المقطع الثالث
كيف تمددت الأشعرية تحت خطاب الإسلام السياسي
«إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من الله، هو
الذي آتاهم إياه.»
سيد قطب
ظل لواء الهيمنة معقودًا لهذه الأشعرية النقية الخالصة لتعمل، على مدى القرون، منذ
اكتمال
تبلورها النهائي على مدى القرنين الخامس والسادس الهجريين، إلى أن طرقت الحداثة الأوروبية
أبواب العالم الإسلامي عند بدايات القرن التاسع عشر. وعندئذٍ فإنه كان عليها أن تراوغ
بأن
تسمح للحداثة بالاشتغال كمحض بُرقُع شكلي تتخفى هي وراءه في العمق. فقد ظلت الأشعرية
حاضرة؛
وفقط فإنها قد اتسعت لضروب من الإحلال التي راحت تحصل على سطحها. فقد راح يحل العقل
المبرقع
بزخارف الأيديولوجيا الحديثة محل العقل اللاهوتي التقليدي، وبحيث يمكن القول إن مادة
العقل
فقط كانت هي التي تَطالها عمليات الإحلال، وأما النظام العميق لهذا العقل فإنه قد
ظل فاعلًا
كما هو. فإذ كان العقل اللاهوتي ينظر في العالم ليعثر فيه الدليل على الله الذي يؤمن
به
أصلًا، فإن العقل الأيديولوجي لن يفعل بدوره إلا أن ينظر في واقعه ليعثر فيه على ما
يؤكد به
جدارة الأيديولوجيا التي ينطلق من الإيمان بها أصلًا. ومن جهة أخرى، فإنه قد سمح بممارسة
السياسة من خلال قاموس مفاهيمي جديد يتسع لمقولات: الديمقراطية والدستور وحكم القانون
والانتخاب والبرلمان وغيرها كبديل لقاموس المفاهيم التقليدية التي تشمل الشورى وحكم
الشريعة
والعقد والبيعة والاختيار وأهل الحل والعقد؛ ولكن مع ملاحظة أن الجوهر الاستبدادي
لتلك
السياسة الذي اشتغل تحت سطح المفاهيم التقليدية قد ظل قائمًا وراء المفاهيم الحديثة
من دون
أن يطاله أي تغيير. بل لعله يجوز القول بأن قناع المفاهيم الأحدث قد أتاح للاستبداد
أن
يتخفى بما أطال أمد بقائه.
وعلى مدى أكثر من قرن، فإن الأشعرية قد ظلت تشتغل على هذا النحو المراوغ إلى حين إعلان
سقوط الخلافة مع نهاية الربع الأول للقرن العشرين. ففي أعقاب سقوط الخلافة، بدا وكأن
نوعًا
من القلق قد راح يتسرب إلى العَلاقة بين الإسلام والحداثة؛ وعلى النحو الذي كان يلزم
معه أن
تتسع الأشعرية لفيالق المحتجين الجدد على ما بدا أنه الإخراج للإسلام من ساحة السياسة.
ولقد
بدا أن ما يقصد إليه هؤلاء المحتجون هو كسر الصيغة الأشعرية المراوغة التي استقرت
منذ بدء
الاتصال بالحداثة، وقامت على تغليف الأشعرية بإكسسوارات حداثية، والسعي إلى استعادة
الأشعرية من دون بعض إكسسوارات الحداثة. ولعلهم كانوا يقصدون بالذات استعادة كلٍّ
من عقلها
اللاهوتي ما قبل الأيديولوجي من جهة، وجهازها المفاهيمي التقليدي المتعلق بممارسة
السياسة
والحكم من جهة أخرى. وأما ما تُمدهم به الحداثة مما تنتجه من التقنية والعلوم البحتة
وتطبيقاتها العملية؛ فإنه كان مما لا يقدرون على الاستغناء عنه في وضعهم الراهن. ولقد
كان
ذلك ما جرى التعبير عنه بصراحة ووضوح في الكتاب الذي بات إنجيلًا لحركات الإسلام السياسي؛
والذي هو كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب.
وهنا يلزم التنويه بأن الخطاطة التي يختزل فيها قطب الرؤية التاريخية التي يستحيل
تفسير
مشروعه الكامل خارجها، هي محض ترجيعٍ حرفي لتصور التاريخ الذي كرسته الأشعرية. ويقوم
جوهر
هذا التصور على أن التاريخ هو سيرورة سقوط وتدهور من لحظة مثال أو نَموذج اكتمل تحققها
في
الماضي (والتي يختزلها الأشاعرة في لحظة النبوة والخلافة الراشدة، واتسع بها البعض
لعصر
التابعين) إلى لحظات من السقوط الذي يتعاظم مع ازدياد البعد عنها.
وبحسب الأشاعرة وأهل السنة على العموم، فإن هذا السقوط لا يمكن إيقافه أو رفعه بفعلٍ
من
التاريخ الذي هو غير قابل للإصلاح أصلًا، بل يلزم القفز منه إلى لحظة الفضل الأولى
(التي
تكاد أن تكون قد تحولت إلى لحظة مطلقة خارجه)، والسعي إلى التوحد معها؛ لا تمثُّلًا
واستيعابًا واستدماجًا لها في أشكال وجودٍ أرقى، بل عبر مجرد التَّكرار والاجترار
لها فحسب.
فالوعي الأشعري (ومعه السلفي) لا يعرف صلاحًا للأمة في حالها الراهن إلا بما صلح به
أولها
في الماضي، وهو يتصور هذا الذي صلح به الأولون من قبيل المُعطى الذي يمكن استدعاؤه
مكتملًا
وجاهزًا إلى الحاضر، وليس بما هو تجرِبة يلزم فهم شروطها واستيعاب محدداتها. بل إنه
يتم
اسقاط كل الظروف التي تبلورت داخلها تجرِبة الصلاح الأولى؛ بحيث يتيسر تحويلها إلى
نموذج
قابل للتَّكرار أبدًا.
