرفية المتباينة التي تنتمي إلى فضائه. فالخطاب، كمفهوم،
إنما
يحيل إلى وَحدة كبرى تلتئم تحتها وَحَدات جزئية أصغر تستمد كامل المعقولية والقابلية
للتفسير من انتظامها ضمن فضاء تلك الوحدة الكبرى، التي هي الخطاب. وإذا كانت هذه الوحدات
الصغرى تتجاوب وتترابط فيما بينها كاشفة بذلك عن وحدةٍ مجاوزة لها هي التي تؤسس لحضور
الخطاب؛ فإن هذه الوحدة ذاتها هي ما يوفر نظام المعقولية الذي يستحيل لهذه الوحدات
أن تتمتع
بأي وجود — أو بالأحرى حضور — ذي معنًى خارجه. إذ هو الحضور هنا، لا بالمعنى الأُنطولوجي،
بل بالمعنى المعرفي الإبِسْتيمي الذي يتحدد حضور الشيء فيه بمدى قابليته للاندراج
في نظامٍ
ما للمعقولية. وابتداءً من أن كل واحدة من هذه الوحدات الجزئية لا بد أن تعكس، ضمن
حدود
انبنائها الخاص، نظام المعقولية الذي تسبح في فضائه، والذي ينعكس بالقدر نفسه في البناء
الخاص لما يناظرها من وحدات تسبح بدورها في ذات الفضاء؛ فإن ذلك يحيل إلى إمكان قراءة
الواحدة من هذه الوحدات بالأخرى.
وإذ يمكن المصير — ابتداءً من كل ما سبق — إلى اعتبار الخطاب الأشعري هو بمثابة الوحدة
الكبرى في التحليل، فإنه يستحيل تصور وحداته الجزئية إلا كانتظامات داخل نظام المعقولية
المؤطِّر لحدود هذا الخطاب. وإذ يحيل نظام المعقولية المؤطِّر للخطاب — أي خطاب —
إلى وحدة
المجال المعرفي الذي تنبني داخله وحدات هذا الخطاب الصغرى، فإن ذلك لا بد أن يتأدَّى
إلى أن
تلك الوحدات الصغرى إنما تتجاوب فيما بينها في الكشف عن هذا المجال المعرفي الواحد.
وإذا
كان يمكن التمييز، فيما يتعلق بالخطاب الأشعري، بين مستويين من الحضور؛ وأعني بهما
مستوى
الحضور النوعي في إطار الحقل المعرفي للعقائد الذي انبنى الخطاب داخله، ثم المستوى
الأعم من
الحضور في إطار الثقافة التي حقق هيمنته كاملة عليها، فإن ذلك يفرض لزوم التمييز بين
ضربين
من الوحدات الصغرى التي تحقق حضور الخطاب. فإذ تكون علومًا بأسرها، كالتفسير والحديث
والفقه
والتاريخ واللغة والبلاغة، هي الوحدات الصغرى التي تحقق الحضور الأعم للخطاب الأشعري
على
صعيد الثقافة، فإن مسائل العقائد الجزئية، من قبيل الذات والصفات والأفعال والنبوَّات
والإمامة وغيرها، هي التي تحقق الحضور النوعي للخطاب في العقائد. وإذا كانت كل هذه
الوحدات
الصغرى، سواء كانت علومًا بأسرها أو مجرد مباحث جزئية، تكشف عن وحدة المجال المعرفي
الأشعري، فإن ذلك يحيل إلى إمكان الانتقال من القول الأشعري في الأُنطولوجيا التي
تمثل وحدة
صغرى في الخطاب، إلى بناء القول في السياسة التي جاء القول فيها مضمرًا — بالرغم من
كونها
وحدة مؤسسة — داخل نفس الخطاب. والحق أن هذا الانتقال لا يبدو ممكنًا فقط ابتداءً
من
انبنائهما ضمن فضاء نفس الخطاب، بل وضمن نفس الأفق التاريخي؛ وبما يعنيه ذلك من أن
هذا
الانتقال لا يكتفي بأن يجد منطقه ضمن حدود المعرفي، بل وأيضًا ضمن حدود التاريخي.
فما يئول
إليه الخطاب على الصعيد المعرفي من إمكان هذا الانتقال (بما يحيل إليه من انسراب مفهوم
الخرق والفوات من الأُنطولوجي إلى السياسي)، تكاد تنتهي الممارسة السياسية التي انبنت
على
غياب القانون، إلى تحقيق حصوله على الصعيد التاريخي. ولعله يستحيل من دون إمكان ذلك
الانتقال تفسير بعض الإرباكات التي ينطوي عليها البناء الأُنطولوجي الأشعري، والتي
تكاد تجد
ما يجعلها قابلة للفهم داخل البناء السياسي بالذات. ومن هنا فإن ما يبدو من أن الأُنطولوجي
هو ما يحدد السياسي؛ وبما يعنيه ذلك من أولويته عليه، لا يحيط بطبيعة العَلاقة بينهما،
والتي يبدو فيها وكأن الأُنطولوجي يتحدد بالسياسي أيضًا، وإلى حد أنه يجد كامل دلالته
ومعناه في حضوره.
وإذ يحيل ذلك إلى أن البناء السياسي يمكن أن يكون هو الإطار الذي يجري التفكير في
الأُنطولوجي بحسب قواعده المسكوت عنها في الخطاب، على الرغم من فاعليتها الكاملة في
الواقع،
فإن ذلك ما تؤكده حقيقة أن أُنطولوجيا الخرق والفوات الأشعرية لا يمكن فهمها، أو حتى
التفكير فيها، بمعزل عن بناء سياسي يقوم كليًّا على سطوة الخرق والفوات. وهنا يصار
إلى أنه
إذا كان أهم ما يتأدَّى إليه مفهوم المجال المعرفي أنه يعيِّن حدود القابل وغير القابل
للتفكير؛ وبما يعنيه ذلك من أن شيئًا لم يفكَّرْ به بالفعل ضمن مجالٍ معرفي ما، إلا
أنه
يكون قابلًا للتفكير فيه ابتداءً من دورانه في فلك هذا المجال وانضوائه تحته، فإنه
يمكن
القطع بأن قولًا أشعريًّا في السياسة بحسب قاعدة الخرق والفوات وانقلاب الحال، هو
مما يدخل
في إطار القابل للتفكير فيه بالطبع. وليس من شك في أن قابلية التفكير في السياسة بحسب
تلك
القاعدة إنما يتأتى ابتداءً من اشتغالها (أي هذه القاعدة) في معظم الوحدات الصغرى
المنضوية
تحت سقف الخطاب الأشعري، وإلى حد ما يبدو من أنها تكاد تحدد مجاله المعرفي كليًّا.
وانطلاقًا من نفس مفهوم المجال المعرفي فإنه يمكن المصير إلى أن فكرة الطبع؛ التي
تؤسس
للأُنطولوجيا المعتزلية المبكرة عند أصحاب الطبائع بالذات، لا تقبل الفهم — بما تنطوي
عليه
من السعي إلى ترسيخ فكرة عالم ينتظمه القانون على الرغم من كونه مخلوقًا لله — خارج
سعي
المعتزلة إلى بناء عالم سياسي أكثر انضباطًا وعدالة. إن ذلك يعني أن تصور المعتزلة
لعَلاقة
الله بالإنسان تنضبط بقانون العدل؛ وبما يعنيه ذلك من ضرورة أن تنضبط عَلاقة الحاكم
بالمحكوم، في المجال السياسي، بحسب نفس القانون، إنما يحدد طبيعة تصورهم لعَلاقة الله
بالعالم الطبيعي تنضبط بقانون الطبع.
وهكذا فإن انبناء السياسة بحسب العدل يحدد انبناء الطبيعة بحسب قانون الطبع، ومع إمكانية
الانعكاس بالطبع. وبالرغم من تناقض ما يترتب على فرض قانوني العدل والطبع، كلٍّ في
ميدانه؛
وأعني من حيث ما يترتب على قانون العدل من ضرورة الإرادة والاختيار في العالم الإنساني،
في
مقابل ما يترتب على قانون الطبع من اللزوم والحتم في المجال الطبيعي، فإنهما يتماثلان
في
التكشف عن جوهرية مفهوم القانون. فإن أفاد قانون العدل والحرية في إنقاذ الإنسان من
براثن
الجبر بما يعنيه من إهدار القانون والمعنى في الدين والأخلاق، فإن قانون الطبع والحتمية
قد
أفاد في إنقاذ العالم الطبيعي من فوضى الانقلاب والخرق والفوات. وإذن فإن السعي إلى
فرض
وترسيخ مفهوم القانون، في كلٍّ من عالَمَي السياسة والطبيعة، هو ما يجمع بين مفهومَي
العدل
والطبع؛ وبما يعنيه ذلك من تجاوبهما الكامل داخل النظام المعرفي المعتزلي، وذلك بمثل
ما هو
التجاوب قد تبدَّى كاملًا أيضًا بين الخرق والفوات في كلٍّ من الطبيعة والسياسة داخل
النظام
الأشعري. وإذا كان تعيين كُنْه فعل الوعي وماهيته لا ينفصل عن طبيعة بناء العالم،
فإن ذلك
يحيل إلى ضرب أعلى من التجاوب بين بناء العالم (الفيزيقي والسياسي) من جهة، وبين بناء
الوعي
من جهة أخرى.
من بناء الوعي إلى بناء العالم وتصوره
إذا كان قد بدا أن سعيًا للانفلات من سطوة الأشعرية هو مما يستحيل تمامًا إلا عبر
مقاربة لها، تتجاوز مضمونها ومحتواها (وقد بدا أن نقدهما أو حتى تقويضهما لا يمنع
من
إعادة إنتاجها) إلى صميم بنيتها ونظامها الأعمق، فإن نقطة البدء في هذه المقاربة
لا بد
أن تنطلق من ضرورة الإحاطة ببناء فعل الوعي داخلها (أي الأشعرية)، ليس فقط لأن بناء
الوعي هو نقطة البدء في بناء النظام الأشعري بأسره
١ بل ولأن طبيعة تصوره قد انعكست بقوة على بناء معظم العناصر الجزئية التي
تشكل مجمل المنظومة الأشعرية.
ولعل أول ما يمكن ملاحظته هنا أن التصور الأشعري لمفهوم الوعي يكاد أن يقف به عند
حدود كونه مجرد نوع من الاستدلال الفقير الذي يقتصر عمل الوعي ضمنه على مجرد «الإحاطة
بوجه تعلق الدليل بمدلوله.»
٢
فإذ العلم (الذي جرى التنويه بأن المقصود به طرائق وآليات إنتاجه، أو فعل الوعي،
وليس
أبدًا مضمونه) ينقسم — حسب الأشاعرة — إلى علم ضروري وآخر نظري، فإن تعريفهم للعلم
الضروري بأنه «علم يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه معه الخروج عنه، ولا الانفكاك
منه،
ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به. وحقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما
أُكره
العالِم به على وجوده لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل والإكراه والإلجاء»
٣ يكاد يخرج بهذا الضرب من العلم عن حدود مفهوم الوعي من حيث هو نشاط وفاعلية
للعقل (يمارس خلالها ضروبًا من التحليل والتركيب والتجريد والتصنيف والمقارنة وغيرها)،
بينما الإدراك يكون — بحسب هذا التصور للعلم الضروري — معزولًا عن أي فعالية إنسانية
ابتداءً من أنه «مما أُكره العالِم به على وجوده»، ومن غير أن يمكنه «الخروج عنه،
أو
الشك في متعلقه.» وفي المقابل، فإن تعريف العلم النظري بأنه «ما احتِيجَ في حصوله
إلى
الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة، ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه»
٤ يكاد يطابقه مع مفهوم الوعي على نحو كامل؛ وأعني من حيث يبدو نشاطًا للعقل
تتجلى فيه فعاليته عبر الفكر والروية والنظر والشك وغيرها. ومن هنا فإن حدود هذا
العلم
النظري — وليس الضروري — تمثل المجال لأي سعي إلى اكتناه طبيعة فعل الوعي وحدوده
في
النظام الأشعري. فإذ يخرج العلم الضروري عن كونه مقدورًا للإنسان لأنه «يلزم نفسه
لزومًا لا انفكاك منه»، وبالتالي فإنه ليس ثمة من فاعلية للإنسان ضمنه أبدًا؛ فإن
للإنسان — في إطار العلم النظري — «قدرة محدثة عليه»
٥ وبالطبع فإن هذه القدرة، أيًّا كان مُحدثها، هي السمة الجوهرية للوعي من
حيث هو نشاط وفاعلية للإنسان، لكنه يبقى أن ما صارت إليه الأشعرية من اختزال هذا
العلم
النظري في مجرد الاستدلال — انطلاقًا من «أن كل ما عدا «العلم الضروري» هو علم استدلال»
٦ — كان لا بد أن يئول إلى إفقار مفهوم الوعي، أو حتى إهداره، على نحو
كامل.
