عصر ابن رشد
(١) الحركة العلمية
وُلِد ابن رشد في سنة ٥٢٠ هجرية بمدينة قرطبة وهي لا تزال في عصرها الذهبي الذي جعلها من عواصم الثقافة في التاريخ، فلا تُذكَر أثينا وروما والإسكندرية وبغداد إلا ذُكِرت معهن قرطبة في هذا الطراز.
وقد كان مولده بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله بنحو مائة وخمسين سنة (٣٦٦ﻫ)، وهو الخليفة الأموي الذي شغلته الثقافة قبل كل شاغل، وجعل همه الأول أن ينافس بعاصمته عاصمة المشرق — بغداد — في عهد الخليفة المأمون، فجمع فيها من الكتب والكتَّاب ما لم يُجمَع قبل ذلك في مدينة واحدة، وكان هو أسبقهم إلى قراءة ما يجمعه من الأسفار النادرة من أقطار المشرق والمغرب.
على أن هذين الفيلسوفين قد كانا في نفسيهما وفي آليهما، آية الآيات على مبلغ ذلك العصر من ازدهار الثقافة، فكان العلم وراثة في أسرة كلٍّ منهما يتعاقبه منها جيل بعد جيل، وكان الذاكرون إذا ذكروهم ميزوا بينهم باسم الجد والابن والحفيد، فيقولون: ابن رشد الجد، وابن رشد الابن، وابن رشد الحفيد، ويزيدون في أسرة ابن زهر فيقولون: ابن زهر الأصغر؛ تمييزًا له من ابن زهر الحفيد.
وأعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين، وأنه تلقَّى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية، ومنهم مَن نسب إليه أنه أحرق كتب الفلسفة والبحث في مذاهب المتكلمين.
روى صاحب كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» عن بعض الفقهاء، قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء؟ — يعني الفلاسفة — أقديمة هي أم حادثة؟ … فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرَّر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاجَ أهلِ الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
ويزيد العجب عند مؤرخي هذا العصر — والمستشرقين منهم على الخصوص — أن هذا الخليفة ينتمي إلى أسرة تدين بمذهب الظاهرية، وهو المذهب الذي يلتزم أصحابه ظاهر النصوص ويتحرجون من التأويل، وقد توفي إمام هذا المذهب في المغرب — ابن حزم — بعد منتصف القرن الخامس للهجرة ومذهبه شائع، وخلفاء الموحدين يرجحونه على سائر المذاهب، ويعتبره المؤرخون المحدثون قطب المذاهب الرجعية مع إحاطته بمذاهب الفلاسفة، كما يعلم من كتابه عن «الفصل في الملل والنحل».
وكان ابن حزم هذا هو ابن حزم الابن «علي بن أحمد»، وأبوه أحمد بن سعيد، وابنه الفضل أبو رافع، وكلهم من مشاهير العلماء الثقات في المعارف السلفية، وإقبالهم على العلم إقبال الصادق في طلبه المستغني عن التكسب به، المجترئ بالرأي على مَن يخالفه؛ لأنه لا يخشى من الجرأة على رزقه. جرت بين ابن حزم — الابن — وبين أبي الوليد الباجي مناظرة، فقال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبتَه وأنت مُعَان عليه تسهر بمشكاة الذهب، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائت السوق. قال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلم وما ذكرت؛ فلم أرجُ به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
(٢) الحركة السياسية وتأثيرها في الثقافة
فقد أحصى المؤرخون — ولا سيما المستشرقين — عِلَل الحركات الثقافية في المغرب عامة غير علتها الحقيقية، وهي — بالإيجاز — ظهور الدعوة الفاطمية في إفريقية الشمالية.
فظهور هذه الدعوة في المغرب قد غيَّر فيه كثيرًا من وجهات الثقافة والسياسة، وقد كان له الأثر المباشر فيما شغل الأوروبيين بعد ذلك خلال القرون الوسطى من موضوعات الفلسفة الدينية، وأهمها موضوعات النفس وخلودها، وموضوعات العقل وعلاقته بالخلق والخالق.
ولا يخفى أن الدعوة الفاطمية هي الدعوة الإسماعيلية بعينها؛ فإن الفاطميين يُنسَبون إلى فاطمة الزهراء، أو يُنسَبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق؛ تمييزًا لهم من سائر العلويين.
لا جرم يتذاكر المستطلعون أحاديث هذا المذهب في إفريقية الشمالية كما تذاكروها في بخارى وعلى التخوم الهندية، فقد جاء هذا المذهب إلى المغرب بقوة الدولة فوق قوة الدعوة، وأصبح من شاغل أصحاب الدول أن يتعرفوه ويستطلعوا كُنْهَهُ ويتبطنوا ما وراءه، وبخاصة مَن كان كخلفاء الموحدين مهدَّدًا بسلطان الدولة الفاطمية، معنيًّا بما يعلنونه ويسرونه من مذاهب السياسة أو الحكمة.
