الصديق المخلص
في صباح أحد الأيام أخرج جُرذ الماء العجوز رأسه من حُفرته. كان له عينان لامعتان كالخَرَز وشوارب رمادية خشنة وذيل طويل يُشبه قطعة من المطاط الهندي الأسود. كان البط الصغير يسبح في بِرْكة الماء، ويبدو تمامًا كمجموعة من عصافير الكناري الصفراء، أمَّا أمُّهم، التي كانت ذات لون أبيض صافٍ ورجلَين حمراوَين ناصعتَين، فكانت تحاول تعليمهم كيفية الوقوف على رءوسهم في الماء.
ظَلَّت الأم تقول لأبنائها الصغار: «لن تكونوا أبدًا جزءًا من صَفْوة المجتمع إلا إذا كان بمقدوركم الوقوف على رءوسكم.» وكانت بين الحين والآخر تُريهم كيفية فعل ذلك، ولكن البط الصغير لم يُعِرْها اهتمامًا؛ إذ كانوا صغارًا جدًّا، فلم يدركوا ما ميزة أن يكونوا جزءًا من مجتمع من الأساس.
صاح جُرذ الماء العجوز قائلًا: «يا لهم من أطفال غير مطيعين! إنهم حقًّا يستحقُّون الغَرَق!»
فأجابت البطة قائلةً: «لا أبدًا، لا بُدَّ أن يخطو كل واحد خطوته الأولى في الحياة، وليس بمقدور الآباء سوى التَّحلِّي بالصبر.»
ردَّ جُرذ الماء قائلًا: «أوه! أنا لا أعرف شيئًا عن مشاعر الآباء، فأنا لستُ ربَّ أُسْرة. في الواقع، أنا لم أتزوج قط، ولا أنوي الزواج أبدًا. الحب أمر جيِّد في حد ذاته، ولكن الصداقة أرقى بكثير. في الواقع، لا أجد في العالم ما هو أكثر نُبْلًا ولا ندرة من الصداقة المخلصة.»
تساءل عصفور تفاحيٌّ أخضر، كان يجلس على شجرة صفصاف قريبة، بعد أن سمع المحادثة صدفة، قائلًا: «وما هي، إن سمحت لي، فكرتك عن واجبات الصديق المخلص؟»
فقالت البطة: «أجل هذا بالضبط ما أريد معرفته.» ثم سبحت بعيدًا نحو نهاية البِرْكة، ووقفت على رأسها، حتى تقدِّم لأطفالها نموذجًا يُحتذَى به.
صاح جُرذ الماء قائلًا: «يا له من سؤال سخيف! بالطبع أتوقَّع من صديقي المخلص أن يكون مخلصًا لي!»
قال العصفور الصغير، وهو يتأرجح على غصن فضي، ويرفرف بجناحَيه الصغيرَين: «وما الذي ستفعله في المقابل؟»
أجاب جُرذ الماء قائلًا: «لا أفهمك.»
فقال العصفور: «دعني أحكي لك قصةً عن هذا الموضوع.»
فسأله جُرذ الماء: «هل هذه القصة عني؟ إن كان الأمر كذلك، فسأستمع إليها لأنني مولع للغاية بالقصص.»
فردَّ العصفور قائلًا: «إنها تنطبق عليك.» ثم طار لأسفل، وحَطَّ على ضفة النهر، وراح يروي قصة الصديق المخلص.
حكى العصفور قائلًا: «يُحكى أنه كان هناك رجلٌ صغير مخلص يُدعَى هانز.»
سأل جُرذ الماء قائلًا: «هل كان مميَّزًا جدًّا؟»
فأجاب العصفور: «لا، لا أعتقد أنه كان مميَّزًا على الإطلاق، باستثناء قلبه الطيب ووجهه المستدير المُضحِك المرح. كان يعيش في كوخٍ صغير بمفرده، وكان يعمل كل يوم في حديقته. لم تكن هناك حديقة في جميع أنحاء الريف تضاهي حديقته جمالًا. في حديقته تنمو زهرة قرنفل الشاعر، وزهور المنثور، ونبات كيس الراعي، وزهور الحوذان. وبها ورودٌ دمشقية، وورودٌ صفراء، وزهور الزعفران الأرجواني، وزهور البنفسج الذهبية والبيضاء والبنفسجية. كانت زهور الحوض وزهور حُرف المروج، والبردقوش والريحان البري، وزهر الربيع العطري والزنبق، والنرجس البري والقرنفل الوردي تُزهِرُ أو تتفتح في أوانها الصحيح على مدى العام، فتحل زهرة مكان الأخرى بحيث كانت توجد دائمًا أشياء جميلة تسر العين وروائح زكية تبهج الأنف.