١
وإذ هو الانقسام — والحال كذلك — بين تاريخٍ منهار وبين لحظة مثال لا مجال لأي خلاص
إلا
باستعادتها، فإن قطب قد وقف بحدود اللحظة المثال عند «جيل الصحابة رضوان الله عليهم
الذي
خرَّجته الدعوة جيلًا مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه. ثم لم
تعد
تُخرج هذا الطراز مرة أخرى … نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن
لم يحدث
قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.»
٢ وإذن فإن اللحظة/المثال — عند قطب — هي تلك التي عاش فيها الجيل الأول من متلقي
الوحي الذين نظر إليهم على أنهم «الجيل القرآني الفريد»، والتي يُعَد كل ما بعدها
بمثابة
انهيار بالنسبة لها. وبرغم إشارة قطب إلى أن هذه اللحظة لم تتكرر في التاريخ على نحو
ما
حدثت به في البدء، فإنه لم يغلق الباب أمام إمكان تَكرار حصولها مرة أخرى. ولهذا فإنه
قد
مضى إلى تعيين ما يتصور أنه جوهر هذه اللحظة/المثال، وتحديد ما تعرض منه للغياب لاحقًا
على
النحو الذي آل إلى انهيار كل التاريخ اللاحق؛ والذي ستكون استعادته من جديد هي السبيل
إلى
تكرار اللحظة/المثال ثانية.
ومن جهتها، فإن الأشعرية قد صارت إلى أن أهم ما تتميز به لحظتها (المثال) هو أنها
لحظة
«الوَحدة والائتلاف» في مقابل ما تلاها من «التفرق والاختلاف» الذي هو علامة سقوط
كل
التاريخ اللاحق؛ وهو الأمر الذي اختزل السعي الأشعري إلى استعادة اللحظة/المثال في
مجرد
إقصاء كل ضروب الاختلاف بوصفها انحرافًا عن الأصل الأول لا بد من رفعه. وإذ تبنى سيد
قطب
خطاطة المثال والانهيار ذاتها، فإنه قد اختلف فقط من حيث المضمون الذي أعطاه للحظة/المثال،
وبالتالي لمضمون ما سيتلوها من تاريخ الانهيار اللاحق. فقد كان «النقاء» هو جوهر
اللحظة/المثال عند قطب، ويعني به نقاء النبع الذي يستقي منه الجيل، حيث «كان القرآن
وحده هو
النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه (وما كان حديث رسول الله
ﷺ وهديه
إلا أثرًا من آثار ذلك النبع)، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية حضارة، ولا ثقافة،
ولا
علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات … كلا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها
وقانونها
الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده. وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية
ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم. وكانت هناك
حضارة
الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك. وحضارات أخرى قاصية ودانية:
حضارة
الهند وحضارة الصين … إلخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحُفان بالجزيرة العربية
من
شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة العربية.
فلم يكن
إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله
وحده في
فترة تكوُّنه، وإنما كان ذلك عن تصميمٍ مرسوم، ونهجٍ مقصود.»
٣ وهكذا فإن على المرء أن يسكت عن حقيقة أن الجزيرة العربية كانت مغلقة، لظروف
البيئة الجغرافية، في وجه هذه الحضارات والثقافات التي لم تكن لتقدر على النفاذ إليها
والتأثير فيها، ويتقبل ما تُضمره أطروحة قطب من أن كل هذه الحضارات والثقافات كانت
معروفة
على نحو واسع في الجزيرة العربية، وأن النبي هو الذي قصد إلى منع الجيل الأول من الصحابة
من
الاتصال بها. فقد «كان هناك قصد من رسول الله
ﷺ أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك
الجيل في فترة التكوين الأولى، على كتاب الله وحده.»
٤ وإذن فإن فَرادة جيل الصحابة، ومثالية لحظته، إنما ترتبط باقتصاره على القرآن
نقيًّا، قبل أن يتم خلطه بغيره؛ وبما يمثل بدء السقوط في كل التاريخ اللاحق. فقد «حدث
أن
اختلطت الينابيع، وصبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم،
وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات
والثقافات. واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول
أيضًا. وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل
أبدًا.»
٥
ولكن فَرادة اللحظة ومثاليتها لا ترتبط فقط بنقاء النبع، بل وكذا بطبيعة المنهج الذي
تعامل به الصحابة مع هذا النبع النقي. فالجيل الأول «إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى
أمر الله
في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى
ذلك
الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور
تلقيه.»
٦ وإذ يميز هذا التلقي بأنه «التلقي للتنفيذ والعمل الذي صنع الجيل الأول، (في
مقابل) التلقي للدراسة الذي خرَّج الأجيال التي تليه»،
٧ فإن نَموذجية التلقي الأول عنده من أن المرء فيه لا يسأل ويناقش، بل فقط يتلقى
لينفذ كالجندي في الميدان. إن ذلك يعني أن الوحي — حسب قطب — ليس حوارًا مع الإنسان
وعيًا
وواقعًا، بقدر ما هو محض جملة أوامر وتكليفات تُلقيها السماء على الأرض التي لا يكون
مطلوبًا منها إلا الإذعان من دون نقاش.
وهنا يلزم التنويه بأن هذا التصور القطبي للوحي إنما يجد ما يؤسسه كاملًا في كل عناصر
البناء الأشعري للنبوة التي يكشف التحليل عن تعامل الأشاعرة معها يما هي محض خطاب
إلهي في
المطلق لا يتحدد بأحوال الوضع الإنساني في العالم. فإذ بدا للأشاعرة ضرورة أن تتمركز
اللحظة/المثال — التي يبدأ منها التاريخ سيرورة تدهوره — حول النبوة بالذات؛
٨ وذلك لإمكان تصورها من طبيعة مطلقة، وغير مشروطة — على أي نحو — بالوضع
الإنساني، فإنهم قد انشغلوا بالتفكير في كل عناصرها على النحو الذي يتيح هذا الإطلاق.