فإذ الاستدلال «هو نظرُ المستدِل في الدليل وطلبُه به عِلمَ ما غاب عنه،
٧ فإن ما صاروا إليه من «أن الدليل هو ما أمكن أن يُتوصَّل بصحيح النظر فيه
إلى ما لا يُعلَم باضطرار»
٨ إنما يكشف عن تمييز أشعري في «النظر» بين صحيح وفاسد؛
٩ وهو التمييز الكاشف، بدوره، عن أن النظر ليس أبدًا فاعلية حرة، بقدر ما هو
فاعلية مقيدة ومشروطة بشيء خارجها. إذ الحق أن معيار صحة النظر أو فساده لا يقوم
داخله،
أو يرجع إلى علة في ذاته، بقدر ما يقوم هذا المعيار خارجه؛ وأعني فيما ينتجه ويفضي
إليه. فإذ مضى «الجويني» إلى أن «أول ما يجب على العاقل (هو) القصد إلى النظر الصحيح
المفضي إلى العلم بحدوث العالم»
١٠ فإنه كان يحدد ماهية النظر الصحيح بأنه المفضي إلى العلم بخَلق العالم
وحدوثه؛ وهو الأمر الذي يلزم عنه أن النظر إذا أفضى إلى القول بما يضاد خلق العالم
وحدوثه يكون نظرًا فاسدًا لا محالة، وعلى نحو يكون فيه ما يئول إليه النظر علمًا
بحدوث
العالم أو قولًا بقِدَمه هو الأصل في صحته أو فساده؛ وبما يعني أن القيمة (صحةً أو
فسادًا) تضاف إلى النظر بما هو فعل معرفي من شيء خارجه. وأعني من نوع المضمون المعرفي
الذي يُفترض أن هذا الفعل يثبته وينتهي إليه؛ حيث المضمون الذي يئول إليه النظر يبقى
خارجيًّا بالنسبة له (أي النظر) كفعل. وإذا كان ذلك مما يتفق مع حقيقة أن «القيمة»
تضاف
أبدًا من الخارج في النسق الأشعري، لأن شيئًا في هذا النسق لا يتعين بذاته أو يتقوم
بنفسه؛ فإنه يبقى أن ذلك الشيء من الخارج الذي يحدد ماهية النظر أو فعل الوعي، ويضفي
عليه نوع قيمته لا يكون، هو نفسه، نتاجًا للوعي في الحقيقة، بل إنه يبدو — حسب الأشاعرة
— مرتبطًا بما يسبق الوعي ويتخطاه، بل ويفرض نفسه عليه موجهًا ومحددًا لكيفية اشتغاله.
إن ذلك يعني أن الوعي لا يجد نفسه، فحسب، في مواجهة «دليل» لا يملك بإزائه إمكانية
أن
يستدل منه على نحو غير مشروط، بل إنه يجد نفسه أيضًا في مواجهة «المدلول» الذي ليس
من
عمل للوعي بإزائه إلا العثور على وجه الدلالة عليه من الدليل؛ حيث «النظر الصحيح
— على
قول الجويني — هو كل ما يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل.»
١١ والغريب حقًّا أن إمكانية العثور على هذا الوجه (الذي يدل منه الدليل على
المدلول) لا تقوم — حسب الأشاعرة — إلا مع العلم المسبق بالمدلول؛ لأنه «لما كان
للدليل
وجه يقتضي العلم، لم يُتصور العثور عليه إلا مع العلم بالمدلول.»
١٢ ويعني بعبارة أصرح أنه «لا يُتصور ثبوت الدليل من غير ثبوت المدلول (أولًا)،
١٣ وبالطبع فإن مثل هذا العلم المسبق أو القبلي
(
Priori) بالمدلول (الذي يوجه الوعي للعثور على
الوجه الذي يدل منه الدليل عليه) لا يمكن أن يكون من الوعي، بل من شيء يتجاوزه ويتخطاه
ويفرض نفسه عليه، وليس من شيء أبدًا يسبق الوعي ويتخطاه — حسب الأشاعرة — إلا السمع
أو
النقل. وإذن فإنه العلم من مصدر مفارق يفرض نفسه على الوعي ويوجهه كليًّا. ولعل هذه
الهيمنة على النظر أو الوعي تبلغ مداها بما جرى المصير إليه من أن «النظر الموصل
إلى
المعارف واجب، ومُدرَك وجوبه الشرع.»
١٤ وبما يعني أن أمر الهيمنة على الوعي لا يقف عند مجرد تحديد كلٍّ من مضمونه
وكيفية اشتغاله، بل ويتجاوز إلى حد تقرير وجوب هذا الاشتغال ذاته. والحق أن ارتهان
الوعي لهذا الذي يجاوزه يتجلى صريحًا فيما صار الأشاعرة إليه من أن إفادة النظر للعلم
إنما تتأتى من أن «الله تعالى يخلق العلم عَقِيب تمام النظر بطريق إجراء العادة،
أي
تكرار ذلك دائمًا من غير وجوب، بل مع جواز ألا يخلقه على طريق خرق العادة لاستناد
جميع
الممكنات إلى قدرة الله تعالى واختياره ابتداءً، وأثر المختار لا يكون واجبًا. وافترق
أهل هذا المذهب فرقتين: فمنهم من جعله (أي العلم) بمحض القدرة القديمة، من غير أن
تتعلق
به قدرة العبد، وإنما قدرته على إحضار المقدمتين وملاحظة وجود النتيجة فيهما بالقوة.
ومنهم من جعله كسبيًّا مقدورًا
١٥ (على طريقة الكسب الأشعري الذي لا يفارق فيه الفعل كونه خلقًا من الله
وكسبًا من الإنسان). وهكذا فإن عَلاقة الوعي بما يفضي إليه من العلم هي أيضًا مما
يقبل
الفوات والخرق؛ وبما يعني أنها عَلاقة هشة ولا تنطوي على أي ضرورة ابتداءً من أن
العلم
إنما يحصل عَقِيب النظر أو حتى معه، وليس أبدًا بسببه، لأن النظر — أو فعل الوعي
— «لا
يولِّد العلم ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها.»
١٦ ومن هنا فإن «معنى تضمُّن النظر للعلم، أنهما بحال لو قُدِّر انتفاء مضاد
العلم، لم ينفك النظر الصحيح عنه (يعني عن العلم) من غير إيجاب أو توليد، مع أنه
لا
يحصل إلا معه.»
١٧ وإذ يرتبط هذا الإقصاء للإيجاب والضرورة عن عَلاقة الوعي أو النظر بما
يتعلق بهما من العلم، بإدراج كل ما يحصل عَقِيب فعل النظر أو معه ضمن فئة الممكنات
«التي تستند جميعًا إلى قدرة الله واختياره»؛ فإن ذلك يعني أن العلم المتحصِّل عقب
النظر إنما يجد ما يؤسسه — حسب الأشاعرة — في مجرد الإرادة المتعالية لله، وليس أبدًا
في تعلقه بفعل النظر أو الوعي. وفضلًا عما يتكشف عنه ذلك من صورية الوعي وهشاشته،
فإنه
يبقى أن هذا التصور لعَلاقة الوعي بمتعلَّقه تنبني على قاعدة الخرق والفوات، سوف
يتجاوب
على نحو كامل، مع ما سيكشف عنه التحليل — لاحقًا — من تصور الخرق والفوات ينتظم بناء
كلٍّ من العالم الطبيعي والعالم السياسي عند الأشاعرة. وإذ يحيل ذلك إلى أن بناء
الوعي
عند الأشاعرة يعكس، ثم ينعكس (هو نفسه) في بناء كلٍّ من العالمَين الطبيعي والسياسي؛
وأعني من حيث إن الخرق والفوات ينتظم بناءها جميعًا، فإنه يكشف عن الانتظام البنيوي
لكل
عناصر العالم الأشعري بحسب قاعدة الخرق والفوات التي يستحيل معها أن يشتغل قانون
أو
تحضر ضرورة.
وهكذا يئول النظام الأشعري، لا إلى مجرد الإفقار الكامل للوعي؛ وأعني من حيث تكريس
تبعيته لمصدر مفارق، بل وإلى ما يشبه نفيه وإلغاءه، لأنه لو أحدث الله السموات والأرض
ولم يُحدِث عاقلًا ينظر ويستدل، فلا تخلو الحوادث إما أن تكون أدلة مع انتفاء المستدلين
أو لا تكون أدلة، فإن لم تكن أدلة وجب أن لا تدل أيضًا عند وجود العقلاء، إذ من
المستحيل انتفاء صفة نفس في حالٍ وثبوتها في أخرى»؛
١٨ وبما يعني أن كينونة الدليل غير مشروطة بحضور العقلاء، بل إنها تكون قائمة
(أعني أُنطولوجيًّا) حتى في حال غيابهم وانتفاء وعيهم. ولكن ذلك لا يعني أبدًا إضفاء
أي
قيمة على الدليل في معية المدلول وبإزائه؛ حيث «الدليل لا يتضمن المدلول … لأنَّا
لو
قلنا إن العالم يدل على الصانع سبحانه وتعالى، لزمَنا أن نقول إنه يتضمنه ويقتضيه
ويوجبه، وذلك مستحيل، إذ الباري سبحانه غير مُقتضًى ولا موجَب … (وإذن) فإن الدليل
يتعلق بالمدلول ولا يتضمنه، والإحاطة بوجه تعلق الدليل بمدلوله يتضمن العلم، وهذا
لا
يتضمن رجوع العلم والتعلق إلى الدليل.»
١٩ إذ الدليل مجرد أمارة أو إشارة — بحسب الباقلاني
٢٠ — يُتوصل بها إلى ما وراءها (أعني المدلول)، والأمارة من حيث هي مجرد أداة،
لا يمكن أن تكون أساسًا للعلم، بل العلم يرجع إلى ما يقوم وراءها. وبالطبع فإنه ليس
من
شيء يقوم وراءها إلا ما تدل عليه، أو المدلول (الذي هو «الله» هنا)، والذي لا بد
أن
العلم وتعلُّق الدليل به يرجعان إليه وحده.
وإذن فإنه الإفقار للدليل — الذي هو العالم الحادث بالطبع، والذي لا يرجع إليه العلم،
تمامًا كما أنه لا يرجع للوعي الذي تم إفقاره أيضًا — هو جوهر ما ينتهي إليه النظام
الأشعري. والحق أن كون العلم لا يرجع — هكذا — إلى أيٍّ من الدليل (العالم) أو نظر
المستدل (الوعي)، إنما يحيل إلى الأولوية المطلقة للمدلول (وهو المطلق خارج العالم)
الذي يترفع ضمن سياق عَلاقة مع الدليل (العالم) والمستدل (الوعي) تنبني على نفي أي
حضور
فعال لهما؛ وأعني من حيث يتحدد وضع العالم داخل هذه العَلاقة — على فرض أنها حقًّا
عَلاقة — كمجرد دليل أو أمارة، فيما يتحدد عمل الوعي في مجرد الإحاطة بوجه تعلُّق
هذه
الأمارة بالمدلول أو الصانع سبحانه. ومن هنا فإن الوعي، في كليته، لا يتجاوز في عَلاقته
مع العالم حدود الانشغال ببيان وجه دلالته على ما يتجاوزه، وليس بالكشف عن قوانين
كامنة
تفسره وتنكشف دلالتها ضمن حدوده.