كان لدى هانز الصغير الكثير من الأصدقاء، ولكن أخلصهم على الإطلاق كان الطحان هيو الكبير. كان الطحان الثري مخلصًا بحق لهانز الصغير، حتى إنه لم يكن ليمرَّ على حديقته دون أن يميل على سورها ويقطف صُحبة كبيرة من زهور الإكليل، أو يأخذ حفنة من الأعشاب الحُلوة، أو يملأ جيوبه بالخوخ والكرز إذا كان الوقت هو موسم نضوج الفاكهة.
اعتاد الطحان أن يقول: «الأصدقاء الحقيقيون يجب أن يتقاسموا كل شيء.» فيبتسم هانز الصغير ويهز رأسه موافقًا، ويشعر بفخر شديد؛ لأن له صديقًا لديه مثل هذه الأفكار النبيلة.
في بعض الأحيان، كان الجيران يرَوْن أنه من الغريب أن الطحان الثري لم يعطِ هانز الصغير أيَّ شيء في المقابل مطلقًا، على الرغم من امتلاكه مائة كيس طحين مُخزَّنة في طاحونته، وستَّ بقرات حلوب، وقطيعًا كبيرًا من الأغنام ذات الصوف. ولكن هانز لم يشغل باله بهذه الأمور، ولم يكن ثَمَّة ما يُسعِده أكثر من الاستماع إلى كل الأشياء الرائعة التي كان الطحان يقولها عن الإيثار في الصداقة الحقيقية.
ظل هانز الصغير يعمل في حديقته. وكان في غاية السعادة في فصول الربيع والصيف والخريف، أمَّا عند حلول الشتاء، فلم يكن لديه أيُّ فاكهة ولا زهور ليجلبها إلى السوق، فكان يعاني كثيرًا من البرد والجوع، وكثيرًا ما كان يأوي إلى فراشه دون تناول أي عشاء سوى بعض الكمثرى المُجفَّفة أو بعض المكسرات الصُّلبة. كما كان يعاني في الشتاء من وَحدة شديدة؛ إذ إن الطحان لم يكن يأتي أبدًا لزيارته في ذلك الوقت.
كان الطحان يقول لزوجته: «لا فائدة من ذهابي لرؤية هانز الصغير ما دام الجليد موجودًا؛ لأنه عندما يكون الناس في ورطة، ينبغي أن يُتركوا لشأنهم، وألا يزعجهم الزُّوَّار. تلك على الأقل هي فكرتي عن الصداقة، وأنا متأكِّد من أنني على صواب؛ لذا سأنتظر حتى يأتي الربيع وسأزوره حينئذٍ، وسيكون بمقدوره أن يعطيني سَلَّة كبيرة من زهور الربيع، وهو ما سيسعده كثيرًا.»
ردَّت زوجته بينما كانت جالسةً على مقعدها المريح بجانب نيران المدفأة المصنوعة من خشب الصنوبر قائلةً: «إنك حقًّا شديد المراعاة لمشاعر الآخرين، شديد المراعاة بحق. إنه لمن الممتع جدًّا أن أسمعك وأنت تتحدَّث عن الصداقة. أنا متأكِّدة من أنه ليس بمقدور رجل الدين نفسه أن يقول كلامًا جميلًا كهذا، مع أنه يعيش في منزل من ثلاثة طوابق، ويضع خاتمًا ذهبيًّا في إصبعه الصغير.»
قال ابن الطحان الأصغر: «ولكن ألا يمكننا أن ندعو هانز الصغير ليأتيَ إلينا؟ إن كان هانز المسكين في أزمة، فسأعطيه نصف عصيدتي وسأريه أرانبي البيضاء.»