ولقد كان من آثار هذه الدعوة في المغرب عامة أن الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر (٣٠٠–٣٥٠ هجرية/٩١٢–٩٦١ ميلادية) تلقَّب بأمير المؤمنين بعد أن أطلق هذا اللقب على خلفاء الفاطميين، وجاء خلفه الحكم الثاني الملقَّب بالمستنصر بالله، فنافس خلفاء الفاطميين أشد المنافسة في الاشتغال بالفلسفة والعلوم وتقريب الحكماء والأدباء، وأنفذ إلى إفريقية جيشًا قويًّا لتوطيد سلطانه في مراكش وإعلان الدعوة باسمه على المنابر.
فقد برز الموحدون إذن للفاطميين أو الإسماعيليين حتى في النسب والدعوة المهدية، ولما اشتهر الإمام الغزالي في المشرق بإنكار الباطنية والرد عليها، قصد إليه ابن تومرت وحضر عليه. وحُكِيَ كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: «أنه ذُكِر للغزالي ما فعل علي بن يوسف بن تاشفين من ملوك المرابطين بكُتُبه التي وصلت إلى المغرب من إحراقها وإفسادها، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس، فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرًا مجلسنا.»
وقد تم لابن تومرت ما أنبأه به أستاذه الغزالي، فأقام دولة الموحدين وندب لها صاحبه عبد المؤمن بن علي الكومي (٥٢٤–٥٥٨ﻫ/١١٢٩–١١٦٢ ميلادية)، ثم خلفه ابنه يوسف، ثم خلفه ابنه يعقوب وتلقَّب بالمنصور بالله (٥٨٠–٥٩٥ هجرية/١١٨٤–١١٩٨ ميلادية)، وهو الذي اقترح على ابن رشد تفسير كتب أرسطوطاليس وشرح مذاهب الفلسفة على الإجمال.
ويظهر التحدي والمناجزة بين الموحدين والإسماعيليين في مقابلة كل دعوى إسماعيلية بمثلها من دعاوى ابن تومرت وخلفائه.
هذه القصة نترك ما فيها كله ويبقى منها ما لا سبيل إلى تركه، وهو استعداد الموحدين للفاطميين بسلاحهم ومقابلتهم بمثل دعواهم، واستبطانهم لأسرار دعوتهم؛ لينهضوا لها بما يجري في مجراها عن اعتقادٍ منهم، أو عن سياسة وتدبير، وكل شيء يَجري تفسيره بعد ذلك على أهون سبيل.
فالعلوم التي كانت مقبولة عند دولة الموحدين قد تتناقض وتتنافر، ولكنها تلتقي في مقصد واحد وهو لزومها في تلك المناجزة وتلك المناظرة.
ولا يبعد أن يكون الخلفاء الموحدون مؤمنين بأسرار النجوم، يبحثون عن الأفلاك والعقول التي تديرها لينفذوا منها إلى خفايا تلك الأسرار، ويلفت النظر إلى هذا أول سؤال وجَّهه الخليفة المنصور إلى ابن رشد، وهو: ماذا يقولون عن السماء؟
•••
كانت دولة الموحدين أول دولة إفريقية تقف أمام الفاطميين موقف المناظرة في السياسة والثقافة، أما قبل ذلك فالدولة الصنهاجية في تونس كانت تتولى الأمر بإذن الفاطميين من القاهرة، ودولة الملثمين أو المرابطين التي نازعتها السلطان في المغرب الأقصى لم تكن تدرس حين نشأتها شيئًا من الثقافة أو من الدين، ومضى عليها زمن وهي مشغولة بحرب القبائل البربرية والسودانية التي بقيت على الجاهلية، ولم يَكَدْ يستقر بها القرار على عهد يوسف بن تاشفين حتى شُغِلت بالجزيرة الأندلسية واستقدمها ملوك الطوائف إلى الأندلس لنجدتهم في حربهم مع ألفونس السادس ملك أراجون، وانصرفت جهودهم إلى هذه الناحية، وظلوا كذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين حتى زالت دولتهم ولما ينقض على وفاة هذا الأمير أكثر من سنتين، وكان منهجهم في شئون الثقافة منهج البداوة في استنكار كل ما يحسبونه من البدع، ومنه علم الكلام وبحوث الفقهاء في الحكمة الدينية؛ ولهذا أحرقوا كتب الغزالي وهي من أفضل ما كتبه المتكلمون!
