منتخبات من آثار ابن رشد
تشتمل المنتخبات من آثار ابن رشد في الصفحات التالية على مقتبسات من كتاباته في الموضوعات التي كانت له فيها مشاركة كبيرة، وهي الفلسفة والطب والشريعة.
ونتحرى في هذه المقتبسات أن تكون نماذج لطرائقه المختلفة في الكتابة؛ وهي التأليف والتفسير والتلخيص، ونبقي في عباراته على الأخطاء اللغوية وهي قليلة.
ولابن رشد في موضوع الفلسفة والحكمة الإلهية مؤلفات وتفسيرات وتلخيصات، اقتبسنا نموذجًا لكلٍّ منها في الصفحات التالية.
كما اقتبسنا نموذجًا للتلخيص والتفسير في موضوع الطب، وقد كانت ملخصاته في هذا الموضوع «تأليفات ملخَّصة» أو «ملخَّصات مؤلَّفة»؛ لأنها تأليف يعتمد فيه على معلوماته معزَّزة بتجاربه، فهو طريقة وسط بين التأليف والتلخيص.
أما الشريعة؛ فالمقصود بما اقتبسنا دلالته على إحاطة الفيلسوف بمذاهبها المتعددة، فليست حكمته الإلهية حكمة رجل خلوٍّ من العلم بفقه الدين وأصول الشريعة، بل هي حكمة عالِم ديني عريق في هذه المعرفة، سبقه إلى تحصيلها أبوه وجده، وكان كلٌّ منهم عَلَمًا في الفقه والقضاء.
وألزم ما يلزم الاطلاع عليه بين يدي فلسفة ابن رشد هو منهاجه في الاستدلال والتأويل، وفي التوفيق بين مسائل الفلسفة ومسائل العقيدة، ويبين منهاجه هذا مما اقتبسناه من كتابه: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وكتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وهما رسالتان صغيرتان مطبوعتان بالقاهرة.
ويُلاحَظ أن التأويل عنده من واجب الحكيم أو من حقه، على شريطة العلم والقدرة على استقصاء أحكام الشريعة، وذلك واضح من هذه السطور:
(١) ابن رشد الفيلسوف
حدود التأويل
إذا كان هذا هكذا، فإن أدَّى النظر البرهاني إلى نحوٍ ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي.
وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافِقًا لما أدَّى إليه البرهان فيه أو مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هناك، وإن كان مخالِفًا طلب هناك تأويله.
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية؛ فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان؟
فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف بالبرهان عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند مَن زاول هذا المعنى وجرَّبه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالِف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد.
ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تُحمَل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤوَّل منها وغير المؤوَّل.
هذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل مَن يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وأنه إنما يقصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط، وإذا تقرَّر هذا فقد ظهر لك في قولنا إن هاهنا ظاهرًا في الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كُفْر، وإنْ كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهاهنا أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كُفْر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كُفْر في حقهم أو بدعة، ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول؛ ولذلك قال — عليه الصلاة والسلام — في السوداء إذ أخبرته أن الله في السماء: أعتِقْها فإنها مؤمنة. إذ كانت ليست من أهل البرهان.
الناس على ثلاثة أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.
وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة — أعني صناعة الحكمة — وهذا التأويل لا ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلًا عن الجمهور، ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمَن هو من غير أهلها — وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة — أفضى ذلك بالمصرِّح والمصرَّح له إلى الكُفْر، والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر عند مَن هو من أهل الظاهر وإثبات المؤول، فإذا أبطل الظاهر عند مَن هو من أهل الظاهر ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إنْ كان في أصول الشريعة.
فالتأويلان ليس ينبغي أن يُصرَّح بها للجمهور، ولا يثبت في الكتب الخطابية والجدلية.
التصوف
أما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية — أعني مركبة من مقدمات وأقيسة — وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة، مثل قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ومثل قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ومثل قوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا إلى أشباه لذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى. ونحن نقول: إن هذه الطريقة — وإن سلمنا وجودها — فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها بالناس عبثًا.
والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طرق النظر.
نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطًا في صحة النظر، مثل ما تكون الصحة شرطًا في ذلك، لا أنَّ إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطًا فيها، كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له.
ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة، وحث عليها في جملتها حثًّا على العمل، لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم.
البرهان العقلي على وجود الله
أما المعتزلة، فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية.
… وإذا استقرئ الكتاب العزيز وجدت — أيْ أدلة وجود الباري — تنحصر في جنسين: أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنُسَمِّ هذه دليل العناية.
والطريقة الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل، وَلْنَسَمِّ هذه دليل الاختراع.
فأما الطريقة الأولى فتُبنَى على أصلين: أحدهما أن جميع الموجودات التي هاهنا موافِقة لوجود الإنسان، والأصل الثاني أن هذه الموافَقة هي ضرورة من قِبَل فاعل قاصد لذلك مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافَقة بالاتفاق.
… فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع أنها منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية ودلالة الاختراع، وتبيَّنَ أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص … وطريقة الجمهور. وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرَك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون على ما يُدرَك من هذه الأشياء بالحس ما يُدرَك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدركه العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا وكذا آلاف منفعة.
وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب.
والعلماء ليس يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قِبَل الكثرة فقط، بل ومن قِبَل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها …
المعجزة
أشرنا في الكلام على أثر الفلسفة الرشدية إلى المشابهة بين رأي دافيد هيوم في المعجزة ورأي ابن رشد، وخلاصة رأي دافيد هيوم أن طريقة المعجزة غير طريقة البرهان، وأن الحاسب إذا عرف — مثلًا — أن مجموعَ اثنين واثنين أربعةٌ لا تختلف حسبته؛ لأنه يشهد بعد ذلك خارقة من الخوارق، وأن الجاهل قد يرى الحيلة فتلتبس عليه بالمعجزة.
وإذا قوبل بين هذا الرأي وبين رأي ابن رشد فيما يلي، بدا أن المشابَهَة بينهما أكبر من مشابَهَة المصادفة والاتفاق. وقد نُقِلت فلسفة ابن رشد والمناقشات فيها إلى اللغة اللاتينية، فليس من البعيد أن يكون دافيد هيوم قد اطَّلَع على شيء منها في الترجمات اللاتينية، ويتعزز هذا الظن إذا أضفنا إلى الكلام في المعجزة كلامه في الأسباب، وقد كان الكلام في الأسباب موضع مناقشة بين ابن رشد والغزالي، تُرجِمت كلها إلى اللاتينية.
- (١)
أن وسيلة العارف إلى الإيمان بصدق النبي هي معرفة الحق في دعوته، وليست هي رؤية الخوارق.
- (٢)
أن المعجزة ممكنة؛ لأن قدرة الله على عمل يعجز عنه الإنسان أمر لا ينكره مؤمن بالله.
- (٣)
أن المعجزة مقنعة على اعتبار أن المشاهِد لها يرى أنها عمل لا يقدر عليه غير الإله، فلا بد له إذن من الإيمان بالله قبل الإيمان بالإعجاز.
- (٤) أن الإسلام لم تكن من حجته المعجزات، بل كانت معجزته آيات القرآن الكريم، وفيه يقول تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
… ذلك أنه ليس يصح تصديقنا للذي ادَّعَى الرسالة عن الملك إلا متى علمنا أن تلك العلامة التي ظهرت عليه هي علامة الرسل للملك، وذلك ما يقول الملك لأهل طاعته: إن مَن رأيتم عليه علامةَ كذا من علاماتي المختصة بي فهو رسول من عندي. أو بأن يعرف من عادة الملك ألَّا تظهر تلك العلامات إلا على رسله. وإذا كان هذا هكذا فلقائلٍ أن يقول: من أين يظهر أن ظهور المعجزات على أيدي بعض الناس هي العلامات الخاصة بالرسل؟ فإنه لا يخلو أن يدرك ذلك بالشرع أو بالعقل، ومحال أن يدرك هذا بالشرع؛ لأن الشرع لم يثبت بعدُ، والعقل أيضًا ليس ممكنه أن يحكم أن هذه العلامة هي خاصة بالرسل، إلا أن يكون قد أدرك وجودها مرات كثيرة للقوم الذين يعترف برسالتهم، ولم تظهر على أيدي سواهم.
وذلك أن ثبوت الرسالة ينبني على مقدمتين: إحداهما أن هذا المدعي الرسالة ظهرت على يديه المعجزة، والثانية أن كل ما ظهرت على يديه معجزة فهو نبي، فيتولد من ذلك بالضرورة أن هذا نبي.
فأما المقدمة القائلة: إن هذا المدعي الرسالةَ ظهرت عليه معجزةٌ، فلنا أن نقول: إن هذه المقدمة تُؤخَذ من الحس، بعد أن نسلِّم أن هاهنا أفعالًا تظهر على أيدي المخلوقين نقطع قطعًا أنها ليست تستفاد لا بصناعة غريبة من الصانع، ولا بخاصة من الخواص، وأن ما يظهر من ذلك ليس تخيلًا.
وأما المقدمة القائلة إن كل مَن ظهرت على يديه المعجزة فهو رسول؛ فإنما تصح بعد الاعتراف بوجود الرسل، وبعد الاعتراف بأنها لم تظهر قَطُّ إلا على مَن صحَّتْ رسالته.
وإنما قلنا إن هذه المقدمة لا تصح إلا ممَّن يعترف بوجود الرسالة ووجود المعجزة؛ لأن هذا طبيعة القول الخبري، أعني أن الذي تبرهن عنده مثلًا أن العالَم محدَث فلا بد أن يكون عنده معلومات بنفسه أن العالَم موجود، وأن المحدَث موجود.