٢١
وإذا كان توظيفًا لمفردات الأصول (والعلم الذي تسيَّدته الأشعرية؛ أعني علم أصول
الدين، يستمد تسميته من الانتساب إليها) يتكشف عن تعيُّن المدلول كأصل أولي، فإن
العالم
لا بد أن يتبدى، في مواجهته، كمجرد فرع يستفيد كامل حضوره ومعناه من مجرد انطوائه
على
أوجه الدلالة على هذا المدلول/الأصل، ومن دون أن يكون منطويًا في ذاته وضمن حدوده
على
قانونه ومعناه؛ لأن العالم حين ينتصب كمجرد «دليل»، وتغدو ظواهره مجرد أوجه للدلالة،
فإن ذلك يعني أن معنى الظاهرة — أي ظاهرة — لا يقوم فيها، أو حتى في العالم الذي
ينطوي
عليها، بل يقع دومًا خارجهما؛ وأعني فيما يدلان عليه أو يشيران إليه، باعتبارهما
علامة
عليه.
وهنا يشار إلى حقيقة الانحلال اللغوي للعالم والعلامة إلى جذر معجمي واحد (عَلَم)؛
وهو الأمر الذي يتجاوب مع تصور العالم مجرد دالٍّ أو علامة،
٢٢ حيث العلامة بدورها هي شيء عارض ويظل معناه خارجه على الدوام. وهكذا فإن
كون «المدلول» هو الواقعة الأولى التي يجد الوعي نفسه في مواجهتها غير قادر على
الانفلات من سطوتها، لا يئول إلى مجرد إفقاره (أي الوعي) فقط، بل ويئول كذلك إلى
إفقار
«العالم» الذي يُقصَى منه القانون والمعنى ليبقى مجرد علامة لا قيمة لها إلا من حيث
تدل
على ما وراءها. ولعل ذلك هو ما أدركه ابن خلدون، حين مضى إلى أنه إذا كان «الجسم
الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات وهو بعضٌ من هذه الكائنات، إلا أن نظره فيها
مخالف لنظر المتكلم (الذي هو المتكلم الأشعري بالأساس)، وهو (الفيلسوف) ينظر في الجسم
من حيث يتحرك ويسكن (يعني بحسب قوانين الحركة والسكون)، والمتكلم (الأشعري دومًا)
ينظر
فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود
المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجِد.»
٢٣ وهكذا فإنه ليس ثمة، عند المتكلم، من حضور للعالم أو الوجود على العموم،
إلا من حيث كونهما يدلان على ما يتعداهما ويقوم وراءهما.
وبالطبع فإن هذا التحديد لفعل الوعي ابتداءً، هو ما يؤسس لآلية إنتاج المعرفة، لا
داخل النسق الأشعري فقط، بل — بالأحرى — داخل الثقافة بأسرها، والتي كان لا بد أن
يتحول
فعل المعرفة فيها، تبعًا لذلك، إلى مجرد نوع من الانتقال الفقير من «فرع» يستفيد
حضوره
ودلالته من إلحاقه «بأصل» يقوم سابقًا عليه، أو من «دليل» هو مجرد أثر وعلامة على
«مدلول» هو مصدر المعنى وأصل الدلالة؛ وذلك في سياق نوع من المقايسة التي لا يتجاوز
السعي فيها حدود تكريس سلطة الأصل/المدلول، التي هي القناع المعرفي لسلطة الأب/المستبد؛
وأعني بالطبع أن سلطة المستبد قد بدأت من هنا سيرورة التخفي وراء سلطة هذا الأصل
الذي
ظل يعمل للآن كقناع معرفي لها. فإذ الأصل «هو ما يُبتنى عليه غيره»؛
٢٤ وبما يعنيه ذلك من أوليته ومفارقته وعدم قابليته للتغير لقيامه بذاته في
غير حاجة لغيره مع احتياج الغير له، فإنه يكاد — هكذا — أن يختزل كل سمات الاستبداد
العربي وملامحه التي تنطق بها قسمات حكام أو أنصاف آلهة لا يعرفون، في تسلطهم على
مقادير هذا العالم البائس، أي غياب.
والحق أن هذا الحضور للعالم كمجرد دليل وعلامة كان لا بد أن يحدد طبيعة كل من تصوره
وبنائه في النسق الأشعري. لقد كان لزامًا، إذن، أن يتبلور تصور العالم داخل النسق
بوصفه
«كل موجود سوى الله، وهو أجسام محدودة متناهية المنقطعات، وأعراض قائمة بها، كألوانها
وهيئاتها، في تركيبها، وسائر صفاتها، وما شاهدنا منها واتصلت به حواسنا، وما غاب
منها
عن مُدرَك حواسنا، هي (وغيرها مما ينحل إليه العالم من عناصر أولية) متساوية في ثبوت
حكم الجواز لها، ولا شكل يعايَن أو يُفرض منا، صغُر أو كبِر، أو قرُب أو بعُد، أو
غاب
أو شَهِد، إلا والعقل قاضٍ بأن تلك الأجسام المشكَّلة، لا يستحيل فرض تشكلها على
هيئة
أخرى. وما سكن منها لم يُحِل العقل تحركه. وما تحرك منها لم يُحِل سكونه، وما صودف
مرتفعًا إلى منتهى سَمْك من الجو لم يَبعُد تقدير انخفاضه، وما استدار على النطاق
لم
يَبعُد فرض تَدْواره (دورانه) نائيًا عن مجراه، وترتب الكواكب على أشكالها يجوز على
خلاف هيئاتها وأحوالها … (وبما يعني أنه لا شيء البتة إلا ويقبل الخرق والفوات
والانقلاب على خلاف الهيئة والحال، وكل ذلك ليس من نفسه طبعًا، بل من غيره لأنه إذ)
يتضح بأدنى نظر استمرار مقتضى الجواز على العالم جميعه، وما ثبت جوازه استحال الحكم
بوجوبه. فإذا لزم العالم حكم الجواز، استحال القضاء بقِدَمه، وتقرر أنه مفتقر إلى
مقتضًى اقتضاه على ما هو عليه. وإنما يستغني عن المؤثر ما قضى العقل بوجوبه، فيستقل
بوجوبه عن مقتضًى يقتضيه. فأما ما ثبت جوازه وتعارضت فيه جهات الإمكان، فمن المُحال
ثبوته اتفاقًا على جهة منها من غير مقتضًى (أو مؤثر).»
٢٥ وهكذا فإن الخرق والفوات وإمكان انقلاب الهيئة والحال هو جوهر ما يمكن
للعقل أن يقضي به على العالم ابتداءً من ثبوت حكم الجواز لكل ما فيه. ولأن حكم الجواز
للعالم لازم عن تصوره (أي العالم) هو ما سوى الله الذي يستقل وحده بوجوب الوجود
وضرورته، فإن ذلك يعني أن نقطة البدء في تصور العالم، بحسب الأشاعرة، إنما تنطلق
من
مغايرته مع الله، وعلى نحو يكون فيه تصوره مجرد فرع عن تصور الله. وبالطبع فإن ذلك
يتجاوب مع حضور العالم المشار إليه، في النسق الأشعري، كمجرد «دليل» هو — بدوره —
فرع
عن تصور «مدلول» يقوم سابقًا عليه.
والملاحَظ أن هذا التصور الذي يؤسس، لم يزل، لكيفية حضور العالم في الوعي المعاصر،
كان لا بد أن يئول، بدوره، إلى بناء للعالم على نحو من الخواء والانفصال والتفتت
والافتقار الكامل لما يتقوم به ذاتيًّا. إذ الحق أنه كان لزامًا أن ينحل بناء العالم،
بحسب هذا التصور، إلى أجزاء تتناهى، لأنه «لا يمكن — حسب واحدٍ من ورثة النسق الكبار
—
إحاطة شاملة إلا بموجود متناهٍ، ولا يمكن تحقُّق موجود متناهٍ إلا إذا انقسم إلى
جزء لا يتجزأ.»
٢٦
وإذا كانت تلك الأجزاء التي لا تتجزأ هي اللبنة الأولى في بناء العالم، فإنه كان لا
بد من تصورها لا تعلُّق بينها أو تداخل أو اتصال، بل ليس بينها إلا التفتت والانفصال
الذي يسمح وحده بكل ما هو ممكن من الخرق والفوات وانقلاب الهيئة والحال. وهنا يشار
إلى
أنه إذا كان القصد من رد العالم إلى تلك الأجزاء التي تتناهى ولا تتجزأ، هو التنزل
بالعالم إلى وضعية التناهي ليقع في قبضة العلم المحيط والقدرة المطلقة لذات تقف خارجه،
وبكيفية لا يقدر معها أبدًا على الفعل خارج سياق هيمنتها الشاملة؛ فإن تحقيق هذه
الهيمنة على ما ينتهي إليه التناهي من جواهر فردة (أو أجزاء لا تتجزأ) وأعراض يكون
أولى
لا محالة.
وضمن سياق هذه الهيمنة، فإنه كان لزامًا أن يتخلى الجوهر عن حمولته الفلسفية التي
تحيل إلى تقوُّمه بذاته وفعله بطبعه، ليتزود بحمولة مغايرة تناسب وضعه تحت الهيمنة.
ومن
هنا ذلك التصور للجوهر، في النسق الأشعري، لا باعتباره — على قول الفلاسفة — «ما
قام
بنفسه، فهو متقوم بذاته ومتعين بماهيته»، بل باعتباره «ما يقبل العَرَض قبولًا يستحيل
معه أن ينفك جوهر عن عَرَض.»
٢٧ وهكذا فإن حقيقة الجوهر لا تستفاد من عين ذاته، بل من كونه محلًّا لغيره
(أو العَرَض). وبالطبع فإن حضورهما معًا يستفاد من «أن لهما مدخلية تامة في الأدلة
(على
الله)»، وذلك على قول من أدرك، ترتيبًا على تلك المدخلية، ضرورة التكلم عليهما، قبل
التكلم على إثبات الصانع.»
٢٨
والغريب حقًّا أن النسق قد استدعى هذا الترابط بين كل من الجوهر والعَرَض، لا من
أجل
صهرهما في هوية واحدة «تكون فيها الأعراض — على قول أحد المعتزلة — من فعل الأجسام
أو
الجواهر طباعًا»،
٢٩ بل بقصد إفساح المجال أمام تصدعهما وانهيارهما معًا؛ وذلك من حيث إن
«الأعراض هي التي لا يصح بقاؤها، وهي التي تعرض في الجواهر والأجسام وتبطل في ثاني
حال وجودها.»
٣٠ وهكذا فإنها وجود إلى الانعدام والبطلان الذي كان لا بد أن يطال الجواهر
أيضًا ابتداءً من عدم قابليتها للانفكاك عنها؛ وهو الضرب من الانعدام الذي راح يجد
ما
يؤسسه في التصور الأشعري للزمان هو «مجموع ذرات أو آنات (لا تتجزأ)، يحدث الواحد
منها
بعد الآخر، ولا صلة بين الواحد والآخر.»
٣١ وإذ الآن، هكذا، هو وحدة منفصلة وقائمة بذاتها، ولا صلة البتة بينها،
كوحدة، وبين ما يسبقها أو يلحقها من آنات، فإن ذلك يعني أن هوة من الفراغ أو العدم
—
حتى لو كانت وهمية وغير محسوسة — لا بد أن تقوم بين كل آن وآخر من آنات هذا الزمان؛
وهي
هوة يسقط العَرَض — ومعه الجوهر الذي لا ينفك عنه — ويتهاوى فيها، فيبطل وينعدم.