فالموحدون هم أول مَن ناظر الفاطميين (أو الإسماعيليين) في إفريقية الشمالية، وأول مَن تعرف علومهم ومذاهبهم ليغلبهم في ميدانهم ويقابل دعوتهم بمثلها أو بما ينقضها ويبطلها.
•••
وقد كان ابن جبيرول مسبوقًا في الثقافة الإسرائيلية بفيلسوف آخَر من اليهود نشأ في الفيوم بمصر (٨٩٢–٩٤٢)، وتنقَّلَ بين مصر وفلسطين والعراق في إبَّان الدعوة الإسماعيلية وملاحم الجدل بين المتكلمين والمعتزلة، وهم فلاسفة الإسلام الباحثون في مسائل التوحيد والحكمة الدينية، وهذا الفيلسوف الإسرائيلي هو سعديا بن يوسف الذي اشتهر باسم وظيفته جاعون (٨٩٢–٩٤٢)، وتتبع مساجلات المتكلمين والمعتزلة فطبَّقَها على الديانة الإسرائيلية، وألَّف كتابه «الإيمان والعقل» في موضوعات الخلق والتوحيد والوحي والقضاء والقدر والثواب والعقاب وغير ذلك من موضوعات علم الكلام.
أما بعد ابن باجة فأشهر الفلاسفة هما الزميلان ابن الطفيل وابن رشد، وقد اجتمعا زمنًا في بلاط الموحدين، وكان ابن الطفيل أكبر من ابن رشد، ولكنه عاش بعده (توفي سنة ٥٨١ للهجرة)، ولم ينكب مثل نكبته، بل قيل إنه كان يأخذ مرتبه مع الأطباء والمهندسين والرماة والشعراء، ويقول كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عليهم …!
(٣) الحركة الاجتماعية
ويبدو من أخبار ابن الطفيل وآثاره — على قلة هذه وتلك — أنه كان إلى مزاج الفنان الظريف أقرب منه إلى مزاج الفيلسوف الحكيم، وأنه كان خبيرًا بفنون المنادمة والمسامرة، أثيرًا عند أمير المؤمنين المنصور، لا يطيق هذا غيابه ولا يزال عنده أيامًا منقطعًا عن أهله، وكان هذا هو الغالب على حكماء ذلك العصر وأطبائه ما عدا ابن رشد؛ فقد كان ابن ماجة يحسن فن النغم والإيقاع، وكان ينظم الموشحات ويلحنها ويغنيها، ومن موشحاته تلك الموشحة التي قيل إن صاحب سرقسطة أقسم ساعة سماعها لا يمشين ناظمها ومنشدها إلا على الذهب، وهي التي ختمها بقوله:
وكان ابن زهر زميل ابن رشد في الطب والحكمة أبرع أهل زمانه في فن التوشيح وفن التلحين، وله من الشعر الظريف ما يقلُّ نظيره في بدائع الشعراء المنقطعين للهو والمنادمة، وهو صاحب الأبيات في المرآة:
وله يتشوق إلى ولده بإشبيلية، وهو بمراكش:
روى أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني حكيم السلطان المنصور بالله الحسني، أن يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس سمع هذه الأبيات فرَقَّ للحكيم الظريف، وأرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يرسموا بيت ابن زهر ويبنوا له بيتًا مثله في مراكش، ففعلوا كما أمرهم وفرشوا البيت بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل أولاد ابن زهر وحشمه إلى تلك الدار، ثم أخذه معه إليها فدخلها فوجد ولده الذي تشوقه يلعب في فنائها، وخُيِّلَ إليه أنه في منام.
وهذه فنون من المنادمة والتحبب إلى الأمراء لم يكن ابن رشد يُحسِن شيئًا منها، ولعله كان أعلم أهل زمانه بالفلسفة والفقه وأجهلهم بفنون المنادمة والسياسة، وراض نفسه على التوقُّر فبالغ في رياضتها، وأنف أن يُروَى له شعر يتغزل فيه؛ فأحرق ما نظمه في صباه، وقد تقدَّم في تفضيله لقرطبة على إشبيلية أنه قال لابن زهر: إن المطرب الذي يموت في قرطبة تُحمَل آلاته إلى إشبيلية لتباع فيها. وهو قول لا يخلو من التعريض والترفُّع، غير ما نُقِل عنه كثيرًا من سكينته وتورُّعه عن المزاح.
ومن المهم التنبيه إلى هذه الخصلة فيه وإلى مخالفته بها لنظرائه وأقرانه، فلا شك أن جهله بفنون الندمان وجلساء الأسمار كان له شأن أي شأن في تعجيل نكبته التي لا ترجع كلها إلى أحوال عصره، ولا تخلو من رجعة في بعض أسبابها على الأقل إلى أحواله.