… فمن هذه الأشياء يرى أن المتكلمين ذهب عليهم هذا المعنى من وجه دلالة المعجز … وليس في قوة العقل العجيب الخارق للعوائد الذي يرى الجميع أنه إلهي أن يدل على وجود الرسالة دلالة قاطعة، إلا من جهة ما يعتقد أن مَن ظهرت عليه أمثال هذه الأشياء فهو فاضل، والفاضل لا يكذب، بل إنما يدل على أن هذا رسول إذا سلَّم أن الرسالة أمر موجود، وأنه ليس يظهر هذا الخارق على يدَيْ أحد من الفاضلين إلا على يد رسول. وإنما كان المعجز ليس يدل على الرسالة؛ لأنه ليس يدرك العقل ارتباطًا بينهما إلا أن يعترف أن المعجز فعل من أفعال الرسالة؛ كالإبراء الذي هو فعل من أفعال الطب، فإنه مَن ظهر منه فعل الإبراء دلَّ على وجود الطب وأن ذلك طبيب.
وأنت تتبيَّن من حال الشارع ﷺ أنه لم يَدْعُ أحدًا من الناس ولا أمة من الأمم إلى الإيمان برسالته وبما جاء به بأن قدم على يدي دعواه خارقًا من خوارق الأفعال، مثل قلب عين من الأعيان إلى عين أخرى، وما ظهر على يديه ﷺ من الكرامات الخوارق فإنما ظهرت في أثناء أحواله من غير أن يتحدى بها، وقد يدلك على هذا قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا إلى قوله: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا وقوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وأما الذي دعا به الناس وتحداهم به هو الكتاب العزيز، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وقال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وإذا كان الأمر هكذا فخارقه ﷺ الذي تحدَّى به الناس وجعله دليلًا على صدقه فيما ادَّعَى من رسالته هو الكتاب العزيز.
… قال — عليه السلام — منبهًا على هذا المعنى الذي خصَّه الله به: ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُوتِيَ من الآيات ما على مثله آمَنَ جميع البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة. وإذ كان هذا كله كما وصفنا؛ فقد تبيَّنَ لك أن دلالة القرآن على نبوته ﷺ ليست هي مثل دلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى — عليه السلام — ولا إحياء الموتى على نبوة عيسى … فإن تلك وإن كانت أفعالًا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وهي مقنعة عند الجمهور، فليست تدل دلالة قطعية إذا انفردت؛ إذ كانت ليست فعلًا من أفعال الصفة التي بها سُمِّي النبي نبيًّا، وأما القرآن فدلالته على هذه الصفة هي مثل دلالة الإبراء على الطب، ومثال ذلك لو أن شخصين ادَّعَيَا الطب، فقال أحدهما: الدليل أني أسير على الماء. وقال الآخَر: الدليل أني أُبْرِئ المرضى. فمشى ذلك على الماء وأبرأ هذا المرضى، لكان تصديقنا بوجود الطب للذي أبرأ المرضى ببرهان، وتصديقنا بوجود الطب للذي مشى على الماء مقنعًا من طريق الأولى والأحرى، ووجه الظن للذي يعرض للجمهور ذلك أن مَن قدر على المشي على الماء الذي ليس من وضع البشر فهو أولى أن يقدر على الإبراء الذي هو من صنع البشر.
وَلْيعرف أن طريق الخواص في تصديق الأنبياء طريق آخَر قد نبَّه عليه أبو حامد في غير ما موضع، وهو الصادر عن الصفة التي بها سُمِّيَ النبي نبيًّا، الذي هو الإعلام بالغيوب ووضع الشرائع الموافقة للحق والمفيدة من الأعمال ما فيه سعادة جميع الخلق …
ما بعد الطبيعة
كتاب ما بعد الطبيعة أهم كُتُب أرسطو التي اختارها ابن رشد للشرح والتفسير، تدل إشاراته إلى الكتب السابقة على أن المعلم الأول قد درس موضوعه بعد نضجه وتكرار النظر فيه، فضلًا عن اسم الكتاب الذي يفيد أنه مكتوب بعد الفراغ من كتاب الطبيعيات.
وتؤخذ على الترجمة أيضًا عَسْلَطَة لا ضرورة لها، ومن أمثلتها في العبارة المتقدمة قول المترجم: «… إن كان أدرك شيئًا منه فإنما أدرك يسيرًا، فإذا جمع ما أدرك منه من جميع مَن أدرك ما أدرك منه كان للمجتمع من ذلك مقدار ذو قدر، فيجب أن يكون سهلًا من هذه الجهة …»
ومحصل ذلك أننا لو أخذنا من كل مَن أدرك يسيرًا من الحق ما أدركه، اجتمع من ذلك قدر ليس باليسير.
ونحن مختارون فيما يلي أول عبارة من الكتاب فسَّرها ابن رشد للدلالة على طريقته في التفسير، وهي طريقة تجمع بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، وتفسير الفكرة الفلسفية التي ينطوي عليها ذلك المعنى، ولكنه لم يسلم من بعض العيوب التي ألمعنا إليها.
إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة، والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ فيه بقدر ما يستحق، ولا ذهب على الناس كلهم، لكن واحد واحد من الناس تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئًا، وإما أن كان أدرك شيئًا منه فقد أدرك يسيرًا، فإذا جمع ما أدرك منه من جميع مَن أدرك ما أدرك منه، كان للمجتمع من ذلك مقدار قدر، فيجب أن يكون سهلًا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار، ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه، وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا؛ وذلك أن حال العقل في النفس منا عندما هو في الطبيعة في غاية البيان — يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.
لما كان هذا العلم هو الذي يفحص عن الحق بإطلاق، أخذ يعرف حال السبيل الموصلة إليه في الصعوبة والسهولة؛ إذ كان من المعروف بنفسه عند الجميع أن هاهنا سبيلًا تفضي بنا إلى الحق، وأن إدراك الحق ليس بممتنع علينا في أكثر الأشياء، والدليل على ذلك أننا نعتقد اعتقاد يقين أنا قد وقفنا على الحق في كثير من الأشياء، وهذا يقع به اليقين لمَن زاول علوم اليقين.
ومن الدليل أيضًا على ذلك ما نحن عليه من التشوق إلى معرفة الحق، فإنه لو كان إدراك الحق ممتنعًا لكان الشوق باطلًا، ومن المعترَف به أنه ليس هاهنا شيء يكون في أصل الجبلة والخلقة وهو باطل.
فلما كان من المعترَف به — وبخاصة عند مَن وصل إلى هذا العلم — أن لنا سبيلًا إلى معرفة الحق، أخذ يعرف حال هذه السبيل في الوعورة والسهولة، فقال: إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة.
ثم أخذ يحتج لوجود هاتين الصفتين في هذه السبيل، فقال: «والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ منه بقدر ما يستحق ولا ذهب على الناس كلهم، والدليل: أما على صعوبته؛ فإنه لم يلف واحد من الناس وصل منه — دون مشاركة غيره له في الفحص — إلى القدر الواجب في ذلك، وأما على سهولته فالدليل عليها أنه لم يذهب على الناس كلهم؛ لأنه — ولو وجدنا كل مَن بلغنا زمانه لم يقف جميعهم على الحق ولا على شيء له قدر من ذلك — لكنا نرى أنه عسر ولم نقض بالامتناع لمكان طول الزمان المحتاج إلى الوقوف فيه على الحق، فكان قصر الزمان الذي وقف فيه على الحق، إما كله وإما ذو قدر منه، يؤذن بسهولته.»
ولما ذكر هذا من أحوال الناس أخذ يذكر عن حال الناس في ذلك الزمن الذي وصل إليه خبره، فقال: «لكن واحد واحد تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئًا، وإما إن كان أدرك شيئًا منه فإنما أدرك اليسير، فإذا أدرك ما جمع منه من جميع مَن أدرك ما أدرك منه كان للمجتمع من ذلك مقدار ذو قدر.»
يريد: وإنما قلنا هذا الذي قلنا في نحو إدراك الحق؛ لأننا لما تصفحنا حال مَن كان قبلنا في العلوم ممَّن وصلنا خبرهم وجدناهم أحد رجلين: إما رجل لم يدرك من الحق شيئًا، وإما رجل أدرك منه شيئًا يسيرًا، ولما أخبر بهذا قال: «فقد يجب أن يكون سهلًا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار.»
يريد: وإذا تقرَّر أنه سهل من جهة وصعب من جهة، فقد يجب أن يكون سهلًا من هذه الجهة، وهي أنه في كل جنس من أجناس الموجودات أشياء تتنزل منها منزلة باب الدار من الدار، فإنها لا تخفى على أحد كما لا يخفى موضع باب الدار على أحد، وهذه هي المعارف الأُوَل التي لنا بالطبع في كل جنس من أجناس الموجودات.
ولما ذكَرَ جهة السهولة أعاد ذِكْر جهة الصعوبة، فقال: «ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه.» يريد: من أول الزمان الذي وصله خبره إلى زمانه، وكأنه إشارة منه إلى أنه أدرك الحق أو أعظمه، وأن الذي أدرك منه مَن كان قبله بالإضافة إلى ما أدرك هو منه هو جزء قليل، إما كل الحق وإما أكثر الحق، والأولى أن يظن أنه أدرك الحق كله، أعني بكل الحق القدر الذي في طِبْع الإنسان أن يدركه بما هو إنسان.
ثم قال: «وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا، وذلك أن حال العقل في النفس منا عند ما هو في الطبيعة في غاية البيان يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.»