وبالطبع فإنه كان لازمًا أن يدخل العدم، هكذا، إلى بناء العالم من خلال هذا الزمان
الذي
تنفصل وتتقطع آناته. ولعل هذه الإضافة للعدم إلى الزمان إنما ترتبط بالسعي إلى إظهار
أثر القدرة المطلقة الذي «لا بد أن يكون وجوديًّا، حيث لا تتعلق القدرة بالعدم»،
٣٢ بل بمجرد الإيجاد والإحداث. وهو من نوع الإيجاد والإحداث المستمر الذي لا
يتوقف، ليس فقط لأن الإعدام المنسرب إلى بناء العالم من طبيعة بناء الزمان لا يتوقف
بدوره، بل — والأهم — لأنه «يلزم استغناء العالم حال بقائه (بنفسه) عن الصانع.»
٣٣
ومن هنا ضرورة «الخلق المستمر» للعالم حتى لا يستغني، حال بقائه بنفسه، عن الصانع
من
جهة، وحتى لا ينقطع عن البقاء في حال عدم تجدد أعراضه من جهة أخرى. ولأن هذا التجدد
للأعراض (وهو أساس الخلق المستمر والمتجدد للعالم) «هو للقادر المختار، فإنه يخصص
بمجرد
إرادته كل واحد منها بوقته الذي خلقه فيه، وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده»
٣٤ فإن ذلك يعني أنها محض الإرادة منفكةً عن أي تحديدات أو سنن، وليس سواها،
هي ما يفعل في العالم، لا عند واحدة من لحظاته فحسب، بل في كل آن من آنات زمانه.
وفي كلمة واحدة، فإنها «مطلق الإرادة»، وليس «قانون العقل والحكمة» هي ما يحدد تصور
العالم الأشعري وبنائه فحسب.
والحق أن هذا التصور للعالم متلاشيًا في قبضة الإرادة لم يكن أبدًا من مقتضيات
العقيدة، بقدر ما كان من لوازم السياسة وضروراتها. إذ الحق أنه ليس مما يتعارض أبدًا
ومقتضيات العقيدة أن يكون الله قد خلق العالم لمرة واحدة فقط، ثم أمده بقوانين ثابتة
وسنن شاملة، تحفظ وجوده وتنظم حركته، هي انعكاس لعلمه وحكمته، ومن دون أن يكون بقاء
العالم موقوفًا على التدخل المباشر من الله في كل لحظة؛ وبكيفية يكون معها «نظام
القانون» وليس «مطلق الإرادة» هو ما ينتظم عَلاقتهما ويحددها.
٣٥
والملاحظ أنه وحتى حين اتسع الخطاب لمفهوم «القانون»، فإن ذلك لم يمنعه من نزع
التأثير والفاعلية عن هذه القوانين ابتداءً من أنه «لدى تدقيق النظر والبحث في الأدلة
العقلية، وملاحظة عظيم قدرته سبحانه، وكمال علمه، وتدبر عجائب صنعه، ظهر لنا معشرَ
أهل
السنة والجماعة، أن جميع تلك الأسباب والقوانين التي وضعها الله سبحانه، وجرت عادته
في
إحداث الحوادث عندها ما هي إلا عادية؛ بمعنى أن عادته تعالى جرت بإحداث الحوادث عندها
لا بتأثيرها، وأن الزمن الذي خُص لتكوُّنها وحدوثها ما هو إلا عادي أيضًا، وهو سبحانه
وتعالى قادر على إحداث تلك الحوادث بدون تلك الأسباب والقوانين.»
٣٦ والحق أن هذا الإلغاء لفاعلية القوانين وتأثيرها إنما يرتبط، في العمق،
بالإلحاح الدائم على تفعيل «مطلق الإرادة» على حساب «مقتضى العلم والحكمة». وإذ يرتبط
هذا التفعيل للإرادة مطلقةً من أي تحديد، وبما يترتب على ذلك من نفي القانون، باستحالة
أن تتحدد الإرادة الإلهية بقانون العالم خارجها؛ فإن ذلك يتجاهل حقيقة أن «قانون
العالم» هو انعكاس لعلم الذات الإلهية وحكمتها، وبما يعني أن الإرادة تتحدد بالعلم
والحكمة، وليس أبدًا بشيء خارجها. وإذن فالأمر لا يتعلق بتحديدات للذات من خارجها،
بقدر
ما هي الذات تتحدد بقانونها الخاص. ومن هنا فإن هذا التصور الأشعري، الذي ينبني على
أولوية «الإرادة» — مطلقة من كل تحديد — على «العلم والحكمة»، تفعل من خلالهما الذات
ويتعين حضورها في العالم، لا يمكن أن يكون مما تفرضه طبيعة الذات وماهيتها، بل إنه
يئول
— فيما يبدو — إلى التشويش على ماهية هذه الذات؛ وأعني من حيث تصورها معرَّاةً من
قانون
ينتظم فعلها. والملاحظ أن الخطاب حين جُوبِهَ بما يئول إليه هذا الإطلاق للإرادة
على
حساب العلم، من شناعات، أظهر من الارتباك ما بدا معه مضطرًّا إلى تصور العلم قائمًا
قبل
الإرادة متقدمًا عليها.
فإذ ينبني إطلاق الإرادة — حسب الخطاب — على لزوم حكم «الجواز» للعالم، وبما يترتب
عليه من نفي «الضرورة»، أو القطع — بلغة الخطاب — بأن: «الاقتران بين ما يُعتقد في
العادة سببًا، وبين ما يُعتقد مسبَّبًا، ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا
ذاك،
ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما، متضمنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه لنفي الآخر، فليس
من
ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الرِّي والشرب،
والشِّبَع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، وهلمَّ جرًّا، إلى كل المشاهدات من المقترنات
في الطب والنجوم والصناعات والحِرف. فإن اقترانها (هو) لما سبق من تقدير الله سبحانه،
يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت»،
٣٧ لأن القول بعكس ذلك يلزم عنه «أن الله تعالى لا يفعل بالإرادة.»
٣٨ فإن الخطاب، وقد «أنكر لزوم المسبَّبات عن أسبابها، وأضافها إلى إرادة
مخترعها، ولم يكن للإرادة أيضًا منهج مخصوص معين، بل أمكن تفننه وتنوعه»
٣٩ لم يجد إلا أن يفترض ضربًا من «العلم» المسبق المتعدي للإرادة والسابق
عليها، ليحول دون ارتكاب مُحالات شنيعة يئول إليها لزوم حكم الجواز للعالم.
وهكذا فإن شناعات يجر إليها إنكار الضرورة، من قبيل أن «يُجوِّز كل واحد منا أن يكون
بين يديه سباعٌ ضارية، ونيران مشتعلة، وجبال راسية، وأعداء مستعدة بالأسلحة لقتله،
وهو
لا يراها، لأن الله تعالى ليس يخلق الرؤية له. ومن وضع كتابًا في بيته فلْيُجوِّز
أن
يكون قد انقلب، عند رجوعه إلى بيته، غلامًا أمرد عاقلًا متصرفًا، أو انقلب حيوانًا،
ولو
ترك غلامًا في بيته فلْيُجوِّز انقلابه كلبًا، أو ترك الرماد فليُجوِّز مِسكًا، وانقلاب
الحجر ذهبًا، والذهبِ حجرًا، وإذا سئل عن شيء من هذا، فينبغي أن يقول: لا أدري ما
في
البيت الآن، وإنما القَدْر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتابًا، ولعله الآن فرسٌ،
قد
لطخ بيت الكتب ببوله ورَوْثه، وأني تركت في البيت جرة من الماء، ولعلها الآن انقلبت
شجرة تفاح، فإن الله تعالى قادر على كل شيء ممكن، فلا بد من التردد فيه»
٤٠ قد دفعت الخطاب إلى التراجع تحت وطأة ضغوطها العنيدة إلى أنه «لا مانع من
أن تكون هذه الأشياء ممكنة في مقدورات الله تعالى، ويكون قد جرى في سابق علمه أنه
لا
يفعلها في بعض (وبالأحرى معظم) الأوقات، ويخلق لنا العلم بأنه ليس يفعلها في تلك
الأوقات.»
٤١ وهكذا راح الخطاب ينصاع لما سعى إلى الإفلات منه دومًا؛ وأعني أنه قد
اضطُرَّ لقبول تصور الإرادة تتحدد بضرب من العلم المسبق — الذي يستحيل العالم من
دونه
إلى ساحة للمُحال والفوضى — بعدم حصول هذه المُحالات إلا في أوقات مخصوصة.
والحق أن رضوخ الخطاب لهذه الضغوط والإرباكات التي عرضت له، ضمن مجال اشتغاله الديني،
نتيجة إصراره على إطلاق الإرادة معرَّاة، ولو من مجرد «منهج مخصوص معيَّن» تُفعل
بحسبه،
ليكشف عن كون الباعث الأعمق لهذا الإطلاق، بكل ما يترتب عليه من المُحال والفوضى،
إنما
يقوم خارج حدود مجال «الديني»، الذي لم يكن لشيء أن يحضر فاعلًا خارج حدوده — بل
داخلها، وحتى في قلبها، وهو الأهم — إلا «السياسي». وهكذا فإنه إذا كان قد تجلى واضحًا
أن فروض الديني وضروراته لا تقدر على تفسير بناء الأُنطولوجيا الأشعرية، بل إن بناءها
قد تأدى إلى شناعات تطال هذا الديني وفروضه، فإنه لم يعد إلا أن السياسي هو ما يقدر
على
تفسير هذا النوع من البناء القائم على الخرق والفوات. ولأن هذا السياسي لا يحضر ممارسًا
لدوره على نحو مباشر، بل من وراء قناع الديني وحجابه، فإن ذلك يئول إلى ضرورة اكتناه
جوهر وطبيعة العَلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام؛ وهي العَلاقة التي قد تجعلها
المقارنة مع نظيرتها في المسيحية أكثر وضوحًا وجلاءً، إذ الحق أن تحليلًا لمسار
العَلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام يكاد يتكشف عن مركزية الدور الذي لعبه السياسي
في مسار هذه العَلاقة، وإلى حد تبلور الديني في قلبه. ولعل هذا المسار يتمايز كليًّا
عن
ذلك الذي اتخذته العَلاقة نفسها في المسيحية.
مسار العَلاقة بين الديني والسياسي
إذا كان تفكيك التجرِبة التاريخية للإسلام يتكشف عن أن السياسي لم يستقل بمجال اشتغال
خاص عن الديني، وإلى حد ما لاحظ ابن خلدون من «أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة
دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة.»
٤٢ وبما يعنيه ذلك من أن المُلك السياسي للعرب قد راح ينبني داخل الديني
ويتجذَّر في قلبه منذ لحظة التأسيس المبكرة الأولى؛ فإن أهم ما يترتب على ذلك هو
ما
يبدو من تصور المرء أنه يسلك بحسب ضرورات «الديني» وفروضه، فيما هو يسلك حقًّا تبعًا
لقواعد «السياسي» المتقنع بالديني والمتخفي في قلبه. وهنا تكمن المعضلة التي تتعصى
على
الانفراج في عالم الإسلام، وأعني معضلة التمييز بين الديني والسياسي، والتي تتأتى
ابتداءً من عدم اختصاص الواحد منهما بمجال خاص يشتغل داخل حدوده، وذلك على العكس
من
اختصاص كل منهما بمجال يخصه في عالم المسيحية؛ وهو الأمر الذي جعل الفصل، لا مجرد
التمييز، بينهما ممكنًا.
فقد اكتمل تشكُّل «الديني» في المسيحية في انفصالٍ كامل عن مجال اشتغال السياسي،
الذي
لم تتصل به المسيحية إلا بعد قرون من اكتمال تشكل الديني فيها. ومن هنا فإن السياسي
لم
يتجذر، في المسيحية، في قلب الديني، بل ظل كل واحد منهما قابلًا للاستقلال بمجال
خاص.