وهكذا
فإن النبوة لا تتكشف — بحسب الأشاعرة — سواء بتعريفها (في اللغة والاصطلاح)، أو بتعيين
جهة
وقوعها (على الإمكان أو الوجوب)، أو بما يدل على صدقها (المعجزة)، إلا عن كونها مجرد
خطاب
في المطلق غير مشروط بأي وضع إنساني أو تاريخي، وبمعنى أنها تستبعد تمامًا أي حضور
لما هو
إنساني أو تاريخي في بناء أي واحد من هذه العناصر، وتستبقي فقط مجرد الحضور المطلق
الله،
برغم أن ذلك قد آل بالأشاعرة كثيرًا إلى مواجهة مصاعب وتناقضات ملزمة. وإذ يبدو، هكذا،
أن
الانبناء ضمن سياق المطلق، وليس التاريخي، يمثل ثابتًا بنيويًّا ينتظم كافة العناصر
الجزئية
لما يمكن اعتباره «نسقًا نبويًّا»،
٩ فإن القول في واحد فقط من العناصر الجزئية الخاصة بالنبوة (كالتعريف أو جهة
الوقوع أو المعجزة وغيرها)، سوف يتجاوز — لا شك — الحدود الخاصة بكونه مجرد عنصر جزئي
إلى
كونه نَموذجًا دالًّا على بنية النبوة بأسرها. وعلى هذا فإن حقيقة كون النبوة مجرد
خطاب في
المطلق، لا التاريخي، يمكن أن تتأتى — مثلًا — من التعيين الأشعري لوقوعها على جهة
الإمكان والجواز»،
١٠ بمثل ما يمكن أن تتأتى من أي عنصر جزئي آخر (كتعريفها مثلًا).
إذ الحق أن التعيين الأشعري لوقوع النبوة على جهة الإمكان، إنما يرتبط بما صار إليه
الأشاعرة، على العموم، من أن «الفعل الصادر منه (الله) مختص بضروب من الجواز لا يتميز
بعضها
من البعض»
١١ وهو التصور للفعل اللازم، على نحو جوهري، لإثبات القدرة الإلهية مطلقةً من كل
تحديد، وذلك باعتبار أن «المصحح للمقدورية هو الجواز، ولو رفضناه تبقى إما الوجوب
أو
الامتناع، وهما يمنعان من المقدورية.»
١٢ وإذا كان قد بدا أن تصور الفعل منطويًا، هكذا، على ضروب من الجواز لا يتميز
بعضها من البعض، هو مما يقتضي حقًّا ضربًا من التبرير العلي أو الغائي لاختصاص أحد
وجوهه
(الجائزة) بالوجود دون غيره، فإن الأشاعرة قد صاروا إلى أن الله إنما يفعل ويبدع «لا
لغاية
يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع
وضر، لم
يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه، بل الخلق وأن لا خلق له جائزان،
وهما
بالنسبة إليه سيان.»
١٣ والحق أن هذا الإبطال للقصد والغرض كان لازمًا بسبب ما تصوره الأشاعرة من أنه
يكون مهددًا للذات الإلهية عبر وصمها بالنقص والحاجة، وذلك من حيث يكون «الفاعل بغرض
مستكمل بالغرض»؛
١٤ وهو الأمر الذي «يوجب افتقار الأشرف إلى الأخس في إفادة كمالاته له، وأن يكون
ناقصًا قبله.»
١٥ وإذن فإن الثابت الذي يلازم تفكير الأشاعرة أبدًا، إنما يتمثل فيما انتهوا إليه
من أن إبطال القصد والغرض يمثل عنصر تهديد للهوية الإلهية (وبما يعنيه ذلك من أنهم
لم
يدركوا فيه عنصر تعيين وتحديد أو حتى كشف وتحقيق فيما بدا من الحديث القدسي عن الكنز
المدفون لتلك الهوية)؛ وعلى النحو الذي يقطع بأنهم — وعلى العموم — لا يرون في أي
تحديد
(تاريخي أو إنساني أو حتى طبيعي) لما يقولون به من «الإطلاق» إلا عنصر تهديد لا بد
من نفيه
ورفعه …
١٦ ومن هنا ما صاروا إليه من وجوب نفي الغرض ورفع القصد.
وإذ بدا لازمًا — بعد هذا الإبطال للغرض والقصد — ضرورة أن يكون هناك مرجح يترجح
به وجود
أحد الوجوه الجائزة جميعًا — وبدرجة واحدة — للفعل، وذلك من حيث تبقى معضلة اختصاص
أحد
الوجوه الجائزة للفعل دون غيرها، قائمة دون تجاوز، فإن الأشاعرة قد صاروا — وكعهدهم
أبدًا —
إلى تصور هذا المرجح في إرادة مطلقة غير محددة بشيء خارجها، هي فقط «ما يتأتى بها
تخصيص الممكن.»
١٧ وأما ما يقال من أن العلم بالمصلحة (أو الغرض) صالح لذلك (التخصيص) فممنوع، إذ
قد تكون المصلحة في الفعل أو الترك متساوية.»
١٨ وإذن فإن المطلق هو ما يحدد ذاته وفعله بنفسه، ومن دون أن يكون لشيء خارجه أي
دور في تحديده.
ولعله يلاحَظ أن الأشاعرة، هنا، قد تطرفوا في استبعاد أي دور لما هو خارج ذات الله
في
تعيين فعله،
١٩ وإلى الحد الذي لا يكون فيه، حتى لعلمه هو نفسه بالمصلحة (الإنسانية بالطبع) أي
دور في تعيين فعله وتحديد ماهيته. ومن هنا ما صاروا إليه من أنه «لا ينبغي أن يتوقف
عاقل في
أن علمه (أي الله) بوجه المصلحة (أو الغرض) لا يكفي في فعله.»