ولما كانت حال العقل من المعقول حال الحس من المحسوس، شَبَّه قوة العقل منا بالإضافة إلى إدراك المعقولات البريئة من الهيولى بأعظم المحسوسات التي هي الشمس، إلى أضعف الأبصار وهو بصر الخفاش، لكن ليس يدل هذا على امتناع تصوُّر الأمور المفارقة كامتناع النظر إلى الشمس على الخفاش، فإنه لو كان ذلك كذلك لكانت الطبيعة قد فعلت باطلًا بأن صيرت ما هو في نفسه معقول بالطبع للغير، ليس معقولًا لشيء من الأشياء، كما لو صيرت الشمس ليست مدركة لبصر من الأبصار.
الحياة الكاملة حركة
والعبارة التي تقدَّمت مثال صالح لأسلوبه في الشرح، ويلحق بالشرح أسلوبه في المناقشة لبيان فكرة، أو الدفاع عنها، ونختار له مثالين من مناقشاته للغزالي في حركة السماء، وفي حقيقة الأسباب.
والمناقشة في حركة السماء قائمة على قول الأقدمين إن الأجرام السماوية تتحرك ولا تسكن؛ لأنها «حيوانات» روحانية، وإنما يعرض السكون للحي المادي من جهة فساد الجسد؛ ولهذا تطلب الأجرام السماوية الحركة حيث تكون، ويتم لها كمال الحياة بتمام الحركة.
فقال الغزالي ساخرًا بهذا القول: «إن طلبَ الاستكمال بالكون في كل أين يمكن أن يكون له، حماقةٌ لا طاعة!
قد يظن أن هذا الكلام لشخصه يصدر عن أحد رجلين: إما رجل جاهل، وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرَّأ من هاتين الصفتين.
ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري، على جهة الندور، ولكي يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من الفلتات، فإنه إن سلمنا لابن سينا أن الفلك يقصد بحركته تبديل الأوضاع، وكان تبديل أوضاعه من الموجودات التي هاهنا هو الذي يحفظ وجودها بعد أن يوجدها، وكان هذا الفعل منه دائمًا؛ فأي عبادة أعظم من هذه العبادة؟ لو أن إنسانًا تكلف أن يحرس مدينة من المدن من عدوها بالدوران حولها ليلًا ونهارًا، أما كنا نرى أن هذا الفعل من أعظم الأفعال قربة إلى الله تعالى؟ أما لو فرضنا حركة هذا الرجل حول المدينة للغرض الذي حكى هو عن ابن سينا من أنه لا يقصد في حركته إلا الاستكمال بأينات غير متناهية لقيل فيه إنه رجل مجنون، وهذا هو معنى قوله سبحانه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا.
أما قوله: «إنه لما لم يمكنها استيفاء الآحاد بالعدد أو جميعها، استوفتها بالنوع.» فإنه كلام مختل غير مفهوم.
الأسباب
الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا، ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هكذا، ولا إثبات أحدهما متضمنًا لإثبات الآخَر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخَر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخَر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخَر، مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرًّا … إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها بما سبق من تقدير الله — سبحانه — لخلقها على التساوق؛ لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفوت، بل لتقدير.
وفي المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون حز الرقبة، وإدامة الحياة مع حز الرقبة، وهلم جرًّا إلى جميع المقترنات.
وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته.
والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فَلْنعين مثالًا واحدًا وهو الاحتراق والقطن مثلًا مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادًا محترقًا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه … والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به، وأنه لا علة سواه؛ إذ لا خلاف في أن ائتلاف الروح بالقوى المدركة والمحركة في نطف الحيوانات ليس يتولد عن الطبائع المحصورة في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولا أن الأب فاعل الجنين بإيقاع النطفة في الرحم، ولا هو فاعل حياته وبصره وسمعه وسائر المعاني التي فيه، ومعلوم أنها موجودة عنده ولم يقل أحد إنها موجودة به …
أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات، فقول سفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك، ومَن ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أن كل فعل لا بد له من فاعل.
وأما أن هذه الأسباب مكتفية بنفسها في الأفعال الصادرة عنها، أو إنما تتم أفعالها بسببٍ من خارج إما مفارق أو غير مفارق، فأمر ليس معروفًا بنفسه، وهو مما يحتاج إلى بحث وفحص كثير.
وإن ألفوا هذه في الشبهة الأسباب الفاعلة التي يحس أن بعضها يفعل بعضًا لموضع ما هاهنا من المعقولات التي يحس فاعلها؛ فإن ذلك ليس بالحق، فإن التي لا تحس أسبابها إنما صارت مجهولة ومطلوبة من أنها لا يحس لها أسباب. فإن كانت الأشياء التي لا تحس لها أسباب مجهولة بالطبع ومطلوبة، فما ليس بمجهول فأسبابه محسوسة ضرورة، وهذا من فعل مَن لا يفرق بين المعروف بنفسه والمجهول، فما أتى به في هذا الباب مغالطة سفسطائية.
وأيضًا فماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجود إلا بفهمها؟ فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا؛ لأن ذلك الواحد يسأل عنه: هل له فعل واحد يخصه أو انفعال يخصه، أو ليس له ذلك؟ فإن كان له فعل يخصه فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد فالواحد ليس بواحد، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم.
والمتكلمون يعترفون بأن هاهنا شروطًا هي ضرورية في حق المشروط، مثل ما يقولون: إن الحياة شرط في العلم، وكذلك يعترفون بأن للأشياء حقائق وحدودًا، وأنها ضرورية في وجود الموجود؛ ولذلك يطردون الحكم في الشاهد والغائب على مثال واحد، وكذلك يفعلون في اللواحق اللازمة لجوهر الشيء، وهو الذي يسمونه الدليل، مثل ما يقولون إن الإتقان في الموجود يدل على كون الفاعل عاقلًا، وكون الموجود مقصودًا به غاية، ما يدل على أن الفاعل له عالم به، والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة؛ فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.
وصناعة المنطق تضع وضعًا أن هاهنا أسبابًا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها.
فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له؛ فإنه يلزم ألَّا يكون هاهنا برهان واحد أصلًا، وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين.
ومَن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه ألَّا يكون قوله هذا ضروريًّا.
وأما مَن يسلم أن هاهنا أشياء بهذه الصفة وأشياء ليست ضرورية وتحكم النفس عليها حكمًا ظنيًّا وتوهم أنها ضرورية وليست ضرورية، فلا ينكر الفلاسفة ذلك. فإن سَمَّوا مثل هذا عادةً جاز، وإلا فما أدري ماذا يريدون باسم العادة؟ هل يريدون أنها عادة الفاعل أو عادة الموجودات أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟ ومحال أن يكون لله تعالى عادة؛ فإن العادة مَلَكَة يكتسبها الفاعل توجب تكرُّر الفعل منه على الأكثر، والله — عز وجل — يقول: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا، وإن أرادوا أنها عادة للموجودات، فالعادة لا تكون إلا لذي نفس، وإن كانت في غير ذي نفس فهي في الحقيقة طبيعة تقتضي الشيء، إما ضروريًّا وإما أكثريًّا.
وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات؛ فإن هذه العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا.
وليس تنكر الفلاسفة مثل هذه العادة، فهو لفظ مموه إذا حقق لم يكن تحته معنى إلا أنه فعل وضعي، مثل ما نقول: جرت عادة فلان أن يفعل كذا وكذا، ويريد أنه يفعله في الأكثر، وإن كان هذا هكذا كانت الموجودات كلها وضعية، ولم يكن هنالك حكمة أصلًا من قبلها ينسب إلى الفاعل أنه حكيم.
فكما قلنا لا ينبغي أن يشك في أن هذه الموجودات قد تفعل بعضها بعضًا ومن بعض، وأنها ليست مكتفية بنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله، شرط في فعلها بل في وجودها فضلًا عن فعلها.
وأما جوهر هذا الفاعل أو الفاعلات ففيه اختلاف الحكماء من وجه ولم يختلفوا من وجه؛ وذلك أنهم كلهم اتفقوا على أن الفاعل الأول هو بريء عن المادة، وأن الفاعل فعله شرط في وجود الموجودات بوساطة معقول له هو غير هذه الموجودات، فبعضهم جعله الفلك فقط، وبعضهم جعل مع الفلك موجودًا آخَر بريئًا من الهيولى، وهو الذي يسمونه واهب الصور. والفحص عن هذه الآراء ليس هذا موضعه، وأشرف ما تفحص عنه الفلسفة هو هذا المعنى …
(٢) ابن رشد وكتاب «الخطابة» لأرسطو
وأما وحدانية التسلط، فهي الرياسة التي يحب الملك أن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية، وألا ينقصه منها شيء بأن يشاركه فيها غيره، وذلك يفيد مدينة الأخيار …
وطريقة التلخيص عند ابن رشد كما تدل عليها هذه الرسالة هي استيعاب المعنى وكتابته بعد ذلك على لسان الملخص، فيجيز فيه أن يعزز المعنى بشاهد من عنده كما فعل في الإشارة إلى قول أبي نصر في الحكومة الفارسية، وإنْ كان أرسطو قد ذكر حكومة الفرس في كلامه على السياسة الفارسية.
إن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل؛ وذلك أن كليهما يؤمان غاية واحدة، وهي مخاطبة الغير.
وكل مَن تكلَّم في هذه الصناعة ممَّن تقدمنا، فلم يتكلم في شيء يَجري من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري، والأمر الذي هو أحرى أن يكون صناعيًّا، وتلك هي الأمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تُسمَّى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة.
فلو كان إنما يوجد من أجزاء الخطابة الشيء الذي هو موجود الآن منها في بعض المدن، لَمَا كان لِمَا تكلَّمَ هؤلاء فيه من الخطاب جدوى ولا منفعة، ورأي مَن رأى أن استعمال جميع الأشياء التي يراد تثبيتها بطريق الخطابة هو الصواب.
وقد يجب أن تكون السنن هي التي تحدد أن الأمر جور أو عدل، وتفوض أن الأمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إلى الحكام.