فقد ارتبط تحول الدولة الرومانية، مع الإمبراطور قسطنطين، إلى المسيحية بالسعي إلى
توظيف هذا الدين لخدمة أهداف سياسية يعكسها ما كان الإمبراطور — بحسب أحد مؤرخي الحضارة
— «يرجو من أن يُطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان، ويعيد إلى نظام الزواج والأسرة
ما
كان له من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات.» وإذ يضاف إلى ذلك أن المسيحيين كانوا
قلَّما يخرجون على الدولة برغم ما لاقَوه من ضروب الاضطهاد الشديد، لأن معلميهم قد
غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقَّنوهم حق الملوك المقدس، فإن ذلك
ما
بدا ملائمًا تمامًا لنزوع قسطنطين إلى أن يكون ملكًا مطلق السلطان. وبالطبع فإن هذا
النوع من الحكم المطلق إنما يفيد لا محالة من تأييد الدين، وخصوصًا حين ينشغل هذا
الدين
بترسيخ سيكولوجيا الخضوع والطاعة. وهكذا فإنه قد بدا للإمبراطور الساعي لدعمِ مطلقِ
سلطته «أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظامًا روحيًّا يناسب نظام
المَلَكية؛ ولعل هذا النظام العجيب، بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة
البلاد وتوحيدها وحكمها.»
٤٣
وإذ يتجلى وعي الإمبراطور حادًّا، بأن السياسي قد فقد شرعيته، وأنه في حاجة لما يؤسس
به شرعية جديدة راح يلتمسها في الديني، الذي كانت عليه المسيحية، فإنه يلزم الوعي
بأن
ما تصوره الإمبراطور توظيفًا للديني لخدمة السياسي، قد انقلب — بفضل دهاء التاريخ
ومكره
الذي يتجاوز إرادات الأفراد — إلى توظيف السياسي لخدمة الديني.
والحق أن ذلك يكشف عن التباين بين عالمين؛ وأعني عالم الإسلام الذي كان الديني فيه
ينبثق في قلب السياسي، أو في قلب السعي إلى تأسيس الدولة، وهو ما ينعكس جليًّا في
تلك
المقولة التي تَشِيع في أدبيات الإسلام السياسي الراهنة بأن «الإسلام دين ودولة»،
وعالم
المسيحية التي كان الديني فيها يتعانق مع السياسي فيما يشبه الزواج بين بالِغَين
يتمتع
كل واحد منهما بحصانته واستقلاله عن الآخر. ومن هنا فإن الأمر في المسيحية كان يتعلق
بالدولة، وهي تدرك احتياجها للدين تسعى به إلى اقتلاع بذور الفناء التي تتبرعم في
قلبها، فراحت «تتدين» مضطرة؛ وبما يعنيه ذلك من لزوم انصياع السياسي لمقتضيات الديني
وشروطه، بسبب احتياجه إليه، وذلك برغم ما يبدو على السطح من أنه قد جرى استدعاء
«الديني» ليعمل في خدمة السياسي وتبعًا لشروطه. إذ إنه «الدهاء» الذي يجعل من يتصور
نفسه «فاعلًا» هو المفعول به حقًّا.
وأما في الإسلام، فإن الأمر يتعلق — في المقابل — بالديني وهو يرى نفسه في تلازم
صميمي مع السياسي منذ ابتداء انبثاقه، فكان لازمًا أن يتسيس. وهنا يشار إلى أن اكتمال
تشكل الديني بمعزل عن السياسي في المسيحية، إنما يحيل إلى أنه — أي الديني — قد تبلور
في أصل مبدئه بوصفه شأنًا خاصًّا، وبما يعنيه ذلك من أنه لم يتبلور كفضاءٍ لممارسة
عمومية. حقًّا كانت هناك جماعة، ولكنها كانت جماعة المؤمنين التي لا تمتد سلطتها
إلى ما
وراء الجانب الروحي الخاص بالإنسان. وفي المقابل، فإن حضور السياسي في قلب الديني
في
الإسلام قد فرض على الديني أن يتبلور كشأن سياسي عمومي. ومن هنا فإنه إذا كانت منظومات
العقائد في الإسلام قد تبلورت في قلب الصراع على السياسة، وبحيث كانت تباينات العقائد
بمثابة انعكاس لاختلافات الفرقاء السياسيين، فإنه لم يُقدَّر للسياسة أن تلعب دورًا
حاكمًا في الشأن العقائدي إلا مع تسييس المسيحية الذي تحقق بعد حوالي أربعة قرون
من
نشأتها. فقد انعقد أول المجامع المسكونية في نِيقِية (٣٢٥م) بطلب من الإمبراطور قسطنطين
لتقنين منظومة العقائد التي اعتنقتها الكنيسة، فكان ذلك إيذانًا بأن الديني لم يعد
شأنًا خاصًّا، بل شأنًا عامًّا تنشغل الدولة بتقنينه وتنظيمه، وتستخدمه في فرض سيطرتها
على المجال العام. وإذا كان هذا التباعد الزماني بين لحظتَي تبلور كل من الديني
والسياسي قد يسَّر ما جرى لاحقًا من تصور الديني كشأن خاص في التجرِبة المسيحية،
فإن
غياب هذا التباعد، بحسب ما أدرك ابن خلدون من أن ميلاد السياسة قد لازم مولد الدين
في
الإسلام، قد تأدى إلى احتلال الشأن العامِّ موقعًا متميزًا في قلب الديني في الإسلام.
ومن هنا فإن مفهوم الجماعة، الذي يُعَد بالغ المركزية في الإسلام قد ظل، للآن، مسكونًا
بدلالة الديني والسياسي في آن معًا، وإلى حد ما صار إليه الفقهاء من أن النجاة ليست
في
الآخرة فقط، بل — وقبل ذلك — في الدنيا وهو الأهم، تكون في محض الاستمساك بالجماعة.
وإذ
يتقاطع الديني والسياسي في بناء المجال العام، فإن ذلك يكشف عن تلازمهما، وليس أبدًا
تمايزهما في تجرِبة الإسلام.
ولعل مثالًا على قوة هذا التلازم وعمق تجذره يتأتى من أن حدثًا تاريخيًّا كفتح مكة،
الذي يمثل تمام الانتصار السياسي، في مغامرة الإسلام الأولى، قد كان بمثابة التتمة
والإكمال للديني في نفس الوقت؛ وبحيث بدا وكأن مغامرة الإسلام الأولى إنما تنطوي
على
تشكل الديني والسياسي في نفس المصهر تقريبًا، والحق أن الأمر يتجاوز مجرد ذلك إلى
ما
يبدو من أن هذا التلازم يكاد أن يضع نفسه في قلب الجانب التعبدي في الإسلام. فإذ
الإسلام، بحسب المأثور الشهير، ينبني على خمسٍ هي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم
والحج، فإن تراتب هذه الأركان الخمسة، في المأثور، لا يعكس ترتيبها في الانبثاق
التاريخي فحسب، بل يعكس أيضًا، وهو الأهم، تراتبها في القيمة والفضل، وعلى نحو يبدو
معه
أن الأركان الثلاثة الأولى مختصة بما تعلو به على ما يأتي بعدها. إذ تتواتر الشواهد،
في
القرآن ودواوين الحديث، بها يكشف، صراحة، عن أن شارة الانضواء تحت راية الإسلام إنما
تقوم في الوفاء بمقتضيات هذه الأركان الثلاثة الأولى. وبالطبع فإن ذلك لا يعني البتة
عدم جوهرية ما سواها، وإنما الأمر يقف عند حدود الوعي بما يبدو وكأنه التمايز تشهد
به
النصوص المعتبرة حين تنطق بما يربط الإسلام ببعض الأركان بعينها، وتسكت تمامًا عن
غيرها. وهنا فإنه لا يمكن تصور التمايز يلحق ببعض هذه الأركان ابتداءً من أن حضور
«الديني» فيها يكون أقوى منه في غيرها؛ وذلك لأن هذا الحضور للديني يكون فيها متماثلًا
من دون أي تمييز. وعلى هذا، فإن هذا التمايز إنما يطال بعض هذه الأركان من شيء آخر
غير
«الديني»، والذي لا يمكن أن يكون إلا ما تنطوي عليه من «السياسي» إلى جانب الديني
بالطبع. ومن حسن الحظ أن تحليلًا لهذه الأركان، التي يحمل استيفاء مقتضاها دلالة
الانضواء في الإسلام، يتكشف عن حمولة سياسية كثيفة تتفاعل، في قلبها، مع الديني الطافح
على سطحها.
فإذ يتركب ركن «الشهادة»، وإعلان الإيمان، من مقطعين هما الشهادة، في أولهما، بأن
«لا
إله إلا الله»، وبأن «محمدًا رسول الله» في الثاني، فإن كلا المقطعين يتكاملان في
إنتاج
دلالة تتعدى مجرد التعبد إلى إضمار حمولة سياسية، ينعكس حضورها فاعلًا بقوة فيما
راحت
تئول إليه من تقويض السلطة، أو بالأحرى السلطات، القائمة وتوحيدها. فالحق أنه إذا
كان
الشطر الأول من الشهادة؛ أعني «أشهد أن لا إله إلا الله»، يتركب هو نفسه من مقطعين
ينطوي أولهما «لا إله» على السلب، فيما ينطوي الآخر «إلا الله» على الإيجاب، فإن
تلك
الجدلية بين السلب والإيجاب تتكشف عن أنه النفي المطلق لكل سلطة، في مقابل الإقرار
بسلطة الله الواحد فقط. وغنيٌّ عن البيان أن النفي، في الشهادة، إنما يتعلق بسلطة
الآباء والأسلاف؛ الذين مثلوا، كأرباب بالمعنى السياسي وليس بالمعنى الديني فقط،
التحدي
الأكبر لسلطة الله الواحد؛ وهو الأمر الذي ينعكس فيما تتواتر به نصوص الوحي من ربط
الإنكار المتكرر لسلطة الله، بالانصياع لسلطة الآباء الذين ارتفعوا من مجرد شيوخ
وكبراء
تتمحور حولهم العصائب بالمعنى السياسي، حسب ابن خلدون، إلى أرباب لا تفارقهم أطياف
الديني ومخايلاته. وبالطبع فإن المخيال الذي ارتقى بهؤلاء الآباء إلى مصاف الآلهة
والأرباب، فأضاف إلى مركزيتهم السياسية، مركزية دينية موازية، لم يكن ليقدر — إذ
راح
يزيح هؤلاء الآباء من مركز السلطة ليتسنى لسلطة الله البديلة أن تشغله — إلا أن يسرِّب
إلى تصوره لتلك السلطة البديلة ما استقر في أغواره السحيقة من معانقة السياسي للديني.
وهنا يلزم التنويه بأن الشطر الثاني من الشهادة «أشهد أن محمدًا رسول الله» إنما
يعيِّن
المجلى المتحقق لسلطة الله؛ وأعني بها سلطة النبي الذي جعل الوحيُ من طاعته وجهًا
لطاعة
الله نفسه. وحين يدرك المرء أن سلطة النبي — التي يتعانق فيها الديني والسياسي طبعًا
—
قد راحت، هي نفسها، تتناسخ في الخلفاء والأمراء من بعده، الذين راح يجري تصورُ سلطتهم،
عبر وساطة سلطة النبي، في نفس مستوى سلطة الله، فإن ما يضمره ركن «الشهادة» من السياسة
يكاد أن يتجلى كاملًا؛ وإلى حد ما يبدو من أن الشهادة تكاد أن تكون بمثابة إعلان
عن
الولاء لسلطة موحدة تنبثق بديلة لسلطة مبعثرة، وذلك إلى جانب ما تحمله — بالطبع —
من
الإقرار بالوحدانية بالمعنى الديني.