٢٠ إذ الفعل — أو بالأحرى أحد وجوهه الجائزة — يترجح وقوعه بمجرد تعلق الإرادة
المطلقة به، وليس لصفة في ذاته، كمصلحة ينطوي عليها أو غرض يقصد إليه، وذلك لأن الأفعال
—
حسب النسق — لا تنطوي في ذاتها على ما تتقوم به، فيما سبق القول، بل تتقوم بما يلحقها
ويتعلق بها من الخارج فحسب،
٢١ وهي هنا محض الإرادة المطلقة.
ولعله يمكن المصير من ذلك إلى أنه فيما يحيل تصور اختصاص أحد الوجوه الممكنة للفعل
بالوجود دون غيره، مبررًا بالغرض والمصلحة (الإنسانيين بالطبع) إلى تصوره يتحدد في
سياق
إنساني وتاريخي، فإن تصوره مُرجحًا بمحض الإرادة (المطلقة) إنما يحيل، في المقابل،
إلى
تصوره يتبلور ضمن سياق المطلق فقط. ولعل ذلك يعني أن تصور النبوة، وككل أفعال الله،
«ممكن
يستوي طرفاه»؛
٢٢ وبمعنى أنها «ليست واجبةً أن تكون ولا ممتنعةً أن تكون، بل الكون، وأن لا كون،
بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجحها، سيان»،
٢٣ وما يرتبط بذلك، بالطبع، من وقوعها بمطلق الإرادة، لا بالقصد والغاية، إنما
يحيل إلى أن المعتبر لدى الأشاعرة، في النبوة، هو «الخطاب الإلهي» بما ينطوي عليه
من إطلاق،
وليس «الوضع الإنساني» بما ينطوي عليه من تحديد.
٢٤ وليس من شك في أن هذا الانبناء للنبوة في النسق الأشعري ضمن سياق (المطلق) لا
(التاريخي)، هو — لا غيره — ما يؤسس معرفيًّا لما صار إليه التصور التاريخي الأشعري
من
بنائها كلحظة مثالية متعالية ومن طبيعة لا تاريخية، يبدأ منها التاريخ اللاحق مسيرة
سقوطه
وانهياره، وكذا يؤسس للكيفية التي انبنى بها الوحي في سياق هذا التصور التاريخي أيضًا،
وذلك
من حيث يتبلور، بدوره، كخطاب في المطلق «لا ينطوي على أي تعدد أو اختلاف، فصار أدنى
إلى
الوحدة المغلقة التي لا تقبل شيئًا سوى التَّكرار، وبحيث استحال — وكما سبق القول
— إلى
مجرد «نَموذج» يستحيل إلا الاحتفاظ به — ككل نموذج — في اكتماله المطلق عبر الاجترار،
وليس
نقطة بدء للوعي يرتكز عليها في سعيه إلى إبداع أشكال وجود أعلى، وذلك مع الاحتفاظ
بها في
عَلاقة تفاعل وحوار. وفي كلمة واحدة، فإنه قد استحال إلى أساس للتاريخ بما هو آلية
«تَكرار»، وليس مغامرة «حوار»، أو التاريخ بما هو تقليد واتباع، وليس التاريخ بما
هو خلق وإبداع.»
٢٥ وهكذا فإن الأساس النظري لتصورات قطب عن فرادة لحظة النبوة (بما هي
اللحظة/المثال) إنما يقوم بكامله في الأشعرية، وليس خارجها.
ولأن طبيعة اللحظة/المثال أنها مطلقة ومتعالية، فإن عَلاقتها مع ما يتعارض معها مما
يعاصرها تكون عَلاقة استعلاء ومفاصلةٍ كاملَين. فقد «كانت هناك عزلة شعورية كاملة
بين ماضي
المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صِلاته بالمجتمع الجاهلي
من
حوله وروابطه الاجتماعية. فهو قد انفصل نهائيًّا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًّا
ببيئته
الإسلامية، حتى لو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي،
فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.»
٢٦ وإذ يعني ذلك أن عَلاقة لحظة النبوة، عند قطب، بما سبقها هي علاقة النفي
الكامل، وليس الاحتواء والاستيعاب، فإن ذلك، بدوره، إنما يجد ما يؤسسه في صياغة الأشاعرة
لعَلاقة النبوة بما سبقها من نبوات سابقة بالذات. فإذ كان النسخ هو المفهوم الذي ينظم
عَلاقة النبوة المحمدية بما سبقها، فإن الأشاعرة قد جعلوا من «ضرورة ثبوت النسخ على
التحقيق
رفع حكم بعد ثبوته»؛
٢٧ وبما يعنيه ذلك من أن عَلاقة النفي وحدها هي فقط ما يحتملها النسخ بحسب الفهم
الأشعري له.
وبمثل ما كان الأشاعرة يسعَون، عبر تصورهم للتاريخ انهيارًا من لحظة الفضل الأولى،
إلى
تثبيت السلطة القائمة في حاضرهم بما هي تجسيد للسعي إلى استعادة لحظة الفضل، أو حتى
من حيث
تبرير الحاضر بوصفه سقوطًا لا بد من قبوله لأنه نتاج حركة تاريخية محتومة، فإنه يظهر
جليًّا
أن ذات التصور للتاريخ عند قطب إنما يجد تفسيره فيما يسعى قطب إلى تثبيته في حاضره
أيضًا.
وهكذا فإن ما يريد كلٌّ منهما ترسيخه في الحاضر هو ما يحدد نوع التصور الذي يحددانه
للماضي.
