كأنه الختام

«لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد.»

أمل دنقل

على مدى ما يُعتبر عصر حداثته، بل وحتى ما قبله، فإن العالم العربي لم يعرف إلا سلالة من الحكام القياصرة؛ الذين يتناسل الاستبداد من خلالهم، وبكيفية لا يطال حضوره فيها أي انقطاع أو غياب. وإذ يحيل هذا الحضور الممتد، وغير القابل للانقطاع، للاستبداد، إلى استحالته (أعني الاستبداد) إلى ظاهرة موضوعية، وليس مجرد عَرَضٍ طارئ يرتبط بشروط ذاتية، من قبيل اختيارات الأفراد وتحيزاتهم، فإنه يلزم السعي إلى اكتناه الشروط التي تؤسس لحضوره الذي يستعصي على الانقطاع، وذلك انطلاقًا من أن وعيًا بهذه الشروط هو السبيل إلى زحزحة ما تؤسس له وتنتجه. وإذا كان ما يؤسس لظاهرة الاستبداد العربي يتجاوز ما هو ذاتي، فإنه يتجاوز كذلك ما ألح عليه «كارل فيتفوجل»، في تحليله الذائع لما أسماه بالاستبداد الشرقي، من الارتداد بالظاهرة إلى شروط طبيعية تتعلق بجغرافية المجتمعات النهرية التي ارتبطت بها هذه الظاهرة، وذلك انطلاقًا من أن مجتمعات الصحراء، وليس الماء، هي التي لعبت الدور الأهم في تحديد مسار التجرِبة التاريخية في السياق العربي الإسلامي؛ والتي يحتل الاستبداد موقعًا مركزيًّا داخلها. وبالمثل فإنه يبدو أن الارتداد بالظاهرة إلى شروط التطور الاجتماعي الراهن في العالم العربي، لا يقدر وحده على تفسيرها، لأن دولًا تعيش نفس الشروط تقريبًا، تسير بجدية على طريق التطور الديمقراطي، وبالطبع فإن ذلك لا يعني عدم كفاءة هذه التفسيرات، بقدر ما يعني بؤس استعارتها، كحلول جاهزة ومعممة، لتفسير ظاهرة الاستبداد العربي، التي تبدو في حاجة إلى نموذج تفسيري أكثر إنتاجًا وكفاءة. ولعل نَموذجًا يتنكر للدور الرئيس الذي يلعبه الشرط الثقافي في إنتاج ظاهرة الاستبداد العربي، يبقى عاجزًا، على نحو كامل، عن اكتناه وسبر أغوار هذه الظاهرة.

فإذ الثقافة هي حقل انبناء كلٍّ من العقل والخطاب ونظام المعنى وطرائق التفكير وآليات إنتاج المعرفة؛ التي تقف جميعًا وراء ضروب الممارسة التي تسود واقعًا ما، فإنه يستحيل اكتناه ظاهرة الاستبداد العربي، على نحو جدِّي، إلا عبر الوعي بالشروط المؤسسة لها في عالم المعنى ونظام الخطاب، اللذين يجدان، بدورهما، ما يؤسس لهما في نظام الثقافة المهيمنة. وابتداءً من هيمنة الأشعرية وسيادتها داخل الثقافة العربية الإسلامية؛ وذلك في جانبيها التراثي والحداثي، وإلى حد ما يبدو من أن نظامها العميق يكاد يحدد، على نحو كامل، بناء الخطاب العربي الحديث، فإن تفكيكًا لظاهرة الاستبداد العربي — والحال كذلك — لا يمكن أن يتحقق خارج فضاء الأشعرية، كخطاب وثقافة، وليس كمذهب وعقيدة.

وإذ هو الانتقال — ابتداء من أن كل ممارسة تكون مشروطة بخطاب يؤسس ويوجه — من عالم الممارسة إلى نظام المعنى والخطاب، فإن التعاطي مع ظاهرة الاستبداد لا بد أن يتجاوز مجرد السعي إلى إزاحة سلالة المستبدين، برغم الأهمية القصوى لذلك، إلى إزاحة الثقافة التي تنتج الاستبداد، فتنتجهم. وهنا يلزم التنويه بأن إزاحة ثقافة ما، لا يعني أكثر من أن تصبح موضوعًا لهيمنة الوعي، على نحو يقدر معه على تجاوزها، وذلك بدل أن يكون هذا الوعي هو الموضوع لهيمنتها، فتبقى مؤبدة التأثير والحضور.

ولعل القيمة المفترضة لهذه القراءة تتأتى، ليس فقط من سعيها إلى الإمساك بالشروط المؤسسة للاستبداد، داخل الأشعرية، وجعلها موضوعًا للوعي، على نحو يئول إلى إمكان التحرر من قبضتها، بل ومن رصدها، وهو الأهم، لكل مراوغات الاستبداد التي استطاع أن يطيل، عبرها، أمد بقائه. ولعله بدا أن مراوغته الكبرى إنما تنبني على المخايلة بدور للناس، في الظاهر، ثم سلبهم أي فاعلية في الحقيقة. ومن هنا فإن ثنائية الظاهر والحقيقة؛ التي ترد السلطة إلى الناس في الظاهر، ثم تتعالى بها، فتردها إلى قوة لا قِبل للبشر بها، في الحقيقة، هي الأصل في كل مراوغات الاستبداد التي لم تزل تؤسس — للآن — لحضوره. إنها الثنائية، التي تطفح بها لغة السياسة في عوالم العرب، والتي تتجلى، مثلًا، فيما يثرثر به المستبدون ودعاتهم، من حديث، لا ينقطع، عن آليات «الانتخاب» الحديث، بما تحيل إليه من إمكانية تداول السلطة، في الظاهر، بينما لا يعنون، في الحقيقة، إلا «البيعة»، بكل ما يرتبط بها في الفقه القديم من استحالة الانفلات منها أبدًا. وضمن هذا السياق، فإن زخارف الديمقراطية التي يزركش بها طغاة العرب أعمدة عروشهم المستبدة، هي — من غير شك — أحد تجليات ثنائية الظاهر والحقيقة، التي جعلت العربي يتمزق شقيًّا بين عالمين لا يعرف سبيلًا إلى التئامهما.

وبالطبع فإنه من دون الانفلات من أحابيل الأشعرية، كثقافة وخطاب؛ وأعني من خلال السيطرة عليها بالوعي، فإن سؤال الاستبداد سيظل يسكن عوالم العرب من غير جواب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