وفيما يتعلق بالركن الثاني من أركان الإسلام؛ وأعني «الصلاة»، فإنه لمما يثير
الاندهاش حقًّا، ذلك التضارب بين الفقهاء، وحتى المتكلمين، حول جواز أو عدم جواز
إعادة
الصلاة إذا أداها المرء خلف من وُلِّيَ أمور المسلمين من أهل البدع. وبصرف النظر
عما
انتهى إليه الفقهاء من جواز الإعادة أو عدمها، فإنه يبقى ما ينطوي عليه هذا التباين،
من
التمييز بين الصلاة كعمل تعبدي، وبينها كعمل يحمل دلالة سياسية. فإن الحكم بجواز
— أو
حتى وجوب — إعادة الصلاة حال أدائها خلف ولاة الأمر المنظور إليهم كمبتدِعة، إنما
يعني
أن المرء لم يكن مختارًا حين أداها خلف هؤلاء الولاة الفسقة، بل كان مضطرًّا لهذا
الأداء. وبالطبع فإنه الاضطرار، لا بالمعنى الديني، بل بالمعنى السياسي، الذي يجعل
الأمر يتجاوز وجوب التعبد لله، إلى وجوب إعلان الطاعة والخضوع لولي الأمر. وإذ يحيل
ذلك
إلى ما تنطوي عليه الصلاة من دلالة الخضوع والطاعة بالمعنيين الديني والسياسي، فإنه
يلزم التنويه بأن دلالة السياسي تقترن بدلالة الديني في الصلاة، فقد جعلت الانتقال
ممكنًا من الإمامة في الصلاة إلى الإمامة في السياسة. ومن هنا ما جرى من الاحتجاج
بإمامة أبي بكر للصلاة، أثناء مرض النبي، على جدارته بخلافته في إمامتهم بالمعنى
السياسي، وهو القران بين الديني والسياسي، تؤكده عبارة أبي بكر نفسه: «وُلِّيتُكم
(بالمعنى السياسي) ولست بخيركم، إني وُلِّيتُكم الصلاة ورسول الله
ﷺ حاضر.»
٤٤ وإذ هي الولاية، بالمعنى السياسي، يؤسسها أبو بكر على الولاية في الصلاة،
فإن ذلك يحيل إلى اكتمال دلالة السياسي في الصلاة، والتي يبدو، هكذا، وكأنها تتوزع
بين
«المحكوم» الذي يختفي خضوعه لولي الأمر، في السياسة، وراء موقف «المأموم» في الصلاة،
وبين «الحاكم» الذي لا تفارق إمامته، بالمعنى السياسي، دور «الإمام» في الصلاة.
وفيما يتعلق بالزكاة، فإن قراءةً لما تعجُّ به المصادر حول الردة التي تم صك مصطلحها
بكل ما يخايل به من دلالة دينية كثيفة، لوصم أولئك الذين امتنعوا عن أدائها (أي الزكاة)
بعد وفاة النبي
ﷺ لأنهم ارتأَوا في هذا الأداء ما ينطوي على معنى المذلة
والامتهان، لتتكشف عن تصورها كممارسة ذات طبيعة سياسية خالصة، وإلى حد ما يكاد يبدو
من
شحوب الديني فيها. فهي — حسب تصور فريق من المسلمين، أو الذين كانوا كذلك إلى حين
وفاة
النبي على الأقل؛ والذين تقطع الأحداث بأنهم كانوا يسلكون كقبائل وليس كأفراد — ليست
إلا علامة على الخضوع لسلطة قبيلة مغايرة. فإنه إذا كان عالم القبيلة الذي حافظ على
حضوره الساحق في قلب الإسلام قد انبنى — حسب ابن خلدون — على «العصبية التي تكون
بها
المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله»، فإنما
يلحق
بهذا العجز ما يوجبه من «المذلة للقبيل (المغلوب) شأن المغارم والضرائب. فإن القبيل
الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضُوا بالمذلة فيه؛ لأن في المغارم والضرائب ضيمًا
ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونته عن القتل والتلف.»
٤٥ وإذ يبدو أن هذا النمط من العَلاقة قد ساد بالذات بين «الأمم الوحشية
الساكنين بالقفر كالعرب (وآخرين غيرهم) لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ومعاشهم فيما
بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بُغية لهم فيما وراء ذلك من
رتبة
ولا مُلك، وإنما همُّهم ونُصبُ أعينهم غَلْب الناس على ما في أيديهم»؛
٤٦ فإن ذلك يعني أن عَلاقات الصراع والقوة بين القبائل قد تجسدت في تلك
«المغارم والضرائب» يؤديها المغلوب للغالب. ومن هنا فإن قبائل العرب، التي وُصِمَت
بالمرتدة (وقد كانت كلَّ قبائل العرب تقريبًا باستثناء قريش وثقيف)، لم تتبين في
الزكاة
إلا أنها علامة على الخضوع بحسب ما تعرف من ميراثها القبلي الذي لم يكن العهد قد
تقادم
به على نحو يطفئ سطوة حضوره في الذاكرة.
وإذ لا مجال للحديث عن مثل هذا التلازم الصميمي بين الديني والسياسي خلال مغامرة
المسيحية الأولى — بل هي الضرورة التي دفعت «السياسي»، بعد قرون من انبثاق هذه
المغامرة، إلى أن يستعير «الديني» كمجرد مُعِين له في أزمته، فوجد نفسه في قبضته،
فإنه
يلزم الوعي بجوهرية التباين فيما يخص إشكالية الديني والسياسي بين عالَمَي الإسلام
والمسيحية. وغني عن البيان أن جوهرية هذا التباين إنما تتأتى مما يئول إليه فيما
يتعلق
بطبيعة عمل الوعي. فإنه إذا كان عمل الوعي قد انصرف في عالم المسيحية إلى تحرير السياسي
من قبضة الديني بعد أن اضطُر، في سعيه لتجاوز أزمته، لأن يضع مصائره في يده؛ فإن
طبيعة
عمله، في عالم الإسلام ينبغي أن تتأطر — في المقابل — بالسعي إلى تحرير الديني من
قبضة
السياسي، التي وجد نفسه غير قادر على الفكاك منها منذ البدء.
٤٧
ولعل ذلك يستحيل إلا عبر هيمنة الوعي على الطرائق والآليات التي احتل السياسي
بواسطتها فضاء الديني، في الإسلام، وهيمن عليه. ولأن السعي لاكتساب قداسة الديني
وتعاليه يبقى هو قصد السياسي من هذا الاحتلال لفضاء الديني والهيمنة عليه، فإنه قد
راح
يتخفى وراء الديني، وإلى حد تماهيه الكامل معه؛ وبحيث يجوز التمييز بين الديني يحضر،
ظاهرًا، على صعيد اللغة والشكل، وبين السياسي يحضر، كامنًا، على مستوى الجوهر والبنية
الأعمق. ومن هنا تلك المعضلة، في الإسلام، التي تجعل تحرير الديني من السياسي وتمييزه،
أو حتى فصله، عنه، مشروطًا بوصلهما، والإمساك بنظام العَلاقة بينهما أولًا؛ وأعني
بذلك
بيان كيفية اشتغال أحدهما تحت الآخر في خفاء ودهاء. وإذن فإنها المعضلة التي تجعل
الوصل
بين الديني والسياسي هو شرط التمييز، أو حتى الفصل الحق بينهما.
وبالطبع فإنه يبقى، في النهاية، أن آلية الاشتغال الخفي للسياسي تحت الديني؛ التي
تنتظم العَلاقة بينهما في الإسلام، هي ما يؤسس في العمق لما راح يشتغل في الخطاب
الأشعري، بكثافة، من استحالة الله إلى قناع للسلطان. وليس من شك في أن هذه الاستحالة
هي
الأصل في ذلك الحضور الذي لا يعرف الغياب، لأولئك النفر من الحكام المتألهين الذين
تزدحم بعروشهم المتهالكة سماوات العرب؛ على نحو يسد الأفق أمام أي وعد أو خلاص.
الديني قناع للسياسي (الله قناع للسلطان)
ابتداءً مما بدا وكأنه التماهي بين كل من المجال الديني والمجال السياسي في عالم
الإسلام، فإنه يمكن المصير إلى أن الأصل في الإلحاح الأشعري على إطلاق الإرادة على
حساب
مقتضى العلم والحكمة، لا يمكن أن يقوم في ذات الله خارج العالم، بقدر ما يقوم في
«ذات»
تقبع داخله؛ وأعني بها ذات السلطان الذي يكشف التحليل عن أن الله، نفسه، قد استحال
إلى
قناع له داخل الخطاب. إن ذلك يعني أن إنكار الضرورة في «الطبيعي»، وبما ينتهي إليه
من
إرباكات، لم يكن إلا قناعًا لإنكارها في «السياسي»، وبما يئول إليه ذلك من إطلاق
إرادة
المتسلط على نحوٍ لا تتحدد فيه بشيء خارجها. ولعل ما تطور إليه الخطاب السني، على
العموم، من إسقاط الشروط الضرورية المعتبرة في الإمام هو التجلي الملموس، في الفقه
السياسي السلطاني المتأخر، لآلية إنكار الضرورة في «الطبيعي» كقناع لإنكارها في
السياسي. وهكذا فإنه إذا كان ثمة من صار — وأعني «الفرَّاء» — إلى إسقاط شروط الإمامة،
وذلك من حيث: «يُروى عن الإمام أحمد (ابن حنبل) رحمه الله ألفاظ تقتضي إسقاط العدالة
والعلم والفضل، فقال: ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين (فإنه)
لا
يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخِر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه، برًّا كان أو فاجرًا،
فهو أمير المؤمنين … وقال: فإن كان أميرًا يُعرف بشرب المسكر والغلول (فإنه) يُغزى
معه،
فإنما ذلك لنفسه.»
٤٨ فإن هذا الذي صار إليه من إسقاط «الضروري» في الإمام يكاد يكون تقعيدًا، في
السياق الفقهي، لما صار إليه «الأشعري» قبلًا في العقائد من أن «من ديننا أن نصلي
الجمعة والأعياد وسائر الصلوات خلف كل بر وفاجر (من الأمراء والسلاطين)، كما رُوي
أن
عبد الله بن عمر — رضي الله عنهما — كان يصلي خلف الحجاج. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين
بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليلَ من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم تركُ الاستقامة،
ونَدين بإنكار الخروج بالسيف.»
٤٩ وإذن فإنه الإطلاق، هذه المرة، لإرادة السلطان/الأمير، والذي لا يُكتفى فيه
بإسقاط ضرورة أن تتحدد هذه الإرادة بشيء من علم أو فضل أو عدل؛ بل ويصبح من قبيل
ما
ندين به (من الدين) أن ندعوَ لهم ونُقرَّ بإمامتهم، حتى لو فجروا وأظهروا ترك
الاستقامة. إنه الإطلاق يكشف عنه ما صار إليه الباقلاني، حاكيًا عن أصحابه: «إن حدوث
الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه. وإن كان مما لو حدث فيه عند ابتداء العقد
لبطَل العقد له ووجب العدولُ عنه.»
٥٠ إذ يبدو أن شيئًا يطرأ على ذات الإمام/السلطان — لا بالعقد له، بل بمحض
التولي للإمامة الذي قد يكون بالشوكة والغلبة — فيتعالى بإرادته عن أن تتحدد، لا
بقانون
العدل ودواعي المصلحة، بل وحتى بمجرد استيفاء مظاهر التدين الشكلي؛ لأن الطاعة واجبة
للإمام، حتى وإن أظهر الفسق والفجور. والحق أنه لا يؤثر أبدًا في هذا الإسقاط للشروط
المعتبرة في الإمام، أو ما اعتبره الغزالي «مسامحة»، أن «هذه ليست مسامحة عن الاختيار،
ولكن الضرورات تبيح المحظورات. (ومن هنا) فإن الإمامة يُحكم بانعقادها مع فوات شروطها
(الضرورية) لضرورة الحال.»