وبالطبع من دون أن يؤثر في ذلك أنه بينما كان الأشاعرة داعمين للسلطة التي بلوروا
في ظلها
تصورهم، فإن قطب كان معنيًّا — في المقابل — بنقض السلطة التي بلور تصوره في ظلها.
ومن هنا
فإن قطب سوف يجعل من عناصر الخطاطة التي رسم من خلالها صورة الماضي (وهي الجيل القرآني
الفريد الذي تعامل مع النبع الخالص النقي وحده، من خلال منهجه في التلقي للتنفيذ والعمل،
واستعلائه الشعوري وانفصاله الكامل عن كل ما يحيط به من جاهلية)، الأساس الذي تقوم
عليه
حركته الإسلامية المعاصرة. ولعله يجوز القول، على نحو صريح، بأن صوغ قطب لبرنامج حركته
في
الحاضر هو ما يوجه تصوره للماضي، وليس كما يخايل بالعكس.
فإذ انطلق في بناء رؤيته للحاضر من تقرير «نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها
الإسلام أو أظلم … (فإنه قد راح يرتب على ذلك أنه) لا بد إذن — في منهج الحركة الإسلامية
—
أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها.
لا
بد إذن أن نرجع إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال (الأوائل)، النبع المضمون
أنه
لم يختلط ولم تَشُبْه شائبة … ولا بد أن نرجع إليه — حين نرجع — بشعور التلقي للتنفيذ
والعمل، لا بشعور الدراسة والمتاع … ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي
والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية في خاصة نفوسنا … وإن أولى
الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدِّل
نحن
في قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا! إننا وإياه
على مفرق
الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق.»
٢٨ إن ذلك يعني — وببساطة — نوعًا من التساوي الكامل بين الجيل القرآني الفريد
الأول وبين جيل الحركة الإسلامية المعاصرة الذي يؤسس له قطب؛ وأعني من حيث اتفاقهما
على
الأخذ من النبع الخالص قبل أن يختلط، وعلى منهج التلقي للتنفيذ والعمل، وعلى الاستعلاء
على
المجتمع الجاهلي المحيط. وحين يدرك المرء أن قطب يُسقط، على هذا النحو، كل الزمن الفاصل
بين
الجيلين — والذي يزيد على الألف عام — فإنه لا سبيل إلى هذا الإسقاط إلا عبر تصور
فلسفي
للزمان يؤسس له. وهنا أيضًا فإن تصور الأشعرية للزمان هو ما يتكفل بتقديم هذا التأسيس
المعرفي. فإذ تصور الأشاعرة الزمان بوصفه مجموع آنات منفصلة يقوم الواحد منها بجوار
الآخر
من دون أن تكون بينهما عَلاقة ارتباط من أي نوع، فإن ذلك قد تأدى إلى أن تكون الطفرة
هي
السبيل الأوحد للانتقال من واحدها إلى الآخر، وبالطبع فإن هذا المفهوم الأشعري عن
«الطفرة»
باعتبارها جوهر الحركة في الزمان هي ما يتيح لقطب إمكان الانتقال من لحظة في الحاضر
إلى
لحظة في الماضي، ما دامت لا توجد عَلاقة ارتباط ضروري بين لحظات الزمان.
وإذا كانت لحظة المثال والفضل الأولى هي اللحظة الفريدة التي تحققت فيها «حاكمية الله»
للعالم لمرة وحيدة لم تتكرر بعدها أبدًا، فإن اللحظة التي ستكررها في الحاضر — من
خلال ما
يدعوه قطب بجيل الحركة الإسلامية (المعاصرة) — سوف تشهد التحقق الثاني لحاكمية الله
في
العالم. وهكذا فإنه إذا كان جيل الصحابة القرآني الفريد هو الذي حقق الحاكمية الأولى،
فإن
الحاكمية الثانية سوف تتحقق من خلال حكم الحركة الإسلامية المعاصرة. وهكذا يظهر بوضوح
أن
المعنى الذي يعطيه قطب لمفهوم حاكمية الله للعالم إنما ينصرف إلى حكم جماعته للعالم
لا غير؛
وبما يحيل إليه ذلك من أنه يغطي بحكم الله على حكم البشر. وهنا فإن قطب كان يمارس
على طريقة
الأشاعرة الذين أسسوا للتغطية بالله على ممارسات السلطان.
ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان قطب قد بلور تصورًا حول الإنسان لا يجاوز فيه كونه مجرد
متلقٍّ سلبي لما يُلقى إليه في كل مجالات حياته؛ وبما يشي بالانعدام الكامل لفاعليته،
فإن
هذا التصور يجد ما يؤسس له كاملًا في تراث الأشعرية الغالب للآن. فإنه يجب على المسلم
— حسب
قطب — أن يكون مجرد عبد يتلقى — من دون أن يفكر — في كل ما يتعلق بشئون حياته. ويتمثل
ذلك
«في الاعتقاد والتصور — بكل مقومات هذا التصور — تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون،
غيبه
وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق
كلها،
وتعامل الإنسان معها. ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول
التي
تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده. ويتمثل في التشريعات القانونية
التي
تنظم هذه الأوضاع … ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود
المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية. ثم يتمثل في
المعرفة
بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة.»
٢٩ وهكذا فإنه لا استقلال للإنسان أبدًا في أي من مجالات الفعل والمعرفة والتصور
والقيمة، بقدر ما هو التلقي وحده، ولا شيء سواه. وبرغم ما يقول قطب من أنه يكون «التلقي
عن
الله»، فإنه يبدو أن تحليلًا يكشف عن أنه يكون تلقِّيًا عن أناس يتميزون فقط بادعاء
امتلاك
سلطة التلقي عن الله.