صاح الطحان قائلًا: «يا لك من ولد سخيف! أنا لا أعرف حقًّا ما الفائدة من إرسالك إلى المدرسة. يبدو أنك لا تتعلم شيئًا. إذا جاء هانز الصغير إلى هنا، ورأى نيران مدفأتنا الدافئة، وعشاءنا الطيب، وبرميلنا الضخم المملوء بالنبيذ الأحمر، فقد يشعر بالحسد، والحسد هو أكثر الأشياء فظاعةً، فهو يفسد طبيعة أي شخص. لن أسمح بإفساد طبيعة هانز بكل تأكيد، فأنا أفضل أصدقائه، ودائمًا ما سأعتني به، وأتأكَّد من أنه لن ينقاد إلى أيَّة إغراءات. كما أنه لو جاء إلى هنا، فقد يطلب مني الحصول على بعض الطَّحين على الحساب، وهو شيء لا يمكنني فعله؛ فالطحين شيء، والصداقة شيء آخر، ويجب عدم الخلط بينهما، والكلمتان لهما تهجئتان مختلفتان ومعنيان مختلفان. إنه أمر واضح للجميع.»
قالت زوجته وهي تصبُّ لنفسها كأسًا كبيرًا من البيرة الدافئة: «أحسنتَ قولًا! إنني حقًّا أشعر بالاسترخاء الشديد، تمامًا وكأنني في الكنيسة.»
أجاب الطحان قائلًا: «الكثير من الناس يُحسِن التصرُّف، ولكن قِلَّة قليلة من الناس تُحسِن الكلام، مما يدل على أن الكلام هو أصعب الأمرَين، وأكثرهما رُقِيًّا أيضًا.» ونظر بحزم عبر المائدة لابنه الصغير، الذي شعر بخزيٍ شديد من نفسه حتى إنه طَأْطَأ رأسه، وتحوَّل لونه إلى قرمزي فاقع وبدأ يبكي وتتساقط دموعه في كوب الشاي. ومع ذلك، فقد كان صغيرًا جدًّا حتى إنك لا تَمْلك إلا أن تَلتَمِسَ له العُذر.»
سأل جُرذ الماء قائلًا: «هل هذه هي نهاية القصة؟»
فأجاب العصفور: «بالطبع لا، تلك هي البداية.»
فقال جُرذ الماء: «إذن أنت لا تواكب العصر مطلقًا، ففي وقتنا الحاضر، كل قاصٍّ جيِّد يبدأ بالنهاية أولًا، ثم ينتقل إلى البداية، ويختتم بالوسط. هذا هو الأسلوب الجديد. لقد سمعت كل شيء عن الأمر منذ فترة قريبة من ناقدٍ كان يتجوَّل حول البِرْكة مع شابٍّ. لقد تحدَّث عن الأمر باستفاضة، وأنا متأكِّد من أنه لا بُدَّ أن يكون على صواب؛ إذ إنه كان يضع نظارة زرقاء وكان رأسه أصلع، كما أنه كلَّما كان يُبدي الشاب أي ملاحظة، كان يجيب قائلًا: «أُفٍّ!» ولكن استكمل قصتك رجاءً. إنني أحب الطحان كثيرًا. لديَّ الكثير من المشاعر الجميلة أيضًا، لذا هناك قَدْر كبير من التعاطف بيننا.»
قال العصفور وهو يقفز تارةً على قدم، وتارةً على الأخرى: «حسنًا، ما إن انتهى فصل الشتاء، وبدأت زهور الربيع تتفتح بتلاتها الصفراء الشاحبة، حتى قال الطحان لزوجته إنه سيذهب لرؤية هانز الصغير.»
فصاحت زوجته قائلة: «كم أنت طيِّب القلب! إنك تفكِّر بالآخرين دائمًا! لا تنسَ أن تأخذ السَّلَّة الكبيرة معك من أجل الزهور.»
وهكذا ربط الطحان أشرعة طاحونة الهواء معًا بسلسلة حديديَّة قوية، وهبط التَّلَّ وهو يحمل السَّلَّة على ذراعه.
«صباح الخير يا هانز الصغير.» هكذا قال الطحان.
ردَّ هانز وهو يميل على مجرفته، ويبتسم بملء فمه: «صباح الخير!»
«كيف كان حالك طوال فصل الشتاء؟»
فصاح هانز قائلًا: «حسنًا، إنه لَمِن اللُّطف منك حقًّا أن تسأل عني، لطف منك حقًّا. لقد واجهت مع الأسف وقتًا عصيبًا أثناء الشتاء، ولكن ها قد حَلَّ الربيع، وأنا في غاية السعادة، وكل أزهاري بحالة طيبة.»
