ابن رشد في عصره
(١) حياة ابن رشد
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، هو الفيلسوف الوحيد في أسرةٍ من الفقهاء والقضاة، كان أبوه قاضيًا، وكان جده قاضي القضاة بالأندلس، وله فتاوى مخطوطة لا تزال محفوظة في مكتبة باريس، تدل على ملكة النظر التي ورثها عنه حفيده، وقد كانت تعهد إليه مع القضاء مهام سياسية بين الأندلس ومراكش، فكان يضطلع بها على الوجه الأمثل، وتوفي سنة ٥٢٠ للهجرة قبل مولد حفيده بشهر واحد.
نشأ بقرطبة وتعلَّم الفقه والرياضة والطب، وتولَّى القضاء بإشبيلية قبل قرطبة، واستدعاه الخليفة المنصور أبو يعقوب وهو متوجِّه إلى غزو ألفونس ملك أراجون سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، فأكرمه واحتفى به وجاوز به قدر مؤسسي الدولة — دولة الموحدين — وهم عشرة من أجلاء العلماء، فأجلسه في مكان فوق مكان الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الهنتاني، وهو صهر الخليفة (زوج بنته) … ويظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر، فلما استدعاه المنصور ظن أهله وصحبه أنه عازِله ومنكِّل به، فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة أقبل عليه صحبه يهنئونه، فقال لهم قولة حكيم: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به؛ فإن أمير المؤمنين قرَّبني دفعة إلى أكثر مما كنتُ أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه.»
وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه، كما تكشف عن سليقة المعلم فيه؛ فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسرَّه أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة، ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته، وأيقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان.
وقد صدقت فراسة ابن رشد؛ فإن الخليفة لم يلبث أن نكبه وأقصاه — كما سيأتي بيانه في الفصل التالي — وأمره بملازمة «اليشانة»، وهي قرية كانت قبل ذلك مأوى لليهود، قيل إنه نُفِي إليها؛ لأنه كان مجهول النسب بأرض الأندلس، وكان المظنون به أنه من سلالة بني إسرائيل، وهو ظن لا سند له من الواقع على الإطلاق. وقد شهد ابن جبير لجده بالتقوى والصلاح وصحة الدين حين هجاه في نكبته، فقال:
وأُثِر عنه في قضائه أنه كان يتحرَّج من الحكم بالموت، فإذا وجب الحكم أحاله إلى نوَّابه ليراجعوه، وقد اجتمع له قضاء الأندلس والمغرب وهو دون الخامسة والثلاثين.
قال ابن الأبار: «كان على شرفه أشد الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا.»
وكان هذا الخلق منه مطمع الطامعين في تواضعه وفي كرمه. دخل إليه أبو محمد الطائي القرطبي، فتلقاه قائمًا كعادته في لقاء زائريه، فقال الشاعر:
أو لعله قد وافق في نفس الأمير غيظًا آخَر لم يكن صاحبنا الفيلسوف يلتفت إليه أو يحسبه مما يعاقب عليه؛ فقد كان يصادق أخا الخليفة (أبا يحيى) والي قرطبة كما كان يصادق الخليفة … فلم يعدم واشيًا يقول، وسامعًا يسمع أن وراء هذه الصداقة للأخ عداوة مستترة لأخيه، توشك أن تنكشف عن تمرُّد وعن ولاءٍ للمتمردين.
ولما أراد الخليفة أن ينكبه لم يذكر في أسباب نكبته سببًا من هذه الأسباب بطبيعة الحال، بل أحال على الدين تبعة هذه النكبة كما سيأتي بيانه، وأعلن من ذنوب الفيلسوف ما هو ذنب الأمير في باطن الأمر؛ لأنه تعلَّل عليه بإدمان النظر في كتب القدماء، وقد كان أبو الأمير هو مغريه بالنظر فيها ومعالجة شرحها وتيسيرها لطلابها.
(٢) نكبته وأسبابها
يحتاج المؤرخ في كل مصادرة فكرية أو دينية إلى البحث عن سببين: أحدهما معلَن والآخَر مضمر، فقليلًا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرًا ما كان للنكبة — غير سببها الظاهر — سبب آخَر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان، ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.
ولم يكن ابن رشد أول شارح لكُتُب الأقدمين، فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها، وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يُحسِن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يُحسِن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب كما تقدَّم بأمرٍ من أبي الخليفة.