وليس من شك في أن أساس هذا التصور القطبي للإنسان إنما يقوم في قلب التصور الأشعري
للإنسان الذي ينفي عنه القدرة على الفعل والمعرفة والحكم، فإن تفكيكًا لما طرحته الأشعرية
من تصورات حول الإنسان بالذات ينتهي، تقريبًا، إلى أنها لم تقصد إلا إلى تحويل البشر
إلى
كيانات نموذجية تؤمن بالاستبداد كمعتقد وتتعامل مع العنف كقدر. ولقد تحقق ذلك عبر
النفي
الكامل لفاعلية الإنسان وقدرته على الفعل والمعرفة وإنتاج القيمة، بل وكذا على الكينونة
والوجود. يتجلى ذلك فيما صاروا إليه من أنه إذا كان ثمة «برهان قاطع على أن كل ممكن
تتعلق
به قدرة الله تعالى، وكل ممكن حادث، وفعل العبد حادث، فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق
به قدرة
الله فهو محال»؛
٣٠ وبما يؤكد على ما قطعوا به من أن نسبة الفعل إلى الإنسان هي نسبة مجازية يكون
فيها الإنسان مجرد أداة يحصل الفعل من خلالها. وعلى صعيد إنتاج القيمة، فإن هذا النفي
لقدرة
الإنسان على الفعل قد آل إلى «المنع من أن يكون في العقل بمجرده طريق إلى العلم بقُبح
فعل
أو بحُسنه»؛
٣١ وبما يعنيه ذلك من دوام احتياج الإنسان إلى مرشد أو وصي. وبالطبع فإن ذلك كان
لا بد أن يحيل إلى عدم الثقة في قدرة العقل على المعرفة؛ وإلى حد أن الأشعرية قد جعلت
العلم، بما لا مدخل فيه إلا للعقل والتجرِبة، من قبيل «تمييز الأغذية من الأدوية والسموم
القاتلة … غير مُنال ولا مُدرَكٍ من جهة العقول، وأن الناس محتاجون في ذلك إلى سمع
وتوقيف»؛
٣٢ وبما يعنيه ذلك من إهدار كافة القوى الإنسانية. وحتى فيما يتعلق بقضايا يستحيل
التفكير فيها من دون الإقرار بقدرة الإنسان وفاعليته في الواقع؛ من قبيل قضية الأسعار
مثلًا، فإن القطع كان حاسمًا بأن «السعر يتعلق بما لا اختيار للعبد فيه»؛
٣٣ لأن السعر يكون من «الله تعالى الذي يخلق الرغائب في شراء (السلع)، ويوفر
الدواعي على احتكارها.»
٣٤ وهكذا لا تتورع الأشعرية عن وضع مسئولية الاحتكار على كاهل الله، حتى لا تضطر
إلى نسبة الفعل إلى الإنسان. ولعل ذلك يكشف عن الكيفية التي تستخدم بها الأشعرية الله
من
أجل أن تغطي به على الممارسات المتعسفة لطغمة من الذين يتسلطون على الناس باستبدادهم
واحتكارهم، ولا يريدون أن يتحملوا المسئولية عن أفعالهم الآثمة. إن المراوغة هنا تتأتى
من
أن الأشعرية تخلط بين مستويين للحديث عن مسألة الأفعال؛ أولهما: هو المستوى الميتافيزيقي
الذي يدور فيه القول حول الفعل على العموم، ومن دون تحديد، وثانيهما: هو المستوى العيني
الذي يدور فيه القول على أفعال بعينها (كالأسعار والأرزاق والآجال وغيرها). فإذ يجوز
للأشعرية، في حال الأفعال على العموم، أن تنسب خلقها إلى الله على الحقيقة، بينما
تردها إلى
الإنسان على سبيل المجاز (من خلال ما تقول إنه الكسب)، فإنه يستحيل في حال أفعال محددة
كالأسعار والآجال والأرزاق إلا أن تردها إلى فاعلها الحقيقي الذي هو الإنسان؛ حيث
إن نسبتها
إلى الله كفاعل لها تكون من قبيل نسبة الظلم إليه. فإن قول الأشعرية في رُخص الأسعار
وغلائها أنه يكون من الله، وأن ما يغصبه الغاصب يكون له من الله بتقديرٍ وعطاءٍ ورزق،
وأن
اعتبار المقتول ميتًا بأجله على النحو الذي تنتفي معه المسئولية عن القاتل، لا يعني
إلا رفع
هذه المظالم عن كاهل فاعليها من المحتكرين والغاصبين والقتلة، لتنسبها إلى الله. وهكذا
فإنها تصل إلى القبول بنسبة المظالم إلى الله، لكي لا تنسب إلى الإنسان قدرة حقيقية
على
الفعل. وبالطبع فإن ذلك يعني أن القصد من وراء نفي القدرة على الفعل أو المعرفة أو
الحكم،
ليس إفراد الله بالقدرة كما تُشيع الأشعرية، بل التغطية به بالأحرى على مظالم المستبدين
والمحتكرين والقتلة، ولو أدى ذلك إلى نسبة الظلم إليه. والغريب أنه سيتم التعالي بهذا
اللاهوت — الذي يجوز وصفه بأنه لاهوت الاستبداد والعنف — إلى حيث يصبح دينًا يتعبد
الناس به
الله.