وبالجملة فتفوض إليهم الأمور اليسيرة، وذلك لشيئين: أما أولًا؛ فإنه قلما يوجد حاكم يقدر أن يميِّز الأمور على كنهها، فيضع أن هذا الأمر جور وهذا عدل، إلا في الأقل من الزمان.
وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة.
وأما ثانيًا؛ فلأن الوقوف على أن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمن اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام.
وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن هؤلاء الذين تكلموا في الأشياء التي من خارج — أعني في صدور الخطب، وفي الاقتصاص، وفي الانفعالات وما يَجري هذا المجرى — لم يتكلموا في شيء يَجري في الخطابة مجرى الجزء، وإنما تكلموا في أشياء تَجري مجرى اللواحق، ومن أجل أنه معلوم أن الأشياء المنسوبة إلى هذه الصناعة إنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى.
وللخطابة منفعتان: إحداهما أن بها يحث المدنيين على الأعمال الفاضلة، والثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يُستعمَل معهم البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وليس واجبًا أن نرى أنه قبيح بالإنسان أن يعجز عن أن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح أن يعجز عن أن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإنسان.
فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها.
والخطابة هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة، وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة أن الفضيلة والأناة إنما هي نافعة في باب الانفعال فقط.
ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية، وذلك في الأقل، وتكون ممكنة، وذلك في الأكثر.
وكما يوجد الاستقراء والقياس في صناعة الجدل والبرهان، كذلك يوجد المثال في الخطابة، وقد يجب أن يفعل هاهنا في هذه الأشياء مثل ما فعل في كتاب الجدل، وكلما كان القول أكثر عمومًا كان أكثر مؤاتاة وتأتيًا لأن يستعمل في أشياء كثيرة، وكلما كان أقل عمومًا كان أحرى أن يكون جزءًا من صناعة مخصوصة.
ولما كانت هذه الصناعة قياسية؛ فمعلوم أنه يجب أن تكون فيها مقدمات من الضرورة الداعية لهذه الأشياء ومقدار الحاجة إليها، يقف الخطيب على مقدار ما يحتاج أن يشير به في واحد من هذه الأشياء.
وأجناس القول الخطبي ثلاثة: مشوري، ومشاجري، وتثبيتي.
وغاية الأول النافع والضار، وغاية الثاني الجور والعدل، وغاية الثالث الفضيلة والرذيلة.
والأمور التي يشير بها الخطيب: منها ما يشير به على أهل المدينة بأسرهم، ومنها ما يشير به على واحد من أهل تلك المدينة أو جماعة. فأما الأشياء التي تكون فيها المشورة في الأمور العظام من أمور المدن، فهي قريبة من أن تكون خمسة: أحدها الإشارة بالعدة المدخرة من الأموال للمدينة، والثاني الإشارة بالحرب أو السلم، والثالث الإشارة بحفظ البلد مما يرد عليه من خارج، والرابع الإشارة بما يدخل في البلد ويخرج عنه، والخامس الإشارة بالتزام السنن.
والذي يشير بالعدة يحتاج أن يعرف ثلاثة أمور: أحدها غلات المدينة ما هي؟ كيما إن نقص من الفاضل منها للعدة شيء أشار بالزيادة فيها. والثاني أن يعرف نفقات أهل المدينة كلها. والثالث أن يعرف أصناف الناس الذين في المدينة، فإن كان فيها إنسان بطال أو عاطل أشار بتنحيته عن البلد، وإن كان هنالك عظيم من النفقات في غير الجميل أو في غير الضروري أشار بأخذ ذلك الفضل من المال منه؛ فإنه ليس يكون الغناء بالزيادة في المال، بل والنقصان من النفقة.
وأما المشير بالحرب أو السلم؛ فإنه يحتاج أن يعرف قوة مَن يحارب ومقدار الأمر الذي ينال بالمحاربة، وحال المدينة في وثاقتها وحصانتها وضعف أهلها وقوتهم، وأن يعرف شيئًا من الحروب المتقدمة ليصف لهم كيف يحاربوا (كذا) إن أشار عليهم بالحرب، أو يعرفهم بما في الحرب من مكروه إن أشار بترك الحرب.
وقد يحتاج لأن يعرف ليس حال أهل المدينة فقط، بل وحال مَن في تخومه وثغوره، أعني كيف حالهم في هذه الأشياء، وحالهم مع عدوهم في الظفر به والعجز عنه، فإنه يأخذ من هاهنا مقدمات نافعة في الإشارة عليهم بالحرب أو السلم، ويحتاج مع هذا أن يعرف الحروب الجميلة من الحروب الجائرة، وأن يعلم حال الأجناد هل هم متشابهون في القوة والشجاعة والرأي وإجادة ما فوض إلى صنف منهم من القيام بجزء جزء من أجزاء الحرب، أعني أن يكونوا في ذلك متشابهين، فإنهم ربما كثروا وتناسلوا، حتى يكون فيهم مَن لا يصلح للحرب أو للجزء من الحرب الذي فوض إليه القيام به.
وقد ينبغي مع ذلك أن يكون ناظرًا ليس فيما أفضت إليه محاربتهم فقط، بل وفيما أفضت إليه حروب سائر الناس من المتقدمين المشابهين لهم، فإن الشبيه يحكم منه على الشبيه، أعني أنه إن كان أفضت الحروب الشبيهة بحربهم إلى مكروه أن يشير بالسلم، وإن كانت أفضت إلى الظفر أن يشير بالحرب.
وأما حفظ البلاد فإنه يحتاج المشير بالحفظ أن يعرف كيف تحفظ البلاد، وما مقدار الحفظ المحتاج إليه في طارئ طارئ، وكم أنواع الحفظ، ويعرف مع هذا المواضع التي يكون حفظها بالرجال، وهي التي تُسمَّى بالمسالح، فإن كان الحفظ لتلك المواضع قليلًا زاد فيهم، وإن كان منهم مَن لا يصلح للحفظ نحاه كمَن ليس يقصد قصد المحاماة عن المدينة، بل يقصد قصد نفسه.
وينبغي له أن يحفظ أكثر من تلك المواضع الخفية — أعني التي المنفعة بحفظها أكثر — فمَن عرف هذا فقد يمكن أن يشير بالحفظ، وأن يكون خبيرًا بالبلاد التي يشير بحفظها.
وأما الإشارة بالقوت وسائر الأشياء الضرورية التي تحتاجها المدينة، فإنه يحتاج المشير فيه أن يعرف مقدارها، وكم يكفي المدينة منها، وكم الحاضر الموجود في المدينة، وهو الفاضل عن أهل المدينة، وما الأشياء التي ينبغي أن تدخل وهو ما قصر عن الضروري؛ لتكون مشورته وما يعهد به على حسب ذلك.
فإنه قد يحتاج المرء أن يحفظ أهل مدينته لأمرين: أحدهما لمكان ذوي الفضائل، والثاني لمكان ذوي المال الذين هم من أجَلِّ ذوي الفضائل.
والحافظ للمدن يحتاج بالجملة أن يكون عارفًا بجميع هذه الأنواع الخمسة.
ويحتاج مع ذلك أن يعرف السنن التي وضعها كثير من الناس فانتفعوا بها.
فهذه هي الأمور العظمى التي بها يشير المشيرون على أهل المدن، والذين تكلموا في هذه الصناعة فلم يتكلموا من هذه الأشياء إلا فيما يَجري مجرى الأمور الكلية، مثل أنهم قالوا: ينبغي للخطيب أن يعظم الشيء الصغير إذا أراد تفخيمه، ويصغر الشيء الكبير إذا أراد تهوينه، وينبغي له ألَّا يأذن في الأشياء التي تفسد صلاح الحال، وفي الأشياء التي تعوق عن صلاح الحال إلى ضده، ولم يقولوا ما هي الأشياء التي يعظم بها الشيء أو يصغر، ولا ما هي الأشياء التي توجب اختلال صلاح الحال أو تعوقه أو تتجاوزه إلى ضده.
فأما صلاح الحال فهو حسن الفعل مع فضيلةٍ وطولٍ من العمر، وحياة لذيذة مع السلامة والسعة في المال مع حريةٍ، بشرط أن يكون الإنسان متمتعًا، أيْ ملتذًّا لا حافظًا للمال فقط أو منميًا.
ومن الأمور النافعة في اليسار والفاعلة له الأشجار المثمرة والغلات من كل شيء، واللذيذ من هذه هو ما يجنى بغير تعب ولا نفقة، وأما فضيلة الجسد فالصحة، وذلك أن يكونوا عارين من الأسقام البتة، وأن يستعملوا أبدانهم؛ لأن مَن لا يستعمل صحته فليس تغبط نفسه بالصحة.
وأما الحسن فإنه مختلف باختلاف أصناف الإنسان، فحسن الغلمان وجمالهم هو أن تكون أبدانهم وخلقهم بهيئة يعسر بها قبولهم الآلام والانفعال؛ ولذلك كان الناس يرون فيمَن كان مهيئًا نحو الخمس المزاولات أنه جميل؛ لأنه مهيأ بها نحو الخفة والغلبة، وأما البطش فإنه قوة يحرِّك المرء بها غيره كيف شاء.
وأما فضيلة الفخامة فهو أن يفوت كثيرًا من الناس ويجاوزهم في الطول والعرض والعمق، وتكون مع ضخامته حركاته غير متكلفة لجودة هذه الفضيلة.
وأما الهيئة التي تسمى بالجهادية؛ فإنها مركَّبَة من الفخامة والجلد والخفة.
وأما الشيخوخة الصالحة؛ فإنها دوام الكبر مع البراءة من الحزن، وأما كثرة الخلة وصلاح حال الإنسان بالإخوان؛ فذلك أيضًا غير خفي.