وقد كتب المؤرخون كثيرًا عن اضطهاد اليهود في دولة الموحدين، وقيل إنهم كانوا مضطهَدين تعصُّبًا من رؤساء الدولة لمخالفتهم إياهم في الدين، وحقيقة الأمر أن الخليفة كان يتهم الذين تحولوا منهم إلى الإسلام كما كان يتهم الباقين على دينهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئًا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، وقد كان بعضهم على صلة بخدمة الإفرنج. وجاء في كتب «بغية الملتمس» أنه كان في صحبة جيش الأذفنش تجَّار من اليهود وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين.
فلم يكن اضطهاد هذه الطائفة لمخالفتها في الدين، ولكنها اضطهدت لما خامر أصحاب الدولة من الشك في مساعيها الخفية، ومنها ما يُخشَى ضرره على الجيش في إبَّان القتال، وأما في غير هذه الحالة فلم يكن ثمة اضطهاد ولا مصادرة، وكان من اليهود مَن ارتقى إلى مناصب الوزارة.
ولا نعتقد أن نكبة ابن رشد كانت شذوذًا من هذه القاعدة في بعض أسبابها على الأقل إن لم نقل في جميعها، وقد مَرَّ بنا أن المنصور أنكر منه مخاطبته إياه بغير كلفة، وأنه ذكره في كتاب الحيوان باسم ملك البربر، وأنه كان وثيق الصلة بأخيه الذي كان يخشى من منافسته إياه، وبعض هذه البواعث كافٍ لاستهداف الفيلسوف لغضب المنصور، ولكن المعروف عن أمراء الموحدين أنهم كانوا يتحرجون من إيقاع العقاب بالناس لأمثال هذه الأسباب، فمن الراجح أنه تعلَّل لعقاب ابن رشد بعلة ترضي ضميره وترضي جمهرة الشعب بالذريعة المقبولة في أمثال هذه الأحوال.
ونحن نعلم اليوم بعد دراسة أساطير اليونان أنهم كانوا يسمون الزُّهْرة ربَّة الحب، وأنهم أخذوا هذا من البابليين، وأن كلمة فينوس — أيْ الزهرة — مأخوذة من كلمة «بنوت»، أيْ «بنت»، وكانت فاؤها تُكتَب باءً في بعض الكتب اليونانية القديمة، وأن هذا كله لا يتعدى المجاز، كما يقول القائل منهم رب البحر وربة الغاب وربة الغناء وأشباه هذه الأسطورات، ولا يبعد أن الأسطورة قد رُوِيت في كتب ابن رشد كما نقلها عن اليونان على هذا المثال … أما أن يكون ابن رشد معتقدًا ربوبية الزُّهْرة ربَّة الحب أو ربَّة غيره فذلك بعيد، جد بعيد.
وقيل في أسباب النكبة إن حسَّاد ابن رشد دسوا عليه أناسًا من تلاميذه يستملونه شرح الكتب الفلسفية، فشرحها لهم ونقلوها عنه كأنها من رأيه وكلامه، وأشهدوا عليها مائة شاهد ثم رفعوها إلى الخليفة، وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته، فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية اليشانة (لوسينا) بجوار قرطبة ولا يبرحها.
فإذا صح حدوث هذا في إبَّان اشتغال الخليفة بحرب الإفرنج وتوجسه من أهبة الخارجين عليه في الخفاء، فالأرجح أنه هو ذريعة النكبة؛ لأن الغضب الديني يحتدم في إبَّان العداوات الدينية، فلا يتحرج الخليفة من إرضاء الناس وإرضاء ضميره وإرضاء هواه في مثل هذه الحال، وقد نكبت مع ابن رشد طائفة من القضاة والفقهاء وذوي المناصب، لا يبعد أن يكون الخليفة قد ظن بهم الظنون وشَكَّ في ممالأتهم لمنافسيه ومناظريه، ولم يتسع له الوقت لاستقصاء مظان التهمة، ولا كان في وسعه أن يسكت عن قضية الثائرين باسم الغيرة على الدين، فلحقت به النكبة من هذا الطريق.
وجاء في ترجمة الأنصاري له: «حدَّثني الشيخ أبو الحسن الرعيني — رحمه الله — قراءةً عليه ومناولةً من يده، ونقلته من خطه قال: وكان قد اتصل — يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير — بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده فاستكتبه واستقضاه. وحدثني — رحمه الله — وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة — فقال: إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذاك حين شاع في المشرق والأندلس على السنة المنجمة أن ريحًا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيًا لهذه الريح، ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد واستدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد — وهو القاضي بقرطبة يومئذٍ — وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلَّم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب. قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير — وكنت حاضرًا — فقلت في أثناء المفاوضة: إنْ صَحَّ أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تُعلَم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال: فانبرى إليَّ ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا؛ فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه …»
وقصة عبد الكبير هذه لم يرد لها ذكر في سياق الاتهام والمحاكمة، وقد كان الاستناد إليها أولى من تصيُّد التهم واختلاس الأوراق والبحث فيها عن المعاني المتشابهة؛ لأن الكلمة قد بدرت من ابن رشد — إذا صحت قصة عبد الكبير — على مسمع من «حاضرين» كثيرين.