٥١ وإذن فإنه «الفوات» ينتقل به الغزالي من المجال الأُنطولوجي إلى المجال
السياسي، وفقط يسعي للتمييز بينهما؛ بأن الفوات يكون في المجال السياسي «لضرورة الحال»،
فيما يكون في المجال الأُنطولوجي تجليًا «لمطلق الإرادة». وحين يدرك المرء أن «ضرورة
الحال»، التي يحتج بها الغزالي على إمكان «فوات» لا مجرد الضروري، بل وحتى الشكلي
في
الإمام، هي مخافة الفتنة؛ فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفوات لم يرفع بلاء الفتن عن
تاريخٍ لم يزل يشقى بتداعيات فتنته الأخيرة التي عرَفها قبل أقل من عَقدين. وهكذا
ظل
عطاء الفتن سخيًّا، برغم — أو بالأحرى بفضل — ما جرى تفويته من ضرورات كان يلزم
اعتبارها في الإمامة. ولعل ما يَلفت النظر في أمر الفتنة، على العموم، هو ذلك التصور
لها — بحسب الخطاب — تتأتى من مجرد السعي إلى الحد من إطلاق السلطة وتقييدها بالضروري،
وليس أبدًا من ماهية هذه السلطة وطبيعة ممارستها الباطشة. ومن هنا إمكان المصير إلى
أن
«مخافة الفتنة» كانت، في أحد وجوهها، قناعًا يتخفى «إطلاق الإرادة» للسلطان
وراءه.
ولعل ذلك ما تؤكده حقيقة أن الاحتجاج بمنع الفتنة قد ارتبط، في الخطاب الأشعري،
والسني على العموم، بمنع الخروج عن السلطان الحاكم. ويتجلى ذلك، صراحة، فيما صار
إليه
الباقلاني من أنه: «إذا كانت الأمة مفترقة على مذاهب مختلفة وآراء متضادة، والحق
منها
في واحد، وادعى كل واحد منهم أنهم ولاة هذا الأمر دون غيرهم وتمانعوا فيه، فإنه إن
كان
ما اختلفوا فيه من المسائل الشرعية التي الحق عندنا في جميعها (أي الآراء)، والإثم
موضوع عن المخطئ فيها على قول غيرنا، فكلهم ولاة هذا الأمر، فأيهم سبق بالعقد لرجل،
تمت
بيعته ولزمت طاعته، وصار المخالف عليه باغيًا يجب حربه. وإن كان ما اختلفت فيه الأمة
مما يوجب التكفير والتفسيق والتضليل، فعقد الإمامة لأهل الحق منهم دون غيرهم ممن
كفر أو
فسق وضل بتأويله الخطأ في الدين. وقد قام الدليل على أن هذه الفرقة (يعني أهل الحق)
هم
أصحابنا (الأشاعرة) دون المعتزلة والنجَّارية وغيرهم من الفرق المنسوبة إلى الأمة؛
فإن
تمكنَّا من ذلك (أي من عقد الإمامة لأشعري)، حملناهم (ولو بالقوة دون خوف الفتنة)
على
الانقياد لمن نعقد له، فإن دفعونا عنه وعقدوا لبعض موافقيهم، فليس له إمامة ثابتة
ولا
طاعة واجبة (وأيضًا دون خوف الفتنة)، وكنا نحن في دار قهر وغلبة.»
٥٢ وإذن فإنه الاحتجاج بمنع الفتنة حين يتعلق الأمر بسلطان من يعتبرون أنفسهم
أهل الحق، الذي لا بد من حمل المغايرين لهم — ولو قهرًا — على الانقياد لسلطته، وأما
حين يتعلق الأمر بالسلطان من أهل الضلال، فإنه الإنكار لإمامته والإسقاط لطاعته من
دون
خوف فتنة أو تهييج ثورة. ولعل هذه المراوغة تكشف عن أن الاحتجاج بالفتنة إنما يشتغل،
بدوره، كقناع لإطلاق الإرادة في المجال السياسي. فإنها «مخافة الفتنة»، ولا شك، هي
التي
راح الخطاب يخفي «الإطلاق» وراءها، حين مضى — مع الغزالي — إلى توظيف المأثور النبوي:
«إن بني إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء عليهم السلام، فكلما هلك نبي قام نبي مكانه،
وإنه
لا نبي بعدي، وإنه يكون بعدي خلفاء. قيل: يا رسول الله! ما تأمرنا فيهم؟ قال: أعطوهم
حقهم، واسألوا الله حقكم، فإن الله سائلهم.»
٥٣ وإذن فإنه الأمر للناس بتأدية حقوق السلاطين، وأما حقوقهم (أي الناس) فإن
عبئها يرتفع عن كاهل السلاطين ليستقر بين يدي الله. إذ ليس للناس، في الأدنى، حق
مساءلة
السلطان الذي يتعالى به المأثور إلى أن يكون الله وحده، وليس سواه، هو القادر على
سؤاله؛ وبالطبع مع ملاحظة أن بعضهم قد راح يفتي — بحسب ما أورد السيوطي — بأنه ليس
على
الخليفة (أو الحاكم عمومًا) حساب، حتى في الآخرة، من الله. وهنا يشار إلى أن تمثيلًا
يوظفه الباقلاني، في سياق مقاربته لحقِّ الإمام على الأمة، يكشف عن الوضع المتدني
للأمة
على نحو يتردد صداه في المكبوت المقموع الراهن. فإذ مضى الباقلاني إلى أن «الأمة
(أو —
بالأحرى — من يملك حق تمثيلها من أهل الحل والعقد) لا تملك فسخ العقد على الإمام،
وإن
كانت تملك أن تعقد له»
٥٤ فإنه راح يمثل لذلك بما يرد في الشريعة من «أن العاقد على وليَّته لا يملك
فسخ النكاح من حيث كان يملك عقده.»
٥٥ إن ما يَلفت الانتباه في هذا التمثيل أنه، حين يماثل العاقد للإمام (على
الأمة) بولي المرأة في النكاح، يجعل عَلاقة الأمة بالسلطان هي نفس عَلاقة المنكوحة
بناكحها. وذلك، للسخرية، هو ما يتندر به المقهورون العرب، في انتقامهم من مستبديهم
الذين أحالتهم الفكاهة، إلى ناكحين للأمة على نحو لا يجوز معه أن ينكحها أبناؤهم
من
بعدهم، ابتداءً من النهي القرآني:
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ.
وإذ يبدو، من كل ما سبق، أن الآلية الرئيسة التي يشتغل بها الخطاب لإطلاق الإرادة
للسلطان هي آلية القناع التي اشتغل فيها إطلاق الإرادة في «الطبيعي» كقناع لإطلاقها
في
«السياسي»، واشتغلت فيها، كذلك، «مخافة الفتنة» كقناع للانتقال من «الفوات» في الطبيعة
إلى الفوات في السياسة، فإنه يلزم الوعي بالسياق الذي ابتدأت فيه هذه الآلية سيرورة
اشتغالها داخل الخطاب. ولقد كان ذلك حين تعلَّق الأمر بمقاربة تلك «الأخبار المُوهِمة
للتشبيه عند الرَّعاع والجُهَّال من الحَشْوِية الضُّلَّال، حيث اعتقدوا في الله
وصفاته
ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش
والاستقرار وما يجري مجراه مما أخذوا من ظواهر الأخبار وصورها.»
٥٦ إذ لم يجد الخطاب، آنئذٍ، إلا آلية قياس الغائب على الشاهد يشتغل بها
قياسًا «لله/الغائب» على «السلطان/الشاهد». وهكذا فإنه إذا كان القول قد ورد مُجملًا
عند الغزالي بأن «الحضرة الإلهية لا تُفهَم إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية»،
فإن
وريثه «الرازي» قد تكفل بتفصيل هذا المجمل، منطلقًا من «أن المصير إلى التأويل أمر
لا
بد منه لكل عاقل» لأنه «لما ثبت بالدليل أنه سبحانه وتعالى منزه عن الجهة والجسمية
وجب
علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملًا صحيحًا لئلا يصير ذلك
سببًا للطعن فيها.» وإذ تنبني استراتيجيته التأويلية على تجاوز الدلالة الحسية لتلك
الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار والموهمة بالتشبيه إلى دلالة معنوية أبعد، فإن
آليته الرئيسة في إنتاج هذه المجاوزة من «الحسي» إلى «المعنوي» تقوم على وساطة
«السياسي» دومًا. ومن حسن الحظ أن عمل «الرازي» يحتشد بالعديد مما يقطع بذلك. منها:
«ما
رُويَ عنه عليه السلام أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة» فاعلم أن قوله: «في أحسن
صورة»
يحتمل أن يكون من صفات الرائي كما يقال: «
دخلت على الأمير في
أحسن هيئة».» ومنها: ما ورد «في لفظ اللقاء … قال الله تعالى:
بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، وأما الحديث فقوله
عليه السلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» قالوا: واللقاء من صفات الأجسام
…
واعلم أنه لمَّا ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم، وجب حمل هذا اللفظ على وجهين؛ أحدهما:
أن الرجل إذا حضر عند مَلِك ولقيَه دخل هناك تحت حكمه وقهره
دخولًا لا حيلة له في دفعه، فكان ذلك اللقاء سببًا لظهور قدرة الملك عليه على هذا
الوجه، فلما ظهرت قدرته وقوته وقهره وشدة بأسه في ذلك اليوم عبَّر عن تلك الحالة
باللقاء.» ومنها: «واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا — رحمهم الله
— قالوا: إنه يجوز أن يقال: إنه تعالى محتجب عن الخلق ولا يقال إنه محجوب عنهم؛ لأن
لفظة الاحتجاب مشعرة بالقوة والقدرة، والحجب مشعر بالعجز والمذلة، فيقال:
احتجب السلطان عن عبيده، ويقال فلان حُجب عن الدخول إلى
السلطان.» ومنها: ما ورد في آيات «المجيء والنزول» مثل: «وَجَاءَ
رَبُّكَ»، و«يَأْتِيَ رَبُّكَ»؛ التي تعني: وجاء قهر ربك، كما يقال:
جاءنا الملك القاهر إذا جاء عسكره. أو أن يكون المراد من هذه الآية
التمسكَ بظهور آيات الله تعالى وسر آثار قدرته وقهره وسلطانه، والمقصود تمثيل تلك
الحالة بحال السلطان إذا حضر، فإنه يُظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة ما
لا يظهر بظهور عساكره كلها.» ومنها: «واعلم أن لفظ اليد حقيقة في هذه
الجارحة المخصوصة، إلا أنه يُستعمل على سبيل المجاز في أمورٍ غيرها. فالأول: أنه
يُستعمل لفظ اليد في القدرة؛ يقال:
يد السلطان فوق يد الرعية؛ أي
قدرته غالبة على قدرتهم.» ومنها: «أن يقال: إن الأرض في قبضته، إلا أن
هذا الكلام كما يُذكر ويُراد به احتواء الأنامل على الشيء، فقد يُذكر ويُراد به كون
الشيء في قدرته ونصرته وملكه، كما يقال:
هذه البلدة في قبضة
السلطان». وهكذا فإنه لا شيء إلا السياسي؛ سلطانًا أو ملكًا أو أميرًا،
هو ما يسعى به الرازي — على طول نصه — إلى الانتقال من دلالة الحسي إلى المعنوي؛
فيما
يتعلق ببعض الألفاظ المضافة إلى الله.
٥٧ ولعل القصد من هذا التوظيف للسياسي هو المخايلة بأنه لا بد أن يحمل، في
وساطته بين الحسي والمعنوي، من صفاتهما معًا. وإذا صح أن الحسي يحيل إلى «الإنساني»
بينما يحيل المعنوي إلى «الإلهي»، فإن السياسي لا يكتفي بأن يستفيد من هذا المعنوي
ما
يتعالى به فوق غيره من البشر، بل ويستفيد أيضًا ما يجعله أصلًا في تمثيلاتٍ يقاس
الله
عليه فيها، وإلى حد مقايسة وجود «الله» وتوحيده على وحدانية «السلطان» وحضوره، لأن
«من
الحِكم التي في إقامة السلطان أنه من حجج الله تعالى على وجوده سبحانه، ومن علاماته
على
توحيده؛ لأنه كما لا يمكن استقامة أمور العالم (بالمعنى السياسي) واعتداله بغير مدبر
ينفرد بتدبيره (هو السلطان)، كذلك لا يُتوهم وجوده وترتيبه (بالمعنى الكوني) وما
فيه من
الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلَقه، وعالِم أتقنه وحكيم دبَّره (هو الله)، وكما
لا
يستقيم سلطانان في بلد واحد، لا يستقيم إلهان للعالم.»