وأما صلاح الجد فهو أن يكون الاتفاق لإنسان ما علة لوجود الخير له.
والفضائل — وإن كانت غايات — فهي أيضًا خيرات في أنفسها ونافعة في الخير، وقد ينبغي أن نخبر عن كل واحد من هذه، وكيف هي خير في أنفسها، وكيف هي فاعلة للخير.
ومن النافعات بذاتها المَلَكَات الطبيعية التي يكون الإنسان بها مستعدًّا لأشياء حسنة، مثل الذكاء والحفظ والتعلم وخفة الحركات، والعلوم والصنائع والسِّيَر المحمودة.
فهذه هي الخيرات التي يُعترَف بها، ويجتمع على أنها خيرات ونافعات.
ومن الاصطناعات النافعة والأفعال التي يعظم قدرها عند المصطنع إليهم أن يختار الإنسان إنسانًا عظيم القدر من جنسٍ ما من الناس، له أيضًا عدد عظيم القدر في جنس آخَر من الناس، فيفعل بعدد ذلك الإنسان الشر وبأصدقائه الخير، مثل ما عرض لأوميروش مع اليونانيين وأعدائهم، فإنه قصد إلى عظيم من عظماء اليونانيين في القديم فخصه بالمدح وأصدقاءه من اليونانيين، وخص عدوًّا له عظيمًا بالهجو هو وقومه المعادين اليونانيين في حروبٍ وقعت بينهما، فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين، وعظموه كل التعظيم، حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلًا إلهيًّا، وأنه كان المعلم الأول لجميع اليونانيين.
فمن هذه الوجوه يأخذ الخطيب المقدمات التي منها يقنع أن الشيء نافع أو غير نافع، ويستبين أن الشيء الذي هو مبدأ ليس يلزم أن يكون أعظم من الشيء الذي هو له مبدأ؛ وذلك أن الإرادة مبتدأ الخير، وفعل الخير أعظم من إرادة الخير، والذي يحكم به الكل من الجمهور أو الأكثر أو ذوي الألباب والأخيار الصالحين أنه خير وأفضل؛ فهو أفضل بإطلاق، وفي نفسه، إذا كان حكمهم في الأشياء بحسب فطرهم وكانوا ذوي لب، لا بحسب ما استفادوه من الآراء من خارج. وما اختاره الكل آثر مما لا يختاره الكل من الجمهور، وما اختاره أيضًا كثير من الناس آثر مما يختاره القليل من الناس، وما اختاره أيضًا الحكَّام الأول — أعني الذين لا يأخذون الأحكام من غيرهم وهم الشراع — أفضل مما لم يختاروه.
والفضلاء الأبرار الذين جرت العادة أن يأخذ عنهم الجميع أو الأكثر فحكمهم أفضل.
ومن الصنف المقبول القول من الناس جدًّا جدًّا الصنف الذين كراماتهم أعظم؛ لأن الكرامة لما كانت مكافأة الفضيلة كان المرء كلما عظمت فضيلته ظن به أنه قد عظمت فضيلته.
والصنف من الناس الذين نالتهم المضرة العظيمة والشقاء الكبير لمكان الفضائل هم أيضًا مقبولو القول جدًّا جدًّا بمنزلة سقراط وغيره.
وقسمة الشيء إلى جزئياته يخيل في الشيء أنه أعظم؛ ولذلك لما أراد أوميروش الشاعر أن يعظم الشر الذي لحق المدينة أخذ بدله جزئياته، فذكر قتل الأولاد والنوح عليهم وحرق المدينة … إلخ إلخ.
وكذلك الترتيب قد يخيل في الشيء أنه أعظم وهو عكس هذا.
ولما كانت الأشياء الأعسر وجودًا في نفسها، والأقل وجودًا يُظَنُّ بها أنها أفضل، كانت الأشياء الكثيرة الوجود في نفسها والسهلة الوجود قد تُرَى عظيمة في المواضع التي يقل وجودها، أو في الأزمنة التي يقل وجودها فيها أيضًا، أو في الأسنان من الناس التي يقل وجودها فيها.
وحد الأشياء التي يتعمد بها المدح أنها التي إذا فُعِلت بجهل أو بغلط لم تمدح أصلًا، والتي يتعمد بها الحقيقة هي الأشياء التي كيفما فعلت فقد حصلت على التمام؛ ولذلك كان حُسْن قبول الشيء الجميل آثر من فعل الشيء الجميل.
وأما بعد هذا فنحن قائلون في النقيصة والفضيلة والجميل والقبيح؛ لأن هذه هي التي يُمدَح بها ويُذَمُّ، ومن أجل أنه يعرض كثيرًا أن يمدح الناس والروحانيون (أي: الأرواح العليا) بالفضيلة وبأشياء غير الفضيلة، وليس يعرض هذا في مدح هؤلاء فقط، بل وفي مدح الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة.
والجميل هو الذي يختار من أجل نفسه، وهو ممدوح وخير ولذيذ من جهة أنه خير.
والفضيلة هي ملكة مقدرة لكل فعل هو خير من جهة ذلك التقدير أو يظن به أنه خير.
وأما أجزاء الفضيلة؛ فالبر أي العدل العام، والشجاعة، والمروءة، والعفة، وكبر الهمة، والحلم، والسخاء، واللب، والحكمة، وسائر الأشياء التي يُمدَح بها مما عدا الفضيلة، فليس يعسر الوقوف عليها.
وفعل الأشياء التي هي خيرات على الإطلاق كذلك مما يُمدَح به، ولذلك كان التعصب للأشياء التي تكسب المجد، والمحاماة عنها قد تجعل المتعصب لها والمحامي عنها من أهل الفضائل التي لا تحصل للإنسان إلا بمجاهدة كبيرة للطبيعة، مثل العفاف والشجاعة وغيرهما. والإنعام على الغير إذا لم يَستفِدْ المنعم منه شيئًا هو مما يمدح به.
ومثال ما يوهم به أنه نقيصة وليس بنقيصة، ما يعرض للكبير الهمة من أن يتجافى عن الأمور اليسيرة، فيظن به أنه يغلط وينخدع.
وقد ينبغي أن يكون المدح بحضرة الذين يحبون الممدوح، ومن المدح بالأشياء التي من خارج مدح الآباء وذكر مآثرهم، ومدح المرء بما تسمو إليه همته من المراتب، وإنما يكون المدح على الحقيقة بالأفعال التي تكون على المشيئة والاختيار.
وجودة البخت التي قيل إنها السعادة على ما يراه الجمهور، هي وسائر الأشياء الاتفاقية التي يمدح بها واحدة في الجنس، وليست هي والفضائل واحدة بالجنس، بل كما أن صلاح الحال جنس للفضيلة — أعني محيطًا بها — كذلك ما يحدث بالاتفاق جنس يحيط بالسعادة، وهذان الجنسان يدخلان جميعًا في باب المدح وباب المشورة.
وينبغي أن يُستعمَل في المدح الأشياء التي يكون بها عظم الشيء وتنميته، وهو أن يخيل في الشيء أنه بالقوة أشياء كثيرة، وذلك إذا قيل إنه أول مَن فعل هذا، أو إنه وحده فعل هذا، أو إنه فعل في زمانٍ يسيرٍ ما من شأنه أن يفعل في زمان كثير، فإن هذه كلها إنما تفيد عظم الفعل، والذين شأنهم أن يتشبهوا بالممدوحين الذين في الغاية، ويقيسوا أنفسهم معهم دائمًا، فقد ينبغي أن يشبهوا بأولئك، وأن يجروا مجراهم في المدح وإن لم يكونوا وصلوا مراتبهم، فإن فضائلهم في نمو دائم، ومقايسة الإنسان نفسه مع غيره لا تصح إلا من الرجل الفاضل.
(٣) ابن رشد الطبيب
(٣-١) الطب
تكلَّمَ غير واحد من مترجمي ابن رشد عن علومه ومشاركاته، فقالوا إنه كان طبيبًا فقيهًا يرحل إلى فتواه في الطب كما يرحل إلى فتواه في أحكام الشريعة، وقد كان عمله في القضاء مقترنًا بعمله في الطب عند أمراء الموحدين، ولم تكن الفلسفة ولا شك تستغرق كل وقته، ولكنها — ولا شك أيضًا — كانت غالبة على تفكيره ملموسة في كثير من آرائه الطبية، وربما كانت آراء أرسطو — حيث عرض للكلام عن القلب والدماغ وعلاقتهما بالنفس الحية والعقل المجرد — أرجح عنده من كلام جالينوس، مع إحاطته بكل ما وصل إلى الأندلس باللغة العربية من كلام هذا الطبيب العظيم.
ومن أمثلة ذلك رأيه في مصدر الحركة من جسم الإنسان، فهو خلاصة مذهب أرسطو في وجود الله ووجود العالم؛ إذ كان أرسطو يقول عن الله إنه «المحرك الأول»، وإن حركة المادة لا بد أن تأتي من شيء غير مادي لا يتحرك، وإلا لزمت نسبة الحركة إلى مادة بعد مادة، والعقل لا يستقر إلى الدور والتسلسل في الأسباب الماضية.
تبيَّنَ في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المحرك إذا كان جسمًا فإنه إنما يحرك بأن يتحرك؛ فلذلك ما يحتاج المحرك إذا كان جسمًا إلى محرك آخَر، فإن كان هذا أيضًا جسمًا مَرَّ الأمر إلى غير نهاية، أو يكون هاهنا محرك يحرك لا بأن يتحرك، وذلك بألا يكون جسمًا، فهذا أحد ما يظهر منه أن المحرك الأقصى للحيوان في هذه الحركات ليس بجسم أصلًا، وأنه قوة نفسانية، ولننزلها — كما قلنا — القوة المخيلة إذا اقترنت إليها النزوعية ووقع هنالك إجماع.