«لقد كُنَّا نتحدَّث عنك كثيرًا خلال الشتاء، يا هانز، وكنا نتساءل كيف تتعايش مع تلك الظروف.»
«كان هذا لطفًا منكم، كنت أخشى أن تكونوا قد نسيتموني.»
«أنا مندهش منك، يا هانز! إن الصداقة لا تُنسى أبدًا. وذاك هو الشيء الرائع بشأنها، ولكنني أعتقد، آسفًا، أنك لا تفهم جمال الحياة وإيقاعها الشعري. بالمناسبة، كم تبدو جميلة زهور الربيع المتفتحة في حديقتك!»
«إنها حقًّا جميلة للغاية، وإنه لمن الحظ الجيد أن لديَّ الكثير منها. سآخذها إلى السوق، وأبيعها لابنة رئيس البلدية، وأشتري بالمال عربتي اليدوية مرةً أخرى.»
«تشتري عربتك اليدوية مرة أخرى؟ هل تعني أنك قد بعتَها؟ يا له من تصرُّف غبيٍّ!»
فردَّ هانز: «حسنًا، الحقيقة أنني كنت مجبرًا على ذلك. فقد كان الشتاء وقتًا سيئًا للغاية لي، ولم يكن لديَّ أيُّ مال على الإطلاق لأشتريَ الخبز؛ لذا بِعتُ في البداية الأزرار الفضية لمعطفي الذي أرتديه يوم الأحد، ثم بعتُ سلسلتي الفضية، ثم غليوني الكبير، وأخيرًا، بعت عربتي اليدوية. ولكنني سأشتريهم جميعًا مرةً أخرى الآن.»
قال الطحان: «هانز، سأعطيك عربتي اليدوية. إنها ليست في حالة جيدة؛ في الواقع، أحد جانبيها مفقود، ويوجد خلل ما في مكابح العجلات؛ ولكن على الرغم من ذلك سأعطيها لك. أعلم أن هذا كرم شديد مني، وسيظن كثيرٌ من الناس أنني شديد الحمق للتخلِّي عنها، ولكنني لست كبقية العالم، أنا أومن أن الكرم هو جوهر الصداقة، إلى جانب أنني قد اشتريت لنفسي عربة يدوية جديدة بالفعل. يمكنك أن تهدأ بالًا، فسأعطيك عربتي اليدوية.»
ردَّ هانز الصغير، ووجهه المستدير المرح يتوهَّج سعادة: «حسنًا، هذا كَرَم منك، يمكنني أن أُصْلحها بسهولة؛ فلديَّ لوح خشبي في المنزل.»
فقال الطحان: «لوح خشبي! ذلك بالضبط ما أحتاجه لسقف حظيرتي. إن فيه فتحةً كبيرة للغاية، وستفسد الرطوبة الذُّرَة إن لم أمنع تسرُّب الماء. إنه لمن حُسْن الحظ أنك قد ذكرت ذلك! كم هو رائع أن يُكافَأ عمل الخير بالخير؛ فها أنا قد أعطيتك عربتي اليدوية، وأنت ستعطيني لوحك الخشبي. بالطبع، العربة اليدوية تساوي أكثر بكثير من اللوح الخشبي، ولكن صحيحٌ أن الصداقة الحقيقية لا تهتم بمثل هذه الأشياء. أرجوك، أعطني إيَّاه على الفور، وسأشرع من فوري في العمل على سقف حظيرتي اليوم.»
صاح هانز الصغير قائلًا: «بالتأكيد!» وركض إلى الكوخ وسحب اللوح خارجًا.
قال الطحان وهو يتفحَّص اللوح: «إنه ليس لوحًا كبيرًا للغاية، ويؤسفني أن أقول إنه بعدما أُصلح سقف حظيرتي لن يتبقى لك أي شيء تُصلِح به العربة اليدوية، ولكنه ليس خطئي بالطبع. والآن بما أني أعطيتك عربتي اليدوية، فأنا متأكد أنك سترغب في إعطائي بعض الزهور في المقابل. ها هي السَّلَّة، وتأكَّد من أن تملأها تمامًا.»