ومن الغريب حقًّا أن تبدر تلك الكلمة من ابن رشد مع التزامه لشعائر الدين قبل النكبة وبعدها، وقد كان صاحب القصة يراه — كما قال — يخرج إلى الصلاة وعلى قدميه أثر الماء، وقد اعترف كاتب المنشور الذي أذاع حرمان ابن رشد بهذا الحرص على التزام الشعائر، فقال: «إنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم …» وقد ثابر على حضور الصلاة في المسجد بعد النكبة، وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال، فقال: «إن أعظم ما طرأ عليه في النكبة أنه دخل وولده عبد الله مسجدًا بقرطبة — وقد كانت صلاة العصر — فثار لهما بعض سفلة العامة فأخرجوهما …» وكان يقول في درس الطب: «مَن اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله.»
إلا أن التمحُّلَ باسم الدين لم يكن بالنادر في ذلك الزمن، وقد عرفنا شواهده المكتوبة في كلام رجل من أهل العلم كالفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، فإنه رضي عن ابن باجة فقال عنه إنه: «نورُ فَهْمٍ ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار.»
ثم سخط عليه فقال: «هو رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين … نظر في تلك التعاليم، وفكَّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم.»
فإذا جاز هذا من رجل كالفتح بن خاقان في رجل يُحسِن مسايرة الناس كابن باجة، فليس بالبعيد أن يصيب ابن رشد طائف من تلك التهم، وهو في تزمته وصدقه للعلم ومكانته العالية عرضة لنقمة الكاذبين والحاسدين.
ولا نعني أن كتبه لم يكن فيها ما يساء فهمه أو ما يفهمه المخالف فينكره، ولكننا نعني أن سر التهمة كلها بعيد من هذه العلل، وأن للنكبة باطنًا غير ظاهرها، ليس من العسير أن نستشفه من مجمل أحواله وأحوال زمانه وأميره.
فمن مجمل أحواله أنه كان رجلًا يُحسِن المساجلة ولا يُحسِن المنادمة، ولا يبالي تزييف لغة «البلاط» في سبيل تحقيق لغة العلم ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه، ولو كانوا من الملوك والأمراء. ومما يصح أن يشار إليه من لواحق هذا أنه غفل عن مكانة الغزالي عند ملوك الموحدين، وهو أستاذ أستاذهم الأكبر، فردَّ عليه دفاعًا عن الفلاسفة، ولم يبالِ في هذا الدفاع أن ينسب إليه المغالطة.
ومن مجمل أحوال الزمن أنه كان زمن العداوات الدينية، وكانت أخطار الحروب فيه بين المسلمين والإفرنج على أشدها، فكان من أصعب الأمور على الحكام أن يتعرضوا لغضب العامة إذا وقع في وهم هؤلاء أن قاضيًا من أعظم القضاة يشتغل بالعلوم التي يرتابون بها ويحسبونها من الكفر والضلالة، وقد اشتهر عن ابن رشد أنه كان مصادِقًا لأخي الخليفة، وتبيَّنَ من تاريخ تلك الفترة أن المنافسة فيها على المُلْك كانت حربًا ضروسًا لا تنقطع في وقت من الأوقات، فلا يبعد أن ينكب الخليفة ابن رشد؛ اتهامًا له بمشايعة أخيه، واتهامًا لأخيه بمصاحبة الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة.
أما عفو الخليفة عن ابن رشد بعد ذلك فليس تفسيره بالعسير؛ فإنه قد عفا عنه عقب عودته من الأندلس إلى مراكش، وبعد زوال الغاشية ووضوح الحقيقة في ظنونه بأخيه وجلساء أخيه. وقد قيل إنه أقبل على الفلسفة التي تجنبها حينًا فأكثر من الاطلاع على كتبها، فإذا وافق ذلك شفاعة الشافعين في الحكيم المغضوب عليه فقد وضح سر النكبة وسر العفو، ولم يكن فيه غريب غير مألوف من خلائق الملوك وخلائق الدهماء مع الحكماء والفضلاء.