وإن هذا المحرك الذي ليس بجسم ملزم ضرورة أن يكون المتحرك الأول عنه جسمًا، وذلك بأن يكون المتحرك عنه كالهيولى له وهو له كالصورة؛ إذ ليس يمكن في المحرك الأقصى للحيوان ألا يكون في غير هيولى، كما يقال إن هاهنا مبادئ لهذه الصفة. وإذا كان ذلك كذلك فَلْننظر أي جسم هو ذلك الجسم، وهو ظاهر أنه الحرارة الغريزية التي في أبدان الحيوان؛ ولذلك متى بردت الأعضاء بطلت حركتها.
وبالجملة فهو من البين بنفسه، ومما قيل في العلم الطبيعي، أن أحدَّ ما يؤخذ في حدِّ هذه الحركات هي الحرارة الغريزية، وبخاصة أفعال الغذاء، وهذا مما لا خلاف فيه.
لكن جالينوس يرى أن ينبوع هذه الحرارة هو الدماغ، وأنها تنبث منه في الأعصاب إلى جميع البدن، وأما أرسطو فيرى أن الدماغ خادم في هذا الفعل للقلب على جهة خدمة الحواس — أعني أنه يعدلها — وأن هذه الحرارة ينبوعها القلب. وقد يمكن أن نبيِّنَ ذلك بمثل البيانات التي تقدَّمت، وذلك أنه يظهر أن الماشي في حين مشيه تنتشر في بدنه حرارة لم تكون قبلُ، والعضو الذي شأنه أن تنتشر منه الحرارة في جميع البدن هو القلب لا شك فيه؛ ولذلك متى طرأ على الإنسان شيء يفزعه وانقبضت الحرارة الغريزية إلى القلب، ارتعشت ساقاه حتى إنه ربما سقط ولم يقدر أن يتحرك، وإذا كان ذلك كذلك فالقوة المدبرة الأولى في هذه الحركة — وهي التي تقدر هذه الحرارة في الكمية والكيفية — هي في القلب ضرورة. وأيضًا فقد يقر جالينوس وجميع الأطباء أن القوة النزوعية في القلب، والدماغ خادم لها على أنه معدل لها، وسواء توهمت التعديل بجرم العصب أو بروح نفساني يسري فيه لا فرق بينهم، إلا أنه ليس من العصب شيء يظهر فيه روح على ما يقوله جالينوس إلا العصبتان المجوفتان اللتان تأتيا في العينين، وأما المتحرك الأول عن الحار الغريزي فإن جالينوس يرى أنه للعضل، أما في الأعضاء التي ليس فيها عظام ولا هي مفاصل فبنفسه، وأما في المفاصل فبالأوتار النابتة من العضلة إلى طرف العظم، وذلك أن العضل إذا انقبض إلى نفسه انجذب ذلك الوتر؛ ولأنه مربوط بطرف العظم يتحرك ذلك العظم بحركته، وإذا كان للعضو حركتان متضادتان كانت له عضلات متضادة الموضع تجذبه كل واحدة منها إلى ناحيتها وتمسك المضادة لها عن فعلها، فإن عملت كلاهما في وقت واحد استوى العضو وتمدَّدَ وقام.
مثال ذلك الكف إذا مدها العضل الموضوع في ظهرها انثنت إلى خلف، وإن مدته جميعًا استوت وقامت.
والعضل الموجود في البدن كما قلنا عن رأي جالينوس خمسمائة عضلة وتسع وعشرون عضلة … إلخ.
هذا مثال من تفكير الفيلسوف في الطب، أو مثال من موازنته بين رأي أستاذه الفلسفي وأستاذه الطبي، فإنه مع إنصافه في عرض الآراء يبدو مرجحًا لحجة الفلاسفة على حجة الأطباء.
ولم يكن ابن رشد في طبه ناقلًا مكتفيًا بالنقل، بل كان يضيف إلى الآراء والصفات المنقولة شيئًا من تجاربه، سواء فيما يرجع إلى فهم العلة أو إلى وصف العلاج، ومن ذلك أنه يقابل تمثيل بقراط وجالينوس للإقليم المعتدل بوطنهما اليونان، فيجعل الأندلس مثلًا لاعتدال الإقليم، ويتصرف في الحكم بما يرجحه حيث تتعارض الآراء.
•••
ونحن ناقلون من كلامه في الطب نموذجًا لتأليفه ونموذجًا لشرحه، فمن نماذج تأليفه ما ننقله من كتاب «الكليات»، ومن نماذج شرحه ما ننقله من تفسيره لأرجوزة ابن سينا في الطب، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية.
(٣-٢) صناعة الطب
… إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة يُلتمَس بها حفظ بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الأبدان، فإن هذه الصناعة ليس غايتها أن تبرئ ولا بد، بل أن تفعل ما يجب بالمقدار الذي يجب وفي الوقت الذي يجب، ثم تنتظر في حصول غايتها كالحال في صناعة الملاحة وقود الجيوش.
ولما كانت الصنائع الفاعلة — بما هي صنائع فاعلة — تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث معرفة الآلات التي تحصل بها تلك الغايات في تلك الموضوعات؛ انقسمت باضطرار صناعة الطب أولًا إلى هذه الأقسام الثلاثة: فالقسم الأول الذي هو معرفة الموضوعات يعرف فيه الأعضاء التي يتركب منها بدن الإنسان البسيطة والمركبة، ولما كانت الغاية المطلوبة هنا صنفين حفظ الصحة وإزالة المرض، انقسم هذا الجزء إلى قسمين: أحدهما يعرف فيه ما هي الصحة لجميع ما به تتقوم، وهي الأسباب الأربعة التي هي العنصر والصورة والفاعل والغاية وجميع لواحقها، والقسم الثاني يعرف فيه ما هو المرض أيضًا بجميع أسبابه ولواحقه.
ولما كان أيضًا ليس في معرفة ماهية الصحة والمرض كغاية في حفظ هذه وإزالة هذا، انقسم هذان الجزءان أيضًا إلى جزأين آخَرين: أحدهما يعرف فيه كيف تحفظ الصحة، والثاني كيف يبطل المرض.
ولما كانت الصحة أيضًا والمرض ليسا بيِّنين بأنفسهما من أول الأمر، احتيج أيضًا إلى تعرف العلامات الصحية والمرضية، وصار هذا أيضًا أحد أجزاء هذه الصناعة.
- الجزء الأول: يذكر فيه أعضاء الإنسان التي شوهدت بالحس، البسيطة والمركَّبة.
- والثاني: تعرف فيه الصحة وأنواعها ولواحقها.
- والثالث: المرض وأنواعه وأعراضه.
- والرابع: العلامات الصحية والمرضية.
- والخامس: الآلات، وهي الأغذية والأدوية.
- والسادس: الوجه في حفظ الصحة.
- والسابع: الحيلة في إزالة المرض.
ونحن نقصد في ترتيبها هاهنا إلى هذه القسمة؛ إذ كانت هي القسمة الذاتية لها.
إن هذه الصنائع بعضها نظرية وهي العلم الطبيعي، وبعضها عملية، وهذه منها صناعة الطب التجريبية، ومنها صناعة التشريح.
فأما العلم الطبيعي؛ فإنه تتسلم منه كثيرًا من أسباب الصحة والمرض، ولا سيما الأسباب القديمة، كالأسطقسات (العناصر) وغيرها.
وأما صناعة الطب التجريبية فإنه يستفيد منها معرفة قوى أكثر الأدوية، فإن الذي يدرك منها بالقياس نزر بالإضافة إلى ما يحتاج من ذلك، بل سبيل هذه الصناعة الطبية القياسية أن تعطى أسباب ما أوجدته الطريقة التجريبية.
وأما صناعة التشريح فإنها تتسلم منها كثيرًا من أجزاء موضوعاتها، ولما كان صاحب الصناعة ليس يمكنه أن يعلم المبادئ المتسلمة في تلك الصناعة، بل إن كان فمن حيث هو صاحب صناعة أخرى؛ وجدت تلك المبادئ في صناعته من حيث هي مشهورة، وبخاصة في التي لا يتفق له فيها الوقوف على اليقين في جميع أجزائها، كتجربة الأدوية، فإنه بالإضافة إلى الوقوف على هذا الجزء من الصناعة استقصى بقراط العمر الإنساني في قوله: العمر قصير، وأما في الجزء القياسي منها فليس هنالك قصر.
وكذلك الأمر في زماننا هذا في كثير من الأعضاء المشاهَدة بالتشريح؛ إذ كانت هذه الصناعة قد دثرت.
وينبغي أن تعلم أن صاحب العلم الطبيعي يشارك الطبيب؛ إذ كان بدن الإنسان أحد أجزاء موضوعات صاحب علم الطباع، لكن يفترقان بأن هذا ينظر في الصحة والمرض من حيث هي أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا؛ ولذلك يحتاج الطبيب بعد معرفة الكليات التي تحتوي عليها هذه الصناعة إلى طول مزاولة، وحينئذٍ يمكن أن يوجدها في المواد، فإن الكليات المكتوبة في هذه الصناعة يلحقها عند إيجادها في المواد أعراض ليس يمكن أن تكتب، فإذا زاول الإنسان أعمال هذه الصناعة حصلت له مقدمات تجريبية يقدر بها أن يوجد تلك الكليات في المواد، وذلك كالحال في الصنائع العملية التي تستعمل الروية.