قال هانز الصغير بحزن نوعًا ما: «أملؤها تمامًا؟!» إذ كانت السَّلَّة كبيرةً للغاية، وكان يعلم أنه إن ملأها فلن يتبقى له أي زهور ليبيعها في السوق، وقد كان تَوَّاقًا للغاية لاستعادة أزراره الفضية.
فردَّ الطحان: «حسنًا، في الحقيقة، بما أنني قد أعطيتك عربتي اليدوية، فلا أعتقد أنه بالشيء الكثير أن أطلب منك بعض الزهور. قد أكون مخطئًا، ولكنني اعتقدتُ أن الصداقة، الصداقة الحقيقية، تخلو تمامًا من أي نوع من الأنانية.»
صاح هانز الصغير قائلًا: «يا صديقي العزيز، يا أعزَّ صديق، يمكنك الحصول على كل زهور حديقتي. سأفضِّل دائمًا الاحتفاظ بحسن ظنك فيَّ على الاحتفاظ بأزراري الفضية.» ثم ركض وقطف كل زهور الربيع الجميلة وملأ بها سَلَّة الطحان.
قال الطحان وهو يصعد التل حاملًا اللوح على كتفه والسلة الكبيرة في يده: «وداعًا، يا هانز الصغير.» وصعد التل وهو يحمل.
قال هانز الصغير: «وداعًا.» وبدأ يحفر الأرض بسعادة شديدة، فقد كان مسرورًا بشدة بالعربة اليدوية.
في اليوم التالي، كان هانز الصغير يُثبِّت بعضًا من نبات زهر العسل على الشُّرْفة، حينما سمع صوت الطحان يناديه من الطريق، فقفز من فوق السُّلَّم، وعبر الحديقة ركضًا، ونظر من فوق الجدار.
كان الطحان يقف حاملًا كيسًا كبيرًا من الطحين على ظهره.
وقال: «يا عزيزي هانز، هل تمانع في أن تحمل لي كيس الطحين هذا إلى السوق؟»
فردَّ هانز: «أنا آسف بحقٍّ، ولكنني مشغول للغاية اليوم. لا بد أن أُثبِّت جميع نباتاتي المتسلِّقة وأسقي كل أزهاري وأمهِّد عشبي كله.»
فقال الطحان: «حسنًا، في الواقع أعتقد أنه بالنظر إلى أنني سأعطيك عربتي اليدوية، فليس من اللُّطف أن ترفض طلبي.»
صاح هانز الصغير قائلًا: «أوه، لا تقل ذلك! ما يكون لي أن أتعامل بأسلوب غير لطيف مع أي إنسان.» ثم ركض إلى الداخل ليُحضِر غطاء رأسه، ومشى مثقلًا وهو يحمل الكيس الكبير على كتفَيه.
كان يومًا شديد الحرارة، وكان الطريق مُغبَّرًا على نحو فظيع، وبلغ التعب الشديد بهانز مبلغه بالفعل قبل أن يصل إلى علامة الطريق السادسة، حتى إنه اضطر إلى أن يجلس ليستريح. ومع ذلك، واصل طريقه بشجاعة، ووصل إلى السوق أخيرًا. وبعد أن انتظر هناك بعض الوقت، باع كيس الطحين بسعر جيِّد جدًّا، ثم عاد إلى البيت في الحال، إذ كان يخشى أنه إذا انتظر حتى وقت متأخِّر قد يقابل بعض اللصوص في الطريق.
حدَّث هانز الصغير نفسه بينما كان يأوي إلى الفراش قائلًا: «لقد كان يومًا عصيبًا بكل تأكيد، ولكنني سعيد أنني لم أرفض طلب الطحان، لأنه أفضل صديق لي، كما أنه سيقدِّم لي عربته اليدوية.»
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، نزل الطحان للحصول على المال مقابل كيس طحينه، ولكن هانز الصغير كان متعبًا لدرجة أنه كان لا يزال في السرير.