والحق أن هذه التغطية بالله على الاستبداد إنما تجد ما يدعمها، وعلى نحو كامل، في
ما تؤسس
له الأشعرية — ومع الغزالي تحديدًا — من رفع الفارق بين الله والسلطان إلى حد تكريس
ضربٍ من
التماهي شبه الكامل بينهما. فإذ مضى حجة الإسلام الأكبر إلى أن «الحضرة الإلهية لا
تُفهم
إلا بالتمثيل على الحضرة السلطانية»،
٣٥ فإنه كان يرتفع بالسلطان إلى المقام الذي يكون طرفًا في مماثلةٍ مع الله. ولعل
الأمر يتجاوز مجرد إحضاره طرفًا في المماثلة مع الله، إلى أن يكون الطرف/الأصل، بينما
الله
هو الطرف/الفرع. وإذ يرتقي الغزالي بالسلطان، على هذا النحو، إلى مقام التماثل مع
الله، فإن
ذلك يجعله من طائفة البشر الأعلى الذي يتعالى به الغزالي — ومعه كل أهل حضرته طبعًا
— على
إمكان الدخول في مماثلة مع البشر الأدنى. إن اللافت هنا هو أن الغزالي يماثل بين الله
والسلطان، بينما ينتمي كل واحد منهما إلى مجال وجودي مغاير للآخر على نحوٍ كامل، بينما
يجعل
التماثل مستحيلًا بين البشر الأعلى والبشر الأدنى، وهما ينتميان إلى مجال وجودي واحد،
فإنه
«لا ينبغي (للعامي) أن يقيس بنفسه غيره، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، وليس ما يخلو
منه
مَخادع العجائز يلزم أن تخلو عنه خزائن الملوك. فقد خُلق الناس أشتاتًا متفاوتين كمعادن
الذهب والفضة وسائر الجواهر، فانظر إلى تفاوتهما وتباعد ما بينهما صورةً ولونًا وخاصيةً
ونفاسة، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف، فبعضها معدِن النبوة والولاية والعلم
ومعرفة الله تعالى، وبعضها معدنٌ للشهوة البهيمية والأخلاق الشيطانية.»
٣٦ وهكذا فإن الغزالي لا يقيم التفاوت، في الحقيقة، بين الله والإنسان، بقدر ما
يقوم بترسيخه بين طائفتين من البشر؛ إحداهما تقوم في الأعلى والأخرى تتنزل تحتها في
الأدنى.
وبينما يكون الذين في الأعلى هم الملوك وأهل حضرتهم الذين هم من «معدن النبوة والولاية
ومعرفة الله تعالى»، فإن الذين في الأدنى من دهماء الحدادين والعجائز الذين هم «معدن
للشهوة
البهيمية والأخلاق الشيطانية». وإذ يرجع الغزالي بهذا التفاوت إلى أصل الخلقة؛ حيث
يرى خلق
الناس من معادن تتفاوت في الخاصية والنفاسة، فإن ذلك يعني أنه من قبيل التفاوت الطبيعي
الذي
لا يمكن القفز فوقه أبدًا. وبالطبع فإنه كان لا بد من توظيف هذا التفاوت في المجال
السياسي
أيضًا. وهو ما جرى فعلًا حين راح أحدهم ينطلق من التعالي بالسلطان إلى مقام التماثل
مع
الله، إلى القول بوجوب أن تصبح «طاعته هي من طاعة الله عز وجل، فريضة.»
٣٧ وبالطبع فإن ذلك يعني أن يكون فوق أي مساءلة أو محاسبة، لأن طاعته تكون فعلًا
تعبديًّا. وفي المقابل، فإن الانحطاط بالعامي إلى حيث يصبح «معدِن الشهوات البهيمية
والأخلاق الشيطانية» سوف يجعله مستحقًّا للزجر وللتنكيل به تنكيلًا يتصاعد من مجرد
الضرب
بالدِّرَّة إلى التلويح بالسيف والسنان.
٣٨
وهكذا فإن الأشعرية تجد نفسها مضطرة — وبالرغم منها — إلى التكشف عن حقيقة أن ما يشغلها
ليس إفراد الله بالتعالي والسمو، بقدر ما إن شاغلها هو الارتقاء بالسلطان إلى حيث
تصبح
طاعته فريضة. وبالرغم من هذا القصد السياسي الفاضح — وربما بسببه — فإن الأشعرية قد
بالغت
في التعالي بنفسها، وبكل ما أنتجته من تصورات، إلى المقام الذي أصبحت فيه دينًا يعلو
فوق
السؤال، أو حتى النقاش. ولقد راحت الأشعرية تحقق هذا التعالي بنفسها من خلال جملة
آليات
مترابطة رسَّخت بها مركزيتها وهيمنتها — غير القابلة للتحدي — في ثقافة الإسلام. وبالطبع
فإن ذلك كان يجري في مواجهة غيرها من المخالفين الذين كان لا بد من التدني بهم — في
المقابل
— إلى دَرْك البدعة والضلالة التي ستؤدي بأهلها إلى الهلاك. وهكذا فإن مسألة التعالي
والتدني التي اشتغلت — في المجال السياسي — تعاليًا بطائفة البشر الأعلى (المَلِك
وأهل
حضرته)، وتدنِّيًا بالبشر الأدنى (وهم العوام والدهماء)، سوف تشتغل — في المجال الثقافي
—
تعاليًا بالفكرة الأشعرية إلى حد اعتبارها هي صحيح الإسلام وحدها، في مقابل التدني
بأفكار
كل المخالفين عبر القذف بها إلى دَرْك البدعة والضلالة.