وأرسطو يخص هذه من بين الصنائع العملية بالقوى، ومن هنا يظهر أن ما قيل في حد الطب من أنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما أنه حد غير صحيح؛ وذلك أنه أسقط من هذا الحد الفصل الذي به يتميز نظر صاحب هذا العلم من نظر صاحب العلم الطبيعي، وكذلك أيضًا لا يلتفت إلى ما يقولونه من الحال التي ليست بصحة ولا مرض، فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس و(لا ضرره) وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر، وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر، وهذا بيِّن مما قيل في العلم النظري …
(٣-٣) أمراض الدماغ
أكثر أمراض الأعضاء الباطنة التي تحتاج إلى الاستدلال عليها هي: إما أورام وإما سوء مزاج مادي أو غير مادي.
والدماغ يعرض له أصناف سوء المزاج — أعني الحار والبارد، والرطب واليابس — ويستدل على واحد واحد منها بالعلامات الدالة على غلبة ذلك المزاج على الدماغ، مثل حمرة الوجه وسخونة الملمس التي تدل على غلبة الدم، وتخص سوء المزاج الحار أو البارد أنهما يتبعهما الوجع المسمَّى صداعًا، إلا أنه في المزاج الحار أحدُّ.
وأما الرطوبة واليبوسة فليس يكون عنهما وجع، بل إنما يكون عن الرطوبة ثقل فقط، وقد يستدل على الرطوبة بثقل الرأس وكثرة النوم وكدر الحواس، وعلى اليبوسة بأضداد هذه الأعراض.
وربما كان بمشاركة العرقين السباتيين كما يعترى في الصداع المسمَّى شقيقة، ويستدل عليه بالعلامات الدالة على امتلاء الرقبة.
وربما كان ذلك بمشاركة جميع البدن، ويستدل عليه بالعلامات الدالة على أحد صنفَي الامتلاء.
ويحدث بالدماغ جميع أصناف الأورام الحارة والباردة، والاستدلال هنا على العضو الآلم وعلى المرض قد يكون من الأفعال الخاصة به؛ وذلك أن الدماغ إذا أصابته مثل هذه الآفة أصابه بسببها اختلاط ذهن ملازم، وإنما قلنا ملازم فرقًا بينه وبين الاختلاط الذي يكون بمشاركة عضو آخَر كالذي يعرض من ورم الحجاب.
فأما كيف يستدل من هذه الأمراض الداخلة على الأفعال على نوع المرض الفاعل لذلك؛ فإن الذي يكون منها صفراويًّا يعرض لصاحبه خيالات ردية، ويخيل إليه كأن زئيرًا على ثيابه فهو يلتقطه، ويصيبهم سهر، وإذا انتبهوا انتبهوا مذعورين. وأما الذي يكون عن الدم؛ فإن السهر فيهم يكون أقل ويعرض لهم ضحك وانبساط، كما أن الذي يكون من الصفراء يكون مع غضب وسوء خُلُقٍ. وأما الذي يكون من السوداء؛ فإن فساد الذهن فيه يكون مع جزع شديد وخوف وبكاء. وأما الذي يكون عن البلغم؛ فإنه يكون عنه تعطل في القوى النفسانية …
(٣-٤) بعض الأغذية
الفواكه
- التين: والتين في مزاجه حار رطب، يخمل بالمعدة ويلين البطن، وفيه جلاء بحسب ما فيه من اللبنية، وأفضله أتمه نضجًا.
- العنب: وأما العنب فإنه حار، حرارته قليلة، رطب باعتدال، يخصب البدن
بسرعة، إلا أنه يكون عنه رياح في الهضوم كلها، بخلاف التين فإن
الرياح المتولدة عنه إنما هي في المعدة والأمعاء.
وأما الزبيب فحار رطب، منضج، نافع للكبد، وأما نبيذه فهو أضعف في أفعاله من الخمر، وهو بالجملة ينوب منابها.
- التفاح: التفاح الحلو حار باعتدال، رطب، والحامض بارد يابس، خاصته تقوية الأعضاء الرئيسية، وهو يقوي الدماغ بالشم، وهذا كله بعطريته، وهو مما يولد رياحًا غليظة في الهضم الثاني والثالث، حتى إنهم زعموا أنه ربما كان سببًا للسل؛ وذلك أنه يخرق الرياح المتولدة عنه شرايين الرئة … هكذا حكاه أبو مروان بن زهر، ولكن شرابه ليس يتولد عنه هذه النفخة.
- الكمثرى: أما الذي لم يدرك منه نضج فبارد يابس، وأما الذي أدرك فمعتدل أو مائل إلى البرد قليلًا؛ لأنه مركَّب من حلاوة وحمضة، وقبض أفعاله الثوالث قبض البطن، وخاصته قطع العطش.
- السفرجل: أغلظ جوهرًا من الكمثرى وأكثر قبضًا؛ ولذلك صار برده أكثر، وخاصته أنه يشد النفس وينفع من الخفقان شمه كما ينفع الكمثرى، وهو في ذلك أقوى.
- الرمان: منه الحلو ومنه الحامض، وكلاهما رطبان، إلا أن الحلو أرطب وأحر، ويكون منه نفحة يسيرة، وخاصته أنه يمنع الأغذية من أن تفسد في المعدة.
- الخوخ: بارد رطب يحدث أخلاطًا زجاجية، خاصته أنه إذا شُمَّ نفع المغشي، ينفع أكله من بخر المعدة، وأما لب نواه فإنه يجلو الوجه، ودهنه ينفع من ثقل الصمم، وعصارته تقتل الديدان.
- المشمش: وأما المشمش فإن مزاجه يقرب من مزاج الخوخ، إلا أنه ليس فيه خواص الخوخ.
- العبقر: هذا نوعان أبيض وأسود، وكلاهما إذا أدرك بارد رطب، يكثر برد الصفراء ويرخي فم المعدة بعض إرخاء.
البقول والحبوب
- الباقِلَّى: إما أن يكون معتدلًا في الحر والبرد، وإما أن يكون مائلًا إلى الحر قليلًا، وبذلك صار يحلل الأورام بالجلاء الذي فيه وينضجه، وهو كثير الرطوبة؛ ولذلك يتولد عنه نفخ كثير، وليس في الطبخ قوة على إذهاب نفخته ولو طبخ كل الطبخ كما يقول جالينوس، وزعموا أن خاصته الإضرار بالفكر، وأن مَن تمادى عليه لا يرى رؤيا صادقة.
- الحمص: حار باعتدال، رطب ذو نفخة أيضًا، وأفعاله الثوالث أنه يزيد في المني، ويدر البول والطمث، ويفتت الحصى الأسود منه، والذي يؤكل منه رطبًا يولد في المعدة والأمعاء فضولًا كثيرة، والمقلو منه ومن الباقِلَّى أقل نفخة، إلا أنه أعسر هضمًا، اللهم إلا أن يخلخله الإنقاع قبل ذلك، وخاصته تحمير البشرة، وذلك ضرورة لكثرة ما يتولد عنه من الروح ولذلك يُعِين على الباه.
- العدس: بارد يابس، يولد دمًا أسود، ويطفئ الدم الملتهب، ولا سيما إذا طُبِخ بالخل، وأفعاله الثوالث أنه يقطع الباه ويولد ظلمة البصر، وهو إذا سُلِق بالماء حابس للبطن.
- الترمس: يابس أرضي مُرٌّ، فإذا نُقِع في الماء حتى تذهب مرارته كان غذاءً طيبًا، وهو إذا استُعْمِلَ مرًّا قتل الأجنة وأخرج الحيات من الجوف، ويدر البول، ويفتح أفواه البول.
- الأرز: غليظ الجوهر، قريب من الاعتدال في الحر والبرد، يقطع الإسهال، وهو غذاء لذيذ إذا طُبِخ باللبن.
- اللوبياء: إلى الحرارة ما هي، والرطوبة، تخصب البدن وتدر البول والطمث، وتلين البطن وخاصة الأحمر منه، وتري أحلامًا وتغزر الرأس.
- الدخن: بارد يابس، عاقل للبطن، قليل الغذاء.
- الذرة: باردة يابسة، قليلة الغذاء.
- الجلبان: بارد يجفف، قليل الغذاء.
(٣-٥) الرياضة
الرياضة هي حركة الأعضاء إرادة ما.
وذلك (أولًا) للأعضاء التي شأنها أن تتحرك بهذه الحركة، وهي جميع الأعضاء التي لها حركة إرادية.
و(ثانيًا) للأعضاء التي تجاوز هذه، وهي الأوردة وآلات الغذاء.
ولما كانت الرياضات هي حركات الأعضاء كان منها جزئي وكلي؛ وذلك أن منها ما هي رياضة لجميع البدن، وهي الحركة الكلية لجميع الحيوان، ومنها ما هي رياضة مخصوصة بعضوٍ ما، مثل: أن الصوت رياضة الرئة، والقيام والقعود رياضة للصلب، ولن يخفى على مَن كان عالِمًا بحركة الأعضاء أيُّ رياضة تخص عضوًا عضوًا، فهذا أحد ما تنقسم إليه الرياضة من جهة الأعضاء أنفسها.
والرياضة منها قوية ومنها خفيفة، وكل واحد من هذين إما أن يكون عن نقلة المرتاض أعضاءه بعضًا، وهو يوجد فيها السريعة والبطيئة.
وإما أن يكون مقاومة بينه وبين محرك آخَر يثبت في مكان ويأمر غيره أن ينزعه منه، ومن هذا النوع إشالة الحجر وغير ذلك، وهذه ليس يوجد فيها السرعة والبطء، وربما اجتمع في الرياضة السرعة والقوة، كالذين يطفرون بالحراب.
والرياضة المعتدلة فعلها بالجملة تنمية الروح الغريزية، وتدفع الفضول عن آلات الغذاء وتحليلها وتطيب الأعضاء أنفسها، وهي في هذا المعنى أفضل شيء تنمى به الحرارة، …
وهذه إذا استُعْمِلَتْ بعد تمام الهضم نفعت هذه المنفعة التي ذكرنا، وأما متى استُعْمِلَتْ والغذاء غير منهضم لن يؤمن عن استفراغ الأعضاء أنفسها أن تجتذب الغذاء إليها غير منهضم.