فقال الطحان: «يا إلهي! إنك شديد الكسل، بما أني سأعطيك عربتي اليدوية، أعتقد أنه ينبغي عليك أن تعمل بكدٍّ أكبر. فالكسل خطيئة كبرى، وأنا بالتأكيد لا أحب أن يكون أيٌّ من أصدقائي كسولًا أو خاملًا. ينبغي ألا يزعجك حديثي معك بصراحة تامة. ما كنت — بالطبع — لأقول لك هذا الكلام لو لم أكن صديقك. فما نَفْع الصداقة إن لم يستطع المرء أن يبوح بما في قلبه بالكامل؟! يمكن لأيِّ شخص أن يقول كلامًا ساحرًا ويحاول أن يرضي الغير ويتملَّقَهم، ولكن الصديق الحقيقي دائمًا ما يقول أشياء غير سارة، ولا يجد غضاضةً في أن يتسبَّب في الألم. في الواقع، إن الصديق الحقيقي بحق ليفضِّل أن يتصرَّف على هذا النحو؛ لأنه يعلم أنه يفعل الصواب.»
قال هانز الصغير، وهو يفرك عينَيه وينزع غطاء النوم عن رأسه: «أنا آسف بشدة، ولكنني كنتُ أشعر بالتعب الشديد، ففكَّرت أن أستلقي في الفراش لفترة قصيرة، وأستمع لتغريد الطيور. هل تعلم أنني دائمًا أعمل بصورة أفضل بعد سماع تغريد الطيور؟»
قال الطحان وهو يربِّت على ظهر هانز الصغير: «حسنًا أنا سعيد بذلك؛ لأنني أريدك أن تأتي إلى الطاحونة حالما ترتدي ملابسك وتُصلِحَ سقف حظيرتي.»
كان هانز المسكين متلهِّفًا إلى الذهاب إلى حديقته والعمل فيها؛ لأن زهوره لم تكن قد سُقِيَت لمدة يومَين، ولكنه لم يرغب في رفض طلب الطحان لأنه كان صديقًا جيِّدًا له.
سأل هانز الطحان بصوت خجول ومتهيِّب: «هل تعتقد أنه سيكون من عدم اللطف مني إن قلت إنني مشغول؟»
فأجاب الطحان قائلًا: «حسنًا، لا أعتقد أنني أطلب منك الكثير، بالنظر إلى أنني سأعطيك عربتي اليدوية، ولكن بالطبع إن رفضتَ، فسأذهب وأقوم بذلك بنفسي.»
صاح هانز الصغير قائلًا: «أوه! لن تفعل بأيِّ حال من الأحوال!» ثم قفز من الفراش وارتدى ملابسه ومضى إلى الحظيرة.
عمل هناك طوال اليوم، حتى غروب الشمس، وعند الغروب أتى الطحان ليرى كيف كانت الأمور تسير معه.
صاح الطحان بصوت مبتهج قائلًا: «هل انتهيت من إصلاح الفجوة الموجودة في السقف، يا هانز الصغير؟»
فأجاب هانز الصغير، وهو ينزل من فوق السُّلَّم قائلًا: «لقد أصلحتها تمامًا.»
قال الطحان: «أوه! لا يوجد عمل يبعث السرور في النفس كالعمل الذي يصنعه المرء من أجل الآخرين.»
أجاب هانز الصغير، وهو يجلس ويمسح جبهته، قائلًا: «إنه لَشرف أن أنصت لكلامك بكل تأكيد، شرف عظيم بحق. ولكن أعتقد آسفًا أنه لن يكون لديَّ أفكار جميلة مثل تلك التي لديك أبدًا.»
قال الطحان: «أوه! ستأتيك هذه الأفكار، ولكنك لا بُدَّ أن تعاني أكثر. فحتى الآن ليس لديك سوى أفعال الصداقة؛ في يوم من الأيام ستكون لديك النظرية أيضًا.»
سأل هانز الصغير قائلًا: «هل تعتقد حقًّا أنني سأكتسبها؟»
«ليس لديَّ شك في ذلك، ولكن الآن بعد أن أصلحت السقف، من الأفضل أن تعود إلى المنزل وترتاح، لأنني أريدك أن تسوق خرافي إلى الجبل غدًا.»
كان هانز الصغير المسكين يخشى من أن يُبدي أي اعتراض على هذا، وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي أحضر الطحان خِرافه إلى الكوخ، وبدأ هانز يسوقهم إلى الجبل. استغرق الأمر منه اليوم بطوله للوصول إلى هناك والعودة. وعندما عاد، كان متعبًا لدرجة أنه ذهب للنوم على كُرسيِّه، ولم يستيقظ حتى ارتفع النهار.