٥٨ ومن هنا فإنه ليس غريبًا أنه إذا كان قد استقر في الثقافة إطلاق وصف
«الجاهلية» على من لا يعرف الله، ويظن به غير الحق؛ حيث الجاهلية هي «اسم حدث في
الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة … ومنه: «
يَظُنُّونَ بِاللهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ».»
٥٩ فإن الأخبار قد تكفلت — في موازاة القرآن — بإضافته إلى من يجهل «السلطان».
ولهذا فإنه إذا كان من مات ولم يعرف الله يموت مِيتة جاهلية، فإنه قد بات لازمًا
أن «من
مات ولم يعرف السلطان مات مِيتة جاهلية» بالمثل.
٦٠ وهو نفس المأثور الذي يحضر عند الشيعة، ولكن بعد استبدال لفظ «الإمام» بلفظ
«السلطان». وإذ هي وصمة الجاهلية تطال من لا يعرف السلطان أو الله، فإنه لن يكون
غريبًا
أن الناس «يتدينون باعتقاد خلافته وإمامته وطاعته، كما يتدينون بوجوب أوامر الله
وبتصديق رسله في رسالته»؛
٦١ وبما يعني أنه إذا كان الخطاب يجعل الجاهلية وصمةً لمن لا يعرف الله أو
السلطان، فإنه يجعل التدين، لا في مجرد الاعتقاد بالله وطاعة أوامره، بل وفي الاعتقاد
بإمامة السلطان ووجوب طاعته. ومن هنا ما صاروا إليه من أن «
طاعتهم (أي السلاطين) هي من طاعة الله عز وجل، فريضة»؛
٦٢ لأن ما بدا من تماثلهما ذاتًا وصفاتٍ، إنما يلزم عنه توحُّدهما في نفس فعل
الطاعة. وبالطبع فإن الأمر يتجاوز، ضمن هذه التمثيلات، مجرد القصد إلى تقريب الله
للأفهام، إلى إنتاج نوع من المماثلة بين الله والسلطان أو الملك؛ وأعني من حيث طبيعة
عَلاقة الواحد منهما بما في يده وتحت قبضته، وفقط يأتي التباين بينهما من محدودية
ما
يقع تحت يد السلطان بالقياس إلى ما يقع في قبضة الله. لكنه يبقى أن طبيعة عَلاقة
السلطان بما تحت يده هي يحدد طبيعة عَلاقة الله بعالمه؛ لأن «العالم بأسره في سلطان
الله تعالى، كالبلد الواحد في يد سلطان الأرض.»
٦٣
وإذا كان يبدو، هكذا، أن السلطان هو الأصل في مقايسةٍ يكون الله فيها هو الفرع، فإن
ذلك يتجاوب مع سعي الخطاب إلى جعل الله قناعًا للسلطان. فإذ يشير مفهوم القناع إلى
أن
سلطةً ما لا تقدر على أن تحضر إلا عبر التخفي وراء سلطة أعلى وأكثر رسوخًا، فتتخذ
منها
قناعًا لتكتسب نفس تعاليها ورسوخها، فإن المتقنِّع (برغم كونه الأدنى) يكون هو الأصل،
وذلك فيما لا يفارق القناع (برغم كونه الأعلى) موقع الفرع، لأنه يبقى مجرد أداة يجري
توظيفها من أجل المتقنِّع ولحسابه.
وإذ تتكشف قراءة ضروب المقايسة السالفة عما يبدو وكأنه الانتقال من السلطان كظل لله
إلى السلطان كأصل يقاس عليه الله، فإنه يلزم الوعي بأن السلطان لا ينفرد بأداء دور
الأصل في هذه المقايسة دومًا. فإذ هي تكفل للسلطان، وجودًا ووحدانية وتدبيرًا للعالم،
أن يكون «الأصل» يقاس عليه الله، فإنها تستعيد لله كونه الأصل يقاس عليه السلطان،
حين
يتعلق الأمر بوجوب الاعتقاد والمعرفة والطاعة. وبالرغم من أن هذه الوظائف الأخيرة
(أعني
الاعتقاد والطاعة) هي المقاصد القصوى التي يبغي الخطاب — بحسب هذه المقايسة — ترسيخها،
فإنه يبقى أن إنتاجها يبدو مستحيلًا تمامًا إلا عبر هذا التبادل لموقع الأصل بين
الله
والسلطان؛ وأعني أنه يستحيل إنتاج الطاعة للسلطان بالقياس على الطاعة لله، إلا عبر
تصور
أن وحدانية السلطان وتدبيره لما تحت يده، هي الأصل يقاس عليه وحدانية الله وتدبيره
للعالم.
والحق أن هذا التقنُّع لسلطان الأرض وراء سلطان الله لمما يؤكد، بلا مواربة، على أن
تصور الإرادة مطلقةً لا تتحدد بشيء، بما يترتب عليه من نفي الضرورة والقانون، هو
أدنى
إلى أن يكون من لوازم السياسة التي تنأى — حين تكون تسلطية ومستبدة — بالعَلاقة بين
طرفيها (الحاكم والمحكوم) عن أن تتحدد بقاعدة أو تتقيد بقانون، بل تُترك نهبًا لمطلق
الإرادة؛ التي هي هنا إرادة المتسلط بالطبع. والحق أن مأزق التوظيف السياسي لصفة
«الإرادة» إنما يتجاوز مجرد التشويش على طبيعة الذات الإلهية إلى وصم الفعل الصادر
عنها
بالعشوائية أو حتى بالعبث، وذلك من حيث يقتضي تصوره عاريًا بالكلية من أي قصد أو
غاية.
واللافت أن هذا التصور للفعل بلا قصد أو غرض، يكاد يتعارض كليًّا مع تقريرات الله
التي
تحتشد بها نصوص وحيه، والتي تقطع صراحة بأن أفعال الله وأحكامه مؤطرة أو حتى معللة
بالقصد والغرض. فإذ الخلق، بحسب آية: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، معللٌ بغرض العبادة التي تتسع دلالتها
لما يتجاوز البعد الطقوسي، فإن كافة آيات الأحكام الواردة في الوحي، إنما يظهر فيها
الحكم الإلهي في ارتباط بما يتعلل به، على نحو يسمح بالقياس عليها بعد تجريدها في
الحكم. إن ذلك يعني أن هذا التصور للفعل عاريًا عن القصد والغرض، لا يمكن أن يجد
ما
يؤسسه فيما يفرضه «الديني» ويقتضيه، بل خارج مجاله كليًّا، وأعني ضمن مجال اشتغال
«السياسي».
وهكذا فإنه إذا كان مما يتسق مع دواعي العلم والحكمة أن يكون الفاعل — أي فاعل —
فاعلًا بالقصد والغرض، فإن الأولوية التي يستلزمها هذا التوظيف (السياسي) للإرادة
على
الحكمة، قد راحت تئول إلى نفي القصد وإقصاء الغرض؛ حيث الله إنما يفعل ويبدع «لا
لغاية
يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع
وضُر، لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه.»
٦٤ وإذ يقتضي هذا النفي للقصد والغرض وجودَ مرجِّح، لا محالة، يترجح به وقوع
الفعل في الوجود على عدمه، فإن الخطاب قد أدرك هذا المرجِّح في مجرد مطلق الإرادة
التي
«يتأتى بها (فقط) تخصيص الممكن (فعلًا أو حكمًا).»
٦٥ وأما «ما يقال من أن العلم بالمصلحة (أو القصد والغرض) صالح لذلك (أي لهذا
التخصيص) فممنوع.»
٦٦ ومن هنا فإنه ينبغي «ألا يتوقف عاقل في أن علمه (يعني الله) بوجه المصلحة
(أو الغرض) لا يكفي في فعله»
٦٧ حيث الفعل إنما يترجح وجوده أو عدمه بمطلق الإرادة، وليس بما يتضمنه من
وجوه القصد والمصلحة التي هي انعكاس لعلم الله وحكمته. وهكذا بالرغم من أن كلًّا
من
العلم والحكمة هما — كالإرادة تمامًا — مما تتحدد به الذات الإلهية، فإنهما يُقصَيان
كليًّا لتبقى الإرادة وحدها، أهم ما تتحدد به عَلاقة هذه الذات بفعلها حسب الخطاب.
وهنا
فإنه لا يمكن الادعاء بأنه الحرص على أن تظل الذات بمعزل عن تصورها يعتريها النقص
والاحتياج للغير حال تحددها بشيء؛
٦٨ إذ الحق أن الأمر لا يتعلق بتحددها بشيء من خارجها بقدر ما هو التحدد بما
يخص ماهيتها. ولأن النقص يعتري الشيء حال تحدده بما هو خارجه، فإنه يستحيل تصوره
يعتري
الذات الإلهية حين تتحدد بما تنطوي عليه ماهيتها. وإذ يحيل ذلك إلى أن كمال الذات
ليس
موقوفًا على ربط الفعل الصادر عنها بمطلق الإرادة، فإن ذلك يؤكد، مرة أخرى، على أن
منطق
إطلاق الإرادة لله، إنما يقوم خارج تصور ذاته؛ وأعني ضمن تصور ذات أخرى. إنها ذات
الملك
أو السلطان التي راح الخطاب الأشعري يستدعيها لتعمل، ضمن استراتيجيته في
التأويل عبر التمثيل، كأصل، لإثبات الإرادة قديمةً ومطلقةً
لله، بالقياس عليه. حيث «الدليل على أنه (الله) مريد بإرادة قديمة، أنه قد قام الدليل
على أنه مَلِك، والمَلِك من له الأمر والنهي (والإرادة بالتالي)، فهو (الله) آمرٌ
وناهٍ (ومريد)»
٦٩ قياسًا على المَلِك بالطبع. والحق إنها المقايسة الكاشفة عن أن «السياسي»
هو الأصل في إطلاق الإرادة لله. فإذ تثبت الإرادة لله قياسًا على إثباتها للمَلِك،
فإن
طبيعة تلك الإرادة التي يثبتها الوعي، كلية ومطلقة ولا تتحدد بشيء خارجها، لله، سوف
تتحول إلى سند لتصور طبيعة الإرادة الثابتة للمَلِك أصلًا، على نفس النحو من الإطلاق
والكليَّة. إن ذلك يعني أن القصد إلى ترسيخ الإرادة كلية ومطلقة للسلطان هو الأصل
في
إطلاقها لله، وبما يحيل إلى أن «السياسي» يحدد «الديني» ضمن هذه المقايسة، ولكنه
يعود
ليتحدد، بدوره، به بعد ذلك.
وإذن فإنه «السياسي» وقد راح يحدد «الأُنطولوجي» عبر وساطة «الديني والثيولوجي». وضمن
سياق هذا التحدد فإن بناء الأُنطولوجيا الأشعرية إنما يعكس — وينعكس أيضًا — في بناء
دولة القمع السياسي العربية التي لا تعرف إلا إرادة المستبد وسطوته، وليس منطق القانون
وسلطته. إنها الدولة التي راحت تؤسس لحضورها الذي لا يغيب، عبر مخايلة هذا الانعكاس،
وبفضل توسط «الديني» الذي أمكن معه أن تكون إرادة الله مجرد قناع لإرادة
المستبد.
إن ذلك يعني، في كلمة أخيرة، أن دولة الإرادة المشخصة التي تغطي بممارستها المستبدة
عالم العرب الراهن، إنما تجد ما يؤسسها، واعية أو غير واعية، في تلك الأغوار السحيقة
التي ينصهر فيها السياسي مع العقائدي والأُنطولوجي. وليس من شك في أنه من دون اكتناه
هذه الأغوار والوعي بما تنطوي عليه ويشتغل فيها، وتفكيكه، فإنه لن يكون الانتقال
ممكنًا
أبدًا من عَلاقة القمع إلى عَلاقة القانون والشرع، بل سيبقى الاستبداد عتيًّا، يعيد
إنتاج نفسه من وراء زخارف الديمقراطية والحداثة وأكثر زركشاتها لمعانًا وبريقًا.