ولسوف يتحول ذلك — عند قطب وأتباعه الحركيين — إلى ضرب من الانقسام الحاد بين فسطاطين؛
أحدهما: هو فسطاط الإيمان الذي يضيق إلا عن هؤلاء الحركيين وحدهم، والثاني: هو فسطاط
الكفر
الذي يتسع لكافة الخصوم والمعارضين، وحتى المحايدين، من الدولة والمجتمع. وإذ مضى
قطب إلى
استحالة التلاقي بين هذين الفسطاطين المتقابلين أبدًا، فإن الأمر سرعان ما سيتحول
من مجرد
التقابل إلى التقاتل بينهما. وهكذا فإن أتباع قطب سوف يطورون «الجهاد» بوصفه «الفريضة
الغائبة» التي أسقطها المسلمون ولا بد من استعادتها في مواجهة فسطاط الكفر. والحق
أن
المقاتَلة كان لا بد أن تكون المآل الوحيد الذي ينتهي إليه الحركيون من أتباع قطب،
ابتداءً
من تأكيده على أنهم «السالكون طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي»، في
مقابل
«مجتمع الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعًا.» وبالطبع فإنه إذا كان الجهاد هو
السبيل
الذي سلكه أهل الجيل الأول لإقرار المنهج الإلهي، فإنه سيظل هو السبيل أمام كل سعيٍ
لاحقٍ
لإقرار هذا المنهج. وهنا يلزم التنويه بأن التحول من مجرد «تبديع» الخَصم (على طريقة
الأشاعرة المتقدمين) إلى القطع بوجوب «مقاتلته» (على طريقة المتأخرين من الحركيين
أتباع
قطب) لا يحيل إلى انقلاب في طبيعة الأشعرية، بقدر ما يحيل إلى ضروبٍ من التحول في
الظروف
السياسية التي تشتغل ضمنها الأشعرية. فعلى مدى تاريخ هيمنتها الطويل، اكتفت الأشعرية
بمجرد
تهميش الخصوم بالإلقاء بهم إلى مهاوي البدعة والضلالة. وأما حين تحولت إلى رؤية عقائدية
مغلقة يحملها فصيل سياسي معارض لاشتغالها من وراء مفردات قاموس السياسة الحديثة، ويريد
استعادتها نقية خالصة من شوائب الحداثة، فإن ذلك قد فرض عليها التحول إلى تكفير الخصوم
ومقاتلتهم، وليس الاكتفاء بمجرد تبديعهم.
فقد مضى قطب ينزع عن الأشعرية كل ما راح يشتغل على سطحها مع الحداثة، من العقل
الأيديولوجي والقاموس المفاهيمي السياسي الحديث، مقررًا: «إن المسلم لا يملك أن يتلقى
في
أمر يختص بالعقيدة، أو التصور العام للوجود، أو يختص بالعبادة، أو يختص بالخُلق والسلوك،
والقيم والموازين، أو يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي، أو الاجتماعي، أو
الاقتصادي، أو يختص بتفسير بواعث النشاط الإنساني وبحركة التاريخ الإنساني، إلا من
ذلك
المصدر الرباني، ولا يتلقى في هذا كله إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه.»
٣٩ وهكذا فإنه لا مجال لاستمرار أي اشتغال لما يخص الأيديولوجيا ومفاهيم السياسة
على سطح الأشعرية. ولكن عدم توفر الكفايات في غيرها من مجالات التقنية والعلوم البحتة،
يجيز
«للفرد المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية من المسلم وغير المسلم،
وأن ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم، وأن يشغِّل فيها المسلم وغير المسلم … لأنها
من
الأمور الداخلة في قول رسول الله
ﷺ: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهي لا تتعلق بتكوين
تصور المسلم عن الحياة والكون والإنسان، وغاية وجوده، وحقيقة وظيفته، ونوع ارتباطاته
بالوجود من حوله، وبخالق الوجود كله، ولا تتعلق بالمبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع
التي
تنظم حياته أفرادًا وجماعات. ولا تتعلق بالأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم
والموازين التي تسود مجتمعه وتؤلف ملامح هذا المجتمع … ومن ثَم فلا خطر فيها من زيغ
عقيدته،
أو ارتداده للجاهلية.»
٤٠ وهكذا فإنه لا يريد من غير المسلم شيئًا يتعلق بمعتقد أو رؤية أو تصور، بل كل
ما يريد منه هو نتاجات العلم التطبيقي الذي برع فيه. وإذ يعني ذلك أنه يريد ثمرة العلم
من
دون امتلاك العقلية التي أنتجته، فإن في ذلك ما يؤكد على أشعرية خطابه؛ ابتداءً من
أن جوهر
الأشعرية يتمثل في تعليق الظواهر المستحدثة التي تضطر للتعاطي معها كمحض قشرة خارجية
فوق
ذات البنى والتصورات التقليدية السائدة، ومع صرف النظر عن حقيقة أن كل طرَفٍ منهما
ينتمي
إلى مجال معرفي مغايرٍ بالكلية لذلك الذي ينتمي إليه الآخر.
ومن حسن الحظ، أن الأشعرية لا تحضر عنده من خلال هذا الوجه فحسب، بل إنها تحضر من
خلال
العناصر التي يبني منها قطب خطابه. فإذ يقرر قطب أن ركنَي التصور الإسلامي هما: «العبودية
المطلقة لله وحده (أولًا)، والتلقي في هذه العبودية (ثانيًا)»، فإن ذلك التصور يجد
ما يؤسسه
بالكامل في التصور الأشعري للإنسان، والذي لا يجاوز فيه الإنسانُ كونه محض أداة لتنفيذ
كل
ما يُلقى إليه على النحو الذي يجعل منه مجرد متلقٍّ سلبي غير فاعل. وأما ما يرتبه
قطب على
هذين الركنين من مفهوم «الحاكمية» الأكثر مركزية في خطاب الإسلام السياسي، فإنه يجد
تفسيره
في التوظيف الأشعري لله كقناع للحاكم.
ولعل ذلك يعني — من جهة — أن هذه الاستعادة للأشعرية كعقل (مقيَّدٍ تابع) وكمنظومة
سياسية
(تنبني على الإذعان والطاعة)، وكنظام قانوني (يقوم على تصور الإنسان مجرد موضوع للتكليف
بالواجب)، لكي تشتغل مع الحداثة كتقنية وعلوم تطبيقية، هي ما يمثل جوهر ظاهرة «الإسلام
السياسي». ومن جهة أخرى، فإنه يؤكد على حقيقة أن خطاب جماعة «الإخوان المسلمين» هو
خطاب
البدء في هذه الظاهرة؛ والذي راحت تتناسل منه كل جماعات الإسلام السياسي التي تكاد
الآن أن
تجعل العالم العربي ساحة للخراب والفوضى.