وقال: «يا له من وقتٍ ممتعٍ سأقضيه في حديقتي!» ومضى إلى العمل على الفور.
ولكنه بطريقة ما لم يتمكَّن من رعاية أزهاره على الإطلاق؛ لأن صديقه الطحان كان يأتي دائمًا ويرسله في مهام طويلة، أو يجعله يساعده في الطاحونة. كان هانز الصغير يشعر بالإحباط الشديد في بعض الأحيان؛ إذ كان يخشى من أن تظن أزهاره أنه قد نسيها، ولكنه عزَّى نفسه بالتفكير في أن الطحان كان هو أفضل صديق له. كما كان يقول: «إلى جانب أنه سوف يعطيني عربته اليدوية، وذلك فعل نابع من محض كرم منه.»
أرهق هانز الصغير نفسه في العمل من أجل الطحان، وكان الطحان يقول كلامًا معسولًا عن الصداقة، كان هانز الصغير يدوِّنه في دفتر ملاحظات، واعتاد أن يقرأه ليلًا؛ لأنه كان تلميذًا نجيبًا. حدث في إحدى الليالي أن كان هانز الصغير جالسًا بجوار موقده عندما سمع صوت طرق عالٍ على الباب. كانت ليلةً عاصفة جدًّا، وكانت الرياح تهبُّ وتصرصر حول المنزل على نحو رهيب حتى إنه اعتقد في البداية أن هذا الطَّرق كان بفعل العاصفة فحسب. ولكنه سمع صوت طرقة ثانية، ثم ثالثة كانت أعلى من سابقتَيها.
حدَّث هانز الصغير نفسه قائلًا: «لا بد أنه مسافر مسكين.» ثم هُرِع إلى الباب. هنالك وقف الطحان حاملًا مصباحًا في يد وعصًا كبيرة في الأخرى.
صاح الطحان قائلًا: «عزيزي هانز الصغير، إنني في ورطة كبيرة. لقد سقط ابني الصغير من أعلى السُّلَّم وأُصيب، وسأذهب إلى الطبيب. ولكنه يعيش في مكان بعيد للغاية، والجو الليلة سيِّئ، ففكرت أنه سيكون من الأفضل لو ذهبت أنت بدلًا مني. تعلم أنني سأقدِّم لك عربتي اليدوية، ولذا فمن الإنصاف أن تفعل لي شيئًا في المقابل.»
صاح هانز الصغير قائلًا: «بكل تأكيد! إنني أعتبر قدومك إليَّ بمنزلة الإطراء، سأنطلق إلى هناك على الفور. ولكن لا بُدَّ أن تعيرني مصباحك، فالليلة حالكة السواد حتى إنني أخشى أن أقع في حفرة.»
أجاب الطحان قائلًا: «أنا في شدة الأسف، ولكنه مصباحي الجديد، وستكون خسارة كبيرة لي إن لحق به أيُّ ضرر.»
فصاح هانز الصغير قائلًا: «حسنًا لا يهم، سأتدبَّر أمري من دونه.» ثم أخذ معطفه الكبير المصنوع من الفرو وقُبَّعته القرمزية الدافئة، ولَفَّ كوفيةً حول رقبته وانطلق في طريقه.
كم كانت مُروِّعة تلك العاصفة! الليل حالك السَّواد لدرجة أن هانز الصغير بالكاد يرى، والريح قويةٌ شديدة حتى إنه بالكاد يستطيع الوقوف. ولكنه كان شديد الشجاعة، وبعد مسيرة استمرَّت ثلاث ساعات، وصل أخيرًا إلى منزل الطبيب وطرق الباب.
صاح الطبيب وهو يُخرِج رأسه من نافذة غرفة نومه قائلًا: «مَن بالباب؟»
«أنا هانز الصغير، أيُّها الطبيب.»
«ماذا تريد يا هانز الصغير؟»
«لقد سقط ابن الطحان من أعلى السُّلَّم وأُصيب، ويريد الطحان منك أن تأتي في الحال.»
صاح الطبيب قائلًا: «حسنًا.» وطلب الإتيان بحصانه وحذائه ذي الرقبة الطويلة ومصباحه، وهبط الدَّرَج وانطلق نحو منزل الطحان وهانز الصغير يمشي بتثاقل خلفه.