وأما الرياضة القوية فإنما تستفرغ من البدن أكثر مما تحتاج إليه، فهي بذلك تضعف كما نرى ذلك في أصحاب المهن القوية.
وأما الضعيفة فإنها لا تستفرغ كل ما يجب استفراغه؛ فلذلك كانت زائدة في الأعضاء ومنمية للأبدان.
وأما أن الرياضة بالجملة مصحة عظيمة، وأنها أشد من عدم الرياضة، فذلك بيِّن من حال المقصورين في السجون؛ فإنها تصفر وجوههم وتفسد سحنهم وتخل أفعالهم الطبيعية كلها، وليس يظهر هذا في الإنسان فقط، بل وفي جميع الحيوانات المقصورة، كالطيور في الأقفاص وغير ذلك …
(٣-٦) شرح أرجوزة الرئيس
وفيما يلي مثال من شرحه في الطب، مقتبس من رسالته في التعقيب على أرجوزة ابن سينا، وهو من كلامه في تدبير الطفل في بطن أمه وبعد ولادته:
يريد أنه ينبغي أن تحفظ الأم كي لا تصيبها ضربة فينحل عضو من أعضاء الطفل.
يقول: والظئر التي تطعمه أو تسقيه فأخير ما له من التربية أن تكون حسنة المزاج من أجل لبنها، إن كان يريد بالظئر المرضعة، وإن كان يريد غير المرضعة فمعناه أن تكون عارفة بتدبير الأطفال، أعني بتغذيتهم وإحمامهم وغير ذلك مما يحتاج إليه الطفل.
ولما كان الحوامل يعرض لهن كثيرًا انقلابُ المعدة، وذلك في أول حملهن، ويعرض لهن شهوات غير طبيعية، يقول: احفظ عليها في معدتها بأن تطعمها المقوية للمعدة القاطعة للشهوة الردية.
يريد: واسقها ما يروق الدم ويصفيه، وإن هاج بها الدم فلا تفصدها واستعمل عوض ذلك المبردات للدم والمنظفة له، وإن أمر ذلك لأنه يخاف من الفصد أن يسقط الجنين.
تدبير الطفل في خاصته:
يقول: ادهنه بالأدهان القابضة عند شد قِمَاطه، وحمِّه بالماء الحار المعتدل الحرارة، وَلْيُنظَّفْ من الأوساخ، واجعل شدَّ القِمَاط عليه متوسطًا. وجالينوس يأمر بأن يُسحَق الملح ويذر على الأطفال حين يُولَدون.
هذه وصية في رياضة بصره وتقويته بالاستعمال؛ وذلك أن كل عضو يقوى بالاستعمال، وذلك أن يلزم في يقظته المواضع المضيئة، وأن يُجعَل بحيث يرى السماء والنجوم، وأن يكثر له الألوان الملونة.
هذه وصية باستعمال آلات السمع منه وإعداده لأن يتكلم؛ وذلك أن الأطفال من شأنهم أن يروضوا محاكاة المتكلم كما يفعل الطير الذي يقبل تعليم الكلام.
يقول: والطفل لا ينبغي أن يفصد ولا أن يسهل، وإن اقتضت ذلك طبيعة المرض، حتى يتجاوز سن المنفعة، وهو أن يبلغ الرابع عشر من السنين أو الخامس عشر. وأما قوله:
فلا أدري ماذا يريد بالجذب، فإن كان يريد بالجذب تسييل المادة إلى غير جهة العضو الورم، وذلك بالفصد المضاد فهو منطوٍ في نهيه عن الفصد، وإن كان يريد أنه لا ينبغي أن تجعل عليها الأدوية الجاذبة فهذه وصية تعم الأطفال وغيرهم من الأورام والحبوب، ولعل الأطفال بذلك أحق لرطوبة أمزجتهم.
وقد تناول ابن رشد شرح كلام ابن سينا في ذكر أمزجة الأزمنة، أي الفصول، فقال:
لما تكلَّمَ في أصناف أمزجة الإنسان أراد أن يتكلم في أصناف أمزجة الزمان؛ فقوله: (فللشتاء قوة للبلغم) يريد أن مزاج الشتاء بارد رطب كمزاج البلغم، ولذلك البلغم يتولد فيه.
وقوله: (وللربيع هيجان للدم) يريد أن الربيع حار رطب على طبيعة الدم، ولذلك الدم يكثف فيه.
وقوله: (والمرة الصفراء للمصيف) يعني أنها تتولد فيه؛ لأنها حارة يابسة، كما أنه حار يابس. (والمرة السوداء للخريف) يعني أن طبيعة الخريف هي طبيعة السوداء؛ ولذلك السوداء تتولد فيه.
وما قاله في الربيع من أنه حار رطب هو الحق، خلافًا لرأي جالينوس في كتاب المزاج؛ لأنه صرَّح هناك أن الربيع معتدل بالمعنى الذي يقال عليه معتدل، أي الذي توجد فيه الكيفيات على السواء.
ولم توجد للموجودات فيه أفعال الحياة التي سببها الحرارة والرطوبة بأولى من فعل ضد الحياة، التي سببها البرد واليبس؛ لأنها لو تقاومت فيه القوى لم ينسب إليه توليد خلط من الأخلاط لا دم ولا غيره.
وبالجملة لا نشوء ولا كون لكل ما مزاجه شبيه بمزاجه كالدم. وجميع الكائنات التي توجد في هذا الوقت فقد يجب ضرورة أن يكون حارًّا رطبًا، ويكون معتدلًا؛ لأنه وسط بين الصيف والشتاء.
وكون الفصول لا توجد إلا أربعة وكذلك الأخلاط على أن الأمزجة أربعة، أعني المركَّبَة.
ولو وُجِد مزاج معتدل بمعنى أن الأسطقسات (العناصر) فيه متساوية، لما وُجِد لهذا المزاج فعل منسوب إلى الكيفيات الأول، وكانت له صورة واحدة.
(٤) ابن رشد الفقيه
وابن رشد الفقيه كابن رشد الطبيب، وابن رشد الفيلسوف، محصل يحيط بموضوعه ويستقصي الأكثر الأهم من أصوله وفروعه، وقد كان على مذهب الإمام مالك كأكثر أهل المغرب، ولكنه كان يتتبع المذاهب في المسائل الخلافية، وله كتاب في الفقه سمَّاه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» يدل اسمه على منحاه في التأليف؛ فإنه نافع للمبتدئين المجتهدين وللمحصلين المتوسعين، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة وغيره كتاب المقدمات في الفقه بين كتب ابن رشد الحفيد، وهو خطأ يسهل التنبه إليه لمَن ألقى نظره على الكتابين؛ إذ هما في موضوع واحد على نسق متقارب من التوسط بين الإسهاب والإيجاز، ومن المستبعَد أن يشتغل مؤلِّف واحد بوضع كتابين في موضوع واحد على هذا المثال. وقد ترجم المقري لابن رشد الجد في كتاب «أزهار الرياض في أخبار عياض»، وذكر من تواليفه كتاب المقدمات لأوائل كتب المدونة، وكان ابن رشد الحفيد يشير في «بداية المجتهد» إلى كتاب المقدمات فيقول: «كما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات»، فهو على التحقيق من مؤلفات الجد لا من مؤلفات الحفيد.
ونحن ناقلون هنا كلامه في القضاء على سبيل المثال لإحاطته وتدوينه ورأيه في مهام عمله.
والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل، فأما الصفات المشترطة في الجواز فأن يكون حرًّا مسلمًا بالغًا ذَكَرًا عاقلًا عَدْلًا.
وقد قيل في المذهب: إن الفقه يوجب العزل ويمضي ما حكم به.
وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته، وليست شرطًا في جواز ولايته؛ وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا وُلِّيَ عُزِلَ وفُسخ جميع ما حكم به، ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطًا في الجواز، فهذا إذا وُلِّيَ القضاء عُزِل ونفذ ما حكم به، إلا أن يكون جَوْرًا.
ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات.
ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدًا، والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رُسِم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع. قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده.
وأما فضائل القضاء فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم، وقد اختلفوا في الأُمِّيِّ: هل يجوز أن يكون قاضيًا؟ والأبين جوازه؛ لكونه — عليه الصلاة والسلام — أميًّا، وقال قوم: لا يجوز، وعن الشافعي القولان جميعًا؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصًّا به لموضع العجز، ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم، وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه، لا خلاف أعرف فيه.
واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم مَن رضيه المتداعيان ممَّن ليس بوالٍ على الأحكام؛ فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.
وأما فيما يحكم فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقًّا لله أو حقًّا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى، وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء. وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف. وكذلك هل يستخلف، فيه خلاف في المرض والسفر، إلا أن يؤذن له.
وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند مَن يرى التحجير عليهم.
ومن فروع هذا الباب: هل ما يحكم فيه الحاكم يحله للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالًا؟ وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وذلك في الأموال خاصة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمَن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار.»
واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق، وليس بحق؛ إذ لا يحل حرام ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك. هل يحرم ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حرامًا ولا يحرم حلالًا، وذلك مثل أن يشهد شاهِدَا زورٍ في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة، فقال الجمهور: لا تحل، وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم، وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له، فعمدة الجمهور عموم الحديث المتقدم، وشبهة الحنفية أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة؛ لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء، والجمهور أن الفرقة هاهنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.
والقضاء يكون بأربع: بالشهادة واليمين والنكول والإقرار، أو بما تركَّبَ من هذه، ففي هذا الباب أربعة فصول.