ولكن العاصفة ازدادت سوءًا، وتساقطت الأمطار سيولًا، ولم يتمكَّن هانز الصغير من رؤية إلى أين كان ذاهبًا، أو من مواكبة الحصان. وفي النهاية، ضَلَّ طريقه وهام على وجهه في المستنقع، الذي كان مكانًا شديد الخطورة، إذ كان مليئًا بالحُفَر العميقة، وهناك غرق هانز الصغير المسكين. عَثَرَ بعض رعاة الماعز في اليوم التالي على جُثَّته طافيةً في بِرْكة كبيرة من الماء، وأعادوها إلى كوخه. ذهب الجميع إلى جنازة هانز الصغير؛ إذ كان يحظى بشعبية كبيرة، وكان الطحان هو المُشيِّع الرئيسي للجنازة.
قال الطحان: «بما أنني كنت أفضل صديق له، فمن الإنصاف أن أحظى بأفضل مكان.» فمشى على رأس موكب الجنازة وهو يرتدي عباءة سوداء طويلة، وبين الحين والآخر كان يمسح عينيه بمنديل جيب كبير.
قال الحداد عندما انتهت الجنازة، وكان الجميع جالسين مرتاحين في الحانة، يشربون الخمر المُبَهَّر ويأكلون الكعك الحلو: «إن فَقْد هانز الصغير يمثِّل، بلا شك، خسارة كبيرة للجميع.»
أجاب الطحان: «خسارة كبيرة لي على أيَّة حال، فقد كنتُ طيِّبًا معه حتى إنني أعطيته عربتي اليدوية، والآن لا أدري ماذا أفعل بها. فهي تعوق حركتي بالمنزل، وهي في حالة سيئة للغاية، ولذلك فلن أحصل مقابلها على أي شيء إن بعتها. سأحرص بكل تأكيد على ألَّا أعطي أي شيء لأي شخص بعد الآن، فالمرء دائمًا ما يعاني لكَوْنه كريمًا.»
قال جُرذ الماء بعد فترة صمت طويلة: «حسنًا؟»
فقال العصفور: «حسنًا، تلك هي النهاية.»
فسأل جُرذ الماء قائلًا: «ولكن ماذا حَلَّ بالطحان؟»
فأجاب العصفور: «أوه، إنني لا أعرف حقًّا! كما أنني على يقين من أنني لا أهتم.»
فرد الجُرذ: «من الواضح تمامًا إذن أن طبيعتك تفتقر إلى العطف.»
عَلَّقَ العصفور قائلًا: «أظن أنك لا تفهم المغزى الأخلاقي من القصة.»
صرخ الجُرذ قائلًا: «اﻟ… ماذا؟»
«المغزى الأخلاقي.»
«هل تعني أن القصة لها مغزًى أخلاقي؟»
فقال العصفور: «بكل تأكيد.»
رد جُرذ الماء بغضب شديد قائلًا: «حسنًا، أعتقد أنه كان عليك أن تخبرني بذلك قبل أن تبدأ. لو كنتَ قد فعلتَ، ما كنت لأستمع إليك بالتأكيد. في الواقع، كان ينبغي أن أقول «أُفٍّ!» مثل ذلك الناقد. ومع ذلك، أستطيع أن أقول ذلك الآن.» وصرخ قائلًا بأعلى صوته: «أُفٍّ!» وحرَّك ذَيْله حركةً سريعة، ثم عاد إلى جُحْره.
سألت البطة التي أتَتْ بعد بضع دقائق، وهي تحرِّك قدمَيها في الماء: «ما رأيك في جُرذ الماء؟ لديه الكثير من الآراء السديدة، ولكن من ناحيتي، فإني أمتلك مشاعر أُمٍّ، ولا يسعني على الإطلاق أن أنظر إلى عازب مخضرم دون أن تتسلل الدموع إلى عيني.»
أجاب العصفور: «أخشى بعض الشيء أن أكون قد أزعجته. في الواقع، لقد أخبرته بقصة ذات مغزًى أخلاقي.»
فقالت البطة: «أوه! إن فعل ذلك دائمًا ما يكون شيئًا خطيرًا.» وأنا أتفق معها تمامًا في